إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / الفروق الفردية









الفروق الفردية

الفروق الفردية

بعد دراسة أحد العلماء لعدة سلالات بشرية وخصائصها النفسية والاجتماعية، توصل إلى عبارة شهيرة هي: "أن الإنسان على نحو ما يُشبه كل الناس، وعلى نحو آخر يُشبه بعض الناس، وعلى نحو ثالث لا يُشبه أحداً من الناس".

هذه العبارة توضح معنى الفروق الفردية، فتشابه الإنسان مع غيره أمر طبيعي، ولكن هذا التشابه لا يعني التطابق. أي أن الإنسان على الرغم من تشابهه مع كل الناس، إلا أنه يوجد بينه وبين غيره فروق فردية. تلك الفروق لا تقتصر على الأفراد، بل توجد بين الجماعات كذلك، كالفروق بين السلالات والطبقات الاجتماعية. أي أنه إضافة إلى الفروق بين الأفراد، توجد فروق أخرى بين الجماعات. ومع هذا فكل إنسان يمثل حالة فريدة متميزة عن غيرها لوجود تفاوت وفروق لدى الفرد الواحد في درجات سماته وخصائصه. إن هذا يوضح وجود فروق بين الأفراد، وبين الجماعات، وداخل الفرد الواحد.

لقد أدرك الفلاسفة منذ القدم وجود الفروق الفردية بين الناس، فقسم هيبوقراط وأفلاطون الناس إلى عدة فئات. قسمهم الأول إلى أربعة أنماط، وأطلق عليها الأمزجة الأربعة. فقد يكون الفرد صاحب مزاج دموي أو بلغمي أو صفراوي أو سوداوي، وذلك بناءً على النسب بين السوائل الموجودة داخل الجسم. فإذا زادت نسبة الدم كان الفرد صاحب مزاج دموي، وإذا غلب البلغم أصبح الفرد صاحب مزاج بلغمي، وهكذا بالنسبة إلى الصفراء والسوداء.

وبيَّن هيبوقراط أن لكل نمط سماته الخاصة، فصاحب المزاج الدموي يتميز بالسرعة والمرح والانفعال الشديد، ويتميز صاحب المزاج الصفراوي بسهولة الاستثارة والانفعالية، وبغلبة الانفعالات الحزينة عليه. أما صاحب المزاج السوداوي، فيتميز بسرعة التعرض للاكتئاب وبالهدوء الانفعالي. وأخيراً يتميز صاحب المزاج البلغمي بالبطء والبلادة.

وسار أفلاطون على الدرب نفسه، فقسم الناس إلى ثلاث طبقات بناءً على درجة تميز وسيطرة إحدى قوى النفس الثلاث (العقل أو الغضب أو الشهوة)، على باقي القوى. فإذا سيطرت القوة العاقلة، أصبح الفرد من طبقة الحكماء والفلاسفة والعلماء. وإذا سيطرت القوة الغاضبة وتفوقت على بقية القوى، أصبح الفرد من طبقة الجند والحراس. أما إذا سيطرت قوة الشهوة وتفوقت على بقية القوى، أصبح الفرد من طبقة العوام.

وذكر أفلاطون في الجزء الثاني من كتاب الجمهورية أنه لم يولد اثنان متشابهان، بل يختلف كل فرد عن الآخر في المواهب الطبيعية، فيصلح أحدهما لعمل بينما يصلح الثاني لعمل آخر.

ومع تطور علم النفس وانفصاله عن الفلسفة، أخذت دراسة الفروق منحى آخر. ومن الغريب أن الدراسة المنظمة للفروق الفردية لم تبدأ بعلم النفس، بل بدأت بعلم الفلك. ومما يُذكر في هذا الشأن أنه حدث في سنة 1796 أن فصل Maskelyne مدير مرصد جرينتش مساعده Kinaebrooks، لأنه لاحظ الأزمنة أثناء رصده لمسار الكواكب متأخراً ثانية واحدة، وكانت طريقته في عملية الرصد معتمدة على الملاحظة العادية باستخدام العين والأذن، ثم استخدم الساعة في ملاحظة الوقت بالثانية، وكان يعد الثواني بدقات الساعة، فكان يلاحظ النجم أثناء عبوره مجال التليسكوب ويركز انتباهه في موضع النجم عند الدقة الأخيرة للساعة التي سبقت مباشرة وصوله إلى الخط الحرج Critical للمجال، ثم في موضعه عند الدقة الأولى للساعة التي تلي مباشرة عبوره لهذا الخط. ومن هاتين الملاحظتين كان يتسنى له تحديد الوقت الذي عبر عنده النجم الخط الحرج. ومن الطبيعي أن يكون في كل خطوة من هذه الخطوات مجال لظهور الفروق الفردية والاختلاف من شخص إلى آخر في القدرة على التركيز والملاحظة السريعة.

وفي سنة 1816، قرأ بيزيل Besel، وهو فلكي في كنزبرج Konigsberg تاريخ مرصد جرينتش، واهتم بقياس ما عُرف بعد ذلك باسم المعادلة الشخصية Personal Equation للملاحظين المختلفين، وفي هذا اعتراف بأن الذي كان يُعتبر خطأ في حادثة كنبروكس، إنما هو في الحقيقة مظهر من مظاهر الفروق الشخصية.

ولقد جمع بيزيل معلومات عن كثير من الملاحظين المدربين ونشرها، ولم يشر فقط إلى وجود مثل هذه المعادلة الشخصية أو الخطأ عند مقارنة الملاحظين المختلفين، بل أشار كذلك إلى تغير هذه المعادلة من وقت إلى آخر. ومعنى هذا أنه فطن إلى مدى التغير داخل الفرد الواحد، أي إلى الفروق بين الفرد ونفسه في مراحل مختلفة.

وفي عام 1879، أنشأ فونت أول معمل لعلم النفس، مستفيداً بدراسات وأبحاث وأدوات علماء الفسيولوجيا، محاولاً دراسة بنية العقل البشري. إلا أنه لم يهتم اهتماماً مباشراً بدراسة الفروق الفردية، واعتبرها نوعاً من الخطأ يرجع إلى المصادفة. أي أن فونت اهتم بدراسة أوجه التشابه بين الأفراد أكثر من اهتمامه بدراسة الفروق الفردية بينهم.

كان كاتل من تلاميذ فونت، إلا أنه اهتم بدراسة الفروق الفردية مستخدماً بعض أساليب أستاذه، كما كانت رسالته للدكتوراه عن الفروق الفردية في زمن الرجع. ونما اهتمامه بدراسة الفروق الفردية باتصاله بالعالم فرنسيس جالتون الذي استخدم، وللمرة الأولى، عديداً من الأساليب الإحصائية لدراسة الفروق الفردية. كما استخدم أساليب مختلفة في دراسة الفروق بين الأفراد في السمات الجسمية الفيزيقية. وكان أول من استخدم مصطلح "الاختبارات العقلية"، واستخدمها في دراسته للفروق الفردية. أعقب ذلك ظهور العديد من الأدوات والاختبارات، ونمو الأساليب الاحصائية المستخدمة في دراسة الفروق الفردية، مما جعل دراسة الفروق الفردية أكثر علمية ودقة.

أهمية الفروق الفردية

للفروق الفردية أهمية كبيرة في مجالات متعددة، منها:

1. التعلم والتعليم

إن التلاميذ يختلفون في قدراتهم واستعداداتهم وميولهم، وهذه الاختلافات تؤثر في صلاحية كل منهم لنوع الدراسة. فليس كل تلميذ بقادر على دراسة مواد التعليم الصناعي أو التجاري بالدرجة عينها من المهارة والكفاية، لأن كل نوع من أنواع الدراسة والتعلم يحتاج إلى قدرات وميول معينة.

كذلك فإن اختلاف قدرات التلاميذ واستعداداتهم وميولهم، يؤثر في مدى استفادة كل منهم مما يُقدم له من مادة تعليمية، وفي مدى حاجته إلى الرعاية. فالتلميذ المتخلف عقلياً يحتاج إلى مواد دراسية تختلف في نوعها وكمها عما يحتاج إليه التلميذ متوسط الذكاء أو مرتفع الذكاء. كما أن الطريقة الملائمة لتعليم المتخلف عقلياً تختلف عن الطريقة الملائمة لتعليم التلميذ متوسط الذكاء أو مرتفع الذكاء، وهذا بدوره يؤثر في درجة استفادة كل منهم مما يُقدم له.

2. الاقتصاد

كما تختلف الدراسات في ما تحتاج إليه من قدرات وميول لكي ينجح الدارس فيها، تختلف المهن في ما تحتاج إليه من قدرات وميول ومهارات واستعدادات. ونظراً إلى وجود فروق فردية في جوانب الشخصية، فإنه يمكن توجيه الفرد إلى المهنة أو الدراسة التي تلائمه، فإذا ما التحق بهذه المهنة أو الدراسة، حقق الاستفادة الكاملة منها، ونجح فيها، ونقصت مدة تدريبه، وقل احتمال تركه للعمل، ولهذا مردوده الاقتصادي على الفرد والمجتمع.

3. الصحة النفسية

إن توجيه الفرد إلى الدراسة أو المهنة التي تلائمه، وإعداده للالتحاق بها، وتدريبه عليها، وتحقيقه للنجاح فيها، يساعده على أن يحقق ذاته فيها ويتوافق معها ومع زملائه وأصدقائه وأسرته، مما يحقق له الصحة النفسية والسعادة والرضا. كذلك فإن مراعاة ما يحتاج إليه التلميذ المتخلف عقلياً من حيث كم ونوع وطريقة تقديم المادة الدراسية، يشعره بالنجاح ويحقق له الصحة النفسية.

4. دراسة التغيرات

يمكن أن تُستخدم الفروق الفردية في تعرُّف التغيرات الحادثة لدى مجموعة من الأفراد، فلو قيست أطوال تلاميذ الصف الأول الابتدائي ثم قيست أطوالهم في الصف السادس، لوجدنا اختلافاً في متوسط وتشتت الأطوال في الصف السادس عما كانت عليه في الصف الأول، مما يكون إشارة إلى التغيرات النمائية التي حدثت لديهم.

وتعتبر دراسة الفروق الفردية إحدى وسائل تقويم نجاح البرامج. فإذا قدمنا برنامجاً تربوياً لمجموعة من التلاميذ، ووجدنا في نهاية البرنامج أنهم قد تغيروا، كان ذلك دليلاً على تأثير البرنامج. وإذا وجدنا أن ما طرأ على كل منهم من تغير يختلف عن التغير الذي طرأ على الآخر، كان هذا دليلاً على تعميق البرنامج للفروق الفردية.

أنواع الفروق

يميل الناس إلى تصنيف الظواهر المختلفة، بحيث يكونون فئات مختلفة من الأشياء والأفعال. ولا يقتصر أمر التصنيف عند هذا الحد، بل يُصنفون بعضهم بعضاً باستخدام السمات المختلفة. فهذا طويل وذلك قصير، وهذا ذكي وذلك غبي، وهذا مجتهد وذلك متخلف. وهذه الطريقة في التصنيف إنما توحي بأن الفروق تكون في النوع، ولكن الواقع أن الفروق نوعان:

1. فروق في النوع

وهي الفروق التي لا يوجد بينها وحدة قياس مشتركة. فالذكاء يختلف عن الطول، والطول يختلف عن الوزن، والوزن يختلف عن التحصيل، لأنه لا توجد وحدة قياس مشتركة. فإذا كان الطول يُقاس بالسنتيمترات، فإن الوزن يُقاس بالجرامات، وينطبق المعنى نفسه على بقية الأنواع السابقة.

والفروق في النوع لا تقتصر على السمات الجسمية فقط، بل تشمل السمات النفسية، فالذكاء يختلف عن الميل في النوع، واستطراداً لا يمكن مقارنة ذكاء شخص بميل آخر، لأنه لا توجد وحدة قياس مشتركة.

2. فروق في الدرجة

وهي الفروق التي يوجد بينها وحدة قياس مشتركة، فالفرق بين الطول والقِصر فرق في الدرجة لأن وحدة قياسهما هي السنتيمترات، والفرق بين الثقيل والخفيف فرق في الدرجة لأن وحدة قياسهما هي الجرامات، والفرق بين الحرارة والبرودة فرق في الدرجة لأن وحدة قياسهما هي مقدار ارتفاع عمود الزئبق. وينطبق المعنى عينه على الذكاء والميول والقدرات والاستعدادات والاتجاهات، إذ إن الفروق بين الأفراد تكون فروقاً في الدرجة.

تظهر الفروق في الدرجة على بعد واحد متصل (أو خط مستقيم) لا يمكن تجزئته إلى أجزاء منفصلة بينها فجوات أو ثغرات. فالذكاء بُعد متصل يمتد من أقل درجة إلى أقصى درجة داخل عينة معينة. وكذلك الميل بُعد متصل يمتد من أقل درجة إلى أقصى درجة داخل عينة معينة. وعلى هذا البُعد يتوزع جميع أفراد العينة، بحيث تكون الأقلية درجة ذكائها دون المتوسط، وأقلية أخرى درجة ذكائها مرتفعة على المتوسط، وغالبية درجة ذكائها متوسطة. أي تتوزع العينة اعتدالياً على هذا البُعد المتصل توزيعاً كمياً لا كيفياً.

مظاهر الفروق الفردية

1. الفروق بين الأفراد

يختلف الأفراد في مقدار نصيب كل منهم من السمة أو الصفة المقيسة، فداخل الفصل الواحد يوجد أطفال أذكياء، وآخرون متوسطو الذكاء، ومجموعة ثالثة دون المتوسط. وداخل الفصل نفسه يوجد أطفال مسيطرون، وأطفال متوسطو السيطرة، وأطفال يميلون إلى الخضوع بدرجة كبيرة. وداخل الفصل عينه يوجد أطفال طوال القامة، وآخرون قصار القامة، ومجموعة ثالثة متوسطو الطول.

ويختلف الأفراد في درجة أدائهم للأعمال المختلفة. فداخل الفصل الواحد يتفاوت الأطفال في درجة قدرتهم على المناقشة أو حل المسائل الحسابية أو الأسئلة اللغوية، أو نطقهم لحروف اللغة الأجنبية، أو رسمهم للمناظر الطبيعية. ويختلف المدرسون في درجة توضيح أفكارهم للتلاميذ وسرعتهم في الكلام، ودقة تصحيحهم للأعمال التحريرية.

وثمة مجال آخر للفروق بين الأفراد، هو الفروق في تجهيز المعلومات. فلقد تبين وجود فروق بين الأفراد في حاجتهم إلى كميات متفاوتة من المعلومات، وإلى أنواع مختلفة منها، وإلى مستويات متفاوتة التعقيد من تلك المعلومات، وتفاوت قدرة كل منهم على ترميز المعلومات، أي تحويلها إلى رموز، وعلى سرعة أداء العمليات المعرفية المستخدمة في معالجة المعلومات.

2. الفروق داخل الفرد الواحد

أ. إن مستويات القدرات أو درجات السمات لدى الفرد الواحد ليست متساوية، فقدرة الفرد اللغوية ليست كقدرته الموسيقية أو كدرجة انطوائه أو درجة اتزانه الانفعالية. أي أنه لا توجد علاقة إيجابية بين السمات داخل الفرد الواحد، بمعنى أنه لا ترتفع قدرته اللغوية، وبالدرجة عينها قدرته الموسيقية، وبالمعدل نفسه درجة انطوائه أو سيطرته.

ب. أثناء النمو يتعرض الفرد لتغيرات جسمية وعقلية ووجدانية، بحيث يزداد طوله ووزنه وذكاؤه وميوله، أي أنه توجد فروق بين الفرد ونفسه في مراحل نموه المختلفة.

للفروق داخل الفرد الواحد أهمية كبيرة، إذ تجعل له أسلوبه المتميز المختلف عن غيره من الأفراد، كما تُبين أسباب تفوق الفرد في بعض الدراسات أو المهن دون غيرها، وذلك تبعاً لدرجة ما لديه من قدرات لازمة لهذه الدراسات أو المهن. فمرتفع القدرة اللغوية يتفوق في دراسة اللغات ويصلح للعمل كمدرس للغات أو خطيب أو مذيع. وإذا كانت قدرته الرياضية منخفضة، فإنه لن يتفوق في دراسة الرياضيات، ولن ينجح في المهن التي تحتاج إلى استخدام الأعداد والأشكال الهندسية بكثرة.

3. الفروق بين الجماعات

من أهم الفروق بين الجماعات:

أ. الفروق بين الجنسين في بعض الخصائص الجسمية، مثل حجم الجسم والقوة البدنية، والخصائص العقلية كالذكاء العام والقدرات العقلية، والخصائص الوجدانية كالعدوانية والسيطرة والثقة بالنفس.

ب. الفروق بين الأعمار، كما تظهر في تغير الخصائص النمائية عبر الأعمار المختلفة، كالنمو الجسمي والعقلي والوجداني والاجتماعي والخُلقي.

ج. الفروق بين الأجناس والسلالات في بعض الخصائص الجسمية، مثل لون الجلد والتحمل، والخصائص المعرفية كالذكاء العام.

د. الفروق بين المستويات الاقتصادية والاجتماعية وانعكاساتها على خصائص الأفراد وأساليب تنشئتهم.

يُلاحظ بالنسبة إلى الفروق بين الجماعات:

·    لما كانت الفروق الفردية نتاجاً لعوامل الوراثة والبيئة وتفاعلهما، فإن تلك الفروق ليست مطلقة أو ثابتة ثباتاً مطلقاً، والدليل على ذلك تحسن بعض السمات عند انتقال الأفراد من بيئة إلى أخرى (مثل حالات الأطفال بالتبني).

·    إن الأدوات المستخدمة، وخصوصاً الاختبارات النفسية، كانت متحيزة ثقافياً ضد فئات معينة، أي أنها لم تكن عادلة ثقافياً، ولأن واضعيها أو مؤلفيها كانوا من بين أبناء الثقافات الراقية أو العالية.

·    أن بعضاً من تلك الدراسات أُجريت لأغراض سياسية واجتماعية لمصلحة فئات معينة دون أخرى (تفوق البيض على الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية).

·    عند إجراء بعض من تلك الدراسات، لم يُراع التاريخ الخاص بكل جماعة، مثل تاريخ وجود المهاجرين في الولايات المتحدة الأمريكية، أو تاريخ الأفارقة في الولايات المتحدة الأمريكية.

·    مما يؤثر في وجود تلك الفروق الأنماط الشائعة Stereotypes عن أبناء تلك الفئات. فلدى كل فرد أنماط شائعة تصورية عن الذكور والإناث، أبناء القرى وأبناء المدن، البيض والزنوج، الثقافات الغربية والثقافات الشرقية. وهكذا إن هذا من شأنه تشكيل أساليب التعامل مع أبناء تلك الثقافات والتوقعات المحتملة منهم.

الفروق الفردية في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم إلى الفروق بين الناس في كثير من المواضع، قال ـ تعالى ـ:

]وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ[ (سورة الأنعام: الآية 165).

]أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ[ (سورة الزخرف: الآية 32).

]وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ[ (سورة الروم: الآية 22).

]انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ[ (سورة الإسراء: الآية 21).

]وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ[ (سورة فاطر: الآية 28).

في هذه الآيات إشارة واضحة إلى وجود الفروق الفردية بين الناس، كما أن هذه الآيات تتضمن أن هذه الفروق ترجع إلى كل من العوامل الوراثية والبيئية. فقوله ـ تعالى ـ: ]وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ[ إنما يشمل كل أنواع الفروق بين الناس، سواء كانت وراثية أم مكتسبة، وسواء كانت بدنية أم نفسية أم عقلية، وفي الثروة والممتلكات أو النفوذ.

وقوله ـ تعالى ـ: ]لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً[ إنما يُشير إلى اختلاف الناس في الغنى، وفي العلم والمهنة، بحيث يعمل الفقير للغني بالأجر، كما يعمل بعض أصحاب المهن والحرف في خدمة الناس الآخرين بالأجر، وبذلك يتم التعاون وتوزيع العمل بين أفراد المجتمع، مما يكفل سد جميع حاجاتهم، ويهيئ لهم جميع الخدمات اللازمة لهم في معيشتهم.

وقوله ـ تعالى ـ: ]وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [إنما يشير إلى أثر كل من العوامل الوراثية والبيئية في الفروق الفردية. فمن الواضح أن اختلاف الألوان إنما يرجع إلى العوامل الوراثية، وأن اختلاف الألسنة واللغات واللهجات بين الناس إنما يرجع إلى العوامل البيئية والاجتماعية والثقافية.

وتوجد فروق بين الناس في العلم والحكمة، ويتضمن ذلك وجود فروق بينهم في القدرات العقلية والذكاء. يُفهم ذلك من مضمون الآيات التي ذكرناها سابقاً، كما يُفهم ذلك صراحة من قوله ـ تعالى ـ: ]نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[ (سورة يوسف: الآية 76).

قال ابن كثير في تفسير ذلك: "قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله U". عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس، فحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال: الحمد لله، فوق كل ذي علم عليم، فقال ابن عباس: بئس ما قلت، والله العليم فوق كل عالم، يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم".

وبما أن الناس مختلفون في استعداداتهم وقدراتهم، وفي ظروفهم الاجتماعية والثقافية وخبراتهم الشخصية، فإننا، لاشك، نتوقع وجود اختلافات كثيرة في سلوكهم. قال ـ تعالى ـ: ]قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ[ (سورة الإسراء: الآية 84).

واختلاف الناس في الاستعدادات والقدرات البدنية والعقلية، يؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف قدراتهم على العمل والكسب، وتحصيل العلم، وتحري الحق والعدل، وتختلف تبعاً لذلك واجباتهم ومسؤولياتهم.

قال ـ تعالى ـ: ]لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[ (سورة البقرة: الآية 286).

]وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[ (سورة المؤمنون: الآية 62).

]لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا[ (سورة الطلاق: الآية 7).

ومن الواضح أن إشارة القرآن إلى وجود الفروق الفردية، وإلى أن الفرد لا يُكلف إلا ما في وسعه وطاقته، إنما هو الفكرة الأساسية في ما وصل إليه علم النفس الحديث من الاهتمام بقياس الفروق بين الأفراد في الاستعدادات والقدرات، لتنظيم عملية التعليم، بحيث يوجه كل فرد إلى نوع التعليم الملائم لاستعداداته وقدراته. وهذا هو الهدف من عملية التوجيه التربوي في التربية الحديثة. ويستعين علماء النفس المحدثون كذلك بقياس الفروق الفردية على تحسين عملية التوجيه المهني والاختيار المهني، بحيث يمكن وضع كل فرد في العمل الملائم لاستعداداته وقدراته.

الفروق الفردية في الحديث النبوي

أشار الحديث إلى الفروق الفردية بين الناس. فعن أبي موسى أن رسول الله r قال: "إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحَزْن، والخبيث والطيب".

ويُشير هذا الحديث إلى اختلاف الناس في ألوانهم، وطباعهم وأخلاقهم. وكما توجد في الأرض مناطق مختلفة الألوان، ومناطق سهلة مستوية، ومناطق وعرة صعبة الاجتياز، فكذلك توجد بين الناس فروق في اللون، فمنهم الأحمر والأبيض والأسود، وما بين ذلك من درجات هذه الألوان؛ وكذلك توجد بينهم فروق في الطباع والأخلاق والاستعدادات المزاجية والانفعالية، فمنهم حسن الطبع والخُلُق، لين العريكة، سهل المعاملة؛ ومنهم من هو سيء الطبع والخُلُق، فظ خشن في تعامله مع الناس. ويُشير الحديث إلى أن الفروق بين الناس في الألوان، وفي الطبع والاستعدادات المزاجية والانفعالية فروق جِبلِّية، أي أنها ترجع إلى فروق في التكوين البدني.

وعن أبي موسى، أن رسول الله r قال: "مثل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً؛ فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها أجادب، أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً، ولا تُنبت كلأ. فذلك مثل من فُقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم، وعلَّم. ومثل ممن لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله، الذي أُرسلت به".

لقد وصف الرسول r في هذا الحديث الفروق بين الناس في القدرة على التعلم والفهم والتذكر. وهي قدرات تدخل في مفهوم الذكاء، وصنف الناس بالنسبة إلى الذكاء ثلاثة أصناف، فمنهم من هو مثل الأرض الطيبة قادر على تحصيل العلم وحفظه والعمل به وتعليمه للغير، فينفع به نفسه وينفع به غيره. ومنهم من هو مثل الأرض الجدباء (وهي الأرض الصلبة التي لا تشرب الماء)، قادر على حفظ العلم ونقله إلى غيره فينفعه دون أن ينفع به نفسه. ومنهم مثل القيعان (وهي الأرض المستوية الملساء التي لا نبات فيها)، وهم من لا ينتفعون بالعلم ولا يحفظونه لينقلوه إلى الغير.

وأشار الرسول r إلى الفروق بين الناس في الذكاء، حينما قال r "نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونكلمهم على قدر عقولهم".

في هذا الحديث إشارة واضحة إلى الفروق بين الناس في قدراتهم العقلية، مما يوجب على من يقوم بتوجيههم وتعليمهم، سواء كانوا أنبياء أو معلمين ومربِّين، أن يراعوا هذه الفروق، فيكلمون كل فرد أو يعلمونه، على قدر مستوى قدراته العقلية. وقد وضع الرسول r بهذا الحديث قاعدة تربوية مهمة أخذ بها المربُّون المسلمون، كما يأخذ بها كذلك المربُّون في العصر الحديث.

عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله r قال: "ألا وإن منهم (بني آدم) البطيء الغضب سريع الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء؛ فتلك بتلك. ألا وإن منهم سريع الغضب بطيء الفيء. ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء، ألا وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء".

وأشار الحديث إلى الفروق بين الناس في استثارة انفعال الغضب، وصنَّف الناس بالنسبة إلى ذلك ثلاثة أصناف، فمنهم من هو بطيء الغضب، لا يغضب إلا نادراً، وإذا غضب فإنه يرجع عن غضبه ويعود إلى هدوئه سريعاً، وهذا هو أفضل الناس. ومنهم من يكون سريع الغضب، يغضب لأتفه الأسباب، ويكون سريع الرجوع عن الغضب، وسريع العودة إلى هدوئه. ومنهم من يكون سريع الغضب، وإذا غضب يستمر في غضبه ولا يرجع عنه بسهولة، ولا يعود إلى هدوئه إلا بعد مدة طويلة، وهذا هو أسوأ الناس وشرهم.