إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / الجنون والمجنون









رابعاً: اضطرابات جنون الفصام (Schizophrenias)

رابعاً: اضطرابات جنون الفصام  (Schizophrenias)

          يعد الفصام من أهم وأشهر أنواع الجنون. ويعرَّف بأنه مجموعة من الاضطرابات، تختلف في عواملها السببية، وفي الاستجابة للعلاج ومصير المرض. وتتفق في أنها لُزْمَة (Syndrome) مكونة من أعراض مميزة، ناشئة عن اضطراب التفكير والإدراك والوجدان والسلوك. وهذه الأعراض، تصل إلى درجة الذهان، في بعض الأوقات، خلال مسار المرض. أو هو اضطراب عديد من وظائف الأنا، ينتج منه عدم قدرة المريض أن يميز، بدقة وثبات، بين الواقع، الداخلي والخارجي، مع فشله في المحافظة على اتصاله بالعالم الخارجي. ولا يجوز أن يطلق عليه لفظ "انفصام"؛ إذ إن الفصام، يعني تفكك وظائف العقل، بينما الانفصام، يعني الانقسام، وهذا ما يحدث في حالات تعدد الشخصية (Multiple Personality)، والتي يطلق عليها "ازدواج الشخصية"، والتي ذكرت ضمن الانشقاق.

ولقد بذلت محاولات عديدة لتحديد مفهوم الفصام، منها:

  1. محاولة (كريبلين) (Kreaplin): الذي أكد مفهوم التدهور العقلي المصاحب للمرض، مما دعاه إلى تسميته بالخرف المبكر. وقرر أن ملامحه الإكلينيكية هي السلبية والانسحاب وأسلوبية الحركة وفقْد الإرادة والانتباه، وضعف الحكم على الأمور، والتناقض بين الوجدان والتفاعل العام، واضطراب التفكير، وعدم التمييز بين الواقع والخيال؛ وأنه ليس ناتجاً من تسمم أو هستيريا أو صرع أو هذيان أو ذهان الهوس والاكتئاب.
  2. محاولة (بلولر) (Bleuler): الذي لم يرَ أن التدهور إحدى السمات المهمة لمرض الفصام. وقسم الأعراض المرَضية، في الفصام، إلى أعراض أساسية (جوهرية)، وهي اضطراب التفكير، المتميز بتفكك الروابط، واضطراب الوجدان، والذاتوية  (Autism)، وثنائية المشاعر(Ambivalence)، وأعراض مصاحبة وهي الهلاوس والضلالات. وبلولر هو أول من أسماه بمرض الفصام (Schizophrenia)، ومعناه الانقسام العقلي، وهذا المعنى يختلط لدى عامة الناس مع إزدواج الشخصية، الذي يطلق عليه، حالياً، اضطراب تعدد الشخصية.
  3. محاولة (شنيدر) (Schneider): الذي وصف عدداً من الأعراض، أسماها أعراض الدرجة الأولى (First-Rank Symptoms) ذات الأهمية في تشخيص الفصام، وتشمل : سماع المريض لأفكاره بصوت مرتفع، وهلاوس سمعية تُعَلِّق على سلوك المريض، وضلالات التأثير جسمانياً بواسطة قوى خارجية، وأن هناك قوى خارجية، تتحكم في تفكيره وتنشره على الناس، وضلالات الخضوع لسيطرة قوى خارجية، تتحكم في تصرفاته.

          وما زالت المحاولات مستمرة، في صورة التصانيف الحديثة للأمراض النفسية. وكان آخرها التصنيف التشخيصي الإحصائي الرابع (DSM-IV) (1994)، اللذان استبعدا تشخيص مرض الفصام، من دون أعراض ذهانية، كما كان يحدث في الفصام، الكامن أو الحدي (Borderline) أو البسيط (Simple) ، وأصبحت تشخص على أنها اضطرابات شخصية. كما وضعا لاضطراب الفصام دلالات محددة، يشخص بها، إكلينيكياً، وفيما يلي وصف مفصل للصورة الإكلينيكية للفصام، تليها دلالات التشخيص، حسب التصنيف (حموده 1997) (1).

للصورة الإكلينيكية لجنون الفصام، مميزات عامة، هي

  1. وجود أعراض ذهانية، خلال المرحلة الناشطة للمرض (Active Phase) .
  2. تشمل الأعراض المميزة العديد من الوظائف النفسية المضطربة.
  3. نقص الأداء الوظيفي، عما كان قبل (وفي حالات الأطفال والمراهقين، يكون نقص متوقع، في الإنجاز الدراسي والاجتماعي).
  4. المدة لا تقلّ عن ستة أشهر. وقد تشمل أعراضاً ممهدة (Prodromal Symptoms)، أو أعراضاً متبقية (Residual Symptoms) .
  5. في بعض مراحل المرض، يجب أن يشمل الفصام ضلالات (Delusions)، أو هلاوس (Hallucinations)، أو اضطرابات محددة ومميزة، في شكل التفكير والوجدان.
  6. ولا يعزى الاضطراب إلى حالة مرَضية جسمانية، أو إلى تأثير مادة. وليست الأعراض ناشئة عن اضطراب الوجدان ، أو الفصام الوجداني.

وقبل الاسترسال في عرض تفاصيل الصورة الإكلينيكية، علينا أن نأخذ في الحسبان ثلاثة أشياء:

  1. لا يوجد عرض مرَضي واحد (أو علامة مرَضية واحدة)، نشخص به الفصام؛ فكل أعراض الفصام، يمكن رؤية بعضها في عدد من الاضطرابات، العصبية والنفسية.
  2. تتغير أعراض المريض الواحد، من وقت إلى آخر.
  3. لا بد من الأخذ في الحسبان مستوى المريض التعليمي، وذكاءه، وثقافته البيئية. فمثلاً، عدم قدرة المريض على التجريد، قد يعكس تعليمه وذكاه، كما أن بعض المعتقدات الغريبة، قد تعكس نمطاً من الثقافة، البيئية أو الدينية.
  4. نقص الأداء الوظيفي مهما كان قبل إذ يتدهور إنجاز الشخص، على مستوى العمل والعلاقات الاجتماعية، واهتمامه بنفسه؛ ويلاحظ هذا التغير بواسطة الأهل والأصدقاء. وإذا بدأ  الاضطراب في الطفولة أو المراهقة، يحدث فشل في الوصول إلى الإنجاز الاجتماعي المتوقع له. ومن ثمَ، فإن العرض الواحد، مثل الضلال المتحوصل[1] (Encapsulated delusion)، من دون أن يصاحبه نقص في الوظيفة الاجتماعية، أو العمل، لا يشخص فصاماً، إذ يجب أن يشمل الفصام إعاقة (اضطراب)، في عديد من الوظائف النفسية.

الأعراض المرَضية المميزة لمرض الفصام

1. اضطراب التفكير، الذي يبرز، خاصة، في صورة اضطراب محتوى التفكير، والقوة المتحكمة فيه.

أ. اضطراب محتوى التفكير، ويشمل الضلالات (Delusions)، التي قد تكون متعددة، أو مفرطة في الغرابة. وقد تكون ضلالات اضطهادية (Paranoid Delusions) ( كمن يعتقد أن هناك من يتجسسون عليه، أو يخططون لإيذائه، بدس السم له أو تشويه سمعته)؛ أو ضلالات الإشارة (Delusions of Reference) ( كمن يعتقد أن الناس تلمح إليه، أو تسخر منه، بالقول أو الإشارة)؛ أو ضلالات أخرى، مثل العدمية (Nihilism)، أو العظمة (Grandiose)؛ أو ضلالات الاعتقاد بأن قوة خارجية، تحكم أفعاله وتصرفاته  (Delusions of being Controlled).

ب. اضطراب القوة المتحكمة في التفكير إذ يتوهم أن هناك من يسحب أفكاره من رأسه (شخص أو قوة، معلومة أو خفية) (Thought Withdrawal)، أو يتوهم أن أفكاراً توضع في رأسه، ليست خاصة به (Thought Insertion) ، وذلك من دون إرادة منه؛ أو أن أفكاره تذاع على الناس، في وسائل الإعلام (Thought Broadcasting)( الصحافة والإذاعة والتليفزيون).

ج. اضطراب أسلوب التفكير (Form of Thinking)، ومن أكثر أشكاله شيوعاً فقدان روابط التفكير (بين الأفكار وبعضها) (Loose Association)؛ إذ ينتقل المريض من موضوع إلى موضوع آخر مختلف تماماً؛ أو أن العلاقة بين الموضوعَين عارضة، من دون وعي الشخص بذلك. وعندما يزداد فقدان الروابط، يأخذ التفكير شكل عدم الاتّساق. وقد يوجد فقْد في محتوى الكلام، فيكون مناسباً في الكمية، ولكنه يتضمن القليل من المعلومات، لغموضه، أو لأنه مجرد (Abstract)، أو عياني (Concrete) أكثر من اللازم؛ أو يتصف بالتكرارية أو الأسلوبية. وقد يوجد انسداد في مسار التفكير، ولكنه أقلّ شيوعاً، أو يتكلم بلغة جديدة.

2. اضطراب الإدراك، في شكل هلاوس (Hallucination) متنوعة، ولكن أكثرها شيوعاً الهلاوس السمعية (Auditory)، التي تكون أصواتها مألوفة لديه، وغالباً، تكون ألفاظها مهينة له. وقد تكون لشخص واحد أو لعدد من الأشخاص. وقد يكون الكلام موجهاً إليه بصورة، مباشرة أو غير مباشرة (مثل وصف سلوكه).

وقد تكون الهلاوس حسية (لمسية) (Tactile)، في صورة تنميل أو إحساس كهربائي، أو تكون هلاوس حشوية (Somatic hallucination)، مثل الإحساس بحركة ثعابين داخل البطن، ونادراً ما تكون هلاوس، بصرية (Visual) أو تذوقية (Gustatory) أو شمية (Olfacory). وجود الهلاوس، البصرية والتذوقية والشمية، في حالة غياب الهلاوس السمعية، يلفت الانتباه إلى وجود اضطراب عقلي عضوي. وهناك اضطرابات إدراكية أخرى، تشمل إحساسات التغير الجسماني، والحساسية الشديدة للأصوات والرؤى والروائح.

3. اضطراب الوجدان، ويشمل، غالباً، فقدان الشعور (Apathy)، أو تناقض الوجدان (Incongrous Mood) أو عدم التمايز الوجداني (Indifferent Mood).

4. الإحساس بالنفس، الذي يعطي الإنسان السوي الإحساس بالتفرد، واتجاه النفس الخاص. وأحياناً، يسمى ذلك تلاشي حدود الأنا (Loss of Ego-Boundaries)، ويظهر ذلك في صورة ارتباك هوية (Identity) (اُنظر الهوية) الشخص، ومعنى وجوده في الحياة، أو بعض الضلالات، خاصة تلك التي تحتوي التحكم بواسطة قوى خارجية.

5. اضطراب الإرادة، باضطراب قدرة الشخص على المبادرة إلى أنشطة هادفة وموجهة، وقد يعوق ذلك أداءه لعمله، فيصبح غير مهتم بعمله، أو تصبح لديه ثنائية الإرادة (Ambivalence) ،التي تؤدي إلى توقف نشاطه الهادف، الموجه ذاتياً.

6. العلاقة بالعالم الخارجي تتمثل في انسحاب المريض إلى العالم الخارجي، ويصبح تفكيره غير واقعي، ومنصباً حول ذاته. وعندما تزيد هذه الحالة، تسمى "الذاتوية" (ويشكو أهله من أنه يعيش في عالم خاص به، ومنسلخ، عاطفياً، عن كل ما حوله).

7. السلوك، وستجسد في قلة حركة المريض ونشاطه التلقائي وتفاعله مع البيئة من حوله. وقد يزيد ذلك إلى درجة، يبدو فيها غير متيقظ للبيئة من حوله، (كما في حالة الذهول الكتاتوني). وقد يتصلب في وضع معين، ويرفض المحاولات لتغيير هذا الوضع (كما في حالة التصلب الكتاتوني). وقد يصبح السلوك غير محكوم وغير هادف (كما في حالة  الهياج الكتاتوني).

          وقد يصاحب ذلك ملامح إكلينيكية أخرى، مثل: فقر التفكير أو التفكير السحري (اُنظر التفكير)، أو السلوك المتكرر، والقلق والاكتئاب، أو الغضب، أو اختلال الإنِّية[2] (Depersonalization)، واختلال إدراك البيئة(Derealization) من حوله، أو اضطرابات الذاكرة، أو عدم إدراك البيئة (Disorientation).

          وعادة، يبدأ مرض الفصام في سن المراهقة، أو بداية الحياة الراشدة. وتشير الدراسات إلى أنه أكثر مباكرة إلى إصابة الرجال مبكراً منه إلى الإناث. ويلزم لتشخيص مرض الفصام، أن تستمر الصورة المرَضية لمدة ستة أشهر، وتشتمل على المرحلة الناشطة للأعراض الذهانية. وقد تشتمل على مرحلة منذرة(Prodromal)، أو مرحلة متبقية (Residual).  

          وتتميز المرحلة المنذرة (الممهدة) (Prodromal Stage)، بانهيار مستوى الأداء الوظيفي للشخص، والانسحاب الاجتماعي، وبعض السلوك الغريب (Bizarre Behaviour)، وإهمال الشخص لنظافته، وتبلده العاطفي، وغرابة الأفكار، ونقص المبادرة والاهتمامات. ويلاحظ التغير بواسطة الأهل والأصدقاء. ويتفاوت طول هذه المرحلة، ويصعب تحديد بدايتها بدِقة. ويُعَدّ التنبؤ سيئاً، خاصة عندما تكون غامضة البداية والتدهور تدريجي، على مدى سنوات عديدة.  

          وتتميز المرحلة الناشطة (Active Phase)، بالأعراض الذهانية : مثل الضلالات، والهلاوس، وفقدان الروابط بين الأفكار، وعدم اتّساق الأفكار، وفقر محتوى الكلام، والتفكير غير الواقعي، والسلوك المضطرب.

          أما المرحلة المتبقية (Residual Phase)، فعادة، تتبع المرحلة الناشطة من المرض. وهي تشبه، إلى حدّ كبير، المرحلة المنذرة. إلا أن الجمود العاطفي، واضطراب الأداء الوظيفي، هما أكثر شيوعاً فيها منها في المرحلة المنذرة. وقد يظل فيها بعض الأعراض الذهانية، مثل الضلالات أو الهلاوس، ولكن من دون تأثير قوي.

المسار والتنبؤ بمصير جنون الفصام

          يبدأ الفصام، غالباً، بأعراض ممهدة، ويتبعها ظهور الأعراض الأكثر وضوحاً، وهي الذهانية (وهذه هي المرحلة الناشطة)، وذلك خلال أيام، إذا كانت البداية حادّة، أو خلال أشهر قليلة، إذا كانت البداية متدرجة. وقد تكون البداية مسبوقة بعامل مرسب (Precipitating Factor) ( مثل الانتقال من مكان إلى آخر للعيش أو الدراسة، أو تعاطي عقار مخدر، أو فقدان أحد الأقارب، بالوفاة، أو مرض جسماني).

          والمسار التقليدي لمرض الفصام، يتمثل في اشتدادات، تتبادل مع فترات من الهوادة، وأحياناً، يلاحظ الاكتئاب بعد كل نوبة. ويستمر التدهور في التزايد لعدة سنوات (خمس سنوات في المتوسط)، ثم يقف، وتقل شدة الأعراض الموجبة، وتظل الأعراض السالبة (مثل الجمود العاطفي، والعزلة الاجتماعية، ونقص الأداء الوظيفي، وضعف الإرادة). وهذا يجعل حياة المريض بلا هدف، ويتكرر تنويمه في المستشفيات. أما أن يعود الشخص إلى سابق عهده، من الأداء الوظيفي قبل المرض، فذلك يندر حدوثه.

وتوجد بعض العوامل، التي تنبئ بمصير حسن لمرض الفصام، منها:

  1. عدم وجود اضطراب شخصية، قبل المرض.
  2. الإنجاز الوظيفي المناسب، في فترة ما قبل المرض.
  3. وجود عوامل مرسبة للمرض.
  4. البداية المفاجئة للمرض.
  5. البداية في منتصف العمر (البداية المتأخرة للمرض).
  6. وجود أعراض وجدانية (Mood) (خاصة تلك التي ظهرت في الاكتئاب).
  7. وجود أعراض كتاتونية وبارانوية.
  8. عدم استمرار مسار المرض (تراجعه لفترات، يتحسن فيها المريض).
  9. وجود تاريخ عائلي لاضطراب الوجدان.
  10. المريض المتزوج.
  11. يلقى مساندة اجتماعية مناسبة.

ويلاحظ أن عكس هذه الأشياء، ينبئ بمصير سيئ لمريض الفصام.

الإعاقة التي يحدثها جنون الفصام

          نلاحظ من عرض الصورة الإكلينيكية، ومسار الفصام ومصيره، أنه عند مرحلة معينة من المرض، تصبح الإعاقة في عديد من الوظائف اليومية، مثل العمل، والعلاقات الاجتماعية، والعناية بالنفس. وقد يلزم الإشراف على حالة المريض الغذائية ونظافته، وحمايته من نتائج سوء تصرفه وضعف حكمه على الأمور، أو أفعاله الناتجة من ضلالات أو استجابة الهلاوس. وبين النوبات، يتفاوت احتياجه للرعاية، من إعاقة تستدعي رعاية في مصحة، إلى تحسّن، يجعله يعتمد على نفسه.

مضاعفات مرض الفصام

للفصام مضاعفات، منها:

  1. الفشل الدراسي، على الرغم من أن المريض قد يتمتع بذكاء، متوسط أو فوق المتوسط.
  2. فشل المريض في عمله، أو ضعف مستوى أدائه، أو عدم قدرته على الاستمرار في العمل نفسه.
  3. الإقامة بالمستشفيات، لفترات طويلة من حياته.
  4. ارتكاب بعض جرائم العنف، المفرطة في الغرابة.
  5. قِصر حياة الفصاميين؛ إما لكثرة الانتحار بينهم، أو سوء التغذية، الذي ينشأ عنه الأمراض، أو لسوء الرعاية الطبية. وتجدر الإشارة إلى أن (50%) من مرضى الفصام، يحاولون الانتحار، وأن (10%) منهم ينهون حياتهم، فعلاً.

انتشار جنون الفصام

          لوحظ أن معدل حدوث الفصام (وهو عدد الحالات الجديدة، التي تشخص فصاماً، في سنة ما) هو حالة واحدة في كل عشرة آلاف من عامة الناس. بينما معدل الانتشار (عدد كل حالات الفصام، التي شخصت خلال عام، سواء جديدة أو قديمة)، يراوح بين (2, 0 %) و (2%) من عامة الناس. وحدوث الفصام، يكون بين الخامسة عشرة والأربعين من العمر، مع ازدياد معدل الحدوث في أواخر العشرينيات من العمر. ونسبة انتشار الفصام في الذكور، هي نفسها بين الإناث. ويكثر بين غير المتزوجين، وآخر الأطفال ميلاداً في الأسرة. وينتشر بين كل الأجناس، ويكثر انتشاره في المدن الكبيرة المزدحمة، وبين الطبقات الاجتماعية الدنيا (الفقيرة)، ويزداد ظهور الفصام في بداية الصيف، وفي فصل الخريف.

          ولوحظ أن انتشار الفصام، يزداد بين الأقارب، فيَصِل إلى عشرة أمثاله بين عامة الناس. فإذا كان أحد الوالدَين مصاباً بالفصام، فإن نسبة الانتشار بين الأبناء، تصل إلى (15%). أما إذا كان كِلا الوالدَين مصاباً به، فإن النسبة تصل إلى(40%). وفي حالة إصابة أحد الإخوة، تكون نسبة الانتشار بين بقية الإخوة (7 ـ 10%). أما في حالة التوائم، فإن النسبة أعلى من ذلك كثيراً، خاصة في حالات التوائم المتماثلة.

          وتشير إحصائيات المستشفيات العقلية، إلى أن نسبة مرضى الفصام، تراوح بين 50 و60% من المرضى، الذين ينزلون فيها.

أسباب جنون الفصام

          لقد حظيت دراسات أسباب الفصام بكمّ هائل من الدراسات. واعتادت الكتب التقليدية، أن تفرد لهذا المرض العديد من الصفحات. بيد أن كل ما تم أُنجز في هذا المجال، لا يعدو كونه نظريات فقط؛ ولم يعرف، حتى الآن، السبب الحقيقي للفصام. ولعل هناك من يسأل ما الداعي لذكر هذه الأسباب، إذا كانت  نظريات فقط؟ والجواب هو أن هذا التراث من البحث العلمي، يعد خطوة على طريق الوصول إلى المعرفة الحقيقية للأسباب. ومهما كانت هذه الخطوات متناثرة، وبعضها مبتعداً عن الهدف، إلا أن الكثير منها اقترب من الهدف، خاصة الجوانب البيولوجية. وإليها يرجع الفضل في ما أنجز من نجاح، في علاج بعض أنواع الفصام. هاكم أهم تلك النظريات (أو العوامل)

1. العوامل الجينية  (Genetic Factors)

من خلال الدراسات، التي تناولت أُسْرة الفصامي، لوحظ أن معدل انتشار المرض بين أفرادها، أكثر منه بين عامة الناس. ومن دراسات التوائم، لوحظ أن الانتشار بين التوائم المتماثلة، يصل إلى (47%)، وبين تلك غير المتماثلة (10-12%). وكشفت دراسات التبنّي (للأطفال الذين أخذوا من آبائهم الفصاميين، وربوا في أسرة غير فصامية)، أن معدل الانتشار بينهم، هو نفسه، كما لو ربوا مع آبائهم البيولوجيين. كما أن متابعة التوائم المتماثلة، الذين فُصِل بعضهم عن بعض، فنشأوا في أماكن متباعدة ـ كشفت عن معدل الانتشار نفسه، الناجم عن تنشئتهم معاً. واستخلص من ذلك أهمية العامل الجيني في حدوث مرض الفصام. وكشفت فَنِّيات البيولوجيا الجزيئية، أنه متعدد الجينات(Polygenetic inheritance)، وأن أكثر من نصف الكروموسومات، ترتبط بالفصام، ولكن أكثرها ارتباطاً هو الذراع الطويل للكروموسومات 5 و11 و18والقصيرة لكروموسمي 19وX. إلا أن عدم تطابق معدل الحدوث بين التوائم المتماثلة، يشير إلى أهمية العوامل غير الجينية أيضاً.

2. العوامل البيوكيماوية

وتعد من أكثر العوامل المسببة للفصام حظاً، في الدراسات، التي تناولت أسباب الفصام. وتقسم إلى:

أ. الناقلات العصبية.

ب. الإنزيمات.

ج. الأندورفين.

د. البروستاجلاندين.

هـ. الجلوتين.

و. المناعة.

ز. الفيروسات.

ح. المهلوسات والمواد شاذة المثيل.

ط. الجلوتامات.

أ. الناقلات العصبية

أشارت الدراسات إلى أن ازدياد أو نقص ناقلات عصبية معينة أو تغيرها، في المستقبلات، قبل المشبكية (Presynaptic)، أو بعدها (Postsynaptic)، أو وجود داخلية مولدة للذهان، يعطي أعراض الفصام. وهذه الناقلات العصبية هي:

(1) ازدياد نشاط الدوبامين (Dopamine)، إما لازدياد إنتاجه، أو تراكمه، بسبب نقص الإنزيم المؤكسد للأمينات الأحادية، أو زيادة نشاط ثانوي لنقص مثبطات الجابا (GABA)، أو لازدياد حساسية المستقبلات بعد المشبكية، أو ازدياد تخلق مستقبلات دوبامينية.

(2) زيادة نشاط النورأدرينالين (Noradrenaline)، يسبب حساسية تجاه المثيرات الداخلة إلى المخ، مما يجعلها تبدو كأعراض ذهانية.

(3) نقص عصبونات الجابا(GABA-Neurons)، وهي أساسا مثبطة، خاصة في منطقة نواة (Accumbens)، مع ازدياد الدوبامين في المنطقة نفسها، كما لوحظ أن مضادّات الذهان، تزيد من نشاط الجابا؛ وأن الديازيبام (Diazepam)، الذي يعد ذا مفعول محبذ لنشاط الجابا، له  مفعول مضادّ للذهان، في بعض مرضى الفصام. ولكن بعض الباحثين، رأى أن نقص الجابا ثانوي، بالنسبة إلى الدوبامين والنورأدرينالين.

(4) نقص السيروتونين (Serotonin)، الدوبامين لوحظ أن مضادّات الذهان، تتحد بمستقبلات السيروتونين. ويقلّ مولد السيروتونين (التريبتوفان)، في حالات الفصام الحادّة، ويزداد مع التحسن الإكلينيكي. كما أن تعاطي الأمفيتامين، لمدة طويلة، يسبب نقص السيروتونين، وهذا يشير إلى أن لنقص السيروتونين دوراً في الفصام.

(5) زيادة الفينيل إيثيل أمين (Phenyl-ethylamine)، وهو ليس ناقل عصبي حقيقي؛ ولكنه يشبه الأمفيتامين، في تركيبه ومفعوله، إذا   وجد زائداً في البول والدم والسائل المخي الشوكي. ولوحظ أعلى تركيز له في الجهاز الطرفي الحشوي، خاصة في حالات الفصام البارانوي المزمن. ولكنه وجد زائداً أيضاً في مرض الهوس، مما يشير إلى أنه يسبب قابلية داخلية للذهان، أكثر من كونه عاملاً محدداً في مرض الفصام.

ب. الإنزيمات

لوحظت علاقة بين بعض الإنزيمات والأعراض الذهانية تتضح في:

(1) الإنزيم المؤكسد للأمينات الأحادية (MAO) : وهذا الإنزيم، يعد الطريق الأساسي لهدم الناقلات العصبية (خاصة النورأدرينالين والدوبامين والسيروتونين)، التي افترض أن لها  دوراً في إحداث الذهان؛ إذ إن نقص نشاط هذا الإنزيم، يسبب ازدياد الناقلات العصبية،  نسبتها أو ازدياد فاعليتها. ولما كان نشاط الإنزيم(MAO) في الصفائح الدموية نموذجاً لنشاطه في المخ، فإن نقصه فيها، لدى مرضى الفصام، بالمقارنة بالمجموعة الضابطة، عُدَّ دليلاً على ارتباطه بمرض الفصام. كما أنه لوحظ ارتباط بين انخفاض نشاط الإنزيم في الصفائح الدموية والهلاوس السمعية والضلالات والفصام الاضطهادي بصفة خاصة؛ ولكنه لوحظ في أمراض عقلية أخرى، منها الاضطراب ثنائي القطبية والكحولية.

(2) إنزيم الدوبامين بيتاهيدروكسيلاز (Dopamine Betahydroxylase) : وهو إنزيم يساعد على تحوّل الدوبامين إلى نورأدرينالين في الخلايا  النورأدرينالية. والعوامل التي تثبطه، تسبب تراكماً للدوبامين، الذي يزيد من الذهان، في مرض الفصام والهوس.

(3) إنزيم الكاتيكول أو ميثيل ترانزفراز(Catchol-O-methyl transferase): له دور مهم في تمثيل الكاتيكولامينات. واتهم بتورطه في إنتاج مواد شاذة المثيل. ولكن لا توجد أدلة ثابتة، تؤكد ازدياد هذا الإنزيم أو نقصه، في مرض الفصام. وافتُرض أن نقصه، يولّد عنه مواد، تشبه الهارمين (Harmine)، المحدثة للهلاوس، بدلاً من الميلاتونين (Melatonin)، ومن ثم تزيد الخلايا الصبغية في الجلد.

(4) إنزيم الكرياتين فوسفوكيناز: (Creatine phosphokinase): وجد زائداً لدى مرضى الفصام، ومرضى الذهان الوجداني، المتوفين حديثا في المستشفيات. كما لوحظ شذوذات، تشريحية وفسيولوجية، في نهايات الأعصاب الحركية للعضلات الإرادية، في بعض مرضى الذهان. وقد يكون هذا ناتجاً من شذوذ الناقلات العصبية المركزية، أو عدوى فيروسية.

ج. الأندورفين (Endorphins)

وهي مجموعة من البيبتيدات (Peptides)، التي تشبه الأفيون، وتوجد طبيعياً في المخ. إذ تعرف  بعض الدراسات نوعاً من الأندورفينات (جاما)، لها نشاط يشبه مضادّات الذهان؛ وعلاج بعض مرضى الفصام بها، أعطى بعض التحسن. ومن المحتمل، أن يكون لمستقبلات الأفيون دور في تنظيم تخليق الدوبامين والسيروتونين وإفرازهما، إلا أن الأدلة على دور الأندورفينات، في مرضى الفصام، ما زالت غير كافية.

د. البروستاجلاندين (Prostaglandines)

وهي مجموعات الأحماض الدهنية الضرورية، ومن بينها بروستاجلاندين (E)، الذي يقلل إفراز الكاتيكولامين. ولوحظ أن مضادّات الذهان، تثبط إفراز البروستاجلاندين، بينما تزيد الكاتيكولامينات من إفرازه. ولكن مضادّاته، ليس لها تأثير في أعراض الفصام، كما لوحظ أن البروستاجلاندين (E)، هو مثبط، في حالة نقص الأحماض الدهنية الضرورية، خاصة حمض اللينوليك؛ وأن تحسناً في بعض مرضى الاضطراب فصامي الشكل، نتج من العلاج بزيت بذور الكتان، التي يزيد فيها أحماض اللينوليك واللينولينك.

هـ. الجلوتين (Glutin)

وهو مادة بروتينية، توجد في دقيق القمح، وعُدَّت عاملاً مسبباً للفصام. إذ لوحظ أن هذا المرض، قد ازداد باستهلاك القمح، في الحرب العالمية الثانية، وازدياد معدل حدوث مرض السلياك (Celiac) بين مرضى الفصام. كما لوحظ ازدياد معدل حدوث الذهان، بين مرضى السلياك. وطرأ تحسّن على مرضى الفصام، الذين خلا غذاؤهم من الجلوتين واللبن، بحسب دراسة منهجية؛ ولكن الدراسات الأخرى، لم تؤكد ذلك.

و. المناعة

اقترح أن يعد الفصام أحد أمراض المناعة الذاتية (autoimmune)، الناشئة عن وجود أجسام مضادّة في دم الفصاميين، وكأن المستضد (antigen) هو أنسجة المخ. وينتج من ذلك نفاذية الجدار الخلوي، أو تحطيم الخلية، أو وجود مستعمرات من الخلايا اللمفية (Lymphatic cells) ، الشديدة الحساسية. إذ لوحظ أن معدل الأجسام المضادّة للدماغ، بين الأسوياء، وهو (3.5%) بينما يصل إلى (20.6%)، بين أقارب الفصاميين من الدرجة الأولى.

ز. الفيروسات (Viruses)

افتُرض أن مرض الفصام، ينشأ عن عدوى فيروسية، بطيئة المفعول، في أشخاص مهيئين جينيا. وبُرهن على ذلك بوجود أجسام مضادّة للفيروس، وجدت في الدماغ والسائل الشوكي المخي لبعض مرضى الفصام. كما أن التهاب المخ بفيروس الهربس (Herpes Simplex)، يسبب لزمة مرَضية، تشبه الفصام.

ح. المهلوسات والمواد شاذّة المثيل

لوحظ أن المسكالين (Mescaline)، الذي هو مادة محدثة للهلاوس، يشبه، في تركيبه، شكلاً مثيلياً من النورأدرينالين. وهذا أدى إلى اقتراح أن مواد شاذة المثيل، تنتج داخلياً، وتعد مواد مهلوسة. كما أن إعطاء مادة مطلقة لمجموعة الميثيل، مثل المثيونين أو البيتان (Betaine) ، يسبب تفاقم أعراض الفصام. إلا أن تتبع هذه المركبات، لم يؤكد الاختلاف في كميتها المثيلية، بين الفصاميين والأسوياء.

ز. الجلوتامات (Glutamate)

هو حمض أميني، وناقل عصبي منشط. قررت بعض الدراسات أن له دوراً في الأسُس البيولوجية للفصام.

3. العوامل النيوروفسيولوجية (Neurophysiological)

لقد أوحى التشابه في الأعراض، بين بعض آفات الدماغ البؤرية والفصام، بافتراض أن الفصام آفة في الدماغ. وأكد ذلك بوجود شذوذات في تخطيط الدماغ (EEG)، لدى مرضى الفصام، أكثر منها لدى عامة الناس. وكشف تحليل موجات التخطيط الكهربائي للدماغ، باستخدام الكومبيوتر، عن زيادة في موجات دلتا البطيئة، وموجات بيتا السريعة، مع نقص في موجات الألفا. ولوحظ أن هذا التغير يشبه ما يحدث للبالغين، عند تعاطيهم عقار (ال - إس - دي) (LSD) المحدث للهلاوس. كما لوحظ أن هذا النمط من زيادة موجات البيتا، ونقص موجات الألفا، يحدث في المجموعة الضابطة من الأسوياء، عند الإثارة الحسية، أو عند تنفيذ مهام عقلية. وذلك يشير إلى أن الفصاميين يكونون في حالة مزمنة من إزدياد اليقظة، التي قد تعني نقص ترشيح المداخل الحسية وتكاملها.

أمّا طريقة رسم خريطة للنشاط الكهربائي للمخ (Brain Mapping)، التي تظهر خرائط ملونة من تخطيط الدماغ مع بيانات الجهد الكهربي المستثار(Evoked Potential)، فقد كشفت عن زيادة على الجانبَين، من نشاط دلتا، خاصة في المناطق الجبهية، وزيادة نشاط بيتا، خاصة في المنطقة الصدغية الجدارية اليسرى، في مرضى الفصام، المقارنة بالمجموعة الضابطة من الأسوياء.

ونظراً  إلى ارتباط الجهاز الطرفي (Limbic System)، بالانفعالات، افتُرض أنه يتأثر بالفصام. كما بنيت مشاهدات الفحص، بعد الوفاة، لمرضى الفصام، نقصاً في حجم اللوزة والحصين والبروز المتاخم له (Amygdala, Hippocampus, Parahippocampal Gyrus) ؛ وتأيدت هذه المشاهدات بالرنين المغناطيسي (MRI) للفصاميين الأحياء.

ومن المحتمل أن تكون النوى القاعدية (Basal Ganglia) مصابة لدى مرضى الفصام وذلك للملاحظات الآتية:

أ. غرابة حركات، ومشي، وحركات وجه مريض الفصام.

ب. تشابه اضطراب الحركة الملاحظ في مرضى الفصام مع اضطراب الحركة المصاحب لمرض  هنتنجتون Huntington's، وهو مرض يصيب النوى القاعدية.

ج. كشفت بعض الدراسات عن نقص في حجم النوى القاعدية خاصة (Globus Pallidus & Substantia Nigra) وزيادة عدد مستقبلات (D2)، في (Caudate & Putamen)، لدى مرضى الفصام، إلا أنه لم يعرف ما إذا كانت زيادة تلك المستقبلات ثانوية لمضادّات الذهان، أم لا. وحالياً، يدرس دور السيروتوتين في النوى القاعدية، في مضادات الذهان غير النمطية، والمفيدة في أعراض الذهان، مثل (Clozapine, Resperidone).

4. العوامل النيوروباثولوجية (Neuropathological)

كشفت الدراسات (بحقن الهواء في الدماغ، أو بتصوير الدماغ المقطعي، باستخدام الكومبيوتر -CAT) عن ضمور في الدماغ، يؤدي إلى اتساع بُطيناته، خاصة البطين الثالث. ولوحظ أن هناك ارتباطاً بين اتساع البُطينات والأعراض المزمنة لمرضى الفصام، والتي لا تتحسن بالعلاج؛ وأن بطينات الدماغ، تكون طبيعية، في الحالات الحادة من الفصام، وهي التي تتحسن بالعلاج. ولوحظ عديد من الشذوذات العصبية الطفيفة، غير محددة الموضع، في (60 - 70%) من مرضى الفصام، ينتج منها علامات عصبية دقيقة (Fine Neurological Sign)، مثل قصور في التعرف اللمسي (Tactile Identification) والتحكم الحركي، والاتزان والمشية أوالرعشة؛ ووجدت علاقة بين هذه العلامات واضطراب التفكير.

ومن بين الملاحظات النيوروباثولوجية، اتساع أخاديد قشرة المخ (Cortical Sulci)، الذي يوحي بضمور القشرة المخية (Cortical Cerebral Atrophy)، الذي لوحظ في بعض مرضى صغار السن، وفي بدايات المرض، مما يؤكد أنه ليس ثانوياً للعقاقير التي أعطيت. ووجدت علاقة موجبة بين كلٍّ من اتساع البُطينات وضمور قشرة المخ، وبين العلامات العصبية الدقيقة، وضعف الشخصية قبل المرض، والأعراض الفصامية السالبة. واستجابة هؤلاء المرضى لمضادات الذهان ضئيلة جداً، ومصيرهم عدم التحسن.

ولاحظت الدراسات المجهرية زيادة التليف في الخلايا العصبية (Gliosis)، في منطقتَي الدماغ، الأوسط (Midbrain) وتحت المهاد (Hypothalamus)، بنسبة تصل إلى (70%) من الفصاميين المزمنين، الذين تبرز في صورهم الإكلينيكية الأعراض السالبة، (عادة، ينجم التليف عن استجابة لتلف عصبوني)، ويحدث بكثرة في المناطق القاعدية الجبهية من الدماغ. وهي متفقة مع ملاحظة اتساع البُطينات في نسبة معينة من مرضى الفصام. وهذا التلف العصبوني، يؤكد القول أن الفصام ناتج من عدوى فيروسية، في بعض أنواعه.

وهذه المشاهدات، تؤكد مفهوم أن الفصام، في بعض أنواعه، يعد مرضاً في الدماغ، خاصة تلك الأنواع التي لها أعراض سالبة، واستجابة ضئيلة للعلاج. ومصيره عدم التحسن.

5. العوامل النفسية

ويمكن  تلخيصها في ما يلي:

أ. نقص ترشيح المثيرات الحسية : يصف بعض الفصاميين خبرة ذاتية، مكتسبة من تغير الإدراك؛ إذ يواجهون  بفيض من المثيرات، في الحالات الحادّة، تسبب تشتتهم. ويفسر الانسحاب والتصلب الكتاتوني (Catatonic Rigidity)، أنهما  محاولتان لتقليل فيض المثيرات. كما تفسر الضلالات، أنها إعادة لتنظيم هذه المثيرات المضللة، التي لا يمكن فهْمها في ضوء العلاقة بالواقع. ومن ثَم، استنتج أنه لدى الفصاميين نقص في ترشيح المثيرات الحسية، أو اختلال وظيفة المداخل الحسية؛ مما يسبب حملاً زائداً من المثيرات، ينشأ عنه ازدياد اليقظة.

ب. الصراع (Conflict): أكد (فرويد) أن الذهان، يشبه العصاب في وجود الصراع اللاشعوري؛ ولكن فيه انهيار الدفاعات (Defences) في مواجهة النزعات (instincts). وينكص الفصامي (Regression) إلى مراحل مبكرة من النمو النفسي.

ج. ضعف الأنا (Ego): وقد يكون فطرياً أو مكتسباً، نتيجة لنقص الأمومة. وينشأ عنه نقص التمييز بين النفس والموضوع، ونقص تناغم الوظائف النفسية وتكاملها، وبدائية الدفاعات والصراع المتولد حول العدوان؛ مما يؤدي إلى نقص المقاومة لكل أنواع الضغوط، وفقْد العلاقة بالواقع.

د. اضطراب العلاقة بالآخرين: ويعود إلى مراحل نمو الطفل الأولى، التي تتسم بانعدام الثقة بالآخرين، والحساسية الشديدة تجاه رفضهم إياه؛ الأمر الذي يجعله هشاً يميل إلى الانسحاب والذاتوية، كحيل للمحافظة على أمانه الداخلي، وتقديره لذاته، وتجنّبه القلق. وهذا يفصله عن الواقع أكثر، ويزيد من رفض الآخرين   إياه، فيزداد إحباطه، أكثر ويتهدد تقديره لذاته أكثر.

هـ. اختلال العلاقة الباكرة بالموضوع : رأت (ميلاني كلاين)، أن الأشهر الأولى من حياة الطفل، وما ينشأ خلالها من مشاعر، موجبة أو سالبة، تجاه النفس والآخرين ـ هي أساس الموقف البارانوي الفصامي، وتكوين دفاعات مرَضية تظل إلى الحياة البالغة. بينما ركز (فيربيرن) في انشقاقات الأنا (Ego Dissociations)، التي تتداخل مع وظائفه التكيفية وتكامله واختباره للواقع. وهذه، مع العلاقات غير الناضجة للموضوع، تمنع الانتقال من الاعتمادية الفمية إلى الاعتمادية الناضجة، المبنية على التمييز بين النفس والآخر. وأكد (وينكوت)، أن تكامل الأنا المنفصل، يتبلور في إحساس ثابت بالنفس؛ وأن الأم الطيبة تنمي نفساً حقيقية، بينما تنمي الأم غير الطيبة نفساً زائفة، تتحطم في الذهان.

6. العوامل البيئية

وتتمثل في التفاعل الأُسري، وعلاقة الوالدَين بالطفل:

أ. الرابطة المزدوجة في التعامل مع الأطفال: تتمثل في أن يصدر أحد الوالدَين أمراً إلى الطفل، ويقصد عكسه، فيَصِل  الأمران معاً (افعل ولا تفعل) إلى إدراك الطفل، فيربكه، خاصة إذا عوقب على أي منهما (الفعل أو عدم   الفعل). وهذا يعكس عدم وضوح التفكير المنقول إليه من العالم الخارجي. وهذه النظرية وضعها  (باترسون)، عام 1956.

ب. سيطرة أحد الوالدَين، وانعزال الآخر وضعفه: وهذا هو مفهوم (Skew) ، مع الطلاق العاطفي بين الوالدين، وهذا هو مفهوم (Schism)؛ الأمر الذي ينشأ عنه تشوّه في هوية الأطفال، مما يهيئهم لمرض الفصام. وهذه نظرية  (ليدز)، عام 1965.

ج. التفكير المختل في عائلات الفصاميين وهو مع التهيئة الوراثية، يؤديان معا دوراً مشتركاً في إحداث الفصام. إذ لوحظ اضطراب التفكير في (45%) من آباء الفصاميين، المقارنة بنسة (19%) من آباء غير  الفصاميين. ويشبه هذا بوضع برامج خاطئة (مختلة) في كومبيوتر، هو أصلا معيب. وهذه نظرية  (واين وسنجر).

د. التعرض لكرب (Stress) : إدراك الشخص لموقف الكرب، واستشعاره الخطر المصاحب بإفراز وفرة من الأدرينالين، يحدثان خطأ بيوكيماوياً، ينتج مواد سامة، مولدة للذهان. وهذا يزيد من الشعور بالكرب، وما يتبعه من استشعار الخطر فازدياد الخطأ البيوكيماوي. ويظل الفصامي في دائرة مفرغة من الكرب والمرض.

علاج جنون الفصام

          نظراً إلى أن مرض الفصام، يعد، في نسبة كبيرة منه، مرضاً مزمناً؛ إذ يمثل (50-70%) من المرضى، الذين تطول إقامتهم بالمستشفيات العقلية. وغالباً، لا يعود الشخص إلى سابق عهده، من الإنجاز والأداء الوظيفي؛ مما يجعل مبدأ (الوقاية خير من العلاج) مهماً جداً، إضافة إلى علاج الحالات المرَضية ما أمكن ذلك.

1. العلاج الوقائي: دون زواج الفصامي، ما أمكن. كان لا بدّ منه، فلتكن زوجته غير فصامية، وألاّ ينجب إلاّ طفلاً واحداً؛ لأن التهيئة الوراثية للمرض، تنتقل إلى الأبناء، بنسبة (15%-40%). كما ينصح بعدم الزواج من أقاربه.

2. العلاج للحالات المرَضية: إن الاختلال، الذي يصيب العديد من الوظائف النفسية، في مرض الفصام، يتطلب عدة مداخل علاجية، تسهم معاً في الأخذ بيد المريض إلى الشفاء أو التحسن. وهذه المداخل هي:

أ. العلاج الكيمياوي: ويشمل، حالياً، العلاج بمضادّات الذهان(Antipsychotics)  (أو مضادّات الفصام) أساساً، وهي مجموعة المطمئنات العظمى (Major Tranquilizers) ، ومن أمثلتها عقار (الترايفلوبرازين) (Trifluperazine)، الذي يعرف، تجارياً باسم الستلازين أو استلازيل (Stellasil)، وعقار الهالوبيريدول (Halloperidol) الذي يعرف تجاريا باسم السافيناز أو السريناز (Serenace).

وهناك مضـادّات الذهان غير النمطية : مثل رسبريدون  (Resperidone) ، الذي يعمل كمضادّ لنشاط السيروتونين والدوبامين معاً، ويخفف الأعراض، السالبة والموجبة. ولوحظ أيضاً، أن إعطاء مضادّات الذهان غير النمطية، ذو تأثير ملحوظ في نشاط السيروتونين؛ إذ إنها تضادّ مفعوله، عند مستقبلاته، وتقلل الأعراض الذهانية، مثل (Clozapine, Resperidone, Ritanserin).  وقد أشارت بعض الدراسات، إلى أنه كما يتورط السيروتونين في اضطرابات الوجدان، في إحداث السلوك الانتحاري والاندفاعي، فإنه أيضاً متورط في الفصام حيث تلاحظ السلوكيات نفسها.

مضادات التشنج: التي لوحظ أنها تقلل من نوبات العنف، في بعض مرضى الفصام؛ ولكنها لا تعالج الأعراض الذهانية.

العلاج بالنوبات المحدثة كهربائياً: ويستخدم في بداية الفصام، أو في الحالات الحادّة، أو المصاحبة بأعراض تصلبية (كتاتونية)، أو في حالات الخمول والتبلّد، أو حالات الفصام، المصاحبة بأعراض اضطراب وجداني. وأحياناً، يكون مبرر إعطائه، هو تقليل جرعة مضادّات الذهان، اللازمة للسيطرة على الأعراض الذهانية.

ب. العلاج النفسي

(1) العلاج النفسي الفردي

ويهدف إلى تدعيم المريض، من خلال العلاقة العلاجية، التي قد يصعب تكوينها، بسبب شكه  وقلقه وعدم راحته للألفة الحميمة، وخوفه من نزعاته التدميرية. ولكي يتغلب المعالج على ذلك، يجب أن يكون نشيطاً، مهتما، وصادقاً، ومتعاطفاً. والفهم الدينامي، يمكن أن يقلل من قلق المريض، ويجعله يتخلص من ضلالاته، ويشجعه على التعامل مع الحياة الواقعية من حوله. ويمكن أن يعمل المعالج كأنا مساعد (Auxiliary Ego) للمريض، بهدف مساعدة المريض على تعرّف الحياة الواقعية والمشاكل اليومية والتعامل معها.

ونادراً ما يمكن عمل علاج نفسي عميق، في حالات الفصام، لأنه يستلزم مريضاً مناسباً؛ إذ إنه يعتمد على قوة الأنا لدى المريض، إلى الحد الذي يمكّنه من تحمّل انفعالاته العنيفة، والتحكم في نزعاته، والتمييز بين نواحي الطرح في العلاقة العلاجية. فمن خلال الفهْم التدريجي لأعراضه الذهانية ومعناها، ومواجهة مخاوفه وصراعاته تجاه الجنس، والعدوان، وتحمّل صراعاته، الداخلية والخارجية، من دون نكوص لدفاعات ذهانية ـ يحقق إحساساً ثابتاً بالنفس، وقدرة على التآلف والتوافق النفسي، بحل الصراعات النفسية (أو قبولها)، وتقبّل العالَم، والتكيّف معه.

وتعد العلاقة العلاجية النفسية، هي المدخل إلى كل الطرائق العلاجية المختلفة، سواء كانت جسمانية أو اجتماعية أو نفسية.

(2) العلاج النفسي الجماعي

ويتحقق بوضع المريض ضمن مجموعة من المرضى، في وجود المعالج ومساعده، حيث تنمى المهارات الاجتماعية والتفاعل مع الآخرين، مع إعطاء التدعيم والمساندة من المجموعة للمريض. وقد يأخذ صورة ممارسة أنشطة جماعية.

(3) الجو العلاجي

يوضع المريض في جو علاجي مُعَدّ مسبقاً، بواسطة فريق العلاج الذي يستطيع، من خلال المشاركة المبدئية، مساعدة المريض على ضبط نزعاته، واختبار الواقع، وتقليل القلق والإثارة البيئية، مع  مساعدته على العناية بنظافته ورعاية نفسه. كما يشجع الفريق العلاجي المريض على الاندماج في المجموعة والتفاعل مع المرضى الآخرين، مع السماح ببعض الخصوصيات للمريض.

ج. العلاج الاجتماعي

ويشمل جانبَي الأُسرة والعمل.

(1) علاج الأُسرة

ويكون بشرح حالة المريض للأُسرة، ومساعدتها على تقّبل مشاكله. وقد يلزم إجراء بعض التغيير في سلوكياتها وتقليل الانتكاس لحالة المريض؛ إذ إن لوحظ أن العداء، وكثرة الانتقاد الموجه إلى  لمريض، أو الانغماس معه في أعراضه الذهانية، تزيد من معدل انتكاسه وهذه المؤشرات الثلاثة (العداء والانتقاد والانغماس)، تصف الجو الانفعالي في الأُسرة، والذي كلما ازداد، كان سبباً لانتكاس المريض.

(2) العلاج المهني

ويتمثل في استمرار المريض في عمله، ما أمكن؛ أو إيجاد عمل مناسب له، إذا أصبح غير قادر على أداء وظيفته السابقة. وقد يكون ذلك داخل المستشفى، بعد تحسّنه كعلاج بالعمل؛ ولكن يفضَّل إخراجه،  وإلحاقه بعمل مناسب.

مكان العلاج

          أما مكان العلاج، فهل يكون داخل المستشفى أو خارجه؟ وما هي دواعي إدخال المريض الفصامي مستشفى أمراض عقلية؟ يلاحظ أن أُسرة المريض، خاصة في المجتمع المترابط، هي الأكثر حرصاً عليه وعلى رعايته، وحسب توجيهات الطبيب المعالج. ولذا، يفضَّل علاج المريض ضمن أُسرته، لربطه بالواقع، وعدم عزله عن حياته العادية، خاصة إذا كان جو الأسرة الانفعالي مناسباً، وضغوطها النفسية ضئيلة. ولكنْ، هناك دواعٍ لإدخال المريض المستشفى، وهي:

  1. ملاحظة المرض وتشخيصه، وإجراء الاستقصاءات، النفسية والاجتماعية والجسمانية، اللازمة.
  2. حماية المريض أو المحيطين به من نزعاته العدوانية التي لا يمكن ضبطها خارج المستشفى.
  3. إبعاده عن الضغوط، الأُسرية أو البيئية، التي قد تسهم في تدهور حالته.
  4. رفض المريض العلاج، وعدم استطاعة الأهل تنفيذ البرنامج العلاجي.

استمرارية العلاج

          في حالة تحسّن مريض الفصام، تقلّل الجرعة إلى النصف أو الثلثَين من الجرعة المعطاة في المرحلة الناشطة. ويراعى أن يستمر علاج الفصام لمدة عام، من تحسّن المريض وخروجه من المستشفى، مع متابعته وتقييمه، في نهاية هذه المدة، وتقليل الجرعة، أو إيقاف العقاقير. ويفضَّل أن يكون ذلك بمضادات الذهان طويلة المفعول، التي تعطى حقناً في العضل.



[1]        الضلال المتحوصل: هو الضلال الذي استطاع المريض أن يغلقه بداخله ويعزله عن تصرفاته وسلوكه.

[2]        اختلال الإنِّية: يشعر فيها الشخص أنه ليس هو أو كأنه في حلم أو كأنه ينظر إلى نفسه من بعيد.