إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / الابتكار









الارتباط بالجماعة Sociability

الابتكار

للابتكار، أو الإبداع، أهمية كبيرة في حياتنا، فالابتكار؛ الرفيع والأصالة في الإنتاج ضرورة قصوى في عصرنا الحاضر. ويرجع ذلك إلى دور المستويات العليا من التفكير والابتكار في تغيير التاريخ، وإعادة تشكيل عالم الواقع، بما يتلاءم مع تجدد الاحتياجات وتعقد الحياة. إن المجتمعات لا يمكن تغييرها بسهولة، فقط لتوافر عنصر الإرادة لدى أعضائها، أو بناءً على خطة موضوعة خمسية؛ بل إن أعضاء المجتمع مدينون للابتكار من أجل التغيير والتطوير واستمرار دينامية المجتمع وحراكه. والعلاقة بين الابتكار والتطوير علاقة لا تنفصم عراها؛ فعلى عاتق المبتكرين يقع عبء تطوير المجتمع وتقدمه، محتملين في ذلك الكثير من المصاعب والمشاق النفسية والاجتماعية.

نحن نحيا في عالم دائم التغير والتحول، يتميز بالانفجار والتسارع المعرفي، وسرعة انتقال المعلومات في لحظات وجيزة، وتفاعل مستمر بين البلدان والثقافات، وباجتياز الغلاف الجوي إلى عوالم لم تكن معروفة من قبل، وظهور العديد من المشكلات الجديدة والمتجددة، التي ليس لدى الإنسان حلولاً سابقة وجاهزة لها. ومن هنا، فإن للإبداع أو الابتكار دوره في تشخيص تلك المشكلات، ووضع حلول بديلة لكل منها تتلاءم مع تلك التغيرات.

إننا نعيش في عالم يغص بالاختراعات، ويموج بالمكتشفات، التي تثير فينا عدداً لا نهائياً من الأسئلة. فمثلاً: كيف وصل الإنسان إلى صنع العجلة، ثم السيارة، ثم الطائرة، ثم الصاروخ؟ كيف انتقل من صناعة السهام والرماح، إلى الرصاص والبنادق والمدافع، ثم القذائف الموجهة عبر القارات، التي تعبر آلاف الأميال؟ كيف اكتشف أجزاء من التكوين الجيني للإنسان، ووقف على أمراض جديدة لم تكن معروفة من قبل، ثم أخذ يسعى إلى استخدام الجينات في علاج بعض هذه الأمراض؟ كل هذا لم يكن من الممكن الوصول إليه، إلاّ بتوظيف ابتكاره. وإبداعاته. تلك الإبداعات التي تضيف كل يوم رصيداً معرفياً جديداً، إلى رصيدنا الذي يتقادم باستمرار؛ تلك الإبداعات التي تستخدم لتحقيق رفاهية الإنسان وعلاج مشكلاته، بل وأحياناً لتدمير حياته.

إن المجتمعات البشرية ـ خاصة النامية منها ـ في حاجة إلى استثمار طاقات أبنائها استثماراً حسناً. فنحن لا نستطيع أن نستمر في الحياة على فتات موائد الآخرين، بل لا بد أن يأتي اليوم الذي نقف فيه على أقدامنا. ولن يأتي هذا اليوم إلا إذا بذلنا الاهتمام والعناية بطاقاتنا المختلفة، والطاقات البشرية من أهم هذه الطاقات. والقدرة على الإنتاج والابتكار هما تلك القدرة، التي تكمن وراء كل تقدم واستثمار.

إذا كان للابتكار هذه الأهمية الكبيرة للمجتمعات، فإن أهميته للأفراد لا تقل عن ذلك. فابتكارية الأفراد استثمار لكفاءاتهم وتوظيف لها فيما يعود عليهم بالنفع. وابتكارية الأفراد هي المصدر الأساسي لبناء ودعم الثقافة  المجتمعية والفردية. وابتكارية الأفراد من أهم وسائل ووسائط علاج مشكلاتهم التي يواجهونها، ومن ثَم، إسهامها في تحقيق الصحة النفسية للأفراد، وإقامة تفاعل ناجح بينهم.

إن الابتكار أسلوب خاص من أساليب الحياة، به يرى الفرد الجديد في القديم، ويصبح كل يوم من أيامه ميلاداً جديداً، ويُقبل على الحياة بمواقفها المتعددة كما لو كان يخبُرها للمرة الأولى. فليس هناك قديم، وليس هناك تكرار في الحياة، فالفرد لا يرى إلا الجديد ومن ثَم، فاستجابته دائماً جديدة وأصيلة. وهذا أسلوب من أساليب الحياة الغنية الفعالة، هذا هو الابتكار كأسلوب للحياة.

وللتعليم والتدريس بطريقة ابتكارية نتائج متعددة، تتضح في تغير الدارسين:

1. من أميين لا يقرءون، إلى قراء متوسطين أو متميزين.

2. من مخربين، إلى بنائين.

3. من مثيرين للشغب، إلى متعلمين بارزين لامعين.

4. من أفراد يشعرون بالاغتراب والتأخر، إلى أشخاص متوافقين قادرين على التحصيل والتفوق.

5. من أفراد يسخرون من الآخرين سخرية لاذعة، إلى أشخاص يعاملون الآخرين برفق ولين.

6. من أفراد لا يستطيعون تحقيق الاتصال الناجح، إلى أفراد يستطيعون التواصل الفعّال مع الآخرين.

7. من دارسين سلبيين إلى متعلمين إيجابيين نشطين، يسعون بأنفسهم لتعليم ذواتهم.

8. من دارسين يعتمدون على المعلم ليخبرهم بماذا يتعلمون ومتى يتعلمون، إلى دارسين يقوموا بتفحص الأفكار ودراستها ونقدها، والبناء عليها وتطويرها.

وثمة أهمية أخرى للابتكار تقع على المبتكر ذاته. وهي تتضح إذا كانت الظروف التربوية والتعليمية، أو عوامل التنشئة الاجتماعية لا تساعد على ظهور ابتكارية الأفراد ونموها. في هذه الحالة يضطر الفرد إلى التخلي عن ابتكاريته ما يترتب عليه أن تنقصه الثقة في تفكيره أثناء نموه، ويكوّن مفهوماً غير محدد عن ذاته، ويصبح معتمداً على الآخرين في اتخاذ قراراته. وقد يفشل الأطفال في تكوين مفهومات واقعية عن ذواتهم؛ لأنه لم توفر لهم المواقف الآمنة لممارسة ما لديهم من إمكانيات دون تقييم. أي أنه إذا كان لتحقير الذات أثر مدمر على شخصية المبتكر، فإن المبالغة في تقدير الذات لها الأثر نفسه.

أولاً: مسلمات أساسية عن الابتكار

1. الظاهرة الإبداعية موجودة منذ وُجد الإنسان على هذه الأرض. فقد كانت دائماً لديه الرغبة في البحث عن الجديد وحب الاستطلاع والتغيير والتجديد والاستمتاع.

2. أن الإبداع أو الابتكار ظاهرة معقدة، أو جملة معقدة من الظواهر، ذات وجوه أو أبعاد متعددة. فقد يُنظر إليه على أنه استعداد أو قدرة على إنتاج شيء جديد ذي قيمة، وتارة أخرى يُنظر إليه على أنه عملية يتحقق الناتج من خلالها، ومرة ثالثة يُرى في الإبداع حل جديد لمشكلة ما، ومرة رابعة يُنظر إليه على أنه مجموعة العوامل الذاتية والموضوعية، التي تقود إلى تحقيق إنتاج جديد وأصيل ذي قيمة للفرد والجماعة.

3. يظهر الإبداع أو الابتكار في جميع جوانب حياة الإنسان المادية والمعنوية، والأدبية والفكرية، والاجتماعية والنفسية، كما يظهر في حل المشكلات بطرق وأساليب جديدة غير مألوفة.

4. الابتكار قابل للتنمية إذا توافرت الظروف الملائمة والمناخ المناسب داخل الأسرة وفي المدرسة والمجتمع، وإذا أمكن إزالة معوقات تلك التنمية، سواء أكانت معوقات مجتمعية أم خاصة بالفرد ذاته.

5. لدى كل فرد قدر من الإبداع يختلف عما لدى الآخرين؛ فمن الناس من يتميز بقدرة إبداعية عالية (وهؤلاء قلة)، ومنهم من يتصف بقدرة منخفضة (وهؤلاء قلة أيضاً). أما الغالبية فهم متوسطو القدرة الإبداعية.

ثانياً: تعريفات الابتكار

للابتكار تعريفات متعددة تختلف حسب مناحي الباحثين واهتماماتهم العلمية ومدارسهم الفكرية. فيمكن تعريف الابتكار بناءً على سمات الشخصية، أو إنتاج الشخص، أو العملية، أو الابتكارية كأسلوب حياة في البيئة. وقد حدا ذلك بأحد الباحثين إلى أن يضع شعاراً يجمع به هذه المناحي في Four Ps of Creativity ويُقصد بها Person, Product, Process, Press.

وكنموذج لتعريف الابتكار بناءً على سمات الشخصية، نذكر تعريف سيمبسون، بأنه "المبادأة التي يبديها الفرد في قدرته على التخلص من السياق العادي للتفكير، وإتباع نمط جديد من التفكير". كما أشار سيمبسون إلى ضرورة "أن نهتم في بحثنا عن المبتكرين بنمط العقول، التي تبحث وتركب وتؤلف. كما رأى أن مصطلحات، مثل: حب الاستطلاع والخيال والاكتشاف والاختراع، هي مصطلحات أساسية في مناقشة معنى الابتكار".

ويُلاحظ على هذا النوع من التعريفات تضمنه بعض السّمات، التي تميز مرتفعي الابتكارية، سواء كانت السمات عقلية أم وجدانية. وقد حصرت إحدى الدراسات أكثر الصفات تكراراً في البحوث، وتوصلت إلى تميز مرتفعي التفكير الابتكاري بروح المرح والمداعبة والسخرية، والشعور بالحرية، وتحمل المخاطرة وخصوصاً الفكرية، وتحمل الغموض وعدم اليقين، والاستقلالية في الفكر والعمل، والثورة من أجل التطوير، والحاجة للتعبير عن الذات، ومقاومة الضغوط الاجتماعية، وقلة الاستجابة للقواعد والتنظيمات التقليدية الموضوعة، وقلة الحاجة للتنظيم، والاكتفاء الذاتي، والتصميم، وتنوع طرق التعبير عن الانفعالات، ورفض الإذعان للسلطة، والثقة بالنفس، والسيطرة، والتقصير والتوفيق بين المتناقضات، وتأكيد الذات، والمثالية، والاندفاعية، والتفتح والانفتاح للخبرة، والقيادة، والارتباط بالوسط الاجتماعي، والمثابرة، والانفرادية والتفرد، والاكتفاء الذاتي.

ويلاحظ على قائمة السمات السابقة ـ وكثير غيرها ـ أنها تحتوي على صفات متناقضة؛ فمرتفع التفكير الابتكاري، ثائر؛ لكنه لا يعمل ضد المعايير القائمة، وإن كان يتناول هذه المعايير بالتفكير والتأمل والتساؤل ويرفض الخضوع السلبي لها. وهو منطوي وفردي؛ لكنه مشارك في الأنشطة ويتولى القيادة. وهو متوافق؛ لكنه هدام من أجل إعادة البناء. وخيالي؛ لكنه يأتي بالجديد الذي يطور الواقع.

فإذا انتقلنا إلى تعريف الابتكار على أساس الإنتاج، يقدم روجرز Rogers تعريفاً جاء فيه: "أن الابتكار ظهور لإنتاج جديد نابع من التفاعل بين الفرد ومادة الخبرة". وكمثال آخر لهذا النوع من التعريفات، نذكر تعريف إيلين بيرس Piers أن "الابتكار هو قدرة الفرد على تجنب الروتين العادي والطرق التقليدية في التفكير، مع إنتاج أصيل وجديد أو غير شائع يمكن تنفيذه أو تحقيقه". وكمثال ثالث لهذا النوع من التعريفات، نذكر تعريف شتين بأنه "إنتاج جديد ومقبول ونافع يحقق رضا مجموعة كبيرة، في فترة معينة من الزمن".

وللإنتاج الابتكاري أنواع متعددة؛ فهو فني وعلمي، وإنتاج اجتماعي وسيكولوجي يتمثل في استجابات الأفراد على الاختبارات النفسية أو الأفكار، التي يعبرون عنها بطرق شتى.

ولهذا الإنتاج محكات معينة، إذ ينبغي أن يكون جديداً وأصيلاً ونادراً بالمعنى الإحصائي لجماعة معينة. وأن يكون هذا الإنتاج قابلاً للتحقق في الواقع، كأن يساعد على علاج مشكلة، أو يُشبع حاجة خاصة بموقف معين، أو يحقق أهدافاً معينة. ويجب أن يؤدي هذا الإنتاج إلى خلق أوضاع جديدة في الوجود البشري، فيغير وجهة نظر الإنسان نحو العالم تغييراً إصلاحياً.

أما النوع الثالث من التعريفات، فيُعرِّف الابتكار على أنه عملية ويمثله تعريف ماكينون "الابتكار عملية تمتد عبر الزمن وتتميز بالأصالة والقابلية للتحقق". ويعرفه تورانس بأنه "عملية إدراك الثغرات والاختلال في المعلومات والعناصر المفقودة وعدم الاتساق، الذي لا يوجد له حل مُتَعَلّم، ثم البحث عن الثغرات ووضع للفروض واختبارها، والربط بين النتائج، وإجراء التعديلات وإعادة اختبار الفروض، ثم نشر النتائج وتبادلها".

وقد اختلف الباحثون في عدد وترتيب مراحل العملية الإبداعية والحركة بينها. فيرى والاس –مثلاً- أن العملية الإبداعية تمر في أربع مراحل هي:

1.  الاستعداد: وفيها يُبحث المشكلة من كل جوانبها.

2.  الكمون: ويتضمن جانبين:

·   سلبي: وفيه لا يفكر المبدع في المشكلة تفكيراً شعورياً أو إرادياً.

·   إيجابي: وفيه تحدث سلسلة من الأحداث العقلية اللاشعورية واللاإرادية، لكي يحدث هضم وتمثل وامتصاص للمعلومات المكتسبة.

3.  الإشراق: انبثاق فجائي للفكرة الجديدة.

4.  التحقيق: اختبار تجريبي للفكرة الجديدة.

وقدم روسمان سبع مراحل للعملية الإبداعية، هي:

1.  ملاحظة وجود صعوبة أو حاجة معينة.

2.  تحليل تلك الصعوبات أو الحاجة.

3.  مسح لكل المعلومات الممكنة.

4.  وضع حلول موضوعية.

5.  تحليل نقدي لهذه الحلول.

6.  ميلاد فكرة جديدة.

7.  التجريب لاختبار هذه الفكرة.

ومن خصائص العملية الإبداعية:

1.  ليست هناك عملية واحدة مفردة يمكن النظر إليها على أنها هي العملية الإبداعية. فهذا المصطلح هو تلخيص متفق عليه لمجموعة معقدة من العمليات المعرفية والدافعية داخل الفرد، عمليات تشتمل على الإدراك والتذكر والتفكير والتخيل... إلخ.

2.  توجد العملية الإبداعية لدى كل فرد، وليست أمراً مقصوراً على قلة مختارة بعينها. فلدى كل الأفراد توجد هذه العمليات المعرفية والمزاجية والدافعية؛ لكن هذا لا يعني أن كل فرد هو مبدع متميز بالضرورة. فلدى بعض الأشخاص تبلغ العملية الإبداعية قمة نضجها أو ذروتها، ولدى آخرين لا يحدث ذلك نتيجة لعمليات شخصية واجتماعية كثيرة، كالإعاقة والتشتت والانشغال وعدم الاهتمام وغير ذلك.

3.  تميل العملية الإبداعية إلى الاختلاف بطريقة واضحة في الأشكال المختلفة من الأعمال الإبداعية، هذا على الرغم من ميلها إلى التشابه في بعض النواحي أيضاً.

أما النوع الرابع ـ ويمكن أن يدخل ضمن تعريف الإبداع كسمات شخصية ـ فيُعرف الابتكار والإبداع في ضوء بعض العوامل العقلية. فيرى جيلفورد أن الابتكار هو تنظيمات من عدد من القدرات العقلية البسيطة، وتختلف هذه التنظيمات فيما بينها باختلاف مجالات الابتكار. ويذكر جيلفورد من هذه القدرات:

·   الطلاقة اللفظية: سرعة إنتاج أكبر عدد ممكن من الكلمات، التي تستوفي شروطاً معينة كأن تبدأ بحرف معين، أو تنتهي بحرف معين.

·   الطلاقة الفكرية: سرعة إنتاج أكبر عدد ممكن من الأفكار في موقف معين، بحيث تستوفي شروطاً معيناً.

·   المرونة التلقائية: سرعة إنتاج أفكار تنتمي إلى أنواع وفئات مختلفة من الأفكار، التي ترتبط بموقف معين.

·   الأصالة: سرعة إنتاج أفكار تستوفي شروطاً معينة في موقف معين، كأن تكون أفكاراً نادرة إحصائياً، أو أفكاراً ذات ارتباطات غير مباشرة وبعيدة، عن الموقف المثير.

وقد أضاف تورانس إلى ما سبق:

·   التفصيلات: إضافات تُزاد إلى الاستجابة لتبرزها وتوضحها. فلو كانت الاستجابات رسوماً فإن أي إضافات داخل الرسم أو خارجه، بحيث تُبرز الصورة أو الرسم، تُعَد من التفصيلات.

وذكر تايلور هولاند أن من أهم العوامل العقلية، التي تسهم في الأداء الابتكاري، والأصالة، والمرونة التكيفية، والمرونة التلقائية، والطلاقة الفكرية، والطلاقة التعبيرية، والطلاقة الارتباطية، والطلاقة اللفظية، والحساسية للمشكلات.

ويُلاحظ على هذا النوع من التعريفات إبرازه لأهمية العوامل العقلية والمعرفية في الابتكار، إلاّ أن هذا لا يعني أنها بذاتها كافية لإبداع الشخص، أو أن الشخصية كلٌ متفاعل من العوامل العقلية والوجدانية يتأثر بالبيئة والوسط والمناخ المحيط بالفرد.

أما النوع الخامس من تعريفات الابتكار أو الإبداع، فهو تعريف الابتكار كأسلوب للحياة. فيرى هوبكنز أن الابتكار "هو الذات في استجابتها عندما تُستثار بعمق وبصورة فعلية". ويرى هارت أن الابتكار "هو تلك القوة التي تكمن خلف تكامل الإنسان، وتقوم على أساس من الحب والحرية في التعبير عما يوجد لدى الإنسان من دوافع، حتى ولو كانت دوافع عدوانية، حيث يعبر الفرد عن هذه الدوافع في صورة نشاط مقبول، لا يشعر صاحبه بمشاعر الإثم"؛ لأن الذي يعبر عنه فرد محبٌ لمن حوله بحرية، لا يملك سوى أن يختار ما يرتاح إليه من يعيشون معه ومن يُكن لهم مشاعر الحب.

إن هذا النوع من التعريفات يتسع ليشمل جوانب حياة الفرد، بحيث يصبح الابتكار دالاً على نوع معين أو أسلوب معين في الحياة، سواء قيل عنه إنه القوة التي تدفع الفرد إلى الاكتمال، أو قيل عنه إنه ما يؤدى إلى تحسين الذات وتنميتها، أو أُشير إلى أن الابتكار وتحقيق الذات لا ينفصلان. وبهذا المعنى يستطيع الفرد من طريق الابتكار، أن يعيش وجوده كما ينبغي أن يعيش الإنسان.

وقد أدى هذا النوع من التعريفات إلى ظهور تعريف لنوعين من الابتكار، وهما: الإنتاج الذي نلمسه ونخضعه للدراسة وقد نستمتع به كاللوحة الفنية؛ والنوع الثاني هو الابتكارية الاجتماعية أو النفسية، ويحددها أندرسون قائلاً "الابتكار في مجال العلاقات الاجتماعية هو الذي يتطلب الذكاء والإدراك السليم، والحساسية واحترام الفرد، والجرأة في التعبير عن الأفكار والاستعداد للدفاع عن المعتقدات".

والإبداع أو الابتكار وفقاً لهذا المفهوم، مشروط بمجموعة من القدرات من أهمها: التساؤل، والدهشة، والتركيز، وتقبل الصراع، والتوتر الناجم عن الجمع بين المتناقضات، والقدرة المستمرة على التجريد.

ثالثاً: النتائج المترتبة على اختلاف تعريفات الابتكار

أدى التعدد والتباين والاختلاف في تعريف الابتكار إلى عدة نتائج:

أولها محاولة التوفيق بينها، بوضع مستويات للابتكارية مثل تايلور الذي وضع خمسة مستويات، هي:

1.  الابتكارية التعبيرية Expressive: وهي التعبير الحر المستقل الذي لا يكون للمهارة أو الأصالة فيه أهمية، مثل رسوم الأطفال التلقائية.

2.  الابتكارية الإنتاجية Productive: وهي المنتجات الفنية والعلمية التي تتميز بمحاولة ضبط الميل إلى اللعب الحر، ومحاولة وضع أساليب تؤدي إلى الوصول إلى منتجات كاملة وجديدة.

3.  الابتكارية الاختراعية Inventive: ويمثلها المخترعون والمكتشفون، الذين تظهر عبقريتهم باستخدام المواد والأساليب بطرق مختلفة.

4.  الابتكارية التجديدية (الاستحداثية) Innovative: وهي التطوير والتحسين، الذي يتضمن استخدام المهارات الفردية والتصويرية والخيالية.

5.  الابتكارية الانبثاقية Emergentive: وهي ظهور مبدأ جديد أو مُسلمة جديدة، تزدهر حولها مدرسة جديدة.

أما النتيجة الثانية لتعدد التعريفات، فهي محاولة وضع تصنيف شامل لتلك التعريفات مع ربطها بالمناحي الفكرية لواضعيها، مثل تصنيف جوان، ويتضمن:

1.  الابتكارية كخاصية معرفية: أي الابتكارية كإحدى مكونات Components العقل.

2.  الابتكارية كظروف بيئية وسمات للشخصية: وترتبط بأساليب التنشئة الاجتماعية. وتتضمن هذه الفئة سمات الشخصية الابتكارية من حيث علاقتها بظروف البيئة وعوامل التنشئة.

3.  الابتكارية كأعلى درجة من درجات الصحة النفسية: ويمثل هذا الاتجاه علم النفس الإنساني، الذي يؤكد على أهمية تحقيق الذات، وأن من يحقق ذاته يكون مبتكراً.

4.  الابتكارية الفرويدية: أي الابتكار كإعلاء للدوافع والرغبات غير المقبولة، كتعويض عن قصور أو كتعبير عن لا شعور جمعي.

5.  الابتكارية كنتاج لقوى نفسية خارقة Psychedelic: مثل الربط بين الابتكارية والتنويم المغناطيسي، وبينهما وبين الإدراك المتجاوز للحس Extrasensory Perception.

أما النتيجة الثالثة لتعدد تعريفات الابتكار، فهي تعدد وسائل قياسه أو الوسائل المستخدمة للتعرّف على المبتكرين. فمنها مقاييس لسمات الشخصية، ومنها مقاييس للإنتاج الابتكاري تتدرج ابتداءً من استجابة المفحوص على بعض وحدات في الاختبار، إلى إنتاج قطعة فنية أو موسيقية... إلخ. أما المجموعة الثالثة من الأدوات والمقاييس، فهي تلك التي تعتمد على استخدام قوائم تواريخ الحياة للتعرف على المبتكرين.

ثالثاً: ميسرات الابتكار والإبداع

1. ينمو الابتكار في المجتمعات التي تتميز بالآتي:

أ. الثروة التي تُهيئ الفرصة للأبناء للتجريب دون خوف أو تردد، والتي تسمح بشراء الخامات والمتطلبات التي يستخدمونها في تجاربهم.

ب. التوسع الجغرافي؛ لأنه يسمح بمزيد من الاحتكاك الثقافي وبالأخذ والعطاء بين الثقافات المختلفة.

ج. وجود التحديات الخارجية التي تتحدى الثقافة وتدفعها نحو مزيد من التقدم والتطور. ومن هذه التحديات الحروب والانفجار المعرفي. وينبغي الإشارة إلى أن بعض الدراسات بينت أن للحروب تأثيراً سيئاً على نمو الابتكار؛ لأنها تؤدي إلى الشك والخوف والفزع والفردية في التفكير، والمادية في أساليب الحياة، والتفكير في اللحظات الراهنة، مع نقص التجريب وزيادة التخريب.

د. وجود النماذج المبتكرة بين الأجيال السابقة، والتي تُصبح كنماذج يتلمس الجيل الحالي خطاها، إلا أن تأثير هذه النماذج يكون مشروطاً بعاملين أساسيين، أولهما: أن تكون النماذج في المجال نفسه، الذي يُراد فيه تنمية ابتكارية الأفراد، فالنماذج المبتكرة في الموسيقى تكون أصلح لمن يعملون أو يحبون تعلم الموسيقى والابتكار فيها. أما العامل الثاني، فهو وجوب ألا تقبل آراء هؤلاء النماذج تقبلاً سلبياً بل تقبلاً نقدياً، من أجل البناء والتطوير بما يتلاءم والتغيرات، التي طرأت على واقع الحياة.

هـ. وجود روح العصر أو الطابع العقلي والثقافي للعصر Zeitgeist، التي تسمح بتعرض الفرد للعديد من المثيرات العلمية والثقافية، وتشجع على نقد وتطوير الأفكار، والتوليف بين الجديد والقديم في كلِّ جديد، والتي تسمح بالتجريب وتشجع عليه.

2. إذا انتقلنا إلى الظروف الخاصة، أي مجموعة الظروف التي ترتبط بالمدرسة والمدرس، نجد أن الدراسات بينت أن تنمية الابتكار تستلزم مدرساً يتميز بعدة خصائص وسمات، أهمها:

أ. أن يهتم بتلاميذه كأفراد، كلُ له قدراته واهتماماته وميوله ونواحي قوته وضعفه.

ب. أن يهتم بإكساب تلاميذه المعلومات والمهارات اللازمة، وأن يقدّم لهم المساعدة والتوجيه عند الحاجة إليها.

ج. أن يكون أميناً مع نفسه، أي يعترف بأخطائه التي يقع فيها وبنواحي قصوره وضعفه، ولا يلجأ إلى الخداع لكي يغطي هذه الجوانب والأخطاء. ومعنى هذا أن على المدرس ألا يُعد نفسه المصدر الوحيد الشامل للمعلومات والمعارف، أو النموذج الذي لا نموذج بعده أو قبله.

د. ألا يكون حازماً بقسوة بل موجهاً ومعلماً؛ فيسمح لتلاميذه بقدر من الحرية في العمل والتعبير، واختيار الخبرات وأوجه النشاط التي تناسبهم.

هـ. أن يكون واسع الأفق يسمح بالتجريب مع احتمالات الخطأ والصواب، ولا يلجأ إلى النقد المستمر وإصدار الأحكام السريعة على أعمال تلاميذه؛ لأنه بذلك يمنع التلاميذ من استخدام خيالهم والانطلاق في أعمالهم، وإشباع حب الاستطلاع لديهم.

و. أن يعمل على إشباع حاجات التلاميذ للابتكار، مثل حاجاتهم إلى المعرفة، وإلى توجيه العديد والغريب من الأسئلة، وحاجتهم إلى ممارسة الأعمال الصعبة ومواجهتها وتحديها؛ لأن ذلك يساعدهم على معرفة جوانب قوتهم وضعفهم، وحاجتهم إلى الانغماس في الأعمال التي يقومون بها على نحو يمنعهم من الانتباه إلى ما يدور حولهم، وحاجة كل منهم إلى أن يكون هو نفسه To be an Individual، وإلى أن يكون مختلفاً عن غيره، لكي يحقق إمكانياته الخاصة.

ز. توافر شرط الحرية، ويشمل ذلك ما يلي:

·   التحرر من التوتر الناتج عن الفشل في حل المشكلات.

·   التحرر من الضغوط التي ترمي إلى تبني التلميذ لموقف ثابت لا يتغير.

·   التحرر من الحاجة إلى أن يتطابق إنتاج التلميذ مع المعايير التي يحددها المعلمون أو المجتمع، إلا إذا كانت هذه المعايير تتفق بالفعل مع طبيعة المهمة الإبداعية، التي يقوم بها التلاميذ المبدعون.

·   التحرر من القيود التي تُفرض مقدماً على الأهداف والمواد والعناصر، التي تؤلف الإنتاج النهائي الذي يصدر عن التلميذ، وحرية تحديد المواصفات، التي يرى التلميذ أن هذا الإنتاج يجب أن يستوفيها.

·   التحرر من قيود الزمن؛ لأن الإبداع يتطلب فسحة من الوقت.

·  التحرر من قيود التقويم، فالإفراط في النقد والحكم والرقابة وتفصيل التعليمات، قد يؤدي إلى خنق الابتكار.

ح. توافر الاحترام:

·   لفردية كل تلميذ؛ لأن مهام الإبداع تتسم بالفردية.

·   لأسئلة التلميذ مهما كانت غريبة، أو شاذة، أو غير مألوفة.

·   لخيالات التلميذ؛ لأنها المادة الخام للإبداع.

·   لأفكار التلاميذ، وخصوصاً الغريبة منها.

·   لهوايات التلميذ وحبه للاستطلاع والاكتشاف.

·  لطريقة التلميذ في التعبير عن أفكاره. فقد تكون بالكلمات، أو الرسوم، أو الصور، أو الغناء، أو الشعر، أو الحركة... إلخ.

3. إذا انتقلنا إلى الظروف والعوامل الأُسرية الميسرة للإبداع والابتكار، فإن من بين تلك العوامل:

·   تسامح الأسرة مع شذوذ الأبناء، أي الاختلاف عن الأقران اختلافاً لا يتضمن عدواناً أو تخريباً، وذلك من قبيل استخدام اللعب التمثيلي بكثرة، واستخدام بعض الأدوات والأشياء الموجودة بالمنزل بصورة غير مألوفة، أو لتكوين أشكال جديدة.

·   تزويد الطفل بالمواد والخامات اللازمة لتنمية أفكاره الخاصة، مثل الأوراق والأقلام والقصص.

·   تشجيع الطفل على اللعب بأدواته ومع أصدقائه وإخوته، تلك الألعاب التي تساعد على تنمية خياله.

·   مساعدة الطفل على أن يقرأ، ويفكر فيما يقرأ، أو على اقتناء الكتب، خاصة المتعلقة بتنمية الخيال الفني والعلمي والأدبي.

·   صحبة الطفل إلى مواقع العروض الفنية، سواء كانت عروضاً سينمائية أو موسيقية أو غنائية أو مسرحية، أو حتى معارض للصور والتماثيل.

·   تشجيع الطفل على الانضمام للأندية والجمعيات المهتمة بتنمية المواهب والمهارات.

·  تشجيع الطفل على التساؤل والبحث عن الإجابات، وعدم معاقبته على كثرة أسئلته.