إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / الشخصية









1

نظريات في فهم الشخصية

         لقد كانت الشخصية من الموضوعات ذات الجذب للعديد من الباحثين، على اختلاف فلسفتهم واتجاهاتهم. واستخدموا في ذلك المقابلات، مقننة وغير مقننة، والملاحظات المضبوطة، والتجارب والاختبارات. وخلص كل منهم إلى نظرية في فهم الشخصية.

1. النظريات البيولوجية

أ. الوصفية للبنية الجسمانية (نظرية النمط، لوليم شلدون)

خلصت هذه النظرية إلى أن نمط البنية الجسمانية (Physiqe) ، يرتبط بنمط معين من الشخصية؛ إذ إن الخصائص الجسمية الوراثية، تحدد الأنشطة، التي يميل الشخص إلى ممارستها، وتشكل توقعات الآخرين منه، فيضطلع، غالباً، بالدور الذي يتوقعه الآخرون. وكان (شلدون) قد استفاد من أعمال (كرتشمر) وغيره من الباحثين السابقين، في هذا المجال. وقسم البِنَى الجسمانية إلى ثلاثة أنماط:

(1) النمط المكتنز (البدين) (Pyknic) ، وهو الذي يكثر في تكوينه النسيج الداخلي الحشوي. ويطلق عليه الإندومورفي (Endomorphic). ويتميز صاحب هذا النمط ببنية جسمانية كروية الشكل، تزيد الدهون ونسبة الأحشاء فيها. وأسماه (شلدون)  صاحب المزاج الحشوي (Viscerotonia). ويكون شخصية دوارية، تترجَّح بين السعادة والحزن؛ اجتماعي، مرِح، ودود، وشره إلى الطعام، بطيء الاستجابة، هادئ، ومتسامح. ويميل صاحب هذا النمط، عندما يمرض نفسياً، إلى أن يصاب باضطرابات الوجدان، خاصة ذهان الهوس والاكتئاب (Manic-Depressive Disorder)، وهو ما يسمى، في التصنيفات الحديثة، الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar Disorder).

(2) النمط الرياضي (Atheletic)، وهو الذي يكثر في تكوينه النسيج الأوسط (الضام). ويطلق عليه الميزومورفي (Mesomorphic). وهو ذو بِنية رياضية، تغلب عليها العضلات. وأسماه بصاحب المزاج البدني (Somatotonia). وهو يميل إلى حب المغامرة، ويكون ذا شخصية متعالية، عدوانية، نشيط شجاع، ومتسلط. وعندما يمرض نفسياً، يميل أكثر إلى الإصابة بالاضطراب الضلالي (Delusional Disoredr)، أو اضطراب التحول (Conversion Disorder).

(3) النمط النحيل (Athenic)، وهو الذي يكثر في تكوينه النسيج الخارجي (الجلد والجهاز العصبي). ويطلق عليه الإكتومورفي (Ectomorphic).ويكون نحيلاً في بِنيته الجسمانية، وحجم الدماغ والجهاز العصبي، هو الأكبر بالنسبة إلى حجم جسمه. وأسماه بصاحب المزاج المخي (Cerebrotonia). ويكون ذا شخصية خَجِلَة، معزولة، ومكبوتة. وعندما يمرض نفسياً، يكون أكثر عرضة للإصابة بالفصام العقلي (Schizophrenia)، واضطرابات القلق (Anxiety Disorders).

فضلاً عن النمط غير المتميز (Dysplastic)، الذي لا يمكن تصنيفه في أي من الأصناف الثلاثة، أو هو خليط منها ومن صفاتها المزاجية.

ولكن الدراسات الحديثة، لاحظت أن العلاقة بين البِنية الجسمانية وسمات الشخصية، هي علاقة ضعيفة.

ب. نظرية (إيزنك) (Eysenk) الفسيولوجية

ترى أن هناك نمطَين أساسيَّين للشخصية. أحدهما انبساطي (Extrovert)، والآخر انطوائي (Introvert). وأن الانبساط له أساس من النشاط الفسيولوجي، إذ تتكون دائرة عصبية، تربط الجهاز الشبكي المنشط الصاعد، بقشرة المخ والحبل الشوكي. ويتميز الانبساطيون بمستوى أدنى من نشاط قشرة المخ والجهاز الشبكي المنشط الصاعد، الذي يزداد في الانطوائيين.

بينما ترى أن الميول العصابية (Neuroticism)، لدى الشخصية، تبنَى، أساساً، على حلقة، تشمل الجهاز الشبكي المنشط الصاعد، والجهاز الطرفي. ويرتفع مستوى العصابية بارتفاع استثارة الجهاز الطرفي (Limbic System).

وقد وصف (إيزنك) نمطَي الانبساطية والانطوائية، طبقاً لسمات عامة، تميز سلوك الأشخاص. فالانبساطي شخص منطلق، كثير الحركة والكلام، يميل إلى الاستعراض وحب الظهور في المحافل العامة، سريع في تكوين الصداقات، قليل التأمل والتفكير. أمّا الانطوائي، فهو على النقيض، يميل إلى العزلة والتفكير الكثير، قليل النشاط الجسماني، غير محب للظهور في المحافل العامة. يكوّن صداقات بصعوبة، ولكنها على مستوى عميق.

2. النظريات الإنسانية (Humanistic)

ومن رواد المدرسة الإنسانية (أبراهام ماسلو) (A.Maslow) و(كارل روجرز) (Carl Rogers)، اللذَان أشارا إلى أن الدافعية، يمكن فهْمها في إطار تدرّج الحاجات. ففي المستوى الأدنى، تتركز غرائز الإنسان وحاجاته، في المحافظة على رخائه الجسماني (Basic Needs)، ولدى إشباعها، تتجه الدافعية إلى إشباع الحاجات، النفسية والاجتماعية (Meta Needs)، مثل الاحترام والتقدير ونَيْل المكانة. وفي المستوى الأعلى، يسعى الشخص إلى تحقيق ذاته (Self-Actualization)، إذ يمكنه أن يستغل طاقاته وإمكاناته أقصى استغلال، بعد أن يكون قد أشبع حاجاته الأساسية، وصولاً إلى قمة الخبرة.

3. النظريات الدينامية النفسية

وهي تؤكد أهمية الدوافع والانفعالات والقوى الداخلية. وتفترض أن الشخصية، تنمو من خلال حل الصراعات النفسية. ويُعَدّ فرويد (S.Freud)، رائد هذه المدرسة، إضافة إلى تلاميذه النوابغ، الذين كان لكلٍّ منهم إضافة في رؤيته للشخصية.

أ. نظرية فرويد في فهم الشخصية

يشير فرويد إلى أن للسلوك دافعاً داخلياً، من قوى لاشعورية، تكونت عبر تاريخ الشخص وحياته، خاصة علاقته بوالدَيه. وأن ما يفعله الشخص، وما يفكر فيه، أو يشعر به، ينتج من تفاعل دينامي بين عوامل نفسية ثلاثة، هي: الهو (Id)، والأنا (Ego)، والأنا الأعلى (Super Ego). وأن أي اختلاف في توازن أي من هذه العوامل الثلاثة، يؤدي إلى اختلال في تفاعل الآخرَين ونشاطهما معه، ليضادّاه، ويكون الصراع الداخلي.

ويرى فرويد أن وعي الإنسان الأفكار والذكريات والمشاعر، يقع على مستويات ثلاثة. أحدها الشعور، الوعي (Conscious)، الذي يكوّن الجزء القليل من خبرات الإنسان. وثانيها ما قبل الشعور (Preconscious)، وهو المستوى، الذي تكون فيه الخبرات مدفونة تحت الوعي، ويمكن أن تُستدعَى بسهولة. وثالثها اللاشعور (Unconscious)، وهو المستوى، الذي يضم أغلب الخبرات، التي يختزنها في عمق، لا يمكن معه تذكّرها؛ ولكن، يمكن أن يظهر في زلات اللسان، والأحلام، وخلال التداعي الحر (الذي يذكر الإنسان فيه ما يخطر على باله، من دون قصد أو توجيه). ويشبه الشعور (الوعي) بقِمة جبل الجليد، إذ لا يبرز منه إلا جزء يسير. بينما الجزء الغالب مختفٍ تحت سطح الماء، وهو يشبه اللاشعور، في عدم ظهوره، وفي ضخامته، وفي ارتكاز ملامح الشخصية عليه، إلى حدّ كبير.

كما رأى فرويد، أن الشخصية، تتكون من الخبرات، التي يمر بها الطفل، خلال مراحل متعاقبة من النمو، النفسي الجنسي. وأن هناك طاقة ليبيدية، تتركز في منطقة معينة من الجسم، وفقاً لمرحلة النمو؛ فالفم هو محور اللذة الليبيدية، خلال السنة الأولى ونصف الثانية. ولذا، أسماها بالمرحلة الفمية (Oral Phase)، يجد الطفل، خلالها، لذته من طريق المص والأكل والعض، ووضع الأشياء في الفم. والإشباع الزائد، أو الحرمان الشديد، سيثبت كمية أكبر من الليبيدو، في هذه المرحلة، بما يجعل الشخص عرضة للنكوص (Regression)، في الحياة البالغة، إلى سمات هذه المرحلة، من الاعتمادية والشِّرِّة والميول الفمية (التي تشبه مص الثدي)، مثل التدخين ومضغ اللبان والثرثرة.

والشرج هو محور اللذة الليبيدية، خلال النصف الثاني من السنة الثانية والسنة الثالثة. ولذا، سمّى فرويد هذه المرحلة بالمرحلة الشرجية (Anal Phase)، إذ تنمو العضلات العاصرة لفتحة الشرج، وتكون اللذة من خلال القبض على محتويات الشرج، أو إخراجها، كما تكون محوراً للصراع مع الأم في تدريبه على استخدام التواليت (Toilet Training)، والإفراط وقسوة التدريب، كالتفريط فيه، يسببان تثبيتاً ليبيدياً، في هذه المرحلة، يجعل الطفل عرضة، في الحياة البالغة، للنكوص إلى سمات مشابهة لهذه المرحلة، من العداء والبخل والعناد. فعندما تتشدد الأم في أن يمسك طفلها عن تلويث نفسه بالبراز، وتعاقبه على عدم الإمساك، فإنه يخاف، بعد ذلك، من عدم الإمساك، فيكون الإمساك لكل شيء، خاصة المال، فيصبح بخيلاً في الكِبر.

والقضيب هو مصدر اللذة اليبيدية، من الثالثة إلى السادسة من العمر. ولذا سمى هذه المرحلة بالمرحلة القضيبية (Phalic Phase)، وفيها يدرك الاختلاف بين الذكر والأنثى، وينجذب نحو أبيه، من الجنس المقابل، فالولد يحب أمه، ويعاني صراعاً بين حبه لأبيه (المبني على تقمص دوره) وغيرته منه (بسبب امتيازات والده، التي لا يحظى بها). وهذا هو الصراع الأوديبي، الذي ينشأ عنه قلق الخصاء (Castration Anxiety)، الذي يدفعه إلى التخلي عن رغبته في تملك الأم بكبتها، والتوحد بالأب. هذا في حالة عقدة أوديب الموجبة. أما إذا كانت الأم، هي التي يَعُدّها الولد منافسه في حبه لأبيه، فتلك عقدة أوديب السالبة. والعكس يحدث في حالة البنت. ويسمى تعلقها بأبيها عقدة ألكترا (Alectra complex).  

ثم تكمن النزعات الليبيدية. ولا تحدث صراعات، في المرحلة من السادسة إلى البلوغ. ولذا أسماها مرحلة الكمون (Latency Phase)، إذ يكون الطفل قد توحد بالأب، وحل الصراع الأوديبي، أو كبته، واكتمل نمو الأنا الأعلى. وفي مرحلة البلوغ، تستيقظ الرغبة الجنسية، وترتبط بالجهاز التناسلي، وتكون العلاقة الجنسية الناضجة من خلال العلاقة بالجنس الآخر. وهذه هي مراحل النمو النفسي الجنسي الخمس، في نظرية فرويد (الفمية والشرجية والقضيبية والكمون والتناسلية).

والشخصية، التي تتأثر بالقوى اللاشعورية، وتمر بمراحل النمو النفسي الجنسي السابقة، عبر نموها ـ تتكون من عوامل ثلاثة: الهو والأنا والأنا الأعلى. ويُعَدّ الهو (Id) العامل الأساسي، وهو الذي يتمايز منه الأنا والأنا الأعلى. ويتكون من كل ما هو فطري موروث، وموجود منذ الولادة، بما في ذلك الغرائز. فهو مستودع الطاقة النفسية؛ إذ إنه يزود العمليات، التي يضطلع بها الأنا والأنا الأعلى، بالطاقة. كما أنه وثيق الصلة بالعمليات الجسمانية التي يستمد منها طاقاته. ويَعُدّه فرويد (الواقع النفسي الحقيقي)؛ لأنه يمثل الخبرة الذاتية للعالم الداخلي، ولا تتهيأ له أي معرفة للواقع الموضوعي. ويهدف الهو إلى تجنّب الألم، وتحقيق اللذة، من طريق الفعل المنعكس، والعمليات الأولية، التي تحاول تفريغ التوتر، بتكوين صورة لموضوع، يزيل التوتر، مثل الطعام لشخص جائع؛ وهي عملية تحقيق رغبة في الخيـال. ولكن هذه العمليات الأولية، لا تحقق الإشباع، ولا تخفض التوتر؛ فالشخص الجائع، لا يمكنه أن يأكل ما يتخيله من الطعام. ولذلك، تظهر عمليات نفسية ثانوية، من طريق العامل الثاني، وهو الأنا.

أما الأنا (Ego)، فينشأ للتعامل مع الواقع الخارجي. وعليه تقع مسؤولية فهْم هذا الواقع، والتصرف على أساسه، وفق العمليات الثانوية (أي التفكير الواقعي). فالأنا من طريق العمليات الثانوية، يكون خطة لإشباع الحاجة، ثم يختبر هذه الخطة، هل هي صالحة أم لا؟ وهذا يسمى اختبار الواقع (Reality testing). وهو يستخدم جميع الوظائف النفسية لأداء دوره بكفاءة.

فالأنا، إذاً، هو الجزء المسيطر على سلوك الشخصية، يختار من البيئة الجوانب التي يستجيب لها، ويقرر الغرائز التي ستشبع، وكيفية ذلك الإشباع. وعلى الأنا، عند قيامه بهذه الوظيفة التنظيمية، أن يعمل على تكامل مطالب، كثيراً ما تتصارع فيما بينها. وهي مطالب (الهو)، و(الأنا الأعلى)، و(العالم الخارجي). وهو ما يجعله عرضة لصراعاتها، فيلجأ إلى حيل دفاعية (Defensive mechanisms)، لتخفيف حدّة الصراع. ويمكن تلخيص وظائف الأنا في ما يلي:

(1) التكيف مع البيئة المحيطة، وعمل علاقات بالآخرين.

(2) ضبط الغرائز وتنظيمها، والتعبير عنها بطريقة مقبولة اجتماعياً.

(3) اختبار الواقع، والتصرف على أساسه.

(4) النهوض بالعمليات الثانوية، وما ينشأ عنها من تخليق وابتكار.

(5) الاضطلاع بالوظائف النفسية (البسيطة والمركبة).

(6) اللجوء إلى حيل دفاعية، إزاء الصعوبات والصراعات، التي تنشأ عن الخارج أو الداخل، كي يحافظ على حالة التوازن النفسي. ومن ثَم، فالحيل الدفاعية هي الحيل التي يلجأ إليها الأنا عند مواجهة صراع، لخفض التوتر، والوصول إلى توازن نفسي، وجميعها تتم لاشعورياً. وأهم هذه الحيل الدفاعية هي:

* الكبت (Repression)

وهي حيلة، تدفع بوساطتها المواقف أو الأفكار غير المقبولة، إلى دائرة اللاشعور، وبعيداً عن الشعور. وذلك مثل الفتاة التي صدمت، عاطفياً، فنسيت تماماً كل تفاصيل الصدمة، والظروف التي أحاطت بها، من دون أن تقصد ذلك إرادياً. هذا النسيان، هو الكبت، ويتم لاشعورياً، لتجنيبها الألم النفسي الذي ينجم عن تذكّرها تلك الصدمة.

* النكوص (Regression)

وهي حيلة، يرتد بوساطتها الشخص إلى مراحل سابقة من النمو، إذ ينكص إلى تصرفات بدائية، لا تلائم سنّه الحالية. وتلاحظ هذه الحيلة في أمراض نفسية كثيرة. ومن أمثلتها، الطفل الذي يبلغ ثمانية أعوام، وأصبح يتحكم في مخارجه، ثم ولد له شقيق صغير، مما أثر في نفسيته، من دون أن يدري، جلعه ينكص إلى مرحلة مبكرة، ففقد السيطرة على التبول الوظيفي، أثناء النوم. وبالطريقة نفسها قد تحدث التهتهة (Stuttering)، كعرض نكوصي. وقد يكون النكوص شديداً، إلى درجة فقْد السيطرة والإرادة الكامل، كما في حالات الفصام العقلي (Schizophrenia).

* التبرير (Rationalization)

وهي حيلة دفاعية، تبرر بوساطتها السلوك، أو الدوافع، أو المشاعر غير المقبولة، بخلق أسباب لتفسيرها. ويلجأ إليها الشخص لتقليل الصراع، ومحاولة قبول ما يبرره. وكثيرون يستخدمون تلك الحيلة الدفاعية، استخداماً مَرضياً، إذ يسرون في تبرير سلوكياتهم أو دوافعهم أو مشاعرهم، تجنّباً للشعور بالذنب أو التقصير. وهذا يقلل من دافعيتهم لإصلاح أنفسهم، ويجعلهم يصطدمون بالواقع، وبمن يعايشونهم. وعليهم أن يعوا ذلك، ويقللوا من تبريراتهم، ويصلحوا من أنفسهم، ومن سلوكياتهم، بدلاً من التبريرات، التي يضيق المحيطون بالإفراط فيها.

* التكوين العكسي (Reaction Formation)

وهي حيلة دفاعية، يسيطر بها الشخص على دافع أو شعور غير مقبول، بتكوين عكسه. فالكراهية الشديدة، تظهر في شكل حب مبالغ فيه. وأوضح مثال لها ما يظهره الطفل الصغير، الذي يبلغ أربعة أعوام، لأخيه الذي يصغره بعامَين. فعندما يجرح الأصغر جرحاً بسيطاً، وينزعج الأكبر، بشدة، ويظل يبكي حزناً على جرح أخيه بصورة مبالغٍ فيها، فإنه يظهر، بذلك، تكويناً عكسياً، في محاولة للتغلب على مشاعر الكراهية، التي يستشعرها تجاه أخيه الأصغر.

* الإسقاط (Projection)

وهي حيلة لاشعورية، ينسب بها الشخص إلى الآخرين أفكاره ومعتقداته، ومشاعره ونزعاته اللاشعورية، الخاصة به، وغير المقبولة، أي يسقطها عليهم. وهي حيلة لحمايـة الشخص مـن القلق، الذي ينشـأ عن الصراع الداخلي. وأوضح مثال لذلك ما يدعيه طفل وحيد، من أن أبيه (أو أمه) لا يحبه، فهذا إسقاط من الطفل لمشاعر عدم الحب، التي يشعر بها، ويسقطها على أبيه.

* النقل (التحويل) (Displacement)

وهي حيلة دفاعية، يعيد بها الشخص توجيه انفعالاته المحبوسة تجاه شخص أو موقف، خلاف الأفكار والأشخاص والمواقف الأصلية، سبب الانفعال. مثل الموظف الذي يهينه رئيسه في العمل، فلا يستطيع الرد أو إخراج انفعالاته. ولكنه عندما يعود إلى بيته، يصب غضبه على زوجته، من دون سبب، أو لسبب تافه. وتبادر الزوجة، بدورها، إلى إفراغ غضبها على أولادها. وهكذا تكون حيلة النقل، التي مارسها الزوج، من دون أن يعي، قد أساءت إلى أولاده إساءة غير مباشرة. ويتكرر ذلك كثيراً، داخل البيوت، من دون وعي ممن يمارسونه.

* الانشقاق (Dissociation)

وهي حيلة تتضمن عزل مجموعة من العمليات (الوظائف) النفسية، عن باقي الوظائف النفسية. وتعمل مستقلة، أو بصورة آلية، من دون وعي الشخص بها. فقد تعزل الذاكرة، مثلما يحدث في فقدان الذاكرة. وقد يعزل الوعي والحركة، مثلما يحدث في المشي أثناء النوم. وقد يكون العزل أكثر تعقيداً، ولعديد من الوظائف، كما يحدث في اضطراب تعدد الشخصية (اُنظر الاضطرابات الانشقاقية).

* الإنكار (Denial)

إنكار الأشياء، التي قد تسبب قلقاً، وإبعادها عن دائرة الوعي. ويختلف الكبت عن الإنكار، في أن الكبت يحدث عندما يحاول الدافع الغريزي، أن يكون شعورياً، وأن يعبّر عن نفسه في صورة سلوك. بينما الإنكار يجعل الشخص جاهلاً بحادث معين، ولكن لا يمنعه من التعبير عن دوافعه الغريزية ومشاعره.

* التوحد (Identification)

وهي حيلة دفاعية يوحّد بها الفرد هويته بهوية شخص آخر. مثال ذلك، ما يحدث للطفل في عمر ستة أعوام، عندما يتوحد بوالده، المتفاهم معه، والذي يحبه ويرغب أن يكون مثله عندما يكبر، فيتوجه إلى المدرسة، بحماسة، ليتعلم مثل أبيه.

* التوحد بالمعتدى (Identification with the Aggressor)

إذ يتحد الشخص، في داخله، بصورة عقلية للشخص، الذي يمثل مصدر الإحباط من العالم الخارجي، مثل التوحد الذي يتم في نهاية المرحلة الأوديبية، بين الطفل الذكر وأبيه، الذي يمثل إحباطاً لعلاقة الطفل بأمه، ولا يملك الطفل إلى مواجهه أبيه سبيلاً، فيضطر للتوحد به، اتقاء لأذى، قد يصيبه منه.

* العزل (Isolation)

وهي حيلة، تعزل فكرة، أو ذكرى، عن ما يرتبط بها من شعور، لتجنّب الانفعالات غير السارة، ولحماية الشخص من القلق. مثلما يحدث في حالات الوسواس القهري، من وجود فكرة معزولة عن المشاعر العدوانية المرتبطة بها، مثل فكرة قتل الأب لطفله، الذي يحبه جداً.

* التسامي (Sublimation)

وهي حيلة توجه الطاقة المرتبطة بنزعات غير مقبولة، إلى أنشطة مقبولة، نفسياً واجتماعياً. والتسامي يحقق درجة ضئيلة من الإشباع للنزعات الغريزية، مثل المراهق الذي يوجه طاقته لممارسة الرياضة، بدلاً من النزعات الجنسية غير المقبولة. وهي حيلة صحية، عندما توجد في مكانها؛ فلا يصح لعريس، مثلاً، أن يمارس التسامي، ليلة زفافه، فيترك عروسه، لممارسة الرياضة أو القراءة أو حتى العمل.

* الإبطال (Undoing)

وهي حيلة دفاعية، تتوخى إصلاح ما قد أُفسد، وهي غير مقبولة من الأنا. وهي حيلة بدائية، من قبيل الأفكار والأفعال السحرية، وذات طبيعة مترددة. وتلاحظ، غالباً، لدى مَرْضى الوسواس القهري، إذ يمارسون طقوساً غريبة تشبـه الأفعـال السحريـة، لإبطال ما يخافون أن يفلت منهم من نزعات عدوانية. وتتمثل في ذلك الطفل، الذي أحضره والده، شاكياً أنه، أي الطفل، يأتي بأفعال غريبة، قبل دخوله البيت. فهو يدور حول عمود الإنارة المواجه لمدخل البيت، ثم يدوس على بلاطة من التي تغطي الأرض، تاركاً التي تليها، ثم يصعد السلم، فيدوس درجة، ويترك الأخرى، ثم ليطأ بقدمه أول بلاطة في مدخل الشقة. وإذا أخطأ في أي من ممارساته تلك، عاد إلى الشارع، من جديد، ليتدارك ما وقع فيه من خطأ. وحين كان يسأله والده عن معنى ما يفعل، كان لا يجيب.

وخاف الأب أن يكون في ابنه خلل عقلي، فأحضره إلى العيادة النفسية. وبعد عدة جلسات، تبيّن أنه يحب والدته جداً، ولكنه يجد منافسة في حبها من أبيه وأخيه الأصغر. ومن ثَم، فلديه عدوان شديد تجاههما، وهو يخاف من عدوانه هذا، أن يخرج في فعل يضرهما. لذا، مارس أكثر من حيلة دفاعية، من دون أن يدري، فعزل (حيلة العزل)، فكرة العدوان عما يرتبط بها من مشاعر، وكبت (حيلة الكبت) الحفزة العدوانية وما يصاحبها من مشاعر. ولخوفه من أن تفلت الحفزة من خط الدفاع الأول، وهو العزل، كوّن خط الدفاع الثاني لإبطال (حيلة الإبطال) الحفزة الغريزية، بفعل وسواسي (وهو الممارسات التي سبق وصفها). وكان، مع ذلك، يظهر مشاعر خوف شديدة عليهما، وهي (حيلة التكوين العكسي).

والأنا الأعلى (Super Ego)، هو العامل الثالث من عوامل الشخصية. ويُعَدّ الممثل الداخلي للقِيم التقليدية للمجتمع وأخلاقياته. ويتكون باستدخال الطفل لقِيم وأخلاقيات الوالدَين، ثم التوحد بها. ويُعَدّ الأنا الأعلى نموذجاً لِمَا هو مثالي، وليس لِمَا هو واقعي. ويميل إلى الكمال، بدلاً من اللذة. وعندما يكتمل تكوّن الأنا الأعلى، يصبح هو السلطة الداخلية، سلطة الوالدَين التي استُدخِلت، وأصبحت جزءاً من تكوين الطفل. وأهم وظائفه ما يلي:

(1) كف حفزات الهو، سواء كانت جنسية أو عدوانية.

(2) إقناع الأنا بالاضطلاع بدور المثالية، بدلاً من الواقعية.

وهذه العوامل الثلاثة، التي تتألف منها الشخصية، الهو والأنا والأنا الأعلى، التي تكونت عبر مراحل النمو النفسي، ولكل منها شق شعوري وآخر لاشعوري ـ لإخراج شخصية سوية. وإن اختل توازنها، كان الاضطراب أو الصراع الداخلي.

كانت هذه رؤية المدرسة التحليلية، التي أرساها سيجموند فرويد. ولكن هناك من التحليليين من أضاف أو عدّل رؤية المدرسة التحليلية، منهم:

ب. كارل جوستاف يونج (Jung) ـ (1875 -1961)

استدرك على فرويد فكرة اللاشعور الجمعي (Collective Unconscious)، الذي يجمع ذكريات الأجداد وخبراتهم. وعَدّه الأساس العنصري الموروث للبِنية الكلية للشخصية. وعليه يبني الأنا (Ego)، واللاشعور الشخصي (Personal Unconscious)، وجميع المكتسبات الفردية الأخرى، من خلال خبرات الشخص الخاصة، فيصبح بذلك متفرداً.

ويرى يونج، أن العوامل الرئيسية للشخصية، هي الأنا، واللاشعور الشخصي، واللاشعور الجمعي، والقناع (Persona)، ثم الأنيما (Anima)، أو الأنيموس (Animus)، والظل (Shadow)، والاتجاهات، الانطوائية والانبساطية، ووظائف التفكير والوجدان، والإحساس، والحدس.

ويقرر يونج، أن الأنا هو العقل الشعوري، الذي يتكون من المدركات الشعورية، والذكريات، والأفكار والوجدانيات. وهو مسؤول عن شعور المرء بهويته واستمراريته. وهو مركز الشخصية.

واللاشعور الشخصي، هو الخبرات المكبوتة. وهي تماثل ما قبل الشعور، عند فرويد؛ إذ يمكن الشعور أن يصل إليها. أما القناع، فهو الشخصية العامة، التي يظهرها الشخص للعالم من حوله. والأنيما هو النمط الأولي الأنثوي، لدى الرجل، الذي اكتسب أنوثة، نتيجة حياته مع المرأة عصوراً طويلة. والأنيموس هو النمط الذكري الأولي، لدى المرأة، التي اكتسبت الذكورة. وهذان النمطان، يعملان بوصفهما صوراً جمعية، تدفع كل جنس إلى الاستجابة لأفراد الجنس الآخر، لفهْمهم. فالرجل يتفهم المرأة، بفضل ما لديه من أنيما، والمرأة تتفهم الرجل، بفضل ما لديها من أنيموس. ولكن الأنيما والأنيموس، قد يؤديان إلى سوء فهْم، إذا ما أسقطت صورة النمط الأولي، من دون حسبان لسمات الشريك. فمثلاً، عندما يتزوج رجل امرأة، وبدلاً من أن تعامله طبقاً لصفاته، تسقط صورة النمط الأولي داخلها، من دون أن تفهم صفاته هو.

وعدّ يونج الغرائز الحيوانية الموروثة، كنمط أولي، مسؤول عن الخطيئة لدى الإنسان، الذي يسقطه على الخارج، ويطلق عليه الشيطان. وأسماه الظل. وميز بين اتجاهَين أساسيَّين، تتخذهما الشخصية، هما الانبساط (Extrovert) (توجه الشخص إلى العالم الخارجي)، والانطواء (Enterovert) (توجه الشخص نحو العالم الداخلي)، وكلاهما يوجد في الشخصية.

واختلف يونج عن فرويد، في أنه لم يحصر محددات سلوك الإنسان في أسبابه، (الخبرات التي مر بها الشخص في تاريخه). ولكنه يضيف أهداف الشخص وتطلعاته المستقبلية، كمحددات للسلوك، كذلك. وهو، بذلك، يربط ماضي الشخص بمستقبله، في تكامل يأخذ بيد الإنسان، بعيداً عن اليأس، المرتبط بعدم القدرة على إصلاح الماضي، ومتجهاً به صوب المستقبل.

ج. ألفريد أدلر (Adler) ـ (1870 -1937 )

افترض أدلر، أن سلوك الإنسان، تحركه، أساساً، الحوافز الاجتماعية. وأن الإنسان كائن اجتماعي، في الأساس. وقلّل من أهمية الجنس في تكوين شخصية الإنسان، وعدّ الاهتمام الاجتماعي فطرياً فيه. وأن الأنماط النوعية للعلاقات بالآخرين، وسُبُل التفاعل الاجتماعي، التي تظهر في ممارساته اليومية، تكوّنها وتحددها طبيعة المجتمع، الذي ينشأ ويتربى فيه الشخص. ومن ثَم، فإن لأدلر وجهة نظر بيولوجية، لا تختلف عن وجهتَي نظر فرويد ويونج؛ فالثلاثة يرون، أن للإنسان طبيعة فطرية، تشكل شخصيته.

وأضاف أدلر فكرة الذات الخلاقة، التي رأى أنها صاحبة السيادة في بناء الشخصية. وعدّها شيئاً، يحتل مكاناً متوسطاً بين مثيرات المرء واستجاباته. وأن الإنسان يصنع شخصيته، فهو يبنيها من المادة الخام. وأكد تفرد الشخصية، فرأى أن لكل شخص صياغة فريدة، من الدوافع والسمات والاهتمامات والقيم، فكل فعل يصدر عن الشخص، يحمل طابع أسلوبه الخاص، والمتميز، في الحياة. كما جعل أدلر الشعور مركز الشخصية، وأن الإنسان كائن شعوري، يعرف أسباب تصرفاته، والأهداف التي يحاول بلوغها، ويشعر بنقائصه.

د. إريك إريكسون (E.Erikson) ـ (1902)

وسَّع إريكسون نظريات فرويد في النمو وفهْم الشخصية. فجعل النمو في مراحل، تبدأ من الولادة وحتى الشيخوخة. وأطلق على مراحله النمو النفسي الاجتماعي، لأهمية الجانب الاجتماعي، التي أكدها في نمو الشخصية، وتفاعلاتها، عبْر مراحل النمو المختلفة، وفي كل مرحلة جديدة تحدٍّ (صراع) جديد.

ففي السنة الأولى، يواجه الطفل صراعاً بين الأمان وعدم الثقة، تبعاً لعلاقة الأم بالطفل. فإذا نجحت في إنشاء علاقة، يشعر فيها الطفل بالأمان، فإنه يثق بالآخر (Basic Trust). وإذا فشلت، كان الشك والمخاوف من العلاقة بالآخر.

وفي السنة الثانية، إذ تنمو عضلاته، ويقوى على المشي مستقلاً، ويستطيع أن يبتعد عن الأم. كما يستطيع التحكم في مخارجه، وإطعام نفسه، أي أنها بداية الاستقلال. فإذا شجعته الأم، مع توفير الأمان والحماية، عندما يسقط، من دون لوم، فإنه يجتاز هذا التحدي. أما إذا أشارت إلى أنه سيئ، فإنه حساس لِمَا يقال عنه، وسيتولد لديه الشعور بالشك في القدرات، والخجل. لذا، فإن إريكسون أسمى هذه المرحلة (الثقة في مقابل الشك والخجل) (Autonomy vs. Shame and Doubt).

وإن الطفل، من الثالثة إلى السادسة، يبادر، في مقابل الإحساس بالذنب (Initiation vs. Guilt)، إلى الفضول، فيتطلع إلى اكتشاف الأشياء والشغف بها. وتكون مبادرته الأولى داخل الأسرة، فيتعلق بوالده من الجنس المقابل. ثم يبدأ بالتفرقة بين ما يريده هو، وما يطلب منه أن يفعل. وتزداد هذه التفرقة وتتسع، حتى يحوّل، تدريجاً، قِيم والديه على أنها طاعة لنفسه، وتوجيه لنفسه، وعقاب نفسه.

ومن السادسة إلى الثانية عشرة من عمر الطفل، ينتقل إلى المدرسة. ويثابر من أجل تعلم مهنة، حتى يصبح لديه ثقة بنفسه، وبقدرته على استخدام أدوات الكبار. وإذا فشل، فإنه يشعر بالنقص والدونية. وأسمى إريكسون هذه المرحلة المثابرة في مقابل الشعور بالدونية (Industry vs. Inferiority).

ثم يكون البلوغ، الذي يبرز فيه اختلاف المراهق عن نفسه قبل ذلك، وعمّا يرغب فيه والداه. ويسلمه هذا إلى غموض الرؤية (غموض الدور). وأطلق على هذه المرحلة الهوية في مقابل غموض الدور (Identity vs. Role Confusion)، وهي من الثانية عشرة إلى الثامنة عشرة. وفي هذه المرحلة، يتجمع المراهقون معاً في صورة شلل وجماعات، وإزاء واقع الكبار، الذي يرونه، يراود الشاب منهم الشط في ما تعلّمه من أخلاقيات وهو طفل. وأبرز ما يعانيه الشباب، في هذه المرحلة، هي أزمة الهوية (Identity Disorder)، ومحورها سؤالان أساسيان: من أنا؟ وماذا أريد؟

وبدء الارتباط بعلاقة راشدة، من ألفة أو زواج هي بداية مرحلة الألفة، في مقابل العزلة (Intimacy vs. Isolation)، وعندما يصل الشخص إلى سن الأربعين، فإنه يفكر في معنى وجوده. ويسعى إلى إنتاج من أجل المجتمع، يحقق به معنى وجوده، في مقابل الخمول واللامبالاة (Generativity vs. Stagnation)، وعندما يصل الإنسان إلى الشيخوخة، ينظر إلى ما مضى من عمره، فيشعر بأن إنجازاته قد تكاملت، ويرضى عن نفسه، فيكون الرضا والقوة في مواجهة الموت، ومن دون ذلك يكون اليأس والخوف من الموت (Integrity vs. Despair).