إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / السلوك









الارتباط بالجماعة Sociability

السلوك

يُستخدم "السلوك" في لغتنا الدارجة للإشارة إلى معنى أخلاقي، عندما نقول: فلان طيب السلوك. وكذلك نشير به إلى ما يصدر عن الإنسان من أفعال حركية ظاهرة، كالجري والمشي والكتابة. ولكن "السلوك" يعني ما هو أكثر من ذلك. وقد أدى هذا إلى تعدد تعريفاته.

يعرّفه أحمد راجح بأنه: "أي نشاط يصدر عن الإنسان ذهنياً كان أم حركياً، أي أنه كل ما يصدر عن الفرد من استجابات مختلفة إزاء موقف يواجهه ـ إزاء مشكلة يحلها، أو خطر يتهدده، أو مشروع يخطط له، أو درس يحفظه، أو مقالة يكتبها، أو آلة يصلحها، أو أزمة نفسية يكابدها".

ويعرّفه وليم الخولي بأنه مصطلح يُشير إلى "وصف موضوعي لما يصدر عن الكائن الحي؛ فالكلمة قريبة في معناها من كلمة نشاط، وإنما يمكن القول إن النشاط أعم من السلوك؛ لأن النشاط تعبير عام عن كل ما يصدر عن الخلايا والأنسجة أو عن الكائن كله، وليس من الضروري أن يشير إلى غرض معين. أما كلمة السلوك، فيقتصر استخدامها، عادة، على ما يصدر عن الكائن كله، لا مجرد جزء صغير منه، متضمناً غرضاً أو معنى. فإذا تحدثت عن فعل خميرة داخل خلية، أو تحولات كيميائية حيوية، أو عمل غدة، أو عمليات هضمية، استخدمت كلمة "نشاط"؛ أما إذا تحدثت عن استجابة الكائن إذا هدده خطر، استخدمت كلمة "سلوك".

ويرى عز الدين جميل عطية "أن السلوك كل أوجه نشاط الفرد القابلة للملاحظة المباشرة أو غير المباشرة. ومن أمثلة السلوك القابل للملاحظة: المشي والكلام والحركات اللاإرادية التي تصدر عن الفرد. أما السلوك القابل للملاحظة غير المباشرة، كالتفكير والتذكر والعواطف، فيمكن الاستدلال عليه من كلام الفرد وأفعاله الظاهرة".

ويعرّفه جابر عبدالحميد وعلاء كفافي بأنه: "أفعال الفرد السيكولوجية وردود الأفعال والتفاعلات استجابة منه للمثيرات الخارجية والداخلية، ويتضمن ذلك الأنشطة التي تُلاحظ ملاحظة موضوعية، أو الأنشطة التي تلاحظ ملاحظة استبطانية (بالتأمل الذاتي)، وكذلك العمليات اللاشعورية".

من التعريفات السابقة، وكثير غيرها، يمكن تعريف السلوك على أنه النشاط الذي يصدر عن الكائن الحي، نتيجة لتفاعله مع ظروف بيئية معينة لمحاولة تعديلها وتغييرها. وما النشاط الذي يصدر عن الكائن الحي إلاّ مجموعة من الاستجابات التي يقوم بها، للرد على مثيرات ومنبهات معينة. وقد تكون تلك الاستجابات:

·   حركية: كتحريك الذراع للرد على تحية شخص آخر، أو اتساع حدقة العين نتيجة للضوء.

·   لفظية: كالرد على سؤال، أو الصراخ طلباً للإغاثة، أو تعبيراً عن استنكارٍ باستخدام اللغة.

·   فسيولوجية: كارتفاع ضغط الدم عند الغضب، أو تقلص المعدة عند الجوع.

·   انفعالية: كالحزن لسماع خبر مؤسف، أو الفرح والطرب لسماع أخبار سارة.

·   معرفية: يُراد بها كسب معلومة أو معرفة، كالنظر والسمع والتفكير والتذكر.

·   وقد تكون الاستجابة بالكف عن نشاط، كالتوقف عن السير أو الأكل أو التفكير عند سماع أمر معين.

على ذلك يشمل السلوك:

1. كل ما يفعله الإنسان ويقوله.

2. كل ما يصدر عنه من نشاط عقلي، كالإدراك والتفكير والتخيل.

3. كل ما يستشعره من تأثيرات وجدانية، كالإحساس باللذة والألم، وكالشعور بالضيق والارتياح، بالخوف أو الغضب... إلخ، وما يصاحب ذلك من أنشطة فسيولوجية شتى.

أولاً: خصائص السلوك

·   نشاط كلي مركب يتضمن جانباً معرفياً ووجدانياً وحركياً. فعند تحليل أي سلوك توجد هذه الجوانب الثلاثة؛ ولكن بدرجات تتفاوت من موقف لآخر. فعند رؤية ثعبان "نعرف" أنه مصدر خطر، "فنخاف" منه، ولذلك نسعى "للهرب"، وما يصاحب ذلك من تغيرات فسيولوجية داخلية. وهذا معناه أن السلوك يصدر عن الإنسان كوحدة جسمية ونفسية متكاملة لا تتجزأ.

·   لا يقتصر السلوك على الإنسان، بل يصدر عن الحيوان مظاهر سلوكية مختلفة، على الرغم من وجود تفاوت واختلاف بين سلوك الإنسان والحيوان. فالله -العلي القدير- ميز الإنسان على الحيوان، بالقدرة على التفكير المجرد، وممارسة عدد من العمليات العقلية العليا، والقدرة على تقدير مشاعر الآخرين وانفعالاتهم.

·   يتميز السلوك بأنه موجه في اتجاه معين دون آخر، وأن له كمية أو مقداراً كما يبدو في شدة السلوك أو مدى استمراره. وأنه يتميز بالدقة كما تظهر في نقص الوقت المستغرق لأداء السلوك ونقص عدد الأخطاء، التي تصدر عن الفرد قبل صدور الاستجابة الصحيحة.

·   يوصف السلوك بأنه دينامي، أي يتغير من وقت لآخر وبسرعة؛ فعند حديثك مع صديق سمعتم صوت انفجار شديد فأصابكما الفزع، ثم تصرف كلاً منكما بطريقته؛ إما لاستكشاف الموقف أو للهرب منه. وهذا الموقف يعبر عن دينامية السلوك وقابليته للتغير، بناءً على ما يتعرض له الفرد من مثيرات ومنبهات موقفية.

·   يتحدد السلوك بعوامل متعددة، منها عوامل مستمدة من الوراثة أي من الخصائص الوراثية، التي انتقلت إلى الفرد من والديه وأجداده، ومنها عوامل مستمدة من تاريخ حياة الفرد وما مر به من خبرات، ومنها عوامل مستمدة من حاجات الفرد وبنية شخصيته، ومنها عوامل مستمدة من البيئة التي يعيش فيها.

·   يتميز السلوك بالمرونة، فلكل إنسان مهاراته ومعلوماته التي تعلمها، ولكنه يعدلها وفقاً لما يمر به من ظروف وأحداث. وكل إنسان يتعلم بطرق مختلفة، ويصل، من ثَم، إلى نتائج مختلفة.

·   السلوك محصلة فعل ورد فعل، أي محصلة التعرض للمثيرات والرد عليها بالاستجابات. والمثيرات كل ما يؤثر على الفرد من خارجه وداخله. فالأصوات والأضواء والروائح من حولنا تمثل بعضاً من المثيرات الخارجية، وتقلص المعدة عند الجوع وخطورة فكره على الذهن، تمثل نوعاً من المثيرات الداخلية. وكلا النوعين يدفعان الفرد للاستجابة بالطريقة التي تتناسب معه، وتحقق أهدافه.

·   نمائية السلوك، ذلك أن للسلوك هدفاً يسعى لبلوغه؛ فإغلاق العين عند اقتراب جسم منها يهدف إلى حمايتها. وقد وجد أن تنبيه الطفل حديث الميلاد بضوء قوي موجه للعينين، يدفعه إلى تحريك رأسه حركة خفيفة لتجنب الضوء وآثاره.

ويهدف السلوك إلى إشباع حاجات الكائن الحي. فالإنسان يبحث عما يشبع حاجته للطعام والشراب والراحة وتجنب الألم، وكذلك حاجته إلى التقدير الاجتماعي وإلى الشعور بالأمن والاطمئنان، وإلى حل ما يعترضه من مشكلات، أو مواجهة ما يعانيه من صراعات داخلية بين دوافعه، أو خارجية ضد الظروف التي تعترض طريق تحقيق إشباع حاجاته.

·   السلوك مركزي التنظيم، إذ تنظمه ذات الفرد. فكل مثير أو خبرة له دلالته بالقياس إلى ذات الفرد، وإلى المعنى الذي تخلقه الذات على هذا المثير. فعدم رد صديقك التحية، قد تراه غطرسة منه أو عدم احترام، بينما قد يراها آخر عدم انتباه الصديق لك. فكل استجابة، مهما بدت بسيطة أو جزئية، تحمل في ثناياها كل خصائص الشخصية، التي صدرت عنها تلك الاستجابة.

·   تنمو شخصية الفرد في تتابع معين موجه؛ فالنمو سلسلة متصلة الحلقات تعتمد كل واحدة منها على سابقتها، وتمهد للتالية عليها، وفي كل مرحلة يتغير سلوك الفرد ويتعدل. فطريقتنا في التفكير أثناء الطفولة تعتمد على المحسوسات والماديات؛ ولكن مع النضج يصبح تفكيرنا مجرداً.

·   السلوك دائماً توافقي؛ فالفرد يسعى إلى حل ما يعترضه من مشكلات، وإلى تحقيق التواؤم والتوازن بينه وبين بيئته المادية والاجتماعية. ويكون ذلك من طريق الامتثال للبيئة، أو التحكم فيها، أو إيجاد حل وسط بينه وبينها.

·   للسلوك دوافع وبواعث وغايات تحركه. فمن الدوافع ما هو بعيد (التخرج من الجامعة)، ومنها ما هو قريب (اجتياز العام الدراسي بنجاح)، ومنها ما لا نشعر به (الدوافع اللاشعورية)، ومنها ما نشعر به (الرغبة في النجاح والتقدير الاجتماعي)، وهي في هذه الحالة تتحول إلى بواعث (الحصول على الشهادة). إن البواعث والغايات معانِ يتمثلها الذهن، فهي أمور نشعر بها، وتوجه السلوك بتعيين طرقه وتحديد غرضه النهائي.

·   يختل السلوك أو يُستثار في حالات عدم التوافق، بين إمكانات الفرد واستعداداته ودوافعه، من جهة، وبين مطالبه ومطالب بيئته، من جهة أخرى.

·   يرتقي السلوك من الأفعال المنعكسة إلى الأفعال الإرادية. ويكون الفعل المنعكس –دائماً- لا إرادياً وقهرياً جبرياً، وهو غير قابل للتعديل إلاّ في حدود ضيقة جداً. ومن أمثلته: سيلان اللعاب عند وضع الطعام في الفم، وحركة العين لحمايتها من جسم مؤذِ أو ضار، واتساع إنسان العين أو ضيقه بسبب كمية الضوء الساقطة عليه. أما الفعل الإرادي، فهو الفعل الذي تتمثل فيه بجلاء قدرة الشخص الكُفء على تنظيم دوافعه وعواطفه وأفكاره وتوجيهها نحو غرض محدد، يسعى الفرد إلى تحقيقه، وهو شاعر بحريته الذاتية وقدرته على الاختيار.

ويرتقي السلوك الحركي من استخدام الأشياء إلى استخدام رموزها؛ فالطفل يستجيب لعناصر الموقف الذي أمامه، (كالاستجابة للأم عند رؤيتها)، ثم يرتقي السلوك ليتعلم الطفل أن يستجيب لجزء من الموقف كله أو ما ينوب عنه، أو ما يرمز إليه (كتوقف الطفل عن البكاء لسماع صوت أمه). وكلّما نجح الفرد في الاستبدال بالأشياء رموزها، زادت قدرته على الفهم والاستبصار والاستدلال والتبصر بعواقب الأمور.

ويرتقي السلوك المعرفي من الإحساس إلى التصور الذهني؛ فارتقاء السلوك من استخدام الأشياء إلى استخدام رموزها يساعد الفرد في استعادة الصور الذهنية للأشياء في حال غيابها، وهذا يمهد إلى إدراك أن وراء الألفاظ، التي يستخدمها، أو الصور الحسية، التي يتخيلها، معانٍ وعلاقات بين المعاني وبعضها بعضاً، وإلى أن يكون الفرد قادراً على تصور المعاني الكلية، وتعقل المعاني المجردة، وتنظيمها في التفكير.

يمكن القول، مما سبق، إن كل إنسان على نحو ما يشبه كل الناس، وعلى نحو آخر يشبه بعض الناس، وعلى نحو ثالث لا يشبه أحداً. فكل إنسان له الحاجات والرغبات نفسها التي تحركه لإشباعها، وكلنا يفكر ويتألم؛ ولكن منا القروي والحضري، المصري والأمريكي، ومنا أصحاب الديانات، وأصحاب المهن المختلفة، وكل فئة من هذه الفئات لها تصرفاتها وأنماطها السلوكية الخاصة بها. وأخيراً، فإن لكل فرد خصائصه المميزة له عن غيره. فهذا سريع الانفعال وذلك هادئ، وهذا فهلوي، وذلك جاد منضبط.

ثانياً: أنواع السلوك

سبقت الإشارة إلى بعض أنواع السلوك، مثل: الحركي والمعرفي والوجداني، والسلوك الإرادي واللاإرادي (الفعل المنعكس). وثمة أنواع أخرى من السلوك، منها:

1. السلوك الفطري والسلوك المكتسب

السلوك الفطري هو السلوك العام والمشترك بين جميع أفراد النوع. أما السلوك المكتسب فهو مُتعلم خاص بالفرد، ولا يشمل، حتماً، جميع أفراد النوع الواحد. فالمشي سلوك نوعي؛ ولكن التزحلق على الجليد سلوك فردي، أي أن الأول فطري والثاني مكتسب.

والسلوك الفطري هو نتيجة مُعدات الكائن الحي الطبيعية، أي نتيجة التركيب العضوي الداخلي والتركيب الحسي الحركي، ونتيجة عملية النمو عموماً. في حين أن السلوك المكتسب يقوم فقط على التعلم، أي على أثر التمرين والتدريب.

والعلاقة بين النوعين علاقة وثيقة؛ فالسلوك المكتسب، مثل ركوب الدراجة، يُبنى على أساس من السلوك الفطري كالمشي. وهذا يتضمن أن السلوك الفطري قابل للتغيير والتعديل بفعل التعليم والتدريب؛ فالتزحلق على الجليد هو تغيير وتنظيم لحركات المشي.

2. السلوك الفوري والسلوك المُرجأ

لمّا كان السلوك هو مجموعة الاستجابات، التي يقوم بها الكائن الحي للرد على مثيرات أو منبهات معينة، فإن تلك الاستجابات يمكن تصنيفها إلى: استجابات فورية مباشرة، واستجابات مرجأة:

·   تصدر الاستجابة الفورية مباشرة عقب تلقي المثير، أو بعد فترة زمنية قصيرة؛ فالعطس استجابة فورية ومباشرة لتهيج الغشاء المخاطي.

·   يؤجل صدور الاستجابة المرجأة لفترة من الوقت، أي لا تصدر عقب تلقي المثير مباشرة بل تصدر بعد فترات زمنية متفاوتة، كتأجيل الانتقام أو رد الإهانة (كما هو الحال في عادة الأخذ بالثأر في صعيد مصر).

ويمكن أن تكون الاستجابة المرجأة تراكمية، أي تحدث وتتشكل بفعل تراكم التعرض لتنبيهات متتابعة لمدة طويلة من الوقت، مثل الاتجاهات الاجتماعية والميول.

3. سلوك إحجامي وسلوك إقدامي

السلوك الإحجامي هو استجابة هروبية يبتعد بها الفرد عن نوع من المثيرات التي يتعرض لها. وهذا يعني أن الفرد لا يجد أسلوباً لمواجهة الموقف، فيستجيب بالسلوك الإحجامي، أي بالابتعاد عن الموقف بما فيه من مثيرات. فالفشل المتكرر للمتخلف عقلياً في المدرسة، يجعله يحجم عن الذهاب إليها، وعن المذاكرة والتحصيل.

أما السلوك الإقدامي، فهو الطرف الآخر للسلوك الإحجامي. وهذا السلوك يعني اندفاع الفرد لكي يقترب من المثير، لكي يعالجه أو يواجهه بحلول مناسبة، ما يعني أن لديه دوافع قوية مصحوبة برغبة تجعله يقترب ويستجيب للمثير في الموقف. فالشخص المتدين لا يتردد في التوجه للصلاة، بل يقدم عليها خاشعاً.

4. سلوك فردي وسلوك جماعي

السلوك الفردي هو مجموعة الاستجابات التي تصدر عن شخص ما، فتميزه عن غيره. ويكون ذلك نتاجاً لبنية الفرد الموروثة، ولِما مرّ به من خبرات خاصة. فالمريض النفسي له معالم وخصائص سلوكية تميزه، ولرئيس العمل سلوكه الخاص به.

والسلوك الجماعي تعبير عن الصيغة الاجتماعية، التي تطبع سلوك الأفراد حين ينتمون إلى جماعة واحدة. فيتغير السلوك الفردي لكي يلائم سلوك الجماعة، كضرورة لاستمرار الفرد في تمتعه بالانتماء الاجتماعي. أي أن سلوك الجماعة يصبح تكويناً نوعياً مختلفاً عن مجموع آراء أفراد الجماعة؛ لأن الامتزاج الحادث نتيجة الاجتماع بين الأفراد، يترتب عليه اختلاف سلوكهم الجمعي لدرجة قد تصل إلى حد التضاد في الوجهة والمضمون، مع سلوك كل فرد على حدة. فالسلوك الجماعي، إذاً، ظاهرة اجتماعية تعكس نواتج عملية التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، وتوضح كيف أن الجماعة تشكل تفكير أفرادها، وتحدد رؤاهم الخاصة، وتقارب وجهات نظرهم، وتوجه سلوكياتهم الوجهة التي تريدها.

5. سلوك سوي وسلوك شاذ

لتحديد السلوك الشاذ استخدمت عدة معايير، منها: المعيار الإحصائي، والمعيار الثقافي، والمعيار المرضي، والمعيار المثالي. يقوم المعيار الإحصائي على أساس خصائص المنحنى الاعتدالي (أو المنحنى الجرسي المقلوب)؛ فلو قسنا أطوال عينة كبيرة من الأفراد، لوجدنا غالبيتهم متوسطي الطول بينما الأقلية إما طوال جداً، أو مفرطين في القِصر. ولذلك فالأفراد الذين يقعون في الوسط هم الأسوياء، أما من يقعون في الأطراف فهم غير أسوياء. فشديد النزعة العدوانية والقاسي هو والجبان غير أسوياء. أما متوسطي العدوانية ومَن يستخدمونها بحكمة، فهم الأسوياء.

والمعيار الثقافي هو استخدام لمعايير الثقافة وقيمها في تقييم سلوك الأفراد، والحكم على مدى انتمائهم سلوكياً لهذه الثقافة أو الانحراف والخروج عنها. فالإباحية الجنسية سلوك شاذ ومجرم في المجتمعات الإسلامية، بينما هي سلوك مقبول، وغير شاذ في بعض المجتمعات الغربية.

ويرى المعيار المرضي أن السلوك شاذ إذا مارس الفرد سلوكاً يندرج تحت الدلالات المرضية. فمن يخاف من الأماكن الفسيحة أو الضيقة خوفاً شديداً مبالغاً فيه، يُعَد سلوكه سلوكاً شاذاً، ومن يعزل نفسه عن الآخرين بشكل كامل ولفترات طويلة، يُعَد سلوكه مرضياً.

أما المعيار المثالي فهو المعيار الذي يأخذ الفرد على عاتقه الاحتذاء به، ومحاولة الاقتراب منه، بحيث يجعل سلوكه متطابقاً معه. ومن يبتعد عن هذا المعيار يُعَد شاذاً.

ثالثاً: محددات السلوك

يُعَد السلوك محصلة لتفاعل عدة عوامل، وهذا التفاعل هو الذي يفسر تعقد السلوك البشري.

1. العوامل الجينية أو الجبلية (الوراثية)

يولد الإنسان وهو مزود ببعض الخصائص، التي يشترك فيها مع غيره من أفراد الجنس البشري. كما أن ثمة مجموعة من الخصائص التي يُولد الإنسان مزوداً بها، وتكون خاصة به وحده، وليست مشتركة بينه وبين سائر البشر، وهي تُعرف بالخصائص الجينية الوراثية. فكل منها لديه عتبة دنيا للإحساس (أي الحد الأدنى من المثير الذي يشعر الفرد به)، وعتبة قصوى (الحد الأقصى من المثير الذي يستشعر الفرد عنده بتغيير الإحساس، مثل الدرجة التي يتغير عندها الإحساس اللمسي ليصبح إحساساً بالضغط). إلا أن مقدار كل عتبة منهما يختلف من فرد لآخر.

وتلعب الوراثة دوراً مهماً في تزويد الفرد بالإمكانات، التي يمكن أن تنمو بفعل التدريب. فقد نرث الاستعداد الموسيقي، ولكن من دون التدريب لن ينمو هذا الاستعداد. وقد بينت الدراسات أننا نرث الاستعداد للذكاء، والانفعال، واحتمال الإصابة بالمرض العقلي، والمرض النفسي.

2. الحالة الفسيولوجية

يُعَد الجهاز العصبي مسؤولاً عن تحقيق التكامل داخل الجسم، إذ يسيطر وينظم عمل ووظائف الجهاز الغدي والدوري، وحركات العضلات الإرادية وغير الإرادية. ولذلك فإن أي تأثير على الجهاز العصبي يؤثر في سلوك الشخص؛ فالأدوية المهدئة والمخدرات والحرمان من النوم، مثلاً، تؤثر على السلوك من خلال الجهاز العصبي.

وإذا كان للجهاز العصبي دوره المهم في السلوك، فإن للحالة الفسيولوجية للكائن -قبل وأثناء ممارسة السلوك- دورها في الأداء. فالجائع تكون استجابته للمثيرات المرتبطة بالطعام مختلفة عن غير الجائع، ومن ثَم، يمكن تعديل سلوك الشخص بالتحكم في حالته الفسيولوجية (بحرمانه من الطعام مثلاً لعدة ساعات) وبالتحكم في بيئته الخارجية (ظروف تقديم الطعام).

وينبغي الإشارة إلى أن الحالات الفسيولوجية للكائن قد تكون جِبِلية دائمة، مثل ضغط الدم، أو مؤقتة، مثل الحرمان من النوم أو الطعام.

3. الخبرات السابقة المُتعلَمة

يُعد كثير من الاستجابات نتيجة لتاريخ طويل من التعلم، ولذلك فإن التنبؤ بالسلوك إنما يكون على أساس معرفتنا بخبرات الشخص المكتسبة من قبل. فالطفل الذي تعلم البكاء من أجل الحصول على ما يريد، يظل يستخدم هذا السلوك كلما أراد شيئاً. وعلى ذلك فإن التنبؤ بسلوكه يكون على أساس ما تعلمه فيما سبق، أي أنه سيبكي إذا أراد الحصول على شيء ما.

والخبرات السابقة قد تكون فردية الطابع، مثل أن يتعلم الطفل ممارسة العدوانية كأسلوب للتعامل مع أقرانه. وقد تكون جماعية يتعلمها الفرد بناءً على ضغط الجماعة عليه للانصياع لمعاييرها؛ فلكل ثقافة أنماطها السلوكية الخاصة بها.

4. المؤثرات البيئية المحيطة بالفرد

يُقصد بالبيئة بمعناها العام مجموعة المؤثرات، أو المثيرات التي يتعرض لها الفرد ويستجيب لها استجابات متعددة، تساعده على التعامل معها. هذه المثيرات قد تكون جغرافية، كطبيعة البيئة وتضاريسها ومناخها. وقد تكون تاريخية متمثلة فيما مر به المجتمع من أحداث شكلت واقعه. وقد تكون اجتماعية ثقافية، كالعادات والتقاليد والقيم وأنماط التعامل الاجتماعي. وقد تكون سيكولوجية متمثلة في اهتمامات الفرد واتجاهاته وآرائه نحو الموضوعات المختلفة. وبهذا المعنى يختلف تأثير البيئة على الأفراد؛ فسلوك القروي يختلف عن سلوك الساحلي، وسلوك الطفل الأول يختلف عن سلوك الطفل الثاني والأخير.

أما البيئة بمعناها الخاص فهي الوقائع التي تسبق السلوك، أو النتائج المترتبة عليه. تلك الوقائع أو النتائج يمكن ملاحظتها وتسجيلها والتحكم فيها، بحيث يتغير السلوك. فالتلميذ الذي لا ينتبه إلى المعلم يمكن وضعه في الصف الأول أمام المدرس (تحكم في الوقائع التي تسبق السلوك)، ويمكن إثابته عندما ينتبه للمدرس (تحكم في النتائج). وبتكرار تدعيم السلوك المرغوب فيه وفقاً لأسلوب معين، تتكون لديه عادة الانتباه للمدرس.

رابعاً: تفسير السلوك

ينزع الناس إلى تفسير السلوك بطرق متعددة. فمنهم من يفسر سلوك الفرد بالربط بين مواضع النجوم وحركتها وبين سلوكه، ومنهم من يفسره بالربط بين عدد الحروف التي يتكون منها اسم الشخص أو عنوانه وسلوكه وتصرفاته، أو بالربط بين سلوك الشخص وفصول السنة والفصل الذي وُلد فيه، ومنهم من ذهب إلى المقارنة بين شكل الإنسان ونظائره من الحيوانات. فهذا صبور لأنه يشبه الجمل، وذاك مكار لأنه يشبه الثعلب. ومنهم من يفسره بحساب أبعاد الجسم الإنساني، وشكل الرأس، ولون العينين والجلد والشعر وخطوط راحة اليد (الكف)، وكذلك الملامح العامة للوجه.

وقد جرت محاولات عديدة لتفسير السلوك. فمن الباحثين من أرجع السلوك إلى مجموعة من الملكات الموجودة في المخ، مثل ملكة التخيل وملكة الذاكرة وغيرها. وكيف أن تدريب هذه الملكات يؤدي إلى تطوير السلوك وتحسينه؛ فحفظ كثير من الحكم والقواعد الأخلاقية يقوي الملكة الخاصة بالأخلاق، فتتحسن أخلاق الفرد وتصرفاته.

وفي مرحلة من مراحل التطور العلمي لعلم النفس، رأى بعض العلماء أن تفسير السلوك يكون بإرجاعه إلى مجموعة من الغرائز الموروثة. ومن هذه الغرائز مجموعة مرتبطة بالحاجات الفسيولوجية، كالجوع والعطش والجنس، ومجموعة من الميول الفطرية المتفاعلة مع الغرائز السابقة وتسهم في المحافظة على بقاء الفرد والنوع، مثل الميل إلى الاستيلاء والمقاتلة والدفاع، وميل فطري للملاحظة والتنقيب وحب الاستطلاع، وغريزة التجمع وغيرها.

إن التفسيرات السابقة تعكس أنه لا يمكن التحكم في الأسباب المؤدية للسلوك؛ فلا يمكن التحكم في حركة النجوم أو فصول السنة أو الملكات أو الغرائز. كما أن تلك التفسيرات تقوم على تصور السبب أو العامل الواحد، في حين أن السلوك معقد ومتشابك العوامل. ويبدو هذا التشابك من أن للسلوك شروطه الداخلية كالدوافع، وشروط خارجية هي المنبهات الحسية، التي لا بد منها لاستثارة الدوافع وتنشيطها؛ ولكن هناك وسيطاً بين الشروط الداخلية والخارجية وهو الجهاز العصبي والخبرات السابقة المتعلمة، والعوامل الجبلية الوراثية.

يتضح، مما سبق، أننا إذا أردنا تفسير السلوك فيجب عدم الاعتماد على عامل أو سبب واحد، بل على مجموعة من العوامل المتفاعلة. كما يجب عدم "التعميم" عند التفسير: "فهذا الولد مثل خاله" تعميم يتضمن أن كل تصرفاته ذات طابع عام خاص بها، وأن هذا الطابع منقول وراثياً من الخال إلى الولد. فالشخص العدواني –مثلاً- في موقف قد لا يكون كذلك في حضور مجموعة من الأقوياء الأشداء. ومن العوامل التي تساعد في تفسير السلوك، الاعتماد على الشواهد والأدلة التي يمكن التحقق منها؛ فنحن –مثلاً- لا نستطيع التحقق من وضع النجوم وحركتها، أو من وجود الجن المتحكم في سلوك الفرد.

وحتى يمكننا تفسير السلوك بطريقة علمية، يمكن إتباع الآتي:

·   ملاحظة الفعل أو السلوك أثناء وقوعه، حتى يمكن جمع أكبر قدر من المعلومات عن السلوك والظروف السابقة عليه، والظروف المصاحبة له، والنتائج المترتبة عليه. على أن تكون نظرتنا للسلوك موضوعية خالية من التحيز والانتقائية، لما يؤيد وجهة نظر الملاحظ.

·   الحكم على القصد. ويمكن التعرف على القصد من خلال التصرفات غير إرادية أو المتعمدة للفاعل؛ لأن الأفعال غير الإرادية قلما تُفسر أسباب تصرف الفاعل، مع أنها قد تكشف للملاحظ، في بعض الأحيان، إذا تمت بصورة معينة، عن حالة الفاعل الانفعالية. ويمكن التعرف على القصد بملاحظة سلوك الفاعل إذا ما أُعيق عن بلوغ هدفه، فإنه قد يلجأ إلى أسلوب آخر للوصول إلى الهدف نفسه. ومن معرفتنا لمقدار الجهد الذي يبذله الفرد لبلوغ هدف ما، نستطيع استنتاج نواياه، بل ومدى صدق هذه النوايا تجاه الهدف.

·   إرجاع السلوك إلى العوامل الشخصية أو النفسية، التي دفعت الفاعل إلى هذا السلوك، وإلى العوامل الموقفية التي أثارت السلوك. وليس معنى هذا تفسير السلوك بناءً على الحظ أو الصدفة، بل إلى قدرة الفرد وجهده وسماته وخصائصه.