إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات متنوعة / تراجم لأشهر الأطباء العرب خلال عصور النهضة الإسلامية









جابر بن حيان

التراجم

 

جابر بن حيان

(103 هـ، 721م) ـ (200 هـ، 815م )

نشأته وتعليمه

هو أبو موسى جابر بن حيان الأزدي، أختلف المؤرخون في مكان، وتاريخ مولده؛ ذُكر أنه ولد في مدينه حران في شمال العراق أو الشام، والأرجح أنه ولد في مدينة "طوس"، من أعمال خُراسان (إقليم بإيران اليوم).

وكان والده يعمل صيدلانياً وينتمي إلى قبيلة الأزد، وهي قبيلة يمنيه هاجرت إلى الكوفة، في عصر الدولة الأموية. وعاش في القرن الثامن الميلادي وعمل في مجال الكيمياء والصيدلة والطب، وكان عالماً أيضاً في الفلك والهندسة والجيولوجيا والفلسفة وعلم الطبيعة.

كان والده من أنصار الحكم العباسي وكان يؤازرهم ضد الأمويين؛ فأرسله العباسيون إلى خُراسان ليساندهم ضد الأمويين؛ ولكن قبض عليه هناك وأُعدم، وغادرت أسرته إلى اليمن. وهناك تعلم جابر القرآن والرياضيات. وبعد سيطرة العباسيين على الخلافة، رجع جابر وأسرته إلى الكوفة وبدأ ممارسه الطب تحت رعاية "جعفر البرامكي"، وزير الخليفة "هارون الرشيد".  وأصبح تلميذا وتابعا للإمام "جعفر الصادق". وتلقى جابر علومه أيضاً من "خالد بن يزيد بن معاوية"، ودرس مؤلفات معلمه في الكيمياء مثل: "كتاب الحرارات، والصحيفة الكبيرة، الصحيفة الصغيرة"، وكذلك ما كتبه سابقوه عن الكيمياء.

الكيمياء في عصره

بدأت الكيمياء مثل خرافة تستند على الأساطير البالية، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لأن العلماء في الحضارات ما قبل الحضارة الإسلامية كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة، مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير، كلها من نوع واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض متغيرة (نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة، النار والهواء والماء والتراب)؛ لذا يمكن تحويل هذه المعادن بعضها من بعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير. ومن هذا المنطلق تخيل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير الحياة، أو حجر الحكمة الذي يزيل علل الحياة ويطيل العمر.

وقد تأثر بعض العلماء العرب والمسلمين الأوائل، كجابر بن حيان وأبو بكر الرازي، بنظرية العناصر الأربعة، التي ورثها علماء العرب والمسلمين من اليونان؛ لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها. وأدت هذه الدراسة إلى وضع وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم التجريبية. فمحاولة معرفة مدى صحة نظرية العناصر الأربعة، ساعدت علماء العرب والمسلمين في الوقوف على عدد كبير جداً من المواد الكيماوية، وكذلك معرفة بعض التفاعلات الكيماوية؛ لذا يرجع الفضل إلى علماء المسلمين في تطوير اكتشاف بعض العمليات الكيميائية البسيطة مثل: التقطير والتسامي والترشيح والتبلور والملغمة والتكسيد. وبهذه العمليات البسيطة استطاع جهابذة العلم في مجال علم الكيمياء اختراع آلات متنوعة للتجارب العلمية، التي قادت علماء العصر الحديث إلى غزو الفضاء.

منجزاته

ويعد جابر بن حيان من أعظم علماء العالم العربي. وقد ترك جابر تراثاً علمياً كبيراً، يصل حوالي 112 كتاباً مهداه إلى وزير الخليفة هارون الرشيد، وسبعون كتاباً في الكيمياء، من بينهم كتاب الزهرة وكتاب الأحجار اللذان ترجما إلى اللاتينية، وبعض الكتب عن التوازن وتحتوى نظريته الشهيرة عن التوازن في الطبيعة. وذكر جابر في كتبه "فضل المصريين القدماء والإغريق والفرس على علم الكيمياء"، اعتماد جابر على إجراء التجارب الكيماوية، ويرجع له الفضل في اكتشاف واستعمال عشرين من الأدوات التي تستعمل في معامل الكيمياء الحديثة اليوم، وأشهرها جهاز الأمبيق للتقطير الكيماوي. وكان دقيقا في إجراء التجارب الكيميائية وكان يقول دائماً إن من الأساسيات المهمة في علم الكيمياء إجراء التجارب، للوصول إلى الحقيقة.

وجابر هو الذي أرسى علم معادلات الكيمياء الحديثة، وله الفضل في اكتشاف وسائل جديدة لتحسين صناعه الصلب ومنع الصدأ، وهي تستعمل حتى الآن، وكذلك صناعة الذهب ودبغ الجلود والصياغة واستعمال أكسيد الماغنسيوم في صناعة الزجاج، والتي تستعمل حتى الآن. كما نجح في اختراع نوع من الحبر للكتابة يمكن بواسطة رؤيته الكتابة ليلا، كما أخترع نوعاً من الورق يقاوم الماء والحريق. وقد أكتشف جابر عشرات المعادن والأحماض لأول مره في تاريخ الكيمياء، وحضر أيضا ماء الذهب والصودا الكاوية، ونجح في تحضير الأحماض، مثل حمض الكبريتيك، النيتريك، هيدوكوريك، واكتشاف المعادن مثل الزنك، انتمون، البزموت، الكبريت، الزئبق، التي أصبحت أساسا للكيمياء الحديثة.   

كما أضاف الجديد إلى عملية التبخير والتقطير والتبلور والمزج والتسيل. وهو أول من فصل معدن الذهب عن الفضة، باستعمال الحامض. وهى طريقة تستعمل حتى الآن.

عمد "جابر بن حيان" إلى التجربة في بحوثه، وآمن بها إيمانا عميقا. وكان يوصي تلاميذه بقوله:"وأول واجب أن تعمل وتجري التجارب، لأن من لا يعمل ويجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان. فعليك يا بني بالتجربة لتصل إلى المعرفة".

كما أهتم جابر بدراسة الطب والفلك، وكان عالما في الهندسة الكروية.ولقد مهد جابر الطريق للعلماء العرب من بعده في علم الكيمياء كالكندي والرازي، الذين عاشا خلال الفترة من القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر .

وفى العصور الوسطى ترجمت كتب جابر بن حيان إلى اللاتينية، وأصبحت مرجعا لهذا العلم في أوروبا لعده قرون، وبالأخص كتاب "الكيمياء"، الذي ترجم بواسطه روبرت شيستر عام (1144م)، وكتاب "السبعين" الذي ترجمه جيراردي كريمونه عام 1187م).

ولجابر بن حيان العديد من المؤلفات والكتب المهمة في العديد من المجالات، ويأتي على رأسها بالطبع علم الكيمياء، وغيرها العديد من المؤلفات في الطب، الفلك، الطبيعة، الفلسفة. وكتبه ترجمت إلى العديد من اللغات ليستفيد بها العالم أجمع، ومنها: كتاب الأحجار بأجزائه الأربعة، وكتاب الخاص، وكتاب الرحمة الذي تناول فيه إمكانية تحويل المعادن إلى ذهب، وكتاب القمر ويعني الفضة وكتاب الشمس ويعني الذهب، كتاب الأسرار، كتاب الزئبق، كتاب الموازين، كتاب الخواص، كتاب المماثلة والمقابلة، رسالة في الكيمياء، كتاب صندوق الحكمة، كتاب الوصية، كتاب السبعين، كتاب المائة والإثنى عشر، كتاب الخمسمائة، كتاب السموم ودفع مضارها وغيرها العديد من الكتب والمراجع العلمية.

وصفه ابن خلدون في مقدمته، وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء، فقال: "إمام المدونين فيها جابر بن حيان، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها "علم جابر"، وله فيها سبعون رسالة".

وقال عنه ماكس مايرهون "إن أثر جابر ابن حيان ونفوذه موجود بعمق في تاريخ الكيمياء الأوروبية"، وأكبر دليل على ذلك أن كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما تزال مستعملة في مختلف اللغات الأوروبية. وقال عنه المؤرخ الكيميائي أريك جون هولميارد "أن أهميه جابر بن حيان في تاريخ الكيمياء مساوية لعمل روبرت بويل ولافوازيه".

وقال عنه برتيلو Berthelot: "إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق".

وقال عنه الفيلسوف الإنجليزي "فرانسيس باكون": "إن جابر بن حيان هو أول من علم "علم الكيمياء" للعالم، فهو أبو الكيمياء".

وتكريماً لجابر بن حيان، أطلق أسمه على فوهة بركان بالقمر باسم (The Crater of Gaber)، وأيضاً أطلق عليه لقب "أبو الكيمياء الحديثة".

توفي "جابر بن حيان" عام 815م، في مدينه "طوس"، ببلاد فارس، تاركاً تراثاً عظيماً في علم الطب والكيمياء الحديثة.

___________________

ابن ماسويه

(161هـ، 777م) ـ (243هـ، 857م)

نشأته وتعليمه

أبو زكريا يحيي بن ماسويه الخوزي البغدادي؛ عالم مسيحي موسوعي بالطب والنبات والصيدلة وناقل ومترجم عاش في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، أبوه سرياني وأمه صقلبية، يعود له الفضل في تطور العديد من العلوم في العالم الإسلامي في العصر العباسي الأول.

ولد ابن ماسويه في مدينة جنديسابور بخوزستان، وانتقل مع أبيه الخبير بالصيدلة إلى مدينة بغداد حيث درس هناك الطب والصيدلة على يد أبيه والعلماء الآخرين، مثل جبريل بن بختيشوع. واتصل بكبار الأطباء والمترجمين وأتقن اللغات السريانية واليونانية والفارسية، إلى جانب العربية. وصار من أطباء قصر الخلافة وبيمارستان بغداد كطبيب ومترجم، شأنه شأن أبيه قبله. فولاه الخليفة هارون الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة. وكان يقام في قصره مجلس علم يحضره شيوخ الطب وعلماؤه يتشارون ويتجادلون في المسائل الطبية ومختلف العلوم، ما أشاع جواً علمياً في بغداد.

تخرج علي يديه عدد من مشاهير الأطباء والعلماء، منهم حنين بن إسحق. واتصل، بعد هارون الرشيد، بخلفائه، فخدم مع أربعة منهم طبيباً وجليساً ونديماً وسميراً وهم: المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل. فكان يسهر علي صحتهم وعلاجهم ويشرف علي غذائهم. وأصبح عظيم النفوذ وطائل الثروة وواسع الشهرة. ولعل اتصاله بالخليفة الواثق كان الأشد.

كان ابن ماسويه مهتما بعلم التشريح ومارسه على الحيوانات، ومن أهمها القرود التي كان يربيها في حديقة قصره ببغداد بوصفها من الحيوانات القريبة التكوين من الإنسان. ومن كتبه في هذا العلم كتاب "تركيب خلق الإنسان وأجزائه وعدد أعضائه".

ومن إسهاماته في علم الطب أنه أول من تعرف علي مرضي السيل القرني، وهو من أمراض العيون. وقد أدرك طبيعته الالتهابية، ووصف صورته السريرية، في أقدم وصف لطبيعة هذا المرض. كما يعد ابن ماسوية أول من وضع كتابا عن مرضي الجذام. وله كتب عديدة في الطب، من أهمها معرفة الكحالين وهو أقدم كتاب طب عربي كتب بأسلوب السؤال والجواب، وقد أختصر فيه كل أمراض العيون إلى زمانه، لكي يساعد طلبة الطب عند تقدمهم للامتحان لنيل لقب طبيب عيون؛ وكتاب دغل العين وهو بدوره أقدم كتاب تعليمي بالعربية في طب العيون.

وفي الطب النفسي ألف كتاباً عن المالينجوليا وأسبابها، وفي الطب النظري وفروعه ألف كتابا مختصرا في معرفة أجناس الطب؛ وله عدة كتب أيضا في علم الأدوية، وكتاب ذكر خواص مختارة علي ترتيب العلل، وكتاب جواهر الطبيب المفردة بصفاتها ومعادنها. وله كتاب (خواص الأغذية)، وكتاب في علوم الأرض، هو كتاب الأزمنة، وكتاب الحميات. ولقد ترجمت هذه الكتب إلى اللاتينية وطبعت عدة مرات. وله كذلك كتاب الكامل في الطب ومنه نسختان في المكتبة الوطنية بباريس، وكتاب الأدوية المسهلة ومنه نسخة في مكتبة أكسفورد ونسخة أخرى في سترأسبور.

قال عنه ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في طبقات الأطباء "كان طبيباً ذكياً فاضلاً خبيراً بصناعة الطب، وله كلام حسن وتصانيف مشهورة وكان مبجلا حظيا عند الخلفاء والملوك".

ووصل ابن مساويه إلى مرتبة كبيرة في مجال الطب، ففي عهد الخليفة المأمون عُين رئيساً لبيت الحكمة عام 830 م، وفي مدينة بغداد أسس ابن ماسويه أول كلية للطب في العالم الإسلامي. عاش عمره كله متنقلا بين مدينتي بغداد وسامراء.

وقد كانت معظم كتاباته بالعربية والسريانية، ومن أهمها:

كتاب الكامل، والأدوية المسهلة، وعلاج الصداع، والصوت والبحّة والفصد والحجامة، وكتاب الفولنج وكتاب البرهان، وكتاب الأشربة، وكتاب الجنين، وكتاب المعدة، وكتاب الجذام، وكتاب السموم وعلاجها، وكتاب نوادر الطب، وكتاب مختصر في معرفة أجناس الطب وذكر معدنه، وكتاب "المنجي في التداوي من صنوف الأمراض والشكاوي،" وكتاب "جواهر الطب المفردة بصفاتها ومعادنها"، و كتاب "النوادر الطبية".

كما له العديد من الكتب الطبية الأخرى في مجالات الغذاء وبعض الأمراض كالجذام، وتركيب الأدوية، والعلاج من السموم

توفي ابن ماسويه في سامراء عام 857 م ، تاركا ما يقرب من أربعين مصنفاً، بين كتاب ورسالة. وتاريخ بن ماسويه يعكس عظمة الحضارة الإسلامية في إيجاد جو فريد من التسامح الديني؛ فشارك في هذه النهضة كل من العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود.

___________________

الخوارزمي

(164هـ، 780م) ـ (236هـ، 850 م) 

نشأته وتعليمه

هو أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي القطربلى، نسبة إلى قرية قطربل في ضواحي بغداد. رياضي وفلكي وجغرافي، ولد عام 780م وتوفى في بغداد عام 850م. ويعد الخوارزمي من أكبر علماء الإسلام، ومن العلماء العاملين الذين كان لهم تأثير كبير على العلوم الرياضية والفلكية. وهو من أوائل علماء الرياضيات المسلمين إذ أسهمت أعماله بدور كبير في تقدم الرياضيات في عصره. ويعد الخوارزمي أول من فصل علمي الحساب والجبر، كما أنه أول من عالج الجبر بأسلوب منطقي علمي. وقد انطلقت نهضة أوروبا في العلوم الرياضية مما أخذه عنه رياضيوها. وقد ابتكر الخوارزمي مفهوم "الخوارزمية" في الرياضيات وعلوم الحاسوب (ما أعطاه لقب أبى علم الحاسوب عند بعض الناس) حتى أن كلمة "خوارزمية" في العديد من اللغات، ومنها Algorithm بالانجليزية، اشتقت من اسمه. وقام الخوارزمي بأعمال مهمة في حقول الجبر والمثلثات والفلك والجغرافيا ورسم الخرائط، كما أدت أعماله المنهجية والمنطقية في حل المعادلات من الدرجة الثانية إلى نشوء علم الجبر، حتى أن العلم أخذ اسمه من كتابه "الجبر والمقابلة"، الذي نشره عام 830م. وانتقلت هذه الكلمة إلى العديد من اللغات Algebra في الانجليزية.

وكانت أعمال الخوارزمي الكبيرة في مجال الرياضيات نتيجة لأبحاثه الخاصة، إلا أنه أنجز الكثير في تجميع وتطوير المعلومات، التي كانت موجودة مسبقا عند الإغريق وفى الهند فأعطاها طابعه الخاص من الالتزام بالمنطق. وبفضل الخوارزمي يستخدم العالم الأعداد العربية، التي غيّرت، وبشكل جذري، مفهومنا عن الأعداد. كما أنه أدخل مفهوم العدد (صفر)، وانتشرت الأرقام العربية التسعة بتقديمها الصفر في كل أنحاء أوروبا.

وفى مجال الجغرافيا، صحح الخوارزمي أبحاث العالم الإغريقي "بطليموس"، معتمداً على أبحاثه الخاصة. كما أنه أشرف على عمل 70 جغرافيا لانجاز أول خريطة للعالم، وذلك كطلب الخليفة المأمون. وتوجد نسخة واحدة من كتاب صورة الأرض محفوظة في مكتبة جامعة ستراسبورج. كما كتب الخوارزمي، أيضاً، عن الساعة والإسطرلاب والساعة الشمسية.

وفى مجال علم الفلك، وضع جداول "فلكية زيجا"، وكان لهذا الزيج الأثر الكبير على الجداول الأخرى، التي وضعها العرب فيما بعد، إذ استعانوا به واعتمدوا عليه وأخذوا منه.

وقد أنجز الخوارزمي معظم أبحاثه بين عامي 813 و833م، في دار الحكمة التي أسسها الخليفة المأمون. إذ إن المأمون عينه على رأس خزانه كتبه، وعهد إليه بجمع الكتب اليونانية وترجمتها. واستفاد الخوارزمي من الكتب التي كانت متوافرة في خزانة المأمون، فدرس الرياضيات والجغرافيا والفلك والتاريخ، إضافة إلى إحاطته بالمعارف اليونانية والهندية. ونشر كل أعماله باللغة العربية، التي كانت لغة العلم في ذلك العصر.

وعند وفاة المأمون استمر الخوارزمي يخدم خلفاء بغداد، حتى أرسله الواثق بعد ذلك في رحلتين، الأولى إلى بلاط البيزنطيين لزيارة "كهف الرقيم" في آسيا الصغرى، والثانية إلى بلاد "الخزر" بعدما تراءى للخليفة في منامه أن سد يأجوج ومأجوج، الذي بناه الإسكندر لوقف زحف هذه القبائل، قد انفتح، وأن عشائرها في سبيلها إلى مهاجمته.

ترك الخوارزمي العديد من المؤلفات، ويعد كتابه عن "الجبر والمقابلة" من أشهرها، وهو الكتاب الذي يحتاج الناس إليه في معرفة مواريثهم ووصاياهم، وفى مقاسمتهم وأحكامهم وتجارتهم، وفى جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضيين. ويعالج الكتاب المعاملات التي تجرى بين الناس، كالبيع والشراء وصرافة الدراهم والتأجير. كما يبحث في أعمال مسح الأرض، فيعين وحدة القياس ويقوم بأعمال تطبيقية تتناول مساحة بعض السطوح ومساحة الدائرة ومساحة قطعة الدائرة.

وقد تُرجم الكتاب إلى اللاتينية بواسطة "روبرت تشستر" عام 1145م، وجيرارد دى كريمونا. وتوجد نسخة عربية فريدة محفوظة في أكسفورد، ونسخة لاتينية محفوظة في كامبريدج.

ويعد الجبر هو النص التأسيسي للجبر الحديث. وقد عرف الخوارزمي جميع عناصر المعادلة الجبرية، كما نفهمها اليوم. وألف الخوارزمي كتابا تعليميا صغير الحجم في علم الحساب، شرح فيه طرق الجمع والطرح والقسمة والضرب وحساب الكسور. ونقل هذا الكتيب إلى أسبانيا وترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر. وقد حمل الكتاب المترجم إلى الأراضي الألمانية، وترجع أول نسخة منه إلى عام 1143م وتوجد في مكتبة البلاط في "فيينا". ولم يقتصر جهد الخوارزمي على تعليم الغرب كتابة الأعداد والحساب، بل تخطى تلك المرحلة إلى المعقد من مشاكل الرياضيات؛ ومازالت القاعدة الحسابية الجروسميس حتى اليوم تحمل اسمه كعلم من أعلامها.

وقد وصف (سارتون) الخوارزمي بأنه أكبر العلماء الرياضيين، على الإطلاق.

وفى القرن الثاني عشر انتشرت أعماله في أوروبا من خلال الترجمات اللاتينية، التي كان لها دور كبير في تقدم علم الرياضيات في أوروبا. وأصبح كتابه الخاص بالجبر هو الذي يدرّس في الجامعات الأوروبية عن الرياضيات حتى القرن السادس عشر.

ونظرا لإسهاماته استحق وبجدارة أن يطلق اسمه على إحدى الفوهات البركانية، على سطح القمر.

___________________

الطبري

(164هـ، 780م) ـ (247هـ، 861م) 

نشأته وتعليمه

هو أبو الحسن علي بن سهل بَن ربن الطبري. ولد في مرو في طبرستان عام 780م، وهو ينحدر من أسرة فارسية مسيحية، أما لقب ربَن فيعني الأستاذ الجليل.

كان والده سهل عالماً بارعاً في الطب والهندسة والتنجيم والرياضيات والفلسفة.

ويقال إنه ترجم إلي العربية كتاب "المجسطي" لبطليموس. وقد تلقي أبو الحسن دراسته الأولي علي يد والده، الذي علمه الطب والهندسة والفلسفة، إلى جانب اللغتين العربية والسريانية. وبعد وفاة والده تعمق في دراسة الطب وأصبح طبيباً مشهوراً.

مارس أبو الحسن الطب وتدريسه في مدينة (الري)، وكان من تلاميذه أشهر طبيب في العصر الإسلامي، وهو العالم الكبير "أبو بكر الرازي"، ثم ذهب إلي العراق واستقر بمدينة (سامراء) حيث صار كاتبا للخليفة المعتصم، والواثق، والمتوكل. وأعتنق الإسلام علي يد الخليفة المعتصم، الذي لقبه بلقب "مولي أمير المؤمنين"، ولشرف فضله جعله من ندمائه.

أهم مؤلفاته

من أشهر مؤلفاته كتاب " فردوس الحكمة" عام 850 م، وهو موسوعة طبية تطرق فيه لجميع فروع الطب، إضافة إلي بحوث في الفلسفة وعلم النفس والحيوان والفلك والظواهر الجوية. وقد كتبه بالعربية، وترجمه في الوقت نفسه إلي السريانية، ونشرت منه عدة نسخ في بلدان مختلفة. وطبع بالهند عام 1928م.

وتتجلي الإسهامات العلمية للطبري في تصنيفه في عدد من الموضوعات، الطبية التي تطرق لها بتفصيل في كتابه "فردوس الحكمة"، ومنها وضع المبادئ العامة للطب وقواعد الحفاظ علي الصحة الجيدة والوقاية من الأمراض. وذكر بعض الأمراض، التي تصيب العضلات، إضافة إلى مناقشة جميع الأمراض من الرأس إلى القدم، وأمراض الرأس والدماغ، وأمراض العين والأنف والأذن والفم والأسنان، وأمراض الصدر والرئة، وأمراض البطن والكبد والأمعاء، وأنواع الحمى.

كما تحدث عن طب الأطفال، ونمو الطفل، وعلم النفس والعلاج النفسي بالتفصيل، عن طريق نظام المشورة الحكيمة وكيفية التعامل مع المرضي النفسيين، وهو نظام يؤسس علاقة مع المرضي ويكسب ثقتهم ويؤدي، في النهاية، إلي نتائج إيجابية. كما تعرض للعقاقير والسموم ووصف لكل مستحضر النكهة والطعم واللون، في كتاب "ترتيب الأغذية ومنافع الأطعمة والأشربة والعقاقير".

وفي عام 996، ونظراً لأهمية موسوعة "فردوس الحكمة" في وضع قواعد وأسس الطب الحديث، طبعت هذه الموسوعة ونشرت من طرف معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، من جامعة فرانكفورت الألمانية. وتتألف هذه الموسوعة من سبعة أجزاء، بها ثلاثين مقالة، وتحتوي هذه المقالات على ثلاثمائة وستين باباً. وبذلك نرى كيف أسهم العالم الكبير الطبري في وضع أسس الطب الحديث، منذ أكثر من ألف عام.

___________________

الكندي

(185 هـ،  805م) ـ (256 هـ، 873م)

نشأته وتعليمه

هو أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق بن الصباح الكندي، فليسوف العرب وأحد أبناء ملوكها. ولد الكندي في مدينة الكوفة بالعراق، وكان والده حاكماً لمدينة الكوفة أيام الخليفة المهدي ثم الرشيد. رحل الابن إلى بغداد لتلقى مزيداً من العلم. وبعد دراسته في مدينة بغداد انضم إلى بيت ألحكمه، الذي أنشأه الخليفة العباسي "المأمون"، ليجمع فيه العلماء في مختلف التخصصات، لإيجاد نهضة علميه تقوم على ترجمة كتب العلماء من اليونان والهند وبلاد فارس والإسكندرية، وتحليلها ونقدها وإضافة الفكر الجديد، بناء على الممارسة والبحث العلمي في المجالات المختلفة.

منجزاته

اختار الخليفة العباسي الكندي للقيام والأشراف على ترجمة كتب الفلسفة والطب الإغريقية، ما كان له أكبر الأثر في كتابة مؤلفاته في الفلسفة والطب والصيدلة، وغيرها في العلوم المختلفة. ففي مجال الرياضيات كان للكندي الفضل في نقل الأرقام الهندية إلى العربية، ثم إلى العالم الأوروبي بعد ذلك. وصمم ميزاناً حساساً لتقييم جرعة الدواء المناسبة للمرضى، وأيضاً أدخل الموسيقى في العلاج. ويرجع له الفضل في نقل الفلسفة الإغريقية إلى العالم الإسلامي، ولذلك لقب "بفيلسوف العرب". وقال عنه عالم عصر النهضة الايطالي "جيرولامو جراندو" 1501 م أنه واحد من اثنتي عشر عالماً، من أعظم العلماء في العصور الوسطى، وطبقاً لما أورده ابن النديم فإن الكندي ألف مائتين وستين كتاباً، منهم ثلاثين كتاباً في الطب. وكان أثره في علم الطب والفلسفة والموسيقى كبيراً، واستمر عدة قرون. وقد ترجمت بعض مؤلفاته بواسطة "جيراردو الكريموني"، ويوجد الآن 24 كتاباً من مؤلفاته في المكتبة التركية.

وقد برع الكندي في تطبيق علم الحسابات في مجال الطب، فأوجد وسيله لقياس الجرعة المناسبة للدواء لإعطائها للمرضى. وسجل في كتابه أول تفسير علمي وعلاج لمرضى الصرع، ووصف العشرات من الأدوية من أصل نباتي لعلاج مختلف الأمراض. وكتابه "كيمياء العطر"، أحتوى على عشرات الأدوية البديلة للأدوية الغالية الثمن في عصره.

وكان عالماً، أيضاً، في الموسيقى، وهو الذي أضاف الوتر الخامس لآلة العود، وهو الذي أورد في كتبه لفظ "الموسيقى" لأول مرة، والذي استعمل بعد ذلك في معظم اللغات. وفي مجال علم النفس، كان الكندي من أوائل المبدعين في هذا المجال أثبت أهمية الموسيقى في علاج الأمراض العصبية والنفسية.

أهم مؤلفاته

ترك مكتبة عظيمة من تأليفه في مختلف المجالات، وما بين كتاب ورسالة وتلخيص وشرح وتطبيق.

كما يمكن القول إن يعقوب بن إسحاق الكندي يُعد من الأطباء النقلة، الذي نقلوا من لغات أخرى الكثير من الكتب باللغة العربية. فقد كان عالماً باللغات الأربع غريبها ومستعملها: العربية والسريانية واليونانية والفارسية، وكان نقله في غاية من الجودة.

توفي الكندي عام 874م في عهد الخليفة المعتمد في بغداد، تاركاً كتبه القيمة في الطب والفلسفة والرياضيات وعلم النفس والفلك، نقطة مضيئة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

___________________

حُنين بن إسحاق

(194هـ، 810م) ـ (260 هـ، 873م)

نشأته وتعليمه

هو أبو يزيد حنين بن إسحاق العِبادي. نَبَغَ في الترجمة والتأليف الطبي.

وُلِدَ حُنين في الحيرة وبها نشأ، وكان والده يعمل في الصيدلة والصيرفة. حاول دراسة الطب في بغداد، أولاً، على يد يوحنا ابن ماسويه، فلم يوفق بسبب موقف ابن ماسويه السلبي منه. فقد كان ابن ماسويه متعصباً لأهل الأهواز وكان يقلل من شأن أهل الحيرة، وربما نَفَرَ ابن ماسويه من كثرة أسئلة حُنين فانتهره فغادر حُنين بغداد إلى الأهواز ثم إلى الشام والإسكندرية وبلاد الروم، مصمماً أن يُتقِنَ اللغة الإغريقية وأن ينهي دراساته الطبية النظرية، وأن يبرهن على جدارته وأنه أهل لأن يتعلم الطب. وبذلك غاب عن بغداد بضع سنين ثم عاد إليها وقد بَرَعَ باللغة اليونانية، وصار قادراً على الترجمة منها بكفاية متميزة.

وفي بغداد اتصل بأبي عيسى جبرائيل بن بختيشوع، وبعد ذلك رغب إلى يوسف بن إبراهيم أن يُطْلِعَ ابن ماسويه على أنموذجٍ من ترجماته، ففعل ذلك، وكانت هذه الترجمات من الدقة بحيث أن ابن ماسويه كاد أن لا يصدق ما يرى ويسمع.  ثم بعدها سأل يوسف بن إبراهيم أن يُصْلِحَ الأمر بينه وبين حُنين ففعل. وعادا إلى التصافي والتعاون، حتى إن ابن ماسويه أهدى إلى حُنين أحد أهم كتبه وهو «الفصول». وصلت شهرة حُنين إلى الخليفة المأمون الذي طلب منه القيام بترجمة بعض النصوص اليونانية الهامة إلى العربية كما طلب إليه تصحيح بعض الترجمات القديمة وغدا حُنين من المقربين في بلاط المأمون وبلاط المعتصم بعد وفاة المأمون، وكان أيضاً على صداقة قوية بسلمويه بن بنان، رئيس أطباء بغداد، وكانت هذه الصداقة معيناً لحنين في بلاط الخلفاء العباسيين، فقد كان يحضر مجالس كبار العلماء الذين كانوا في بلاط الخليفة الواثق (227-232هـ).

استمر نجم حُنين في الصعود أيام المتوكل على الله (232 ـ 247هـ)، فصار من أهم مترجمي بغداد ورئيساً لأطبائها، إلا أنه عانى معاناة شديدة من مزاج الخليفة المتقلب، الذي نكبه مرتين: الأولى عندما رفض حُنين أن يصف للخليفة سُماً لقتل أحد أعدائه، وذلك بسبب رادع الدين لديه وأخلاق مهنة الطب عنده؛ والثانية عندما اتُهِمَ حُنين بالزندقة، ورضخ المتوكل لوشاية حُسَّاد حُنين من أطباء بغداد ودسائسهم ؛ لكن المتوكل ما لبث أن أعاد الاعتبار لحنين واعتذر له، إلا أن مكتبة حُنين التي صُودِرَت في نكبته الثانية لم تعد إليه لأنها تفرقت وضاعت. وكانت هذه المكتبة تحتوي على أندر المخطوطات التي قام برحلاتٍ كثيرة وطويلة على مدى سنين يجمعها، من الجزيرة الفراتية والشام وفلسطين ومصر وبلاد الروم.

وقد عاصر حُنين، بعد مقتل المتوكل، خمسة من الخلفاء العباسيين. وتوفي أيام الخليفة المعتمد.

منجزاته

عرف عن حُنين بن إسحاق أن ترجمته للكتب من الإغريقية إلى العربية، لا تحتاج أبدا إلى تصحيح؛ ولذلك لإتقانه اللغتين بدرجة كبيرة حتى لقب "بشيخ المترجمين"، وأحد مؤسسي الطب الإسلامي. وخلال حياته كتب حُنين بن إسحاق 116 كتاباً في مختلف العلوم والطب، منها 21 كتابا في الطب. وقد شاركه في عمله في ترجمة الكتب الأغريقية ابنه إسحاق بن حُنين، وكذلك ابن عمه "حبيش"، الذي كان يترجم الكتب السريانية إلى العربية ويلخصها، ما جعل العلماء والأطباء العرب، وفي خلال مائة عام، ملمون بجميع المعلومات في الطب الإغريقي، وأضافوا إليه الكثير بعد ممارستهم الطب وزيادة خبرتهم في مجال تشخيص الأمراض، التي لم تكن معروفة قبل ذلك الوقت. وإضافة طرق العلاج الجديدة لمختلف الأمراض.ومن أهم مؤلفات حُنين بن إسحاق" كتاب " الأجلوكان في شفاء الأمراض"، وهو ملخص كتاب جالينيوس، بجانب خبرة ابن إسحاق في تشخيص وعلاج الأمراض، ويتكون من جزءين، وبه تفاصيل كاملة عن الحميات والأمراض الالتهابية المختلفة، بجانب وصف كامل لتحضير عدد 150 دواء.

 وكان حُنين وتلامذته في ترجماتهم يبتعدون عن أسلوب النقل الحرفي وعن التقيد بالألفاظ، ويحرصون على نقل المعنى بأبسط الصور وأوضحها؛ لذلك نجحت ترجماتهم نجاحاً منقطع النظير.

وقد لاحظ حُنين مدى افتقار اللغة العربية إلى المصطلحات العلمية والفلسفية، التي تزخر بها اللغات الأخرى كاليونانية والسريانية والفارسية؛ فحرص على اختيار المصطلحات الفنية المناسبة التي لم يتمكن التراجمة الأوائل من وضعها، وقام حُنين بهذه المهمة وحيداً دون الاستعانة بجهود اللغويين.

وقد كُتِبَ للاصطلاحات التي استعملها حُنين البقاء والاستقرار، فثبتها كل المؤلفين الذين جاؤوا بعده. وقد لجأ إلى أساليب عدة في وضع المصطلح العلمي بالعربية، كالاشتقاق والمجاز أو الافتراض.

ومؤلفات حُنين كثيرة ولها دور رئيسي في تاريخ الطب؛ فقد نقل عنها المؤلفون أو اختصروها أو شرحوها، وأصبحت بفضل هذه الشروح مادة لتدريس طلبة الطب في مدارس دمشق، حتى القرن الثالث عشر الميلادي.

ومن المعروف أن حُنين لم يمتلك الوقت الكافي لممارسة التطبيب عملياً، في عيادةٍ خاصةٍ به.

وكتابه "أسئلة عن الطب" من الكتب المهمة في التدريس لطلبة الطب، ويعد دليلاً رائعاً للأطباء في بداية حياتهم المهنية. ومحتوياته في شكل أسئلة عن جوانب الطب ثم الإجابة عليها بطريقة واضحة كبداية لفهم المعلومات المعقدة بعد ذلك، أثناء الدراسة والممارسة.

ومن التخصصات الطبية التي أتقنها حُنين بن إسحاق، علم أمراض العيون. ويعد كتابه بعنوان "عشرة وثائق في أمراض العيون"، مرجعاً مهماً في علم أمراض العيون. فهو يشرح فيه تكوين العين والأمراض التي تصيبها من التهابات وتقرحات بالقرنية وطرق علاجها بالدواء والعمليات الجراحية. ويبين هذا الكتاب خبرة حُنين بن إسحاق ليس فقط كطبيب ماهر، ولكن أيضاً جراحاً بارعاً.

وبعد حياة حافلة بالإنجازات العلمية، توفى حُنين بن إسحاق عام 873م، تاركاً حجر الأساس في تأسيس الطب الإسلامي، الذي أصبح بعد ذلك أساساً لقيام النهضة الطبية الأوروبية الحديثة.

___________________

عباس بن فرناس

(194هـ، 810م) ـ (274 هـ، 887م)

نشأته وتعليمه

هو أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس التاكُروني، نسبة إلى كورة تاكرين في الأندلس، التي يقال لها في بعض المصادر منطقة رُنده. يُعدُّ من طلائع علماء الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، ومن عباقرتهم الموسوعيين، الذين ظهروا في مطلع القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وما بعدهما، ممّن شاركوا في تأسيس نهضة حضارية رائعة في جو من حرية فكرية سادت الأندلس. وفي هذه الحقبة التاريخية الفريدة ظهرت كوكبة من علماء الفكر العربي وطَّدت أُسس نهضة علمية، في ميادين الفلسفة والأدب والفن والطب والرياضيات والنبات والكيمياء.

عاش "عباس بن فرناس"، في أمارة قرطبة، في عصر الدولة الأموية وتلقى تعليمه بقرطبة ودرس علم الكيمياء والطبيعة وعلم الفلك. وكان يتقن الشعر وعلم التنجيم. وعندما تولى الخليفة "عبدالرحمن الثاني" حكم الأندلس، بدء في البحث عن الموهوبين من أبناء الأندلس لينضموا إلى مجلسه، فأختار أثنين من الشباب:

الأول: الموسيقار الشهير زرياب

والثاني: عباس بن فرناس، نظراً لإتقانه الشعر وعلم التنجيم.

وبعد وفاة الخليفة عبدالرحمن الثاني، عام 852م، استمر بن فرناس في حضور مجلس الخليفة محمد حاكم الأندلس الجديد.

منجزاته

أما عن اختراعاته، فقد أضاف الكثير إلى الحضارة الإسلامية. فاخترع الساعة المائية وأطلق عليها اسم "الميقاتة". وصمم جهازاً لدراسة حركة النجوم، كما اخترع طريقة لصناعة الزجاج عديم اللون، وقدم العدسات البصرية لتصحيح رؤية العين، ما ساعد أطباء العيون. واخترع وسيلة لتقطيع الكريستال الصخري، الذي كان يصدر خصيصا من الأندلس إلى مصر لتقطيعه، ثم أعادته إلى الأندلس.

كان ابن فرناس عاشقاً لعلم الفلك، فشيد مرصداً وقبة سماوية بمنزله لدراسة حركة الأجرام السماوية، وأصبح خبيراً في حركة النجوم.

أما عن علاقته بالطيران، فهو أول من حاول التحليق في الفضاء، وهذا هو السبب الأساسي في شهرته في تاريخ الانجازات البشرية.

كانت المحاولة الأولى له في الطيران في قرطبة، من خلال اختراعه لأول وسيلة للتحليق تشبه المظلة الهوائية (الباراشوت). وقفز بها من أعلى منارة جامع قرطبة في عام 852م، وكانت محاولة ناجحة.

وكانت المحاولة الثانية في عام 875م، عندما حاول الطيران بعد أن صنع أجنحة خشبية كبيرة، مغطاة بطبقة من الحرير وريش الطيور الجارحة. وبدأ المحاولة من برج يطل على وادي فسيح أمام عدد غفير، وحشد هائل من المشاهدين دعاهم لحضور هذه المحاولة. وكان بينهم زميله في مجلس الخليفة "محمد"، الشاعر "المؤمن بن سعيد"، الذي سجل هذا الحدث. وقد نجح في أن يمكث في الفضاء حوالي عشر دقائق، وعندما حاول الهبوط أصيب بكسر في ساقيه، لأنه أخطأ ولم يضف الذيل إلى اختراعه الذي صممه، كما ذكر في مذكراته بعد ذلك؛ ولكنها كانت محاولة ناجحة لتحليق الإنسان في الفضاء. وقد كانت هذه المحاولة هي أول محاولة للطيران في التاريخ البشري، وأستمر تأثيرها عدة قرون بعد ذلك، حتى اختراع البالون، ثم الطائرة بواسطة الأخوان رايت.

يذكر المستشرق "بروفنسال" في دائرة المعارف الإسلامية أن عباس بن فرناس رحل إلى العراق، ثم عاد إلى الأندلس وهو يحمل كتاب "السند هند" في الرياضيات؛ وأتقن الموسيقى وصناعة بعض آلاتها، وأجاد العمل بالرسم الهندسي حتى غدا من المهندسين المعماريين. كما برز في الشعر وقول الموشحات وتلحينها وغنائها مشاركة على آلة العود. إضافةً إلى براعته وإتقانه اللغة اليونانية، التي ترجم بعض كتب الفلسفة والموسيقى عنها إلى العربية.

ومن المؤسف أن معظم آثاره ومؤلفاته وترجماته فُقدت، ولم يبق منها إلا بعض أخبارها في بطون المصادر، مستقاة ممن تَرْجَمَ لحياته، أو أُخذَ عنه.

يقول المقري في كتابه "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب"، إن ابن فرناس "صنع في بيته هيئة السماء. وخَيَّل للناظر فيها النجوم والغيوم والبرق والرعد..." واستطاع أن يُحدث فيها ظواهر الرعد والبرق وسقوط رذاذات من الماء على هيئة مطر، بطرق آلية وربما بوساطة بعض الآلات والأدوات التي توصَّل إلى صنعها، ووضعها في أماكن معينة من القبة، التي أجرى فيها تجربته.

اهتمامه بدراسة الفلك وظواهر السماء، قاداه إلى اختراع بعض الآلات الفلكية، ومن أهمها آلة (ذات الحلق) كي يستخدمها لرصد الكواكب السيارة والنجوم، ولتبين مواضع القمر من الشمس أو بدائرة البروج.

يعدُّ أوَّلَ من أبدع قلم الحبر السائل، وهو آلة اسطوانية الشكل تتغذى بحبر سائل يُستخدم للكتابة، فسبق في صناعتها العالِمَ (ستيلو) بقرون عديدة، وسبق العالم (شيفر) الذي ابتكر عام 1809م قلم حبر بخزان، وسبق (واترمان) بنحو ألف عام. وقد ذكر حسين مؤنس في كتابة «معالم تاريخ المغرب والأندلس» هذا الابتكار لابن فرناس، وكيف كان له الأثر البالغ في تطوير الكتابة، وتسهيل أمر التأليف.

كما أبدع في تطويع أدوات للزينة من الفضة والذهب وسبكها وزخرفتها، وكان لها سوق رائجة في الأندلس، وخاصة في الأوساط المترفة وبلاطات الحكام. وذكرت بعض المصادر أن ابن فرناس جعل في بيته مخبراً مزوداً بكل ما يلزم من أدوات لأعمال الصياغة. وكان اعتماده على النار للوصول إلى صهر المواد أو المعادن، أو تسخين العناصر الكيماوية التي يستخدمها لإجراء تجاربة. إذ جاء في تاريخ المغرب والأندلس للعبادي "أنه أحرق النار ببيته، وأنه كانت تخرج من داره قناة فيها ماء أحمر كأنه دم".

يعد ابن فرناس أول من فك رموز الموسيقى في الأندلس، وأول من أدخل عليها علم العروض الذي وضعه الفراهيدي، وفك رموزها، ودرس الموسيقى اليونانية، وترجم بعض المؤلفات الموسيقية، ودرس مصطلحاتها بهدف الوصول إلى التطبيق العملي، ومحاولة استخدامها على آلة العود، التي كان يجيد العزف عليها، واستعان بما توصل إليه فيثاغورس ت 503 ق.م، في أن مدة النغمة تختلف باختلاف طول الوتر.

توفى أبن فرناس بعد محاولته الطيران باثني عشر عاما، وتخليدا لذكراه أطلق أسمه على فوهة بركان من براكين القمر؛ فهو الذي مهد لطيران الإنسان في الفضاء، ومهد لاختراع الطائرات الحديثة.

___________________

ثابت بن قرة

(221 هـ، 836م) ـ (288 هـ، 900م)

نشأته وتعليمه

ولد ثابت بن قرة بن مروان بن ثابت بن إبراهيم، وكنيته أبو الحسن، عام 836م في حران من أرض الجزيرة شمال العراق (تركيا الآن). وكان على مذهب الصابئة، وفي شبابه اعتنق الإسلام وخرج من حران إلى كفر توما، وهناك لقي محمد بن موسى (الخوارزمي) الذي كان قيما على بيت الحكمة ببغداد، فأعجب بذكاء ثابت وفصاحته فأصطحبه معه إلى بغداد ووصله بالخليفة "المعتضد". وكان المعتضد يميل إلى أهل المواهب ويخص أصحابها بعطفه وعطاياه، ويعدهم من المقربين إليه. ويروى أنه أقطع ثابت بن قره، كما أقطع سواه من ذوي النبوغ، ضياعاً كثيرة، وصارت له حظوة ومكانة عنده.

منجزاته

نبغ ثابت في عدد كبير من العلوم. فقد برع في الطب والرياضيات والفلك، وأتقن عدداً من اللغات التي يترجم وينقل منها بمهارة واقتدار، فجاءت ترجماته متسمة بالسهولة والوضوح.

ولقد شهد ذلك العصر نهضة كبيره في حركة الترجمة والنقل، للعديد من الموسوعات والكتب العلمية القيمة، التي كتبت باللغات اليونانية والسريانية وغيرها، إلى اللغة العربية. وكان ثابت بن قرة أحد كبار المترجمين، الذين برزوا في مجال الترجمة في القرن التاسع الميلادي، وواحداً من أولئك النقلة العظام الذين قادوا حركة الترجمة والنقل. وكانوا بمثابة الجسر الذي وصل ما بين الثقافة العربية، من جهة، والثقافات السريانية واليونانية والعبرية، من جهة أخرى.

كما يعد ثابت أحد الأطباء العرب البارزين، وأحد أعلام عصره المعدودين، بل إن تأثيره امتد ليصل إلى القرون التالية له. فقد ظلت آثاره مرجعا مهما لطلاب العلم والباحثين في أنحاء الدنيا لعدة قرون.

وكان ثابت مهتماً بالأمراض الجلدية، وتشخيصها وعلاجها، وكذلك مستحضرات وأدوية التجميل. وقد تحدث عن الأمراض التي تصيب سطح جلد الوجه مثل: الكلف، والآثار السوداء، وأثار مرض الجدرى، كما تحدث عن القروح، والبرص، والحكة، والبهاق بنوعيه الأبيض والأسود، والسعفة، والحزاز، وأمراض الشعر، وكذلك تحدث عن الهزال والسمنة وذكر أسبابها وآثارها ووسائل علاجها. وتطرق إلى أمراض الرأس فذكر أنواع الصداع، كما تعرض لأنواع الشقيقة وذكر ما يقوى الرأس وينقي الدماغ من الأدوية والأغذية، وأوضح كذلك الأثر الضار للدسم والدهون على صحة الإنسان. وكانت له خبرة كبيرة في الأمراض العصبية والعقلية والنفسية، واستطاع أن يشخص السكتة والصرع ويفرق بينهما، كما وصف التشنج وذكر أسبابه وعلاجه. كما وصف عدداً من الأمراض النفسية، مثل المالنجوليا.

وله كذلك دراسات وأبحاث في الأمراض الجنسية وأمراض الذكورة؛ وقد تناول أسبابها، وأوضح أعراضها وعلاجها. كما تناول أمراض النساء والتوليد، فتحدث عن اختناق الأرحام، وأضرار الطمث وحبسه، وأسباب الحمل وانقطاعه، وعسر الولادة وكيفية إخراج الجنين الميت والمشيمة.

وأهتم، أيضاً، بطب الأطفال، وله أراء قيمة في زيادة لبن الأم وقطعه، والأمراض التي تصيب الأطفال، كالحصبة والجدري.

كما أثبت تفوقاً في مجال طب العيون وتشريح العين، وتحدث عن الأمراض التي تصيب العين، كالرمد، والمياه البيضاء والزرقاء، ما يعترى العين من جحوظ. وتحدث عن ضعف البصر وذكر أسبابه، وقدم النصائح التي تقي منه. وبرع كذلك في أمراض الأنف والأذن والحنجرة، وتشخيصها وعلاجها.

وتناول ما يصيب الجهاز التنفسي من أمراض، كالربو، والزكام، والنزلة؛ وفرق بدقة بين النزلة والزكام، ووصف بعض الأمراض التي تصيب الرئتين، كالسل. وتحدث عن أمراض القلب.

وتطرق أيضاً إلى أمراض الفم والأسنان؛ فذكر علل الأسنان وعلاجها، ووصف تركيب الأسنان ووظائفها، وتحدث عن أمراض اللثة وطرق علاجها، وذكر معلومات دقيقة في مجال أمراض الكلى والمثانة، فقد تحدث عن أسباب تولد الحصى في الكلى والمثانة ، كما ذكر المداد.

والأغذية التي تسبب ذلك. وتعرض لأسباب إدرار البول، وذكر العديد من الأدوية والأغذية المدرة للبول، وتحدث عن التبول اللاإرادي.

وقد اهتم ثابت بدراسة الجهاز الهضمي والأمراض التي تصيبه، مثل انتفاخ المعدة، والخفقان المعدي، وفقدان الشهية، والعطش المفرط، والمغص، وأمراض القولون والأمعاء، وأمراض الكبد وما يصاحبها من أعراض، كالصفرة. وفقدان الشهية. كما تحدث عن السموم وأنواعها، والأوبئة والأمراض المعدية، وأسباب انتشارها وطرق العدوى، ووسائل الوقاية منها.

أهم مؤلفاته

كتاب الذخيرة في علم الطب. وعلم العين وعللها ومدواتها. وكتاب الجدري والحصبة. والروضة في الطب. ورسالة في توليد الحصاة. ومقالة في صفات تكون الجنين. والنبض. ووجع المفاصل والنقرس.

وقد ظهرت عبقرية ثابت بن قره، فضلاً عن معرفته بالعلوم الرياضية والفلكية، في مجال العلوم الطبية أيضاً.

فقد مهّد ثابت بن قرة لحساب التكامل والتفاضل. وفي مضمار علم الفلك يؤثر أنه لم يخطئ في حساب السنة النجمية إلا بنصف ثانية. كما يؤثر عنه اكتشافه حركتين لنقطتي الاعتدال؛ إحداهما مستقيمة والأخرى متقهقرة.

ولثابت أعمال جلية وابتكارات مهمة في الهندسة التحليلية، التي تطبق الجبر على الهندسة. ويعزى إليه اكتشاف قاعدة تستخدم في إيجاد "الأعداد المتحابة"، كما يعزى إليه تقسيم الزاوية ثلاثة أقسام متساوية بطريقة تختلف عن الطرق المعروفة عند رياضيي اليونان.

ترك ثابت بن قرة عدة مؤلفات شملت علوم العصر، وذكرها كتاب عيون الأنباء، أشهرها: كتاب في المخروط المكافئ، كتاب في الشكل الملقب بالقطاع، كتاب في قطع الاسطوانة، كتاب في العمل بالكرة، كتاب في قطوع الاسطوانة وبسيطها، كتاب في مساحة الأشكال وسائر البسط والأشكال المجسمة، كتاب في المسائل الهندسية، كتاب في المربع، كتاب في أن الخطين المستقيمين إذا خرجا على أقلّ من زاويتين قائمتين التقيا، كتاب في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية، كتاب في الهيأة، كتاب في تركيب الأفلاك، كتاب المختصر في علم الهندسة، كتاب في تسهيل المجسطي، كتاب في الموسيقى، كتاب في المثلث القائم الزاوية، كتاب في حركة الفلك، كتاب في ما يظهر من القمر من آثار الكسوف وعلاماته، كتاب المدخل إلى إقليدس، كتاب المدخل إلى المنطق، كتاب في الأنواء، مقالة في حساب خسوف الشمس والقمر، كتاب في مختصر علم النجوم، كتاب للمولودين في سبعة أشهر، كتاب في أوجاع الكلى والمثاني، كتاب المدخل إلى علم العدد الذي ألفه نيقوماخوس الجاراسيني ونقله ثابت إلى العربية.

وبعد حياه حافلة بالعلم والعطاء توفي ثابت بن قرة في عام 900م (288هـ)، في بغداد عن عمر يناهز 76 عاماً، تاركاً ثروة لا تنتهي وكنزاً لا ينفذ، من العلم والمعرفة.

___________________

أبو بكر الرازي

(250 هـ، 864م) ـ (320 هـ، 924م)

نشأته وتعليمه

هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي. ولد في عام 864م، في مدينة "الري" في إيران بالقرب من طهران. وعرف منذ صغره بحب العلم، فأتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة والكيمياء. ولما بلغ الثلاثين من عمره أتجه إلى دراسة الطب، على يد "أبو الحسن بن علي بن سهل رَبَّن الطبري"، وأصبح طبيبا مشهورا في بلدته، ومديرا لبيمارستان (مستشفى) "الري" بمسقط رأسه. وانتقل بعد ذلك إلى بغداد في عصر الخليفة "المعتصم"، ثم تولى رئاسة بيمارستان بغداد المركزي. ولأنه كان "الطبيب الحازق"، فقد زحف إليه طلاب العلم من كل أطراف الدنيا، وصار حجة ومرجعاً لكل الحالات المرضية.

عُرف الرازي بذكائه الشديد وذاكرته العجيبة؛ فكان يحفظ كل ما يقرأ أو يسمع، حتى أشتهر بذلك بين أصدقائه. وكان عالماً موسوعياً من طراز فريد، وقد برز في جميع فروع العلوم؛ وكان حريصاً على القراءة مواظبًا عليها.

ويعد "أبو بكر الرازي" أعظم العلماء المسلمين في الطب، من ناحية الأصالة في البحث والخصوبة في التأليف. فقد ألف نحو 56 كتاباً في الطب، وبلغت مؤلفاته في مختلف العلوم 146 مصنفاً، منها 116 كتابا و30 رسالة. وظل طوال حياته بين القراءة والتصنيف، حتى قيل إنه إنما فقد بصره من كثرة القراءة، ومن إجراء التجارب الكيميائية في المعمل.

وقد امتازت مؤلفات الرازي بالموسوعية والشمول، بما تجمعه من علوم اليونان والهنود إضافة إلى أبحاثه المبتكرة وأرائه وملاحظاته، التي تدل على النضج والنبوغ. كما تميز بالأمانة العلمية الشديدة، إذ ينسب كل شيء نقله إلى قائله، يرجعه إلى مصدره.

وقد اشتهر الرازي بالكرم والسخاء. وكان باراً بأصدقائه ومعارفه؛ عطوفاً على الفقراء والمحتاجين، وخاصة المرضى. فكان ينفق عليهم من ماله، ويجري لهم الرواتب والجرايات فقد كان غنياً واسع الثراء.

كانت شهرة الرازي نقمة عليه؛ فقد أثارت غيرة حساده، وسخط أعدائه، فاتهمه في دينه كل من خالفهم، ورموه بالكفر ووصفوه بالزندقة، ونسبوا إليه آراء خبيثة وأقوالا سخيفة، وهي دعاوى باطلة، وافتراءات ظالمة. وللرازي نفسه من المصنفات ما يفند تلك الدعاوى، ويبطل تلك الأباطيل. ومن كتبه كتاب في أن للعالم خالقا حكيما، وكتاب أن للإنسان خالقا متقناً حكيماً، وغيرهما من المؤلفات.

منجزاته

ويأتي الرازي في المرتبة الثانية، بعد ابن سينا في الطب. وكان الرازي رءوفا بالمرضى مجتهداً في علاجهم، بكل وجه يقدر عليه، مواظباً على النظر في غوامض صناعة الطب والكشف عن حقائقها وأسرارها، حتى أُطلق عليه "أبوالطب العربي". وكان سخيا وفيا لمرضاه، يعالجهم من دون أجر. ويعد الرازي من الرواد الأوائل للطب، ليس بين العلماء المسلمين فحسب، وإنما في التراث العالمي والإنساني، بصفه عامه.

ومن أبرز جوانب ريادة الرازي وأستاذيته نبوغه واكتشافاته في الكثير من الجوانب؛ فهو يعد مبتكر خيوط الجراحة المعروفة بالقطب، وأول من صنع مراهم الزئبق. وقدم شرحاً مفصلاً لأمراض الأطفال، والنساء والولادة، والأمراض التناسلية، وجراحة العيون وأمراضها (ويعرف الآن بأبي طب الأطفال في تاريخ الطب البشرى). فلقد ألف أول كتاب في طب الأطفال وجعله علماً وتخصصاً مستقلاً بذاته.

كما كان من رواد البحث التجريبي في العلوم الطبية. وقد أجرى بعض التجارب على الحيوانات كالقردة، فكان يعطيها الدواء ويلاحظ تأثيره عليها؛ فإذا نجح طبقه على الإنسان.

كما اعتنى بتاريخ المريض وتسجيل تطورات المرضى، حتى يتمكن من ملاحظة الحالة، وتقديم العلاج الصحيح لها. وهذه الطريقة مستخدمة حتى الآن في ممارسة الطب الحديث. وكان يستفيد من دلالات تحليل الدم والبول والبراز والنبض، لتشخيص المرض.

ولقد اهتم الرازي بالنواحي النفسية للمريض، ورفع معنوياته ومحاولة إزالة مخاوفه حتى يشفى؛ يقول في ذلك "ينبغي للطبيب أن يعطى الأمل للمريض في الشفاء؛ فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس". ويحكى عن الرازي أنه عندما طلب منه الخليفة العباسي بناء مستشفى في بغداد، أجرى الرازي أول تجربة في الطب الوقائي، بأن أمر بتعليق قطع من اللحم في أماكن مختلفة ببغداد، وكان يمر عليها كل يوم ليرى أثر التحلل بها. وبعد عدة أيام اختار مكان إقامة المستشفى في المكان الذي حدث فيه أقل تحلل لقطع اللحم، لأنه المكان النظيف (البيئة النظيفة) الذي يصلح لإقامة المستشفى.

كما طور الرازي الطب الإكلينيكي بأبحاثه في هذا المجال، وفرّق بشكل واضح بين الجدري والحصبة. وكان أول من وصف هذين المرضين وصفاً دقيقاً مميزاً بالعلاج الصحيح. وقد ترجمت رسالته عن الجدري والحصبة عشرات المرات، إلى اللاتينية وباقي اللغات الأوروبية، وظلت حتى القرن التاسع عشر مرجعاً لهذه الأمراض .

ويعد الرازي هو أول من ذكر جهاز المناعة بالجسم، حين لاحظ أن المريض بالحصبة لا يصاب مره أخرى بها؛ ولكنه يكتسب مناعة طوال عمره. وهو أول من اكتشف وكتب عن الربو، الذي ينشأ عن الحساسية، وكذلك الحساسية الموسمية. وهو أول من ذكر أن الحمى وارتفاع حرارة الجسم هما وسيلة طبيعية لدفاع الجسم عن نفسه في مكافحة الأمراض المختلفة. وكان الرازي ينصح ويحث تلاميذه وزملاءه من الأطباء، بأن يداوموا على قراءة كتب الطب ومزاولة البحث العلمي، للحصول على معلومات ووسائل جديدة لعلاج المرضى .

ولقد شاعت شهرته في عصره حتى وصف بأنه "جالينوس العرب". وقيل عنه "كان الطب متفرقا فجمعه الرازي"، ولقيت كتبه الطبية رواجا كبيرا وشهره عظيمه وانتقلت نظرياته العلمية إلى أوروبا، وتُرجم العديد من كتبه إلى اللغات الأوروبية. واعتمدت عليها جامعات أوروبا كمرجع أساسي في تدريس الطب وممارسته، حتى القرن السابع عشر، مثل كتابه "الحاوي في علم التداوي"، الذي ترجم إلى اللاتينية وطبع لأول مره في بريشيا في شمال ايطاليا عام 1486م. وهو أضخم كتاب طبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، ثم أعيد طبعه مرارا في البندقية، في القرن السادس عشر. وقد قسم كتاب الحاوي في الطبعة اللاتينية إلى خمسه وعشرين مجلداً. كما أعيدت طباعة كتابه الجدري والحصبة أربع مرات بين عامي  (1498 – 1866). أما كتابه "المنصوري" فقد طبع لأول مره في ميلانو عام 1480م، وأعيد طبعه مرات عديدة، وترجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية. ولا تزال جامعة "برنستون" الأمريكية، تحتفظ بكتب الرازي في قاعه من أفخم قاعاتها، أطلق عليها اسمه اعترافاً بفضله، وتأثيره في علم الطب في العالم أجمع .

أهم مؤلفاته

ومن أبرز مؤلفاته: (الحاوي في علم التداوي ـ الجدري والحصبة ـ النهوض في التشريح ـ الكافي في الطب ـ من لا يحضره الطبيب ـ الحصى في الكلى والمثانة ـ علل المفاصل والنقرس وعرق النسا ـ  منافع الأغذية ـ  سر الطب ـ المدخل إلى الطب ـ القولنج "الشلل").

 وقد برع الرازي، أيضاً، في علم الطبيعة؛ فكان من أوائل الذين قالوا بكروية الأرض، وأن حجمها يفوق حجم القمر، ويقل كثيراً عن حجم الشمس.

إن نقد الرازي لكتب جالينوس لدليل قوي على اتجاه جديد محمود بين أطباء العالم العربي؛ فكم من أجيال توارثت النظريات والآراء العلمية الخاطئة، من دون أن يجرؤ أحد على نقدها أو تعديلها، خشية الخروج على العرف السائد. يقول الرازي في مقدمة كتاب "الشكوك على جالينوس ": "إني لأعلم أن كثيراً من الناس يستجهلونني في تأليف هذا الكتاب، وكثيرا منهم يلومونني ويعنفونني أو كان يجزي إلى تحليتي تحلية من يقصد باستغنام واستلذاذ منه كذلك، إلى مناقضة رجل مثل جالينوس، في جلالته ومعرفته وتقدمه في جميع أجزاء الفلسفة، ومكانه منها؟ وأجد أنا لذلك -يعلم الله- مضضاً في نفسي. إذ كنت قد بليت بمقابلة من هو أعظم الخلق على منة، وأكثرهم لي منفعة، وبه اهتديت، وأثره اقتفيت، ومن بحره استقيت".

كما توصل إلى طريقه جديدة للتميز بين المعادن عن طريق الثقل النوعي وذلك من خلال تعيين شكل حجم معين من المادة منسوباً إلى نفس الحجم من الماء.

ولعل أهم إنجازات "الرازي" في مجال الطبيعيات، هو نقضه لنظرية الإبصار، التي ظلت سائدة طوال القرون التي سبقته، والتي انتقلت إلى المسلمين عن الإغريق، وهي نظرية "إقليدس" القائلة بأن الإبصار يحدث نتيجة خروج شعاع من العين إلى الجسم المرئي. فقد قرر الرازي أن الإبصار يحدث بخروج شعاع ضوئي من الجسم المرئي إلى العين، وهو ما أكده العلم الحديث بعد ذلك، وهو في ذلك أسبق من "ابن الهيثم" بعدة قرون.

وقد ترك الرازي العديد من المؤلفات الرائدة في (علم الطبيعة)، من أبرزها (كيفيات الإبصار ـ شروط النظر ـ علة جذب حجر المغناطيس للحديد ـ الخلاء والملاء "الزمان والمكان" ـ هيئة العالم ـ سبب وقوف الأرض وسط الفلك ـ سبب تحرك الفلك على استدارة ـ الهيولي الكبير "المادة" ـ الهيولي المطلقة والجزئية).

كما برع أيضاً في علم الكيمياء، ويعد من رواده؛ فهو مؤسسي الكيمياء الحديثة. وقد حضّر حمض الكبريتيك والكحول بتقطير المواد النشوية والسكرية المتخمرة، كما وصف المواد التي يجري عليها التجارب، والأدوات التي يستعملها، ثم طريقة العمل، كما وصف كثيراً من الأجهزة العلمية، التي كانت معروفة في عصره. ومن الطريف أنه ربط الطب بالكيمياء فكان ينسب الشفاء بفعل الأدوية التي يصفها الطبيب إلى التفاعلات الكيميائية التي تتم في الجسم.

ويعد الرازي من تلاميذ (جابر بن حيان)، العالم الكيميائي المعروف. وقد استطاع الرازي أن يطور كيمياء (جابر) وينظمها ويزيد عليها، بما ابتكره من نظريات كثيرة ومشاهدات عديدة .

ومن مؤلفاته في الكيمياء (سر الإسراء ـ التدبير ـ الإكسير ـ  شرق الصناعة ـ نكت الرموز ـ الترتيب ـ رسالة الخاصة  ـ الحجر الأصفر ـ الرد على الكندي في رده على الصناعة).

ولقد اخترع بعض الأجهزة والمعدات، التي تستعمل حتى الآن في دراسة الكيمياء. وهو أول من استخلص الكيروسين من البترول واستعمله في إشعال المواقد  والمصابيح.

كما كان "الرازي" فيلسوفًا معروفًا، وله اهتمام بالعلوم العقلية، وكان يدعو العلماء، وخاصة الأطباء، إلى الأخذ من العلوم الطبيعية ودراسة العلوم الفلسفية والقوانين المنطقية، ويرى أن إغفال تلك العلوم يزري بالعلماء.

ومن أبرز مؤلفاته في الفلسفة، (المدخل إلى المنطق ـ المدخل التعليمي ـ المدخل البرهاني ـ الانتقام والتحرير على المعتزلة).

وقد قالوا عن الرازي:

·      الرازي هو أعظم طبيب في العصر الإسلامي والعصور الوسطى في أوروبا (جورج سارتون)

·      لقد بقى الرازي حتى القرن السابع عشر بلا منافس في مجال العلوم الطبية في العالم  الإسلامي وأوروبا (موسوعة الإسلام)

·      كتاباته عن الجدري  والحصبة تظهر الدقة والأصولية في الوصف والكشف الإكلينيكي، وكتاباته عن الأمراض المعدية هي أول ورقة علميه في هذا التخصص في الطب البشري (مجلة منظمة الصحة العالمية 1970)

ولتخليد ذكرى الرازي أقيم معهد الرازي في طهران، وجامعة الرازي في كرمنشاه. ويحتفل بيوم الرازي باسم يوم الصيدلة في إيران يوم 27 أغسطس من كل عام.

وقد أصيب الرازي في عينيه بمياه زرقاء آخر عمره، وتوفي في بغداد، عن عمر يناهز ستين عاماً، تاركاً إسهامات جمه خدمت البشرية جمعاء.

___________________

سنان بن ثابت

(266هـ، 880م)  ـ  (331هـ ، 942م)

نشأته وتعليمه

أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة الحراني، نسبة إلى مدينة حران شمالي سورية؛ طبيب، وعالم فيزياء ورياضيات وعالم فلك عربي، ومؤرخ أديب. ولد عام 880 ميلادية في حران، وتوفي عام 942م، وانتقل من مسقط رأسه إلى بغداد حاضرة الثقافة والعلم في القرن الرابع الهجري، إذ كانت الحضارة العربية الإسلامية في أوج تألقها. تابع سنان دراسته في الطب، وبرز فيه، ووضع براعته في خدمة الخلفاء العباسيين، وغدا طبيب الخليفة المقتدر بالله (295-320هـ/907-932م). وفي عهده دخل سنان بن ثابت الإسلام، ثم خدم الخليفة القاهر بالله (320-322هـ/932-933م) ثم الخليفة الراضي بالله في بغداد (322 ـ 329هـ/ 933 ـ 940م). وهو ابن ثابت بن قرة الطبيب المشهور، وأب إبراهيم بن سنان الطبيب أيضاً، فهو ينتمي إلى عائلة أخرجت نخبة من الأطباء.

وقد عظمت منزلته عند الخلفاء وغدا رئيس أطباء بغداد. وأطلق المقتدر بالله يد سنان في تنظيم مهنة الطب، وذلك إثر خطأ وقع فيه طبيب في بغداد أدى إلى موت المريض. أمر المقتدر سنان بإجراء امتحان لكل طبيب يريد ممارسة مهنة الطب، فقام سنان بذلك. ووصل عدد الأطباء الذين امتحنهم نحو ثمانمائة وستين طبيباً.

كما أشرف سنان على تنفيذ بادرة إنسانية حضارية، تدل على ما وصلت إليه الدولة العربية الإسلامية من رقي حضاري، مع أنها كانت في بداية منحدر سياسي خطير، إثر تسلط الأعاجم من ترك وفرس على أمورها. وقد ذكر ثابت بن سنان أن متقلد الدواوين علي بن عيسى الجرّاح كتب إلى والده سنان، المتقلد بيمارستان بغداد يومئذ، كتاباً إبان تفشي الأمراض في الجيش، ويطلب إليه تعيين أطباء يرافقون الجيش ويشرفون على حاجاته الصحية، ويكفلون له الدواء والشراب، ففعل والده ذلك طوال أيامه. كذلك طلب علي بن عيسى الجرّاح من سنان بن ثابت، أن يرسل أطباء مع الأدوية والأشربة إلى منطقة السواد لخلوّه من الأطباء، وأن يطوفوا السواد ويعالجوا من فيه من المرضى من المسلمين، ومن أهل المذاهب والديانات الأخرى. كما كان من أهم أعمال سنان ابن ثابت الإشراف على بناء البيمارستانات في بغداد، وترتيب أمورها وإدارتها، وكان أولها بيمارستان السيدة أم المقتدر بالله، وذلك في أول المحرم عام 306هـ/918م، الذي افتتحه سنان على نهر دجلة ببغداد، وجلس فيه ورتب له المتطببين وكيفية قبول المرضى، وذكر أن نفقاته بلغت ستمائة دينار شهرياً.

وفي العام ذاته 306هـ، أشار سنان على المقتدر بالله أن يتخذ بيمارستاناً ينسب إليه، فأقامه سنان في محلة باب الشام، وسماه البيمارستان المقتدري؛ وبلغت نفقته مائتي دينار شهرياً. كما أشرف سنان، أيضاً، على بناء بيمارستان آخر في بغداد، وذلك بأمر من المملوك الأمير بجكم التركي، الذي كان يتولى إمرة الأمراء في بغداد؛ فبناه سنان سنة 329هـ/940م، وسماه باسم الأمير بجكم، الذي توفى قبل الانتهاء منه؛ فأكمله من بعده عضد الدولة البويهي، الذي تسلم إمرة الأمراء في بغداد وحكمها، وذلك عام 367هـ/978م.

ولسنان مؤلفات كثيرة في مختلف العلوم؛ ولكن لم يبق منها إلا القليل النادر، ومعظمها في الرياضيات والفلك والتاريخ والأدب، منها ما ذكره ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، ومن أشهرها:

"رسالة في الأشكال ذوات الخطوط المستقيمة التي تقع في الدائرة، وعليها استخراج الكثير من المسائل الهندسية"، و"رسالة في الاستواء" و"رسالة في النجوم"، و"رسالة في سُهيل": وسُهيل نجم  أحمر اللون قريب من الأفق يظهر وكأنه دائم الخفقان والاضطراب، و"رسالة في قسمة أيام الجمعة على الكواكب السبعة" و"رسالة في تاريخ ملوك السريان" و"رسالة في شرح مذهب الصابئة"، و"رسالة في أخبار آبائه وأجداده وسلفه"، و"رسالة في كتاب السياسة لأفلاطون"، ذكرها المسعودي.

___________________

ابن الجزار

(285 هـ، 898م) ـ (369 هـ، 980م)

نشأته وتعليمه

هو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد، المعروف بابن الجزار القيرواني؛ طبيب ومؤرخ ومشارك في عدة علوم. ولد في القيروان (تونس اليوم) وهو أول طبيب عربي متخصص في طب الأطفال.

في بداية حياته حفظ القرآن الكريم في الكتاب، وفي شبابه درس الفقه والحديث والتاريخ في جامع "عقبه بن نافع"؛ ولكنه تعلم الطب على يد والده وخاله وكانا طبيبين مشهورين في ذلك الوقت. وبعد أن وصل الطبيب "إسحاق بن سليمان الإسرائيلي" إلى إفريقية، قادماً من مصر، بدعوة من زيادة الله الثالث عام (290-296هـ/903-909م)، وفي عهد عبيد الله المهدي الفاطمي (296-322هـ/910-934م)، اتصل به ابن الجزار، وأخذ منه معارف كثيرة، ذكرها في مؤلفاته. ومن المراجع المهمة التي استفاد منها ابن الجزار مؤلفات أبي يعقوب إسحاق بن عمران (ت 279هـ/892م). ولما لم يكن هناك مستشفى للتعليم في القيروان، وكان التعليم يتم في منازل الأطباء، كما ذكر ابن الجزار في كتابه "زاد المسافر"، فأنه كان يرحب بطلبة الطب في منزله، بعد الانتهاء من عمله مع مرضاه.

وكان ابن الجزار واسع المعرفة بالمصادر الطبية والصيدلانية. ولم يمنعه وجوده في مغرب العالم العربي من الحصول على ثمرات جهود علماء المشرق، المترجمة منها والمصنفة.

تزوج ابن الجزار ولم ينجب فتفرغ لمهنة الطب. وأضحى داره مقصداً للمرضى وطلبة الطب. ويُحكى عن ابن الجزار أنه كان هادئ الطبع لا يحب حضور المناسبات الاجتماعية ولا يقبل الهدايا، وعندما عالج ابن القاضي النعماني رفض أخذ هديه ذهبية قيمه تبلغ 300 مثقالاً من الذهب. وكان ابن الجزار مقربا للأسرة الحاكمة بالقيروان، وصديقاً لخال "المعز لدين الله الفاطمي".

منجزاته

كان أحمد بن الجزار من أهل الحفظ والتطلع، والدراسة والفهم للطب والفلسفة وسائر العلوم في عصره. وكان له بالقرب من داره، سقيفة أقعد فيها غلاماً له يدعى رشيقاً. وأعدّ بين يديه بعض المعجونات والأشربة والأدوية، لكي يُعد الوصفات التي يكتبها ابن الجزار للمرضى، بعد أن يفحص قارورة (بول) كل واحد منهم، ليشخص مرضه، وبهذا يكون ابن الجزار جمع في عمله بين مهنتي الطب والصيدلة. وأنشأ أول صيدلية في المغرب العربي. ويقول عنه ياقوت الحموي: «كان له معروف كثير، وأدوية يفرقها على الفقراء والمعوزين دون مقابل، وكان ويساعده خادمه في جمع قيمة الكشف من المرضى. ولقد قيل أن ثروته عند وفاته تقدر بـ24000 (أربعة وعشرين ألف دينار ذهباً).

أما عن مؤلفاته، فقد كتب ابن الجزار عده مؤلفات هي: "مختصر تاريخ الطب" وهي أول دراسة متخصصة في طب الأطفال. أما أهم مؤلفاته فهو كتابه الطبي المشهور "زاد المسافر"، الذي ترجم إلى اللاتينية واليونانية والعبرية، ونسخ وطبع في فرنسا وايطاليا عدة مرات في القرن السادس عشر الميلادي، وعد مرجعاً مهماً في تعليم الطب في جامعات أوروبا. فالكتاب يحتوي على فن الطب الإكلينيكي وكيفية الكشف والتشخيص للأمراض والإصابات من الرأس إلى القدم، في أسلوب سهل الفهم ومشوق مع ذكر الأعراض والتشخيص والعلاج ومدة شفاء المرضى، وما يترتب على المرض من مضاعفات.

صنّف ابن الجزار عدداً كبيراً من المؤلفات، أحصاها "حسن حسني عبدالوهاب"، فبلغ عددها (37) مؤلفاً، ثم أضاف إليها إبراهيم بن مراد ستة مؤلفات أخرى فصار عددها (43)، منها كتاب «الاعتماد في الأدوية المفردة» ألفه في مطلع شبابه، وقدمه للخليفة القائم بن عبيد الله المهدي (322-334هـ/934-945م)، تكلم فيه على العقاقير النباتية والحيوانية والمعدنية، وصنفه في أربع مقالات، بحسب درجات الأدوية الأربع، وبلغ عددها (278) دواءً، منها (45) من أصل معدني، و(219) من أصل نباتي، وما بقي من أصول مختلفة.

انتقد ابن الجزار في مقدمة هذا الكتاب ديسقوريدس، لأنه لم يذكر طبيعة كل عقار من العقاقير التي تكلم عليها، وقوته وكميته؛ ثم انتقد جالينوس لأنه لم يذكر منافع تلك العقاقير وخواصها ومضارها. كما حذف كثيراً من العقاقير التي ورد ذكرها في كتاب ديسقوريدس، لأنها كانت غير معروفة أو مستعملة في المغرب العربي.

ولأبن الجزار كتب أخرى في طب المسنين. ويعد ابن الجزار أبا طب المسنين بكتابه (طب المشايخ وحفظ صحتهم)، وهو أول من وصف مرض الزهايمر، وله كتاب عن اضطرابات النوم وعلاجها، وكتاب أخر عن (النسيان وطرق تقوية الذاكرة)، وله كتب في علم الأطفال، والحمى، والاضطرابات الجنسية، وطب الفقراء، واضطرابات المعدة، وكتب في الأدوية المفردة والمركبة. ونال ابن الجزار شهرة تجاوزت حدود بلاده، فكان طلاب الأندلس يتوافدون إلى القيروان لدراسة الطب على يديه. وقد ترجم "قسطنطين الأفريقي" كتبه إلى اللاتينية، وهو أشهر من نقل الطب الإسلامي إلى أوروبا. وأصبحت كتب ابن الجزار مرجعا مهماً لتدريس الطب بأوروبا لعدة قرون.

توفي "ابن الجزار" بالقيروان ودفن بها عام 980 م.

___________________

أبو القاسم الزهراوي

(327هـ، 938م) ـ (404 هـ، 1013م)

نشأته وتعليمه

هو العالم الطبيب المسلم، أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، طبيب عربي أندلسي حاذق، وجراح ماهر يعد من أعظم الجراحين العرب في العصور الوسطى، بل أعظمهم على الإطلاق، وصيدلي مدقق، حسن المشاهدة والتجارب في آن واحد. ولد في بلده "الزهراء"، التي تبعد 6 أميال من قرطبة بالأندلس (أسبانيا اليوم)، والتي تعلم فيها ومارس بها الطب والجراحة وتدريس الطب، على مدى 50 عاما حتى وفاته.

وفي وصف الزهراوي، يقول "الحميدى" الأديب والمؤرخ، في كتابه "جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس": إن الزهراوي كان من أهل الفضل والدين والعلم؛ كما ذكر آخرون أنه كان يخصص نصف نهاره لمعالجة المرضى مجاناً، قربة لله عز وجل.

منجزاته

عرف الزهراوي بأبي الجراحة الحديثة، ويعد كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف)، موسوعة في الطب والجراحة ونقطة تحول في تاريخ الطب الحديث، حيث أصبح تخصص الجراحة تخصصاً مستقلاً بذاته من بعده، منذ أكثر من ألف عام.

يتألف كتاب التصريف من ثلاثين جزءاً وهو موسوعة طبية متكاملة في الطب والجراحة، وتغذية المرضى، والأدوية المفردة والمركبة وطرق تحضيرها.

ويعد الجزء الخاص بالجراحة بداية عصر الجراحة الحديثة، إذ يحتوي على صور الآلات الجراحية التي أخترعها الزهراوي، ويقدر عددها بأكثر من مائتي آلة جراحية لم تستعمل من قبل. وتحتوي أيضاً على طرق إجراء العمليات الجراحية المختلفة، في الجراحة العامة وأمراض النساء والتوليد واختراع آلة الجفت الخاصة بالولادة العسرة، وجراحات الأنف والأذن والحنجرة. وقد أجرى لأول مرة عملية الشق الحنجري لدواعي الحياة، وكذلك استئصال اللوزتين عند الأطفال، واختراع الآلات الخاصة بهم.

وفي مجال جراحة العظام، وصف بدقة كيفية علاج كسور عظام الأطراف، والعمود الفقري، ورد مفصل الكتف المخلوع بالطريقة التي تسمى الآن "طريقة الطبيب كوخر". وقد وصفها الزهراوي قبل ولادة الطبيب "كوخر" بعدة قرون.

وبرع، أيضاً، في علاج تشوه الأسنان والجراحات الخاصة بها، وهو أول من ذكر تركيب الأسنان بدلاً عن الأسنان المصابة.

وفي مجال جراحة الجهاز البولي، كان أول من أجرى عملية استخراج الحصيات من الكلى والمثانة، بواسطة جهاز من اختراعه، وتفتيت الحصوة في المثانة، وأول من ذكر تحويل مجرى البول إلى المستقيم. وأخترع أيضا بعض الآلات التي تستعمل في جراحة الأعصاب.

وفى مجال جراحة التجميل، أجرى أول عملية لتجميل الثدي باستعمال المشرط والخيوط الجراحية، وبطريقة تستعمل حتى اليوم.

وأخترع الزهراوي البلاستر الجراحي والأربطة الضاغطة، التي تستعمل حتى الآن في المستشفيات في كل العالم، ولقد أستعمل البلاستر في علاج الكسور، علماً بأنه لم يستعمل في أوروبا إلا في القرن التاسع عشر.

وأخترع، كذلك، الإبر والخيوط الجراحية التي تستعمل حتى اليوم، وكيفية ربط الأوعية الدموية لإيقاف النزف، وهو أول جراح استعمل القطن في تضميد الجروح.

لم يكن الزهراوي مبدعاً في مجال الجراحة فقط، بل كانت له آثار في جميع فروع الطب. وفي مجال الأدوية أخترع أدوية التجميل، مثل مزيل العرق وغسول اليدين وصبغة الشعر ومزيل لرائحة الفم وغسول الفم، والعطور بأنواعها وكريم اليد وأدوية تقوية اللثة وتبيض الأسنان، واستخدم قوالب خاصة لصنع الأقراص الدوائية.

كما قدم الأدوية لعلاج مرضى الصرع، وأخترع  دواء أطلق عليه "اللفيف والجوال"، لعلاج نزلات البرد. وأخترع  مستحضرات مثل الفكس أطلق عليه أسم "المثلثات"، وتكون من الكافور والمسك وعسل النحل، وأخترع بخاخة الأنف.

وكان بارعاً في وصف مرض "الهيموفيليا"، وصفاً دقيقاً، حيث يصاب المريض بنزيف الدم في أجزاء مختلفة من الجسم. وأكد صفته الوراثية لأول مرة في تاريخ الطب.

كما أهتم الزهراوي اهتماماً كبيراً بعلاقة أستاذ الطب بتلاميذه، وأن تكون علاقة وثيقة وجيدة. وقد ذكر في كتابه أنه كان ينادي تلاميذه بـ"أولادي". وأكد على العلاقة بين الطبيب والمريض، وأن تكون جيدة دون النظر إلى مستواه الاجتماعي أو إلى جنسه، وأن ينال الطبيب ثقة المريض؛ لأنها عامل مهم في نجاح علاجه.

وكان يهتم كثيراً بتعليم تلاميذه الطب الإكلينيكي، حيث أهتم بدقه ملاحظه المريض عند الكشف عليه والاهتمام بتاريخ المرض للوصول للتشخيص الصحيح، ومتابعة حالة المريض وإعطائه العلاج المناسب في حينه حتى تمام شفائه.

وهو أول من أقترح تقديم الزهور عند زيارة المريض بالمستشفى، لرفع روحه المعنوية.

وقد ترجمت موسوعة "التصريف" للزهراوي إلى اللاتينية بواسطة "جيرارد دي كريمونه" في القرن الثاني عشر. وكانت موسوعة الزهراوي، بجانب كتاب قانون الطب لابن سينا، مرجعاً مهماً لدراسة الطب في جامعات أوروبا على مدى خمسة قرون، من القرن الثاني عشر حتى أواخر القرن السابع عشر. واكتسب الزهراوي شهرة كبيرة جداً في أوروبا، وأصبح له نفوذ كبير في تدريس وممارسة علم الطب والجراحة. وجاء ذكره في كتاب الجراح الفرنسي "جاي دي جولياك" في كتابه "الجراحة العظيمة" عام 1363، أكثر من مائتي مره كمرجع له. وقد وصفه "بترو أرجالاتا"، الذي توفي عام 1423م، بأن الزهراوي، من دون شك، أستاذ الجراحين وأبو الجراحة الحديثة. وقال "كامبل" في كتابه "تاريخ الطب العربي" أن الزهراوي كان له تأثير كبير في علم الطب، وخصوصاً تخصص الجراحة؛ فالأسس التي وصفت بواسطته هي أسس تعليم وممارسة الجراحة الحديثة.

وبعد خمسين عاماً من العطاء والعمل في مجال الطب وتدريسه، توفي الزهراوي في عام 1013م، في الزهراء مسقط رأسه، تاركاً بصماته في مجال الطب والجراحة الحديثة.

___________________

ابن الهيثم

(354 هـ، 965م) ـ (430 هـ، 1039م)

نشأته وتعليمه

هو الحسن بن الحسن كنيته أبو علي. ولد في البصرة عام 965م بالعراق، وبها نشأ وتعلم. وعاش في فتره مزدهرة ظهر فيها عباقرة العلم والفلسفة والطب والكيمياء والرياضيات والفلك، فجذبته هذه العلوم فأقبل عليها وقرأ منها الكثير. ولخص أكثر هذه الكتب ووضع مذكرات ورسائل في موضوعات تلك العلوم، حتى ذاعت شهرته. وقد عمل بالوظيفة فترات متقطعة زار خلالها الأهواز وبغداد، ثم فضل ترك الوظيفة والتفرغ للدرس والتأليف. وحدث أن نقل عن لسانه إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي أنه قال: "لو كنت في مصر لعملت بنيلها عملاً يحصل النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان"، فاستقدمه الحاكم بأمر الله وأجزل له العطاء، وكلفه دراسة مجرى النيل.

تتبع ابن الهيثم، مع فرقة هندسية، مجرى النيل حتى وصل إلى مكان معروف "بالجنادلي" بالقرب من خزان أسوان اليوم، حيث ينحدر النهر بشدة. وقضى هناك شهراً، ثم وجد، بعد الدراسة، أن المصريين القدماء سبقوه إلى ما يفكر به، وأن الإمكانات العلمية المتوافرة قليلة لتطوير ذلك. عاد الحسن بن الهيثم خجلاً إلى القاهرة واعتذر للخليفة الحاكم، فتظاهر الخليفة بقبول عذره وولاة بعض الدواوين، فتولاها رهبه لا رغبة. غير أن توليه المنصب لم يجعله في مأمن من نزوات الحاكم الطائشة، وتقلب مزاجه أو عقابه. وخشي ابن الهيثم من هذه العواقب، فلم يجد وسيله للتخلص مما هو فيه، إلا بادعاء الجنون. فلما بلغ الحاكم ذلك عزله من منصبه وصادر أمواله وأمر بحبسه في منزله. وظل على هذا الحال حتى توفى الحاكم بأمر الله، فعاد إلى الظهور والاشتغال بالعلم واستوطن داراً بالقرب من الجامع الأزهر. وأقام بالقاهرة مشتغلاً بالعلم والتصنيف ونسخ الكتب القديمة، حتى توفى عام 1039م.

كان ابن الهيثم غزير التأليف متدفق الإنتاج في شتى أنواع المعرفة؛ فطرق الفلسفة والمنطق والطب والفلك والبصريات والرياضيات، مستحدثاً أنماطاً جديدة في الفكر العلمي الأصيل. وقد بلغ عدد مؤلفاته مائتي (200) مؤلف، غير الرسائل الفكرية والمقالات الأخرى.

وقد كتب ابن الهيثم في البصريات حوالي أربعة وعشرين موضوعاً، ما بين كتاب ورسالة ومقالة؛ غير أن أكثر هذه المؤلفات قد فقدت ولم يبق منها إلا ما ضمته مكتبات إستانبول ولندن. وقد سلم من الضياع كتابه الكبير "البصريات"، الذي احتوى على نظريات مبتكره في علم الضوء، وظل المرجع الرئيس لهذا العلم حتى القرن السابع عشر الميلادي، بعد ترجمته إلى اللاتينية.

ويعد الحسن بن الهيثم عالماً عظيماً في علم البصريات ودراسة الرؤية، في الفترة ما بين الحضارة الإسلامية وبين عصر النهضة الأوروبي. ويشمل عمله أكبر طفرة علميه في مجال البصريات بعد عهد يوقليدوس وبطليموس في الإسكندرية، وكذلك في مجال فسيولوجيا الإبصار بعد جالينوس.

والحسن بن الهيثم هو أول من بيّن خطأ نظرية إقليدس وغيره، في أن شعاع الضوء ينبعث من العين ويقع على الأشياء فتبصرها العين. وقرر عكس هذه النظرية في أن شعاع الضوء يخرج من الشيء المبصر ويقع على العين، وأستدل بالتجربة والمشاهدة على أن امتداد شعاع الضوء يكون على خط مستقيم.

وعرّف ابن الهيثم الأجسام الشفافة، وهى التي ينفذ منها الضوء ويدرك البصر ما وراءها كالهواء والماء، وبيّن أن الضوء إذا نفذ من وسط شفاف إلى آخر شفاف انعطف عن استقامته.

كما بحث في انكسار الأشعة الضوئية عند نفاذها في الهواء المحيط بالكرة الأرضية، وبين أن كثافة الهواء في الطبقات السفلى أكبر منها في الطبقات العليا، وأن الهواء لا يمتد من غير نهاية وإنما ينتهي عند ارتفاع معين؛ فإذا مر شعاع من الضوء خلال الطبقات الهوائية المختلفة الكثافة فأنه ينكسر رويداً رويداً، وينحني تدريجياً نحو سطح الأرض. وترتب على ذلك أن النجم الذي ترقبه العين يظهر في موضع أقرب من موضعه الحقيقي، وأشار إلى الخطأ الذي ينشأ عن ذلك في الرصد، وإلى وجوب تصحيحه.

وشرح الحسن بن الهيثم كيفية حدوث الرؤية وبين في ذلك تركيب العين، وعمل كل جزء من أجزائها. وقد عزى حدوث الرؤية إلى تكون صور المرئيات على ما نسميه الآن "شبكية العين"، وانتقال التأثير الحاصل بواسطة العصب البصري. وعلل رؤية الشيء واحداً على الرغم من النظر إليه بعينين اثنتين، بوقوع الصورتين على جزءين متماثلين من الشبكية، وعالج موضوع العدسات وقوة تكبيرها. ويعد ما كتبه في هذا الموضوع مهما لاستخدام العدسات في إصلاح عيوب النظر.

وكان لهذه الجهود أثرها في تقدم ورقى علم الضوء، فنال تقدير العلماء؛ فوصفه "جورج ساتون"، وهو من كبار مؤرخي العلم بقوله "هو أعظم عالم فيزيائي مسلم، وأحد كبار العلماء الذين بحثوا في البصريات على جميع العصور" فلقد أقام الأساس الذي بني عليه صرح علم الضوء الحديث.

وخلاصة القول إن ابن الهيثم جعل علم الضوء يتخذ صيغه جديدة وينشأ نشأه أخرى غير نشأته الأولى، حتى أصبح أثره في علم الضوء يشبه تأثير نيوتن العالم في علم الميكانيكا. وفى جانب ذلك كانت له مساهمته في الهندسة، وله فيها ثمانية وخمسون مؤلفاً، يوجد منها الآن أكثر من واحد وعشرين مخطوطاً في مكتبات القاهرة ولندن وباريس وإستانبول، كما ألف في الحساب والجبر والمفاضلة عشرة كتب.

وقد أسهم  فيعلم الفلك بفاعليه حتى أُطلق عليه "بطليموس الثاني"؛ فقد كتب 24 مقاله تحدث بها عن أبعاد الأجرام السماوية وأحجامها وكيفية رؤيتها.

قال عنه دكتور "تشارلز جروس" الأمريكي: "وكذلك نرى أن ابن الهيثم مثل ليوناردو دافنشي، رجلاً عديد المواهب حيث أسهم في علوم الفلك والرياضيات والطب وغيرها، ولكن على العكس من ليوناردو الذي كان له تأثير ضئيل على الأجيال التي تلته من العلماء كان تأثير ابن الهيثم ساحقًا ومعروفاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

أهم آراء ابن الهيثم في علم البصريات

كان المعتقد أن الإبصار يتم بخروج عناصر من العين، أو شعاع على شكل مخروطي، يصب على الشيء المرئي ليحدث الإبصار؛ ولكن ابن الهيثم قال: إن الإشعاع ـ أو الضوء ـ نوعان، يصدر إحداهما عن الأجسام المضيئة بنفسها، كالشمس والنار، ونوع عريض يعكس ضوء غيره، كالقمر والمرآة، وقال إن الأشياء تعكس النور وتصيب العين فيحدث الأبصار، وإلاّ فلماذا لا ترى العين ـ وهي سليمة ـ في الظلام؟! ودرس ابن الهيثم نفوذ الضوء، فقال إنه لا ينفذ في الأجسام الكثيفة بل في الأجسام الشفيفة، لذلك هو ينعكس عن الأجسام الصقيلة، وتحدث هنا على الانعطاف أو الانكسار أي: Refraction، وتنبه "لسرعة الضوء" دون تحديده.

وفي تاريخ علم البصريات مسألة عرفت ـ ولم تزل ـ بمسألة ابن الهيثم، أهتم بها علماء كبار وشرحوها وانتقدوها، وقد تفننوا فيها متناولين بعض أوجهها، وهي مسألة الانعكاس عن سطح مرآة كروية مقعرة. ومع أن العلماء زادوا فيها وبسطوها، لكنها لم تزل تحمل إلى اليوم أسم: مسألة ابن الهيثم.

ومنهج ابن الهيثم علمي عملي؛ فقد كان رياضياً وفيلسوفاً محيطاً بالعلوم الطبيعية، يستطيع التخّيل، وتنظيم البحوث والتجربة معاً. وكانت مؤلفاته مبوبة تحوي المصطلحات العلمية المحددة. وقد صار أسلوبه العلمي الواضح نموذجاً للعلماء. ولم تكن أحاطته بالعلوم وأبحاثه أبداً نفعية لنفسه، بل صدرت عن محب للعلوم راغب في المعرفة ونشرها. وكان يسعى وراء الحقيقة، متجرداً، مستعيناً بالاستقراء والقياس، وهي الأساليب العلمية التي يمكن أن توصله إلى أهدافه.

لم ينل ابن الهيثم شهرة كبيرة في الشرق لإنجازاته العلمية، ربما لقلة من استفاد منها. وقد عُرف أكثر بأخباره المروية في التطيب وبمغامراته السياسية، وربما عرف بعض الشهرة أيام الحاكم بأمر الله، ثم قضى عليها انعزاله. أما في الغرب، فقد عرفوا قيمته منذ القرن الثالث عشر، ونقلوا عنه معجبين ومؤكدين عبقريته في العلوم البصرية. فقد تأثر به وكتب عنه فيتلو في رسالته عن الضوء، وكذلك "بايكون" في بحوثه الفلسفية والعلمية. وقد ترجمت كتب ابن الهيثم إلى اللغات: العبرية والأسبانية والإيطالية واللاتينية والإنجليزية والفرنسية، مرات عديدة.

كان ابن الهيثم من أكبر العلماء في الشرق وفي الغرب، باعتراف الجميع، "وعلم البصريات وصل إلى أعلى درجة في التقدم بفضله، وليس غريباً أن يكون الفلكي العظيم "كيبلر" قد أخذ عنه ما توصل إليه من اكتشافات في علم البصريات، خاصة ما يتعلق بتكسير الأشعة الضوئية في الجو، كما أكد ذلك العالم الفرنسي "لوتيرفياردو".

أهم مؤلفاته

كتاب المناظر، وكتاب الجامع في أصول الحساب، ومقالة في بركار الدوائر العظام،  ومقالة في خواص المثلث من جهة العمود، ومقالة في الضوء، وكتاب صورة الكسوف، وسمت القبلة بالحساب، وكتاب في هيئة العالم.

___________________

ابن سينا

(371 هـ، 981م) ـ (428 هـ، 1036م)

نشأته وتعليمه

هو أبوعلي الحسين بن عبدالله بن سينا، الحكيم المشهور، فليسوف وطبيب إسلامي، ولد في العام 981م في "خرميثنا" بالقرب من بخارى (في أوزبكستان حالياً). وهي بلده أمُه "سناره" في بلاد خراسان، لأسره فارسية، وأبوه من "بلخ" وهى مدينه مشهورة في ما يعرف بأفغانستان اليوم. وفى نشأته حفظ ابن سينا القرآن والأحاديث الشريفة في سن العاشرة .

عرف باسم "الشيخ الرئيس"، وسماه الغربيون "أمير الأطباء" و"أبو الطب الحديث". ألّف 200 كتاب في موضوعات مختلفة، العديد منها يركّز على الفلسفة والطب. ويعد ابن سينا من أول من كتب عن الطبّ في العالم، وقد اتبع نهج أو أسلوب أبقراط وجالينوس. وأشهر أعماله كتاب الشفاء، وكتاب القانون في الطب.

تعلم ابن سينا في بخارى، وظهرت عليه علامات النبوغ منذ صغره. فكان يتصف بحده الذكاء والقدرة على حفظ المعلومات بسرعة فائقة، حسب قول معلميه. وقال في مذكراته إنه عندما بلغ الثامنة عشر من العمر كان قد تعلم كل شيء، وأصبح طبيباً مشهوراً في هذه السن، وكان يعالج المرضى من دون مقابل حتى ذاع صيته. ودعي لعلاج الأمير الحاكم "نوح بن منصور الساماني" في ذلك الوقت، من مرض عضال ألم به؛ فكشف عليه ابن سينا وأعطاه الدواء المناسب وشفي الحاكم وكان ذلك في عام  (997م). وكانت المكافأة الكبرى لشفاء الأمير هو السماح لابن سينا بالإطلاع على الكتب القيمة في مكتبة الأمير، والتي كانت من المكتبات المشهورة وتحتوي على مؤلفات في جميع علوم المعرفة. وبعدها بدا ابن سينا في كتابه مراجعه في مختلف العلوم. وفى سن العشرين توفي والده، فرحل إلى "جرجان" وأقام بها مدة وألف كتابه "القانون في الطب"، ثم رحل بعد ذلك إلى "همذان" وحظي برعاية أميرها علاء الدولة.

وكان "بن سينا" عالماً وفيلسوفاً وطبيباً وشاعراً، ولقب بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي. كما لُقب بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام.

منجزاته

لم يكن ابن سينا يعتمد على ما وصل إليه من نظريات من سبقوه، بل كان ينظر إليها ناقداً ومحللاً؛ فما وافق تفكيره وقلبه وعقله أخذه وزاد عليه بما توصل إليه واكتسب بأبحاثه وخبراته ومشاهداته. وكان يقول إن الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس.

كتب ابن سينا حوالي 450 كتاباً بقى منهم 240 كتاباً في شتى العلوم، منها 40 كتاباً في علوم الطب، أشهرهم "موسوعة الشفاء"، وموسوعة "القانون في الطب"، الذي كان المرجع الأساسي لدراسة الطب في جامعات أوروبا وكلية الطب "بمونبليه" و"لوفيان" حتى العام 1650م.

أهم مؤلفاته:

الطبيعيات وتوابعها:

رسالة في إبطال أحكام النجوم ، رسالة في الأجرام العلوية وأسباب البرق والرعد ، رسالة في الفضاء ، رسالة في النبات والحيوان ، قانون الحركة الأول "الجسم الساكن يبقى ساكنا والجسم المتحرك يبقى متحركا ما لم تؤثر عليه قوة خارجية"والذي نسبه لنفسه إسحاق نيوتن.

أما في الطب، فمنها:

كتاب القانون في الطب الذي ترجم وطبع عدّة مرات والذي ظل يُدرس في جامعات أوروبا حتى أواخر القرن التاسع عشر. وموسوعة الشفاء. وكتاب الأدوية القلبية. وكتاب دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية. وكتاب القولنج. ورسالة في سياسة البدن وفضائل الشراب. ورسالة في تشريح الأعضاء. ورسالة في الفصد. ورسالة في الأغذية والأدوية.

كما كتب أراجيز طبية، وظف بها قدرته الشعرية، منها:

أرجوزة في التشريح. وأرجوزة المجربات في الطب. والألفية الطبية المشهورة التي ترجمت وطبعت.

كذلك ألف في الموسيقى:

مقالة جوامع علم الموسيقى. ومقالة في الموسيقى.

وفي الرياضيات:

رسالة الزاوية. ومختصر إقليدس. ومختصر الارتماطيقي. ومختصر علم الهيئة. ومختصر المجسطي.

ويعد ابن سينا هو أبو الطب الحديث عند علماء الطب في العالم الإسلامي والغربي، على السواء. فقد اكتشف طرق انتشار الأمراض المعدية، كالجدري والحصبة، وما يعد نقطة تحول في تاريخ الطب البشري.

وهو من أدخل فكرة الحجر الصحي للحد من انتشار هذه الأمراض، وهو الذي أدخل الطب التجريبي في علوم الطب، وكيفيه عمل التجارب على الحيوانات وإعطائها الأدوية المختلفة قبل استعمالها للمرضى، وتحديد سلامة الدواء ودرجه فاعليته والجرعة المؤثرة. ووصف في كتابه 760 عقاراً.

وهو أبو علم الصيدلة الإكلينيكية، والطب النفسي الحديث، والتغذية الطبية، وتأثير المناخ والبيئة على الصحة. وقال في ذلك: ما دام الهواء ملائماً ونقياً، وليس به اختلاط من المواد الأخرى بما يتعارض مع مزاج التنفس؛ فإن الصحة تأتي.

أنشا ابن سينا نظاماً طبياً حديثاً يعتمد على خبراته الشخصية في الطب الإغريقي، وخصوصاً الكتب المترجمة عن أبقراط وجالينيوس والطب الفارسي القديم والطب الهندي والطب الإسلامي، فضلاً عن خبراته وتجاربه الشخصية في ممارسه الطب وتطبيقه. وهو صاحب فكره العلاج بالزيوت  (AROMATHERAPY)

وهو مخترع (التقطير البخاري) واستخلاص الزيوت الطيارة (STEAM DISTILLATION) 

كما يعد أبو الجيولوجيا الحديثة (FATHER OF GEOLOGY)

وأبو علم الطبيعة الحديثة ( FATHER OF PHYSICS) 

فهو صاحب قانون الثبات والحركة، وقانون نيوتن الأول .

أما كتابه "القانون في الطب"، فترك أثراً كبيراً في الغرب. وقد ترجم إلى اللاتينية عام 1279م بواسطة "جيرارد كريمونه" وأصبح مرجعا في الطب منذ ذلك الوقت. وقد قيل إن العالم الايطالي المشهور "ليوناردو دافنشى" تاثر به كثيراً.

وأصبح كتاب القانون في الطب، بما يحتويه من معلومات مهمة وترتيب أجزائه وسهوله معلوماته الغزيرة، المرجع الوحيد في جميع كليات الطب في أوروبا حتى عام 1650م.

وقد قال العالم الكندي الكبير "ويليام أوسلر" إن كتاب القانون في الطب" كان هو الإنجيل الطبي والمرجع الوحيد لأطول فتره في تاريخ الطب البشرى.

وفي الفترة الأخيرة تُرجم كتاب القانون في الطب إلى اللغة الانجليزية في عام 2006م. وكتب الأستاذ الدكتور"جون اوركهارت" تعليقاً على تأثير كتاب القانون في الطب" على الطب حتى عام 1900 يقول فيه:

 "إذا كنت في عام 1900م واحتجت إلى مرجع ودليل طبي عملي مفيد فأنى اختار كتاب القانون في الطب" لابن سينا ليكون خير دليل طبي عملي في ممارستي للطب. والدليل على ذلك هو أن ابن سينا في كتابه مزج بين ممارسه الطب والجراحة بأسهل الطرق.

ولقد قال "جورج سارتن"، مؤلف كتاب تاريخ العلوم، إن ابن سينا "يعد أشهر ما قدمته الحضارة الإسلامية، ومن أعظم المفكرين والفلاسفة خلال الألفية الثانية في الطب والفلسفة وعلم الطبيعة والجيولوجيا، ويعد كتاب قانون الطب من أشهر الكتب في تاريخ الطب البشرى حتى الآن، ويحتوى على طرق حديثه في الكشف الإكلينيكي على المريض والفرق بين الالتهاب الرئوي والتهاب الغشاء البلوري، وكيفيه نقل الأمراض بواسطة المياه والتربة وطبيعة الأمراض المعدية والأمراض الجنسية، وقواعد طب الأعصاب والطب النفسي الحديث .

ويقول "دي بور": كان تأثير ابن سينا في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن، وعد في المقام كأرسطو.

ويقول "أوبرفيل" إن ابن سينا اشتهر في العصور الوسطى، تردد اسمه على كل شفة ولسان، ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره، وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق.

ويصفه "هولميارد" بقوله:  إن علماء أوروبا يصفونه بأنه أرسطوطاليس العرب، ولا ريب في أنه عالم فاق غيره في علم الطب وعلم طبقات الأرض، وكان من عادته إذا استعصت عليه مسألة علمية أن يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم يعود إلى المسألة بعد الصلاة بادئا من جديد فيوفق في حلها.

ولا تزال صورة ابن سينا تزين كبرى قاعات كلية الطب في جامعة باريس حتى الآن، تقديراً لعلمه واعترافاً بفضله وسبْقه.

وفى السنوات الأخيرة من عمره أصابه مرض في شكل الآم حادة بالبطن، وتكرر عليه المرض. ونصحه أصدقاؤه بأن يستريح من الكتابة ومن ممارسه مهنه الطب؛ ولكنه قال "انه يفضل حياه قصيرة مليئة بالانجازات وبعمل الخير، من حياه طويلة من دون عمل".

وقد تفرغ في الأيام الأخيرة من عمره إلى قراءة القرآن، حتى توفاه الله في العام 1036م، عن عمر يناهز 58 عاماً، وكان ذلك في شهر رمضان، ودفن في همذان  بإيران.

___________________

ابن رضوان

(388هـ، 998م) ـ (460هـ، 1067م)

نشأته وتعليمه

هو أبو الحسن علي بن رضوان بن علي بن جعفر المصري. ولد في مدينة الجيزة قرب القاهرة عام 998م وتوفي بها عام 1067م.

كان طبيباً ذائع الصيت، وعالم فلك، ومن كبار الفلاسفة. نشأ في بيئة فقيرة، وكان أبوه فراناً؛ ولذا اضطر إلى العمل في صغره، لكي يستطيع شراء ما يحتاجه من الكتب.

يقول عن نفسه في مذكراته (وأنا في السادسة أسلمت نفسي في التعليم، ولما بلغت السنة العاشرة انتقلت إلى المدينة العظمى "القاهرة". وأجهدت نفسي في التعليم، وكانت دلالات النجوم في مولدي تدل على أن صناعتي الطب. فلما أتممت أربع عشرة سنة أخذت في تعلم الطب والفلسفة، ولم يكن لي مال أنفق منه فلذلك عرض لي في التعليم صعوبة ومشقة، فكنت أتكسب من صناعة القضايا بالنجوم "التنجيم"، ومرة من صناعة الطب، ومرة بالتعليم؛ ولم أزل كذلك وأنا في غاية الاجتهاد في التعليم إلى السنة الثانية والثلاثين، فإنني اشتهرت فيها بالطب.

بعد أن ذاع صيته كطبيب عالم، ضمه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله إلى بلاطه وعينه كبيراً لأطبائه. وأصبح مشهورا في سائر أقطار الخلافة الإسلامية كطبيب مصر العلامة. واستدعاه حاكم بلوخستان لكي يعالجه من شلل جزئي أصابه.

منجزاته

من أهم اسهامات "ابن رضوان" في الطب، اهتمامه بالطب الإكلينيكي بمعاينة المريض والتعرف على المرض، وذلك بالنظر إلى هيئة أعضاء المريض وبشرته، وتفقد أعضائه الباطنية والخارجية، وطريقة نظره وكلامه ومشيته، والتعرف على نبض قلبه وعلى مزاجه، عن طريق توجيه الأسئلة إليه، كما ذكر في مذكراته.

أما عن أعماله، فقد ألف ابن رضوان نحو مائة كتاب ورسالة في الطب والفلسفة، حسب ما ذكر في كتاب المؤرخ العربي ابن أبي أصيبعة (عيون الأنباء)، تُرجم بعضها إلى اللاتينية بواسطة "جيرار الكريموني"، ونشر في البندقية عام 1469م. ومن أشهر كتبه "دفع مضار الأبدان بأرض مصر"، والذي ترجمه "ماكس ميرهوف" فصلاً منه في كتابه دراسة المناخ والصحة في مصر القديمة، عام 1923م.

وقد كانت حياته هادئة رتيبة ومتزنة، فيقول عن اهتمامه بالنظافة ظاهراً وباطناً، وحرصه على نظافة ثيابه وحسن خلقه: "وأجعل ثيابي مزينة بشعار الأخيار والنظافة وطيب الرائحة، وألزم الصمت وكف اللسان عن معايب الناس، وأجتهد ألا أتكلم إلا بما ينبغي. وأتوقى الأيمان ومثالب الآراء، فأحذر العجب وحب الغلبة، وأطرح الهم الحرصي، والاغتمام".

ولابن رضوان آراء شخصية اشتهر بها وسببت له كثيراً من المناقشات الحادة؛ فهو – ولأنه تعلم الطب بنفسه ولم يتعلمه على معلم – كان من المدافعين عن فكرة تحصيل الطب من الكتب، وله في ذلك رسالة يدافع فيها عن هذه الفكرة، ويرد على ابن بطلان عندما هاجم آراء ابن رضوان في الطب والتعليم الطبي.

ويعرّف ابن رضوان الطب في كتابه "مقالة في شرف الطب" (الباب الأول) أفضل تعريف، فيقول: "إن منافع هذه المهنة ومحاسنها كبيرة، منها في البدن، ومنها في النفس، ومنها اكتساب ولاية اللّه عز وجل، باكتساب المال، واكتساب الرئاسة والكرامة".

أما عن البدن، فهو يعطي تعريفاً علمياً دقيقاً له، إذ يقول: "حفظ الصحة ومنع حدوث المرض المزمع بمقاومة أسبابه، ومحو تأثيرها على البدن، وإنعاش البدن الضعيف حتى يقوى، وعلاج المرض وإبطاله، وإعادة الصحة، وإطالة العمر، حسبما يمكن في كل واحد من الأبدان إلى أن يبلغ أطول ما يمكن في مثله من الطول مدة للشباب، ومدة للشيخوخة". وبهذا عبّر عن كل الفنون الطبية، من وقاية وعلاج، وفن الصحة، وطب الشيخوخة.

كما تحدث عن صفات الطبيب الفاضل، وحددها ابن رضوان في قوله: إن الطبيب على رأي بقراط هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال :

الأولى: أن يكون تام الخلق، صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الرؤية، عاقلاً، وخير الطبع.

الثانية: أن يكون حسن الملبس، طيب الرائحة، نظيف البدن والثوب.

الثالثة: أن يكون كتوماً لأسرار المرضى، لا يبوح بشيء من أمراضهم.

الرابعة: أن تكون رغبته في إبراء المرضى أكثر من رغبته فيما يلتمس من الأجرة، ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.

الخامسة: أن يكون حريصاً على التعلم والمبالغة في منافع الناس.

السادسة: أن يكون سليم القلب، عفيف النظر، صادق اللهجة، ولا يخطر بباله شيء من أمور النساء، والأموال التي شاهدها في منازل الإعلاء، فضلاً عن أن يتعرض إلى شيء منها.

السابعة: أن يكون مأمونا،ً ثقة على الأرواح والأموال، لا يصف دواءً قتالاً ولا يعلمه، ولا دواء يسقط الأجنة، يعالج عدوه بنية صادقة، كما يعالج حبيبه".

أما شهرته في عالم الفلك فترجع إلى تسجيله حدثاً مهما في علم الفلك؛ فمنذ ألف عام حدث في الفضاء انفجار نجمي عظيم في يوم 30 أبريل من عام 1006م. سجله ابن رضوان ووصف هذا الحدث وهو في الثامنة عشرة من عمره بمنتهى الدقة: حجمه ومكانه وشدة إضاءته لكوكبي الزهرة والقمر. وقد شوهد الانفجار في معظم أنحاء الأرض، وسجله علماء الفلك في اليابان والصين وسويسرا

ولقد ذكرت المؤرخة "مارجريت دونسباخ" في كتابها عام 2006م، أن مجموعة من علماء الفلك في إنجلترا وأستراليا في عام 1977م قرروا دراسة بقايا هذا الانفجار النجمي الذي حدث عام 1006م، واستعانوا بتقارير الذين سجلوا هذا الحدث من الصين وسويسرا واليابان ومصر؛ فلم يدلهم على مكانه إلا الإحداثيات التي ذكرت في تسجيل هذا الحدث والتي سجلها ابن رضوان المصري.

أهم مؤلفاته

أما مؤلفات هذا العالم، التي يعددها لنا ابن أبي أصيبعة في عيون أنبائه، فتبلغ قرابة المائة مؤلف. منها:

  • شرح كتاب الفرق لجالينوس، وفرغ من شرحه له في يوم الخميس لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
  • شرح كتاب الصناعة الصغيرة لجالينوس.
  • كتاب النافع في كيفية تعليم الطب، ثلاث مقالات.
  • مقالة في دفع مضار الأبدان عن أرض مصر.
  • كلام في الأدوية المسهلة.
  • كتاب في عمل الأشربة والمعاجين.
  • مقالة في أن كل واحد من الأعضاء يتغذى من الخلط المشاكل له.
  • مقالة في شرف الطب.

إن معظم مؤلفات ابن رضوان، التي ذكرها ابن أصيبعة، هي في عداد المفقودات، والقسم الباقي معظمه على شكل مخطوطات ولم يحقق إلا جزء قليل منه مثل كتاب "النافع في كيفية صناعة الطب" الذي حققه كمال السامرائي، وكتاب "رسالة في الحيلة في دفع مضار الأبدان"، الذي حققته رمزية محمد الأطرقجي، وكتاب "رسالة ابن رضوان في القوى الطبيعية" الذي حققه عادل البكري، وحقق د. سلمان قطايه كتاب "الكفاية في الطب" و"رسالة في التطرق بالطب إلى السعادة". 

___________________

ابن زُهْر

(464 هـ، 1072م) ـ (557 هـ، 1162م)

نشأته وتعليمه

هو أبو مروان عبدالملك بن أبي العلاء ابن زُهْر الإيادي، طبيب وجراح وصيدلي أندلسي، ولد في أشبيلية، ودرس الطب في جامعة قرطبة. وهو ينتمي إلى أسرة عربية وصل جدها الأعلى إلى الأندلس في القرن الثالث الهجري. ويرجح "ويستنفيلد" Wustenfeld أن يكون ذلك سنة 330هـ /912م. ومن المؤكد أن الفرع الأندلسي من بني زُهْر يصل نسبهم إلى إياد من نزار بن معد بن عدنان. وقد اشتهرت هذه الأسرة بظهور أفراد منها تميزوا في جميع فروع المعرفة والعلوم في زمانهم، كالأدب والطب والفقه واللغة والشعر، وكثيرون منهم نالوا الحظوة عند أمراء المرابطين والموحدين وخلفائهم، ووصلوا إلى مرتبة الوزارة. وقد تربع أطباء من بني زُهْر على سدة الطب، واحتكروا الشهرة فيه طوال ثلاثة قرون في الأندلس والمغرب. ولعل أكثر من شاع ذكره منهم ستة، هم:

·        أبو مروان عبدالملك بن أبي بكر بن زُهْر

·        أبو العلاء زُهْر بن أبي مروان بن زُهْر

·        أبو مروان عبدالملك بن أبي العلاء بن زُهْر

·        الحفيد أبو بكر محمد بن أبي مروان بن زُهْر

·        أبو محمد عبد الله ابن الحفيد أبي بكر بن زُهْر

·        أبو العلاء محمد بن أبي محمد بن زُهْر

وكان أبرزَ أعلام هذه الأسرة وأرفَعَهم منزلة وأوسَعَهم شهرةً أبو مروان عبدالملك بن أبي العلاء. وقد أهّله علمه وشهرته وسمو خلقه إلى الاستئثار بكنية عائلته، بحيث إذا ما قيل "ابن زُهْر" دون إتباع هذه الكنية بأي اسم أو كنيه أخرى كان المقصود أبا مروان عبد الملك وليس غيره من أفراد أسرته، على ما ضمت من الأطباء والوزراء والفقهاء والعلماء.

يعد ابن زُهْر من أشهر أطباء عصر النهضة الإسلامية، وتخصص فقط في علم الطب والجراحة، ولذا كان أنتاجه في هذا التخصص وفيرا ومؤثرا في تاريخ الطب الحديث.

خدم عبدالملك خلفاء دولة المرابطين وأمراءَها حتى زالت، فانتقل ولاؤه إلى الموحدين فخدم أميرهم "عبدالمؤمن بن علي"، الذي احتفل به وخلع عليه ولقبه بالوزارة كأبيه وجده. ومن أوائل خدماته لعبدالمؤمن تصنيفه له "الترياق السبعيني"، وتأليفه كتاب "التيسير" بطلب منه.

لم يكن عبدالملك يمارس طبه على الطريقة التقليدية، التي كانت تقدس الأقدمين وتسير على خطاهم؛ بل كان طبيباً مستقل الرأي، واسع المعرفة، معتدّاً بنفسه، اتخذ سبيل التجربة نهجاً وقانوناً يسير على هديه، وهو القائل: إن التجربة تثبت الحقائق وتذهب البواطل، كما قال: إن التجربـة إمّا أن تصدّق قولي حيّاً كنت أو ميتـاً وإما أن تكذبـه. ويبدو كمن أخذ على نفسـه عهداً بأن لا يصدق إلا ما نتج من تجربة يؤيدها المنطق والبرهـان، مما كان له الأثـر الكبيـر في التطورات العلمية والعملية التي أدخلهـا فرانسيس بيكـون Francis Bacon في الدراسة والبحث العلمي في أوائل القرن السابع عشر، وحثَّ عليها في كتابه: "نوفوم أورغانوم" Novum Organum..

وكان أبو مروان معلماً يشعر بالمسؤولية، ويتصرف بما تقتضيه مكانته؛ ولا أَدَلَّ على ذلك من أنه كان يطلب من تلاميذه أداء قسم أبقراط، ويلزمهم بإجبار تلامذتهم على أدائه أيضاً. وابن زُهْر هو أيضا أستاذ ابن رشد ومعلمه في الطب.

نشأ عبدالملك بن أبي العلاء في ظلال العلم والجاه والثراء، الذي غمره به ملوك المرابطين والموحدين. ولابد لمن يعمل في محيط الحكام من الشعور بالرفعة وإظهار الفوقية على أقرانه، فقد لوحظ على أبي مروان أنه كان ينظر بازدراء إلى بعض الأعمال التي يمارسها أطباء عصره، كتحضير الأدوية وإجراء الفصادة والحجامة والكي، إضافة إلى بعض الأعمال الجراحية التي تتطلب القطع والبتر بآلات حادة. مما يحط بنظره من قدر الطبيب ولا يليق إلا بخدمه ومساعديه. ويرى لوسيان لوكليرك Lucien Leclerc  في هذا الموقف تباشير تفرع الطب وانقسامه إلى ثلاثة فروع هي: الطب الداخلي، والصيدلة، والجراحة.

منجزاته

أما عن انجازاته، فيعد أبن زُهْر أبا الجراحة التجريبية؛ فهو الذي أجرى العمليات التشريحية والجراحية على الحيوانات، قبل إجرائها على الإنسان، وهو أول من أجرى التشريح على جسم الإنسان ودراسته، وهو الذي طور عملية الشق الحنجري للمرضى، الذين يتعرضون للاختناق، وقد أجراها على الماعز قبل أجرائها على المرضى، وقدم نظاما جديدا للوقاية من التهابات الجهاز البولي، وكيفية المحافظة على هذا النظام من خلال نظام غذائي محدد.

وابن زُهْر أول من أضاف لعلم الجراحة وجعله تخصصاً مستقلاً بذاته، ووضع برنامجاً تدريبياً للأطباء الراغبين في ممارسة الجراحة مستقبلا.

وهو أول من وصف نظام التغذية بالوريد، بواسطة إبرة من الفضة، وألف كتاباً عن طريق التغذية بالوريد، ووصف أيضا تغذية المريض عن طريق المريء والمستقيم في حالات استحالة التغذية عن طريق الفم.

وهو أول من أثبت أن مرض الجرب سببه نوع من الطفيليات ووصف العلاج له، لذلك وصف بأنه أبو علم الطفيليات الحديث.

وابن زهر أول من أستعمل التخدير هو وأبو القاسم الزُهْراوي لإجراء الجراحات، بواسطة الاستنشاق بمواد مخدرة توضع على الأنف بواسطة الأسفنج.

وهو أول من وصف السكتة الدماغية وصفاً دقيقاً، وأيضاً الالتهاب السحائي، وأورام الرئتين والصدر، والتهاب الأذن الوسطى، والتهاب غلاف القلب (التهاب التامور)، وحدد أدوية لعلاج هذه الحالات.

أهم مؤلفاته

ومن مؤلفاته (كتاب التيسير في المداواة والتدبير) الذي ألفه بناء على طلب صاحب إشبيليه الخليفة عبدالمؤمن، إضافة إلى رغبة صديقه القاضي ابن رشد في جعل الكتاب تفصيلاً لجزئيات الطب، التي تجاوزها في كتاب الكليات الذي كان قريباً من الفلسفة بعيداً عن الممارسة السريرية للطب.

ومن كتبه أيضا كتاب (الاقتصاد في إصلاح النفوس والأجساد)، وفيه ذكر الأمراض المختلفة وطرق علاجها والوقاية منها بأسلوب مبسط جداً كتب خصيصاً للمواطن العادي. ويحتوي أيضا جزءا عن علم النفس. ومن كتبه المشهورة (كتاب الأغذية)، يصف فيه جميع طرق وأنواع الأغذية للأصحاء والمرضى وتأثيرها على الصحة، وهو أيضا مؤلف موسوعة علم الأدوية (الفارماكوبيا) للأدوية المفردة والمركبة، وعدت مرجعاً لتدريس علم الصيدلة في أوروبا.

انفرد ابن زُهْر بعنايته بالمصطلحات الطبية، وهي ثروة تغني المعاجم المتخصصة، ويستفيد منها المهتمون بأمر تعريب الطب في الوقت الحاضر. وقد جمعت في مسرد خاص في نهاية النسخة، التي حققها ميشيل خوري والتي طبعتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

أما المخطوطات التي حُفظت من كتاب "التيسير" إلى الوقت الحاضر، فهي المرء في المكتبة الوطنية بباريس، وفي الرباط، وفي المكتبة البودلية في أوكسفورد، وفي المتحف البريطاني بلندن.

أما الكتاب الثاني الباقي من كتب ابن زُهْر، فهو كتاب "الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد"، الذي كتب عنه "جورج سارتون" George Sarton في كتابه "المدخل لتاريخ العلم" Introduction to the History of Science  يقول: "والكتاب مختصر في المداوة وتدبير الصحة وضعه ابن زُهْر لينتفع به غير الأطباء، ولكنه لم يكتمل لاشتماله على خمسة عشر فصلاً أو (اقتصاداً) إذ إن مؤلفه على ما يظهر كان ينوي إتباعَه بكتاب آخر يجعل فصول الكتابين معاً ثلاثين (اقتصاداً) ويفهم من عنوان الكتاب أنه يتناول كلاً من النفس والجسد، ولكن فصوله الأولى كانت عبارة عن موجز في علم النفس. والملاحظ أنه لا يوجد من هذا الكتاب سوى مخطوطتين إحداهما في المكتبة الوطنية بباريس، والثانية تملكها مكتبة الإسكوريال بإسبانيا".

أما ثالث كتب ابن زُهْر الباقية فهو"كتاب الأغذية"، الذي ألفه عندما كان مسجوناً بعيداً عن كتبه. وقد قال عنه جورج سارتون إنه أقل شأناً من كتابيه الآخرين «التيسير» و«الاقتصاد»، وهو يبحث في مختلف أنواع الأطعمة، وينبه إلى ما يُتناول منها حسب الفصول، وإلى جانب ذلك فإنه يلم بصورة موجزة بالأدوية البسيطة، وبعض مبادئ حفظ الصحة. ويشير إلى المنافع الناجمة عن التختم بالياقوت والزمرد، وغيرهما من الحجارة الكريمة.

أما الكتب التي ضاعت فهي: كتاب «الزينة»، ومقالة في علل الكلى، وتذكرة في أمر الدواء المسهل، ورسالة في علتي البرص والبهق. وقد أخطأ لوكليرك فأضاف كتاباً سماه: «الأقوال المأثورة» الذي ثبت أنه كتاب "الجامع" الملحق بالتيسير.

وقد أهتم ابن زُهْر بالطب الإكلينيكي وكيفية التشخيص للأمراض المختلفة، والتفرقة بينها للوصول إلى التشخيص السليم. وترجمت كتبه إلى اللاتينية، وتمتعت بنفوذ وشهرة كبيرة في أوروبا وعدت مرجعاً لتدريس الطب الإكلينيكي والجراحة وممارسته حتى القرن الثامن عشر.

توفي العلامة، أبو مروان عبدالملك بن زُهْر بن أبي العلاء ابن زُهْر، الطبيب في أشبيلية بالأندلس، في عام 1162م. 

___________________

الإدريسي

(493هـ، 1100م) ـ (561هـ، 1166م)

نشأته وتعليمه

أبو عبدالله محمد بن محمد عبدالله بن إدريس، وينتسب للأسرة الإدريسية العلوية والتي يمتد نسبها للإمام علي t؛ ولذلك لقب عادة بالشريف الإدريسي، وكذلك يلقب بالإدريسي بالصقلي، لأنه أمضى سنوات طويلة من حياته في صقلية.

ويعد الشريف الإدريسي أشهر جغرافي عرفته الحضارة الإسلامية، بل وأشهر جغرافي على الإطلاق حتى عصر الكشوف الجغرافية الأوروبية، أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلاديين.

ولد الإدريسي في سبته بالمغرب عام 493 هـ (1100م)، وعاش أكثر سنوات حياته بالمغرب والأندلس وصقلية. وتوفى عام 561هـ (1166م) في سبته بالمغرب.

بدأ الإدريسي تعليمه في سبته وفاس، ثم انتقل إلى قرطبة بالأندلس ليدرس على علماء عصره من أساتذة جامعتها. وأمضى بقرطبة عدة سنوات أتقن فيها علوم الجغرافيا والفلك والحساب والهندسة، كما درس أيضاً الطب والصيدلة والنبات. وإلى جانب دروس أساتذته، استقى الإدريسي قاعدة معلوماتية الجغرافية من دراسة ما توافر لديه من مؤلفات كبار الجغرافيين، مثل بطليموس وابن حوقل وغيرهم؛ فأحاط إحاطة شاملة بإنجازات من سبقه من الجغرافيين. كما قام الإدريسي برحلات واسعة في بلاد حوض البحر المتوسط والبلاد القريبة منه.

وقد زودته تلك الرحلات بالكثير من المعلومات، فاكتسبت معارفه الجغرافية بعداً عملياً. فقد زار مصر والشام والقسطنطينية، ومكث بقرطبة زمناً. كما تنقل بين أقاليم الأندلس والشمال الأسباني ومدنهما، وزار البرتغال الذي كان ما يزال جزءا من الدولة الأموية؛ وزار الشاطئ الفرنسي وجنوب انجلترا، وأخيرا زار صقلية عندما دعاه ملكها روجر الثاني وحل عليه ضيفاً في العاصمة باليرمو.

ويعتقد أن الإدريسي مكث بصقلية قرابة عشرين عاماً. وكانت صقلية ما تزال بلداً تزدهر فيها الثقافة الإسلامية، على الرغم من استيلاء النورمانديين عليها من المسلمين. فطلب حاكمها روجر من الإدريسي أن يرسم له خريطة للعالم، فاختار الإدريسي الرجال ودربهم على دقة المشاهدة، ليصوروا ما يشاهدونه برسومهم ويزودوه بمعلومات جغرافية عن البلاد التي سينزلون بها. وحين اطمأن إلى قدراتهم على انجاز مهمته، أرسلهم إلى بلاد كثيرة. وكان الإدريسي يدون المعلومات التي تصل إليه منهم ويعيد صياغتها. ثم جمع الإدريسي كل ما وصل إليه في كتاب سماه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، وقد احتوى الكتاب على كثير من المعلومات الخاصة بغرب أوروبا. وقد اشتهر هذا الكتاب بين علماء الشرق والغرب، واستغرق إخراج هذا الكتاب خمسة عشر عاماً. وبعد الانتهاء من تأليفه أهداه إلى صديقه الملك روجر، الذي أعجب به وكافأه عليه. وظل هذا الكتاب هو المصدر الأول لعلماء أوروبا والشرق لأكثر من ثلاثة قرون.

وكانت هذه الموسوعة الجغرافية من أول الكتب العربية التي عرفت الطباعة، وبقيت تطبع وتنشر بالعربية واللاتينية والفرنسية والألمانية والأسبانية والإيطالية والإنجليزية حتى عام 1957م، واستخدمت مصوراته وخرائطه في سائر كشوف عصر النهضة الأوروبية، حيث لجأ إلى تحديد اتجاهات الأنهار والمرتفعات والبحيرات، وضمها أيضا معلومات عن المدن الرئيسية إضافة إلى حدود الدول.

وتتكون مخطوطة الخريطة من سبعين ورقة، تصل إلى نحو خمسة أمتار مربعة. كما رسم الإدريسي خريطة للعالم حسب طلب الملك روجر على لوح مستطيل من الفضة، ثم طلب منه الملك روجر أن يصنع له كرة توضح شكل الكرة الأرضية، فصنع بذلك أول مجسم لكرة أرضية دقيقة عُرفت في التاريخ، وكان قطر الكرة يبلغ المترين طولاً ووزنها يقدر بوزن رجلين، وصُنعت من الفضة، ورسم على سطحها خريطة العالم. وبعد وفاة الملك روجر حاكم صقلية خلفه غليوم الأول، وظل الإدريسي على مركزه في البلاط؛ فألف للملك غليوم الأول كتاباً آخر في الجغرافيا سماه (كتاب الممالك والمسالك) يعرف منه مختصر مخطوط موجود في مكتبة "حكيم أوغلو علي باشا" باسطنبول.

ويعد الإدريسي هو مؤسس علم الجغرافيا الحديثة، فهو قد جعلها علماً مثل العلوم الأخرى. ومن إسهاماته في هذا المجال أنه أكد على خطوط الطول والعرض لتحديد المكان والمسافة وقال بكروية الأرض، وترك عدداً من الخرائط لمنابع النيل والبحار وأقاليم العالم القديم. وإلى جانب الجغرافيا كان الإدريسي مهتماً بالطب فألف كتاب اسماه (كتاب الأدوية المفردة)، وصف فيه الأدوية وخواصها مستخدما اثنتي عشرة لغة.

وفى عام 1928، نشر العام الألماني كونراد ميلر نسخة ملونة من خريطة الإدريسي، بعد أن بذل جهداً خارقاً من أجل تجميع أجزائها المختلفة، وترجمة الأسماء العربية إلى الألمانية. ومنذ سنوات قليلة نشرت خريطة العالم للإدريسي مع نص العالم الألماني كونراد ميلر وعرضت في معرض فرانكفورت للكتاب، أثناء استضافة العالم العربي كضيف شرف بالمؤتمر. ويعد ذلك إشارة قوية إلى إسهامات العرب والمسلمين في تطوير المعارف الإنسانية، ويرمز إلى وحدة الثقافات وتعاونها وليس صراع الحضارات.

___________________

ابن طفيل

(505هـ، 1110م ) ـ (581هـ، 1185م)

نشأته وتعليمه

هو محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي، أبو بكر والمعروف باسم (Abu Bacer)‏ وهو تحريف لأبي بكر. ولد بمدينة ‏(‏وادي أش‏)‏ على بعد ‏40‏ ميلاً في الشمال الغربي لغرناطة‏.‏ درس الفلسفة والطب في غرناطة ويعد من أعظم فلاسفة الأندلس ورياضيها وأطبائها وشعرائها. كما درس علي يد ابن باجه. تقلب ابن طفيل في مناصب عده؛ فأشتغل في البداية كاتبا في ديوان والي غرناطة، ثم في ديوان الأمير أبي سعيد بن عبد المؤمن حاكم طنجه، ثم أصبح وزيراً وطبيباً للسلطان الموحدي أبي يعقوب بن يوسف. ويقال إن أبن طفيل كان ذا تأثير كبير علي الخليفة، وقد أستغل ذلك في جلب العلماء إلى البلاط. ونذكر منهم بصفة خاصة الفيلسوف والطبيب ابن رشد، الذي قدمه ابن طفيل عندما تقدم به السن إلى السلطان، ليشرح كتب الفلسفة وليخلفه في عمله كطبيب. وقد ظل ابن طفيل في بلاط السلطان إلى أن توفي بمراكش عام1185 عن87 عاماً، وحضر السلطان جنازته تكريماً له.

أما عن إسهاماته في الطب، فقد ذكر لسان الدين ابن الخطيب أن ابن طفيل ألف في الطب كتاباً في مجلدين. كما ذكر أبن أبي أصيبعه أنه كان بين أبن طفيل وأبن رشد مراجعات ومباحث في رسم الدواء، جمعها ابن رشد في كتابه الكليات. كما كانت لإبن طفيل أرجوزه في الطب تتألف من7700 بيت، وهي الآن موجودة في خزانة جامع القرويين بفاس بالمملكة المغربية، وله أيضاً رسالة في النفس في الفلسفة.

أما عن إسهاماته في الفلك، فيقول الباحث ليون غوتيه في كتابه عن ابن طفيل إنه أوجد نظاما فلكيا ومبادئ لحركاته، غير تلك المبادئ التي وضعها بطليموس. ويتساءل الباحث الفرنسي عن احتمال أن تكون فرضيات ابن طفيل تشتمل علي بعض العناصر الأساسية من الإصلاح الفلكي العظيم، الذي جاء به كوبر نيك وجاليليو بعد أربعة قرون. وقد ذكر البطروحي، عالم الفلك الكبير، أنه أخذ عن ابن طفيل قوله في الدوائر الداخلية في حركات الأفلاك.

أهم مؤلفاته

ومن أشهر ما كتب ابن طفيل قصة حيي بن يقظان. وقد صور ابن طفيل فيها الإنسان، الذي هو رمز العقل، في صورة حيي بن يقظان.

والقصة، باختصار، تحكي أن حيياً نشأ في جزيرة معزولة في حضن ظبية، قامت علي تربيته وتأمين الغذاء له من لبنها. وتدرج في المشي وأخذ يحكي أصوات الظباء ويقلد أصوات الطيور، ويهتدي إلى مثل أفعال الحيوانات بتقليد غرائزها. وعاش بينها حتى كبر وترعرع. واستطاع بالملاحظة والفكر والتأمل أن يحصل علي غرائزه الإنسانية، واهتدي إلى وجود خالق واحد بالفطرة وبالعقل، وبدون أي تواصل مع أي أدمي أخر. واهتدى إلى عدم التشبه بالحيوانات في اهتمامها بالأكل والشرب والتكاثر فقط، بل استطاع أن يهتدي إلى عالم أخر روحاني يكون هو فيه بحضرة الله، منعزلاً عن ما حوله من ماديات. ويتضح هنا تأثير الصوفية والفلسفة الأشراقية في فكر ابن طفيل.

وقد عرفت هذه القصة في الغرب منذ القرن السابع عشر، وترجمت إلى عدة لغات، منها اللاتينية والعبرية والانجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية. وهي تعرف كذلك باسم: أسرار الحكمة الإشراقية.

___________________

ابن رشد

(520 هـ، 1126م) ـ (595 هـ، 1198م)

نشأته وتعليمه

هو محمد بن أحمد بن رشد وكنيته، أبو الوليد؛ عالم إسلامي ولد في مدينه "قرطبة" بالأندلس في عام 1126م من أسرة لها تاريخ عريق في الأندلس. كان جده أبو الوليد محمد قاضي القضاة في مدينه قرطبة بالأندلس، وكذلك والده أبوالقاسم أحمد اعتلى منصب قاضي القضاة حتى عام 1146م. ويعرف بابن رشد الحفيد، لأنه سليل آباء من القضاة والعلماء.

في بداية حياته تعلم ابن رشد اللغة والحديث وحفظ القرآن، ثم تعلم على يد ابن طفيل مؤلف الكتاب المشهور "حي بني يقظان". وتعلم الطب على يد "أبي جعفر هارون"، وكذلك على يد فيلسوف ووزير الأمير "أبو يعقوب يوسف"، وهو الذي قدمه إلى العالم الإسلامي، "ابن زهر"، الطبيب البارع الذي أصبح بعد ذلك معلماً وأستاذاً لابن رشد وصديقاً له. ويرى تأثير ابن زهر على ابن رشد في تعليمه الطب وذلك في الكتاب الذي ألفه ابن رشد "الكليات في الطب"، والذي تأثر فيه بكتاب ابن زهر "التيسر في المداواة والتدبير". كما حفظ موطأ مالك، وديوان المتنبي، ودرس الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري.

وتتلمذ ابن رشد أيضاً، على يد الفيلسوف الإسلامي الكبير "ابن باجه"، الذي يعد مع ابن رشد وابن طفيل عمالقة الفلسفة في الدولة الأندلسية.

وعلى الرغم من شهرة ابن رشد في حقول الطب، إلا أن شهرته الحقيقية قامت على نتاجه الفلسفي الخصب، وعلى الدور الذي مثله في تطور الفكر العربي من جهة، والفكر اللاتيني، من جهة أخرى. يرى ابن رشد أن لا تعارض بين الدين والفلسفة؛ ولكن هناك، بالتأكيد، طرقاً أخرى يمكن من خلالها الوصول للحقيقة المنشودة نفسها. ويؤمن بسرمدية الكون، ويقول إن الروح منقسمة إلى قسمين اثنين: القسم الأول شخصي يتعلق بالشخص، والقسم الثاني فيه من الإلهية ما فيه؛ وبما أن الروح الشخصية قابلة للفناء، فإن كل الناس على مستوى واحد يتقاسمون هذه الروح وروح إلهية مشابهة. ويدعي ابن رشد أن لديه نوعين من معرفة الحقيقة، الأول معرفة الحقيقة استناداً على الدين المعتمد على العقيدة ومن ثم لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل، والمعرفة الثانية للحقيقة هي الفلسفة، والتي ذكر أن عدداً من النخبويين الذين يحظون بملكات فكرية عالية توعدوا بحفظها، وإجراء دراسات جديدة فلسفية.

تولى ابن رشد منصب القضاء في أشبيلية، وأقبل على تفسير أثار أرسطو تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، وكان قد وصل في خدمته، بواسطة الفيلسوف ابن الطفيل، كطبيبه الخاص، ثم عاد إلى قرطبة حيث تولى منصب قاضي القضاة.

كان ابن رشد مغرماً بعلوم الفلك منذ صغره، وكان يلاحظ الفلكيين حوله يتكاتفون لمعرفة بعض أسرار هذه السماء في وقت الظلام. وحين بلغ الخامسة والعشرين، بدأ ابن رشد يتفحص سماء المغرب من مدينته "مراكش"، والتي من خلالها قدم للعالم اكتشافات وملاحظات فلكية جديدة، واكتشف نجماً لم يكتشفه الفلكيون الأوائل.

وبعد ذلك بنحو عشر سنوات أُلحق بالبلاط المراكشي طبيباً خاصاً للخليفة. ولما تولى "المنصور أبو يوسف يعقوب" الخلافة، بعد أبيه، لقي الفيلسوف والطبيب ابن رشد على يديه، ما لقي على يد والده من حظوة وإكرام، إلا أن الوشاة مازالوا بالمنصور حتى أثاروا حفيظته عليه، فأمر بإحراق كتبه وسائر كتب الفلسفة، وحظر عليه الاشتغال بالفلسفة والعلوم جمله، ماعدا الطب والفلك والحساب. ونُفي ابن رشد، إلا أن الخليفة ما لبث أن رضي عنه وأعاده إلى سابق منزلته.

منجزاته

قدم ابن رشد للتراث البشري مؤلفات كثيرة، تقدر بحوالي عشرين ألف صفحة في علوم الطب والفلسفة الإسلامية والرياضيات والفلك والشريعة والفقه. وهي تقدر بحوالي 67 كتاباً، منها 28 في الفلسفة و20 كتابا في الطب. وفي مجال الطب كتب ابن رشد موسوعة طبية باسم (الكليات في الطب)، وكتاب "تعليق على كتاب قانون الطب لابن سينا".

وقد ترجمت كتب ابن رشد إلى العبرية عام 1200م،  بواسطة "يعقوب اناطولي" ثم ترجمت بعد ذلك من العبرية إلى اللاتينية بواسطة "جالوب مانتينو". وبعض كتبه ترجمت مباشرة من العربية إلى اللاتينية، بواسطة "مايكل سكوت".

وتعد موسوعته (الكليات في الطب) مرجعاً مهماً لعلم الفسيولوجي والباثولوجي والتشخيص والطب الوقائي وعلم الأدوية. وقد أضاف إلى فسيولوجية العين، وأقر بأن النظر هو وظيفة الشبكية.

وهو من الأوائل الذين شخصوا الضعف الجنسي، ووصف الدواء لهذه المشكلة بالفم والدواء الموضعي، أو من خلال مجرى البول.

وكان أول من وصف مرض باركنسون بدقة. كما كان عالماً كبيراً في علم النفس، وأضاف الكثير إلى هذا الحقل.

وكما قال جورج سارتون، أبو تاريخ العلوم "ابن رشد عظيم جداً، فلقد أضاف إلى الفلسفة والطب وعلم النفس إضافات أثرت على البشرية حتى نهاية القرن السادس عشر".

يقول لويج رينالدي في بحث عنوانه "المدينة العربية في الغرب":‏ "ومن فضل العرب علينا أنهم هم الذين عرّفونا بكثير من فلاسفة اليونان. وكانت لهم الأيدي البيضاء على النهضة الفلسفية عند المسيحيين. وكان الفيلسوف ابن رشد أكبر مترجم وشارح لنظريات أرسطو. ولذلك كان له مقام جليل عند المسلمين والمسيحيين على السواء. وقد قرأ الفيلسوف ورجل الدين النصراني المشهور "توماس الأكويني"، نظريات أرسطو بشرح العلامة ابن رشد. ولا ننسى أن ابن رشد هذا مبتدع مذهب "الفكر الحر". وهو الذي كان يتعشق الفلسفة، ويهيم بالعلم، ويدين بهما. وكان يعلمهما لتلاميذه بشغف وولع شديدين، وهو الذي قال عند موته كلمته المأثورة: تموت روحي بموتِ الفلسفة".‏

وفي كتابه "تاريخ موجز للفكر الحر"، كتب المفكر الإنكليزي جون روبرتسون : "إن ابن رشد أشهر مفكر مسلم؛ لأنه كان أعظم المفكرين المسلمين أثراً، وأبعدهم نفوذاً في الفكر الأوروبي، فكانت طريقته في شرح أرسطو هي المثلى".‏

وكتب المستشرق الإسباني البروفيسور ميجيل هرنانديز: "إن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد سبق عصره، بل سبق العصور اللاحقة كافة، وقدم للعلم مجموعة من الأفكار التي قامت عليها النهضة الحديثة".‏ ورأى هرنانديز أن ابن رشد قدم رؤية أكثر شمولاً وإنسانية للمدينة الفاضلة. وكان يرى إمكانية قيام كثير من المدن الفاضلة، وأن تقوم بينها علاقات سلمية فاضلة، والمدينة هنا تكاد تعني الدولة تماماً. واعتقد أن قيام الحروب بين الدول هو نهاية العالم.

وضع ابن رشد أكثر من خمسين كتاباً في مجالات مختلفة، منها:

كتاب مناهج الأدلة ، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية في الأصول. وكتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية. وكتاب تهافت التهافت الذي كان رد ابن رشد على الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة. وكتاب الكليات في الطب. وكتاب "التحصيل" في اختلاف مذاهب العلماء. وكتاب "الحيوان" . وكتاب "فصل المقال في مابين الحكمة والشريعة من الاتصال". وكتاب "المسائل" في الحكمة. وكتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" في الفقه. وكتاب "جوامع كتب أرسطاطاليس" في الطبيعيات والإلهيات. وكتاب "شرح أرجوزة ابن سينا" في الطب.‏ وتلخيص وشرح كتاب ما بعد الطبيعة (الميتافيزيا). وتلخيص وشرح كتاب البرهان أو الأورغنون. وتلخيص كتاب المقولات (قاطيفورياس). وتلخيص كتاب الأخلاق. وتلخيص كتاب السماع الطبيعي. وشرح كتاب النفس. وشرح كتاب القياس.

وله مقالات كثيرة، منها:

مقالة في العقل. ومقالة في القياس. ومقالة في اتصال العقل المفارق بالإنسان. ومقالة في حركة الفلك. ومقالة في القياس الشرطي.

توفي ابن رشد في مراكش في أول دولة "الناصر خليفة المنصور"، في 10 ديسمبر 1198.

___________________

مهذب الدين الدَُّخْوار

(565 هـ، 1165م) ـ (628هـ، 1230م)

نشأته وتعليمه

شيخ الطب الأستاذ مُهذَّب الدين عبدالرحيم بن علي بن حامد الدمشقي، المعروف بالدخوار. ولد في دمشق بسورية سنة 1165م (565هـ).

خدم الملك العادل "أبا بكر ابن أيوب"، سنة 604 هـ، والوزير ابن شكر، وعالج العادل في مرض ألم به، فكافأه بسبعة آلاف دينار مصرية، وارتفعت منزلته عنده حتى جعله من جلسائه وأصحاب مشورته. ولما توفي الملك العادل سنة 615هـ، وولي الملك المعظم بالشام، ولاه النظر في البيمارستان (المستشفى) الكبير، الذي أنشأه "نور الدين بن زنكي"، ووقف داره "مدرسة للأطباء".

انتهت إلية رئاسة الطب، في عهد الملك الأشرف سنة 626 هـ، وحظي برعاية الملوك ونال شهرة عريضة. وكان من أصحاب الأموال الميسورين، ونسخ بخطه أكثر من مائة مُجلد. وقد أخذ العربية عن الكندي، والعلاج عن الرضي الرحبي، والموفق ابن المطران والفخر المارديني،

ومن مؤلفاته الشهيرة "اختصار الحاوي للرازي"، و"الجنينة في الطب"، و"شكوك طبية ورد أجوبتها". وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من الأطباء، فيما سمي "المدرسة الدخوارية"، نسبة إليه.

___________________

ابن أبي أصيبعة

(596 هـ، 1200م) ـ (668هـ، 1270م)

نشأته وتعليمه

أشهر أفراد أسرة ابن أبي أصيبعة، وهو الذي يعنيه المؤرخون والكتّاب حينما يطلقون لقب: ابن أبي أصيبعة.

ولد موفق الدين أحمد بن سديد الدين في دمشق، في أسرة ثرية اشتهرت بالعلم والأدب. وكان لها صلاتها الجيدة بالملوك في الشام ومصر؛ فتوافرت له أسباب التحصيل، فدرس الأدب والحكمة والعلوم على مشاهير عصره من العلماء، في كل من دمشق والقاهرة؛ فقرأ علم الطب على "رضي الدين الرحبي" (631هـ/ 1233م)، والعلوم الحكمية على "رفيع الدين الجبلي" (641هـ/ 1244م)، وعلم النبات والعقاقير على "ضياء الدين عبدالله بن أحمد المالقي" المعروف بابن البيطار (646هـ/ 1248م). كما أخذ الطب والكحالة على أبيه "سديد الدين".

مارس الطب متمرناً في البيمارستان النوري، الذي كان يرأسه الطبيب الشهير "مهذب الدين عبد الرحيم بن علي" الدمشقي، المشهور بابن الدخوار (628هـ/ 1230م)، ثم انتقل إلى القاهرة فطبب في البيمارستان الناصري سنة 631هـ، وأخيراً عاد إلى دمشق سنة 634هـ ليتابع تطبيبه في البيمارستان النوري. وفي ربيع الأول سنة 634هـ/ 1236م انتقل إلى صرخد (صلخد اليوم) ليعمل في خدمة أميرها عز الدين أيبك المعظمي، وتوفي فيها.

كان من أصدقاء ابن أبي أصيبعة عدد من علماء عصره، أمثال رشيد الدين بن علي الصوري، الذي عاش فيما بين عامي (573ـ 639هـ)، وكان يرافقه في جمع الأعشاب والنباتات وتصويرها في لبنان، وكذلك الطبيب "عز الدين إبراهيم بن الطرخان السويدي" (690هـ).

أهم مؤلفاته

اشتهر موفق الدين ابن أبي أصيبعة بكتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء". وقد ورد في كتابه هذا أنه ألف عدداً من الكتب، لم يعثر عليها حتى اليوم، وهي: كتاب "إصابات المنجمين"، "كتاب التجارب والفوائد"، "كتاب حكايات الأطباء في علاجات الأدواء". أما كتابه (عيون الأنباء) فهو، بلا شك، من أهم المراجع في ترجمة الأطباء وطبقاتهم، وهو يحتوي أكثر من 400 ترجمة لقدماء الأطباء والمحدثين.

استهل كتابه بمقدمة فلسفية ودينية واجتماعية، تناول فيها مكانة الطب بين العلوم والصناعات المختلفة. والكتاب مرتّب في خمسة عشر باباً بحسب بلاد الأطباء وتعاقب طبقاتهم. وقد جعل الباب الأول للحديث عن كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها، ثم تحدث عن طبقات الأطباء الأول، الذين كانت لهم مؤلفات في صناعة الطب، وتحدث عن الأطباء اليونانيين، ثم استوفى الحديث عن الأطباء في الديار الإسلامية ورتبهم بحسب أقاليم الدولة الإسلامية، المشرقية منها والمغربية.

ويعد كتاب ابن أبي أصيبعة أشمل الكتب التي وضعت في تاريخ الطب والأطباء، قبل الإسلام وبعده. وقد نقل المؤلف معلوماته عن مشاهير عصره، جامعاً ماتفرّق في الكتب الكثيرة عن حكماء القدماء وعلماء العرب والإسلام، ولا سيما "ابن جلجل"، الذي أصبح مرجعاً أساسياً في تاريخ الطب.

وقد اعترف بهذا الكاتب المؤرخ "كارلو نلّينو" في مؤلفه "تاريخ علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى"، إلا أنه أخذ على ابن أبي أصيبعة بعض الأخطاء التاريخية والجغرافية واللغوية، وقد عزا بعضهم ذلك إلى النساخ.

ويعود الفضل في تحقيق كتاب عيون الأنباء إلى "أوغوست مولّر"، الذي راجع خمس عشرة نسخة خطية من هذا الكتاب. ثم صنف النسخ الخطية التي حصل عليها في ثلاث روايات مختلفة:

الأولى: وسمّاها الصغرى، وهي أقدمها، إذ نشرها المؤلف بدمشق سنة 640هـ تقريباً. وقد حفظت في خزانة أمين الدولة، أبي الحسن ابن الغزال، وزير الملك الصالح إسماعيل الأيوبي.

الثانية: وسمّاها الكبرى: وهي نسخة مطوّرة، زاد عليها المؤلف زيادات حسنة، بعد أن نقحها وأصلحها. ونشرها سنة 667هـ، أي قبل وفاته بعام واحد.

الثالثة: وسمّاها مولّر الممتزجة، وهي نسخة وضعها رجل مجهول، مازجاً بين النسختين السابقتين، حاذفاً منهما ما شاء، ومغيراً أحياناً في العبارة، وتوجد منها نسخة في خزانة الكتب الكبرى في برلين.

وقد نشر مولّر كتاب عيون الأنباء، بعد تحقيق شاق، بمطبعة وهبة بمصر عام 1299هـ/ 1882م محافظاً على نص الروايتين الأولى والثانية، مع زيادات في الشرح والتوضيح. غير أن الطبعة جاءت مشوّهة لكثرة الأخطاء في الطبع، من حذف واختصار وتغيير في الأصل، ما اضطر مولّر إلى كتابة ذيل مطوّل لتصحيح الطبعة المصرية، نشره في مدينة كونغسبرغ سنة 1884م.

استفاد الدكتور "لوسيان لوكلرك" من كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، عند تأليف كتابه "تاريخ الطب العربي" سنة 1876، فأخذ عن ابن أبي أصيبعة تصنيفه قدماء الأطباء إلى طبقات، حسب القرن الذي عاشوا فيه، وحسب المكان الذي نشؤوا به. كما أنه نقل عن ابن أبي أصيبعة أسماء جميع المؤلفات التي وضعها أولئك الأطباء، إضافة إلى ذكر لمحة موجزة عن ترجمة أكثرهم.

وفي عام 1942م نشر الدكتور أحمد عيسى ذيلاً لكتاب عيون الأنباء تحت عنوان "معجم الأطباء"، تدارك فيه ذكر أسماء بعض الأطباء العرب والمسلمين، ممن عاش قبل ابن أبي أصيبعة، أو عاصره، أو جاء من بعده.

___________________

ابن النفيس

(607هـ، 1210م) ـ (687هـ، 1288م)

نشأته وتعليمه

هو علاء الدين علي بن أبي حزم بن النفيس القرشي، وكنيته أبو الحسن. ولد في دمشق عام 1210م، ودرس فيها الطب على مشاهيرها، من أمثال الطبيب المشهور مهذب الدين عبدالرحيم والمعروف "بالداخور"؛ ثم ارتحل إلى القاهرة حيث زاول المهنة في داره، التي أعدّها لتستقبل المرضى. ودّرس كتب الرازي وابن سينا وجالينوس. وقد اختاره السلطان بيبرس طبيباً خاصاً له، وعميداً لأطباء البيمارستان الناصري، الذي أسسه السلطان صلاح الدين. وانتقل من ثم عميداً لأطباء المستشفى المنصوري، الذي أسسه السلطان قلاوون، وظل يدرس ويبحث ويؤلف إلى أن وافته المنية في القاهرة عام 1288م.

وذخيرة ابن النفيس الطبية يسرتها له دراسة معمقة للطب في دمشق، وممارسة عريضة له؛ فضلاً عن تدريسه في القاهرة. وقد وظف كل ذلك في تجاربه ومؤلفاته، فكانت إنجازاته المميزة. وكان ابن النفيس يخضع أبحاثه لمنهج علمي واضح. فقد درس أعمال من سبقه من العلماء والأطباء، قبل أن يحكم على غير السليم منها، ويعتمد على الجديد لبناء نظريات جديدة. وقد أهتم بالظواهر والعوامل المؤثرة في جسم الإنسان، أكثر من اهتمامه بالطب العلاجي. ويعد عالماً محققاً، بل رائداً في علم وظائف الأعضاء، مع تسجيل إنجازاته، التي سبق بها عصره، وظلت وحيدة في الصدارة حتى اليوم.

منجزاته

ومن أهم أبحاث ابن النفيس، ما كتبه عن الدورة الدموية الجزئية (الصغرى) في مؤلفة: "شرح تشريح القانون" لابن سينا، قال: "إن القلب له بطنان فقط، إحداهما مملوء من الدم هو الأيمن، والآخر مملوء من الروح (الدم المنقّى بعد مزجه بالهواء) وهو الأيسر، ولا منفذ بين هذه البطنين البتة. والتشريح يكذب ما قالوه، والحاجز بين البطين أشد كثافة من غيره. فإن نفوذ الدم إلى البطن الأيسر إنما هو من الرئة بعد تسخنه، وتصعيده من البطن الأيمن كما قررناه". هذه المقولة ناقضت كل من سبق من أراء لأبقراط، الذي اعتقد أن الدم يسير في الأوردة فقط والهواء يسير في الشرايين، كذلك ناقضت آراء جالينوس، الذي لم يزد كثيراً على معلومات أبقراط، مع أنه أشار إلى عدم وجود منفذ بين تجوفي القلب، مع ظنه أن الدم ينتقل من التجويف الأيمن إلى الأيسر عبر منافذ خفية. وكان ابن النفيس وحده من عارض أراء من سبقه. وحين وصف هارفي Harvey  العالم الإنجليزي، عام 1628 الدورة الدموية، مدعمة بالبراهين، اعتقد العالم أنه الأول الذي اكتشف هذا الأمر الخطير؛ لكن العثور على مؤلف ابن النفيس يؤكد أسبقيته في هذا الاكتشاف بقرون عديدة، وسُجل الفضل الأول له باعتراف علماء الغرب والشرق معاً.

وقد عارض ابن النفيس ابن سينا في موضوع غذاء القلب، فقال: "وجعله الدم الذي في البطن الأيمن منه يتغذى القلب لا يصلح البتة. فإن غذاء القلب هو من الدم المنبث فيه من العروق المشبتة في جرمه".

أهتم ابن النفيس بتشريح القلب والحنجرة، وكتب أبحاثاً حول النبض والتنفس. كما كانت له أبحاث في أمراض العين تختص بتشريحها، ودرس عملية الأبصار، ثم تحدث عن أسباب أمراضها، وقواعد صناعة الكحل لمداواتها.

وبعد ذلك ألف موسوعته الشهيرة بعنوان  "الشامل في الطب"، وتقع في ثلاثمائة جزء لم يقدر له أن يكتب منها سوى ثمانين جزءاً. وقد هذه الموسوعة من أكبر الموسوعات في تاريخ الطب البشري. 

حزن ابن النفيس حزنا شديدا عندما سقطت مدينة بغداد في أيدي المغول عام 1258، وحرقت ودمرت الكتب النفيسة في مكتبة بغداد، وكذلك سورية عام 1259. وتبدد هذا الحزن عندما هُزم المغول في معركة "عين جالوت" عام 1260م بقيادة الظاهر بيبرس، والتي أعقبها نهضة علمية كبيرة وعظيمة في مصر وسورية لتعويض ما فقدته بغداد من التراث العلمي، بعد غزو المغول لها.

وبين الأعوام 1260- 1277، أصبح ابن النفيس طبيبا خاصا للسلطان بيبرس. وقرر ابن النفيس أن يجمع كل ما وصل إليه الطب في زمانه في موسوعة طبية واحدة، تضاهي موسوعة "الحاوي" لأبي بكر الرازي ، ثم كتب موجزاً سماه "الموجز في الطب".

كما ألف كتاباً مهماً في تغذية المرضى سماه "المختار من الأغذية"، وكذلك كتاباً مهماً في علم التشريح هو " شرح تشريح ابن سينا".

وفي عام 1272م نزل وباء بأرض مصر، راح يفتك بالنساء والأطفال والرجال. فقاد ابن النفيس حملة للقضاء عليه حتى انتصر عليه في النهاية، فنال شهرة ومكانة مرموقة لدى حكام مصر وشعبها وأصبح يلقب "أبو العلاء القرشي المصري".

واختار ابن النفيس جزيرة الروضة لأقامته، فبنى بها بيتاً كبيراً جعله ملتقى لأهل العلم والفقه.

وقد استفاد علماء أوروبا من نظرية ابن النفيس؛ ففي هذه الفترة كانت الجامعات الغربية في أوروبا أخذه في الظهور، وفي مقدمتها جامعة بادوا الإيطالية.

وفي منتصف القرن السادس عشر تُرجم كتاب " شرح تشريح ابن سينا" لابن النفيس، إلى اللاتينية بواسطة الطبيب الايطالي "الباجو".

ثم جاء وليام هارفي الإنجليزي في القرن السابع عشر، وكان قد تخرج في جامعة "بادوا"، فوصف الدورة الدموية الكاملة " الصغرى والكبرى "مسترشدا بما جاء في كتاب ابن النفيس. وفي العقد الثالث من القرن العشرين وجد العالم المصري الدكتور (محي الدين التطاوي) في أثناء دراسته للطب في كلية طب "برلين"، مفاجأة حين عثر على مخطوط شرح "تشريح ابن سينا لابن النفيس"، وبه شرح كامل للدورة الدموية الصغرى".

وتقدم الدكتور التطاوي في عام 1924 برسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة فرايبورج بألمانيا، موضوعها: "الدورة الدموية تبعا للقرشي"، وفيها يقول إن ابن النفيس هو المكتشف الأول للدورة الدموية الصغرى في القرن الثالث عشر، أي قبل "هارفي" بأربعمائة عام. وبناء عليه نشر "جورج سارتون" هذا الخبر في مؤلفه الضخم في تاريخ العلوم، فعاد نجم ابن النفيس للظهور، بعد أن خبا ضوئه سبعة قرون، كواحد من العباقرة المكتشفين العظام.

وعندما بلغ ابن النفيس أربعاً وسبعين عاماً، كلفه السلطان قلاوون، مؤسس دولة المماليك البحرية، ببناء بيمارستان جديد بالقاهرة، هو البيمارستان المنصوري.

عاش ابن النفيس في القاهرة ستاً وخمسين سنة، شهد خلالها أواخر الدولة الأيوبية ودولة المماليك البحرية من بدايتها إلى نهايتها، وقيام دولة المماليك البحرية، التي أسسها السلطان قلاوون.

لم تقتصر شهرة ابن النفيس على الطب، بل كان يعد من كبار علماء عصره في اللغة والفلسفة والفقه والحديث، وله كتب في غير الموضوعات فيها: الرسالة الكاملية في السيرة النبوية، وكتاب فاضل بني ناطق الذي جارى فيه كتاب (حي بن يقظان) لأبن طفيل، ولكن بطريقة لاهوتية لا فلسفية.

ومن كتبه الطبية (المهذب في الكحالة) أو في طب العيون ، والمختار في الأغذية، والموجز في الطب (وهو موجز لكتاب القانون لأبن سينا)، وبغية الفطن في علم البدن، وشرح تشريح القانون الذي يبين أن ابن النفيس سبق علماء الطب إلى معرفة ووصف الدورة الرئوية بقرون عدة قبل عصر النهضة.

قال عنه علماء الطب الحديث، إنه أعظم علماء وظائف الأعضاء في العصور الوسطى، وأبو علم وظائف الدورة الدموية. 

ولابن النفيس كتاب مهم آخر هو: "الموجز في الطب"، يوجز فيه كتاب "القانون" لابن سيناء، رتبه على أربعة فنون:

·      في قواعد أجزاء الطب العلمية والعملية، بقول كلي.

·      في الأدوية والأغذية المفردة والمركبة.

·      في الأمراض المختصة بعضو دون عضو.

·      في الأمراض التي تختص بعضو دون آخر وأسبابها، وعلاماتها، ومعالجتها.

وقد اهتم ابن النفيس بعلوم أخرى غير الطب، كالفقه والحديث والفلسفة، ألف فيها أيضاً، ودرسها، خاصة الفقه. وله في ذلك: "الرسالة الكاملة في السيرة النبوية" و"كتاب فاضل بن ناطق"، مجاراة لكتاب ابن طفيل: حي بن يقظان.

ومن مؤلفاته كذلك:

شرح قانون ابن سينا، وشرح تشريح القانون، والموجز في الطب، وشرح تقدمة المعروفة لأبقراط، وشرح مسائل حنين بن اسحق،  والمهذب في الكحل المجرّب، والمختار من الأغذية، وشرح فصول أبقراط.

توفى ابن النفيس في العام 1288م، بعد أن أوصي بما يملك من ماله ومكتبته وبيته للبيمارستان المنصوري.

___________________

ابن البيطار

(646هـ، 1197م)  ـ (679هـ، 1248م)

نشأته وتعليمه

هو ضياء الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد المالقي. لقب "بالمالقي" لأنه ولد في قرية "بينالمدينا"، التي تقع في مدينة مالقة على الشاطئ الجنوبي من بلاد الأندلس. اشتهر بابن البيطار، وهو لقب مشتق من "ابن البيطري"؛ لأن والده كان طبيباً بيطرياً ماهراً. ولد حوالي سنة 1197م وتوفي في دمشق سنة 1248م.

يعد ابن البيطار أعظم عالم نباتي ظهر في القرون الوسطى. تتلمذ على يد شيخ أندلسي هو أبو العباس أحمد بن المفرّج (637هـ)، المعروف بابن الرومية الإشبيلي، وكان له دكان في إشبيلية يبيع فيه الحشائش وينسخ الكتب. كان ابن البيطار يجمع النباتات والأعشاب في منطقة إشبيلية، ولما بلغ العشرين من عمره سافر إلى مراكش والجزائر وتونس لدراسة النباتات، ووصل مصر في عهد السلطان الأيوبي الملك الكامل، وأصبح هناك رئيس العشابين. والعشاب هو العالم بالنباتات وتحضير الأدوية منها. ثم سافر بعد ذلك إلى دمشق في عهد الملك الصالح (ابن الكامل) الأيوبي، ودرس نباتات سورية ومنها انتقل إلى آسيا الصغرى واليونان مواصلاً بحوثه فيها. وهو بأسفاره هذه تحول إلى عالم طبيعي ميداني يدرس الأشياء في مواضعها، ويتحقق منها بنفسه. وإلى جانب ذلك كان لابن البيطار اطلاع واسع مفصل على مؤلفات من سبقوه في هذا الموضوع أمثال ديقوريدس وجالينوس والإدريسي.

ويذكر ابن أبي أصيبعة أن أول اجتماع له بابن البيطار كان في دمشق، فوده أوحد زمانه وعلاّمة وقته في معرفة النباتات الطبية، إلى جانب حسن عشرته وكمال مروءته وجودة أخلاقه. وأكد سفر ابن البيطار إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم، لكنه لم يذكر الطريق التي سلكها في رحلته وعند عودته، كما لم يتكلم على الأماكن التي زارها في الأقطار العربية؛ بينما نجد لوكلرك يقول إن ابن البيطار زار الحجاز، حيث جمع نبات الحدق، وفي مدينة القدس وحرمها الشريف وجد نبات الأمذريان أو دمع أبوب، وشاهد الكاكنج في الرها، والبابونج في الموصل، والمرّير في ديار بكر.

ألف ابن البيطار في النبات، فزاد في الثروة العلمية ويعد كتابه (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) من أنفس الكتب النباتية. فقد وصف فيه أكثر من 1400 عقار نباتي وحيواني ومعدني، منها 300 من صنعه، مبينا الفوائد الطبية لكل واحد منها. وقد ذكر في مقدمة كتابه الأهداف التي توخاها منه، وفي هذه المقدمة يتجلى أسلوبه في البحث وأمانته العلمية في النقل، واعتماده على التجربة كمعيار لصحة أحاكمه.

ومن أعظم كتبه وأشهرها هو كتاب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" والمعروف "بمفردات ابن البيطار"، كتبه بعد جهد كبير من البحث والتدقيق والدراسة، وبعد أن تنقل في عدد من بلاد العالم.

اعتمد ابن البيطار المنهج العلمي والتجربة والمشاهدة، كأساس لدراسة الأدوية والعقاقير والأعشاب. وذكر في مقدمة كتابه المنهج الذي اتبعه في أبحاثه: "ما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت لدي بالمخبر لا بالخبر أخذت به، وما كان مخالفاً في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية والماهية للصواب، نبذته ولم أعمل به".

ولم يكتفِ ابن البيطار بتصنيف وذكر ما أورده المؤلفون الأوائل والمحدثون في علوم العقاقير والنبات والأدوية، بل أضاف إلى ذلك آراءه وتجاربه الشخصية، مبيناً الأخطاء والالتباسات التي ارتكبها بعضهم، وموضحاً الصفات الشكلية والبيئية والعلاجية لكثير من النباتات الطبية.

أسهم ابن البيطار في تطور الحضارة البشرية من خلال علوم النبات والصيدلة والطب، إسهاماً عظيماً باكتشافاته العلمية المهمة. ومؤلفاته التي تركها خير برهان على تفوقه ونبوغه، ما جعله يرقى إلى مصاف كبار علماء العرب والمسلمين، الذين أغنوا المكتبة العربية والعالمية ببحوثهم ودراساتهم القيّمة.

مؤلفاته

يعد كتاب "الجامع" من أهم مؤلفاته، يقول عنه ماكس مايرهوف: "إنه أعظم كاتب عربي خلّد في علم النبات".، ويعترف المستشرق روسكا بأهمية هذا الكتاب وقيمته، وأثره الكبير في تقدم علم النبات. ويقول: "إن كتاب الجامع كان له أثره البالغ في أوروبا، وكان من أهم العوامل في تقدم علم النبات عند الغربيين".

وتقول الباحثة الألمانية "زيغريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب": إن ابن البيطار من أعظم عباقرة العرب في علم النبات. فقد حوى كتابه الجامع كل علوم عصره، وكان تحفة رائعة تنم عن عقل علمي حي، إذ لم يكتفِ بتمحيص ودرس وتدقيق 150 مرجعاً؛ بل انطلق يجوب العالم بحثاً عن النباتات الطبية فيراها بنفسه ويجري تجاربه عليها إلى أن وصل به الأمر ليبتكر 300 دواء جديد من أصل 1400 دواء، التي تضمنها كتابه، مع ذكر أسمائها وطرق استعمالها وما قد ينوب عنها. كل هذه شواهد تعرّفنا تماماً كيف كان يعمل رأس هذا الرجل العبقري".

تُرجم كتابه إلى عدة لغات، وكان يُدرَّس في معظم الجامعات الأوروبية حتى عهود متأخرة، وطبع بعدة لغات وبعدة طبعات. وفي اللغة العربية طبع عام 1874 في مصر بأربعة أجزاء، ونشرته دار صادر في بيروت 1980 في مجلدين، ويوجد العديد من المخطوطات لهذا الكتاب موزعة في عدد من مكتبات العالم ومتاحفه.

ويأتي كتاب "المغني في الأدوية المفردة" في المرتبة الثانية بعد كتاب الجامع من حيث الأهمية، ويقسم إلى عشرين فصلاً، ويحتوي على بحث الأدوية التي لا يستطيع الطبيب الاستغناء عنها، ورتَّبت فيه الأدوية التي تعالج كل عضو من أعضاء الجسد ترتيباً مبسطاً وبطريقة مختصرة ومفيدة للأطباء ولطلاب الطب، ويوجد منه العديد من النسخ المخطوطة.

أما كتاب "الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام"، فهو شرح أدوية كتاب ديسقوريدس، وهو أشبه بقاموس بالعربية والسريانية واليونانية والبربرية، وشرح للأدوية النباتية والحيوانية.

ومن مؤلفاته أيضاً:

كتاب المغني في الأدوية المفردة، وهو كتاب متوسط الحجم، ألفه في علم المداواة، وأهداه "لأبي بكر العادل الثاني" ابن السلطان "الملك الكامل". ومقالة في الليمون.  وكتاب في الطب.  والأفعال الغريبة والخواص العجيبة.  وميزان الطبيب.  ورسالة في التداوي بالسموم.

___________________

داود الأنطاكي

(940هـ ، 1534م) ـ (1008هـ، 1599م)

نشأته وتعليمه

داود بن عمر الأنطاكي، طبيب وفيلسوف مسلم. ولد في أنطاكية، شمال غربي سورية. وكانت أنطاكية، آنذاك، أكبر مركز للتجارة بين الشرق والغرب، فعندها كانت تلتقي الطرق الموصلة بين الشام وأسيا الصغرى (تركيا الآن). وكان أبوه "عمر الأنطاكي" عمدة قرية "حبيب النجار" وأغنى أغنيائها، وهى قرية قريبة من أنطاكية. وكان ضريراً وكسيحاً، لكنه شفي من كساحه. نشأ في بيت علم، وحرص والده على أن يحفظ ولده القرآن. وقد درس المنطق والرياضيات، وتعلم اللغة اليونانية.

برع في معظم فروع المعرفة، ورحل في طلب العلم إلى غير بلد، حتى استقر به المقام في القاهرة، حيث ذاعت شهرته في الطب والصيدلة؛ فلقب بأبقراط زمانه. قصد مكة للحج، في أواخر حياته، وتوفي فيها.

تعلق داود بطبيبه الفارسي "بهزاد"، الذي كان يشرف على علاجه، وقرر أن يتعلم الطب واللغة الفارسية على يديه. فأقام الطبيب بهزاد بدار والده، وراح داود يتعلم على يديه شهراً بعد شهر وعاماً بعد عام. وأخذ بهزاد يعلمه الطب تشخيصا وعلاجا وأعراضا وأمراضا وأدوية مفرده ومركبه من النبات والأحجار والحيوان والمعادن وأعتاد بهزاد أن يصحب تلميذه داود معه كلما ذهب لزيارة مريض، ويصف له بصوت مسموع حال المريض وأعراض مرضه، ويجعله يتحسس بيديه مواضع المرض في جسد المريض، ويذكر له الدواء الشافي حتى أصبح طبيباً ماهراً. وعندما بلغ من العمر الخامسة والعشرين، أصطحب ابن عمه أحمد إلى اليونان وتعلم اليونانية والتركية، وكانت تلك البلاد خاضعة للحكم التركي، وذلك منذ العقد الثاني من القرن السادس عشر، وعندما بلغ عامه الثلاثين رحل داود ومعه ابن عمه إلى القاهرة، والتي كانت لا تزال داراً للعلم والعلماء، والمماليك لا يزالون يحكمون مصر.

استقر بحي الأزهر والتحق بالبيمارستان المنصوري. ووجد في القاهرة الملجأ والأمن والعلم. وعكف داود على كتب الطب العربية يقرأ له ابن العم ويملي هو عليه ملاحظاته، فيدونها أول بأول، ويرجع إليها حين يشاء. وأضاف إليها ما عرفه وهو بالشام وتركيا، فاجتمعت لديه معرفة طبية نباتيه بلغ عددها ثلاثة آلاف نبات حصلها.

منجزاته

 وألف داود، وهو الكفيف البصر، أكبر وأخلد وأشهر كتاب في علم الدواء.

ذاعت شهرة داود في البيمارستان المنصوري ومدينة القاهرة، كطبيب معالج للفقراء والأغنياء في حي الأزهر، فعُين رئيسا للعشابين، ثم رئيساً ومديراً للبيمارستان المنصوري. ومنحت مدينة القاهرة على ألسنة الأطباء والناس داود الأنطاكي ألقابا يفخر بها أي عالم وبين هذه الألقاب "أبقراط زمانه، العلامة الطبيب، الحكيم، الماهر، والطبيب الحاذق، والعالم الكامل، والصيدلاني الضرير".

وضع الأنطاكي ستة وعشرين مؤلفاً أهمها: "تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب" في الطب، الذي صار معروفاً بتذكرة داود. ويتألف هذا الكتاب من مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة. استخدم فيه مؤلفه الكثير من المصطلحات الجالينوسية، وأسماء العقاقير والأعشاب العربية، واستعمالاتها المختلفة. كما اعتمد على كتاب ديسقوريدس "الحشائش"، وعلى كتاب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، لابن البيطار، إضافة إلى مؤلفات الرازي وابن سينا وغيرهم.

وصف الأنطاكي في كتابه العقاقير والنباتات الطبية والعطرية، والأدوية المركبة، وطرق تحضيرها، مرتبة على حروف المعجم، وبلغ عددها (1792) صنفاً. كما ذكر فيه الأمراض المختلفة، أسبابها وأعراضها وطرق معالجتها، مع دراسة مهمة جداً في الأمراض العصبية والنفسية. وتكلم بإسهاب على العقاقير المبهجة والمنشطة، والأدوية المهدئة والمخدرة، محدداً في ذلك المشاهدات والجرع وأشكالها ودرجة سميتها، وإمكان التعود والإدمان، والآثار الجانبية، والأدوية المضادة للتسمم.

اختط الأنطاكي في تذكرته أسلوباً ومنهجاً للبحث، يتألف من عشرة بنود: كان يذكر أسماء النباتات والعقاقير باللغات المختلفة، ثم الماهية، ثم الحسن والرديء، ودرجة التأثير الدوائي؛ معتمداً على الكيفيات الأربع، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. ثم يذكر منافع الدواء أو العقار، في سائر أعضاء البدن، منفرداً أو مركباً مع غيره. ثم يشير إلى مضاره وما يصلحه، ومقداره الدوائي، وما يقوم مقامه إذا فقد. وقد أضاف أمرين مهمين، هما الزمان الذي يكون فيه الدواء صالحا ً(مدة صلاحه)، ثم موطن النبات الطبي.

ويظهر في كتاب التذكرة أول مرة ذكر لداء الإفرنجي، ومعالجته بالزئبق. ولهذا الكتاب طبعات كثيرة بعضها ألحق به تذييل لبعض تلاميذ صاحب التذكرة. وطبع الذيل مع التذكرة في مطبعة رزاق بالقاهرة سنة 1254هـ، وفي مطبعة بولاق بالقاهرة، وبهامشه كتابه «النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة» سنة 1282هـ، وهنالك طبعات أخرى، كان آخرها سنة 1350هـ.

أما مؤلفات الأنطاكي الأخرى، فمنها «نزهة الأذهان في إصلاح الأبدان" وهو كتاب رتبه على مقدمة وسبعة فصول وخاتمة. ويشمل الأمور الطبيعية والتشريحية، وتفصيلاً في العلل وأحوال البدن، والوصايا اللازمة لمعالجة الأمراض الظاهرة. ومنها كتاب «النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة». وهو يشمل الكلام على الأمراض الباطنة والظاهرة، الخاصة بعضو معين، وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، والأمراض التي لا تختص بعضو معين، وإنما يجوز أن يعم المرض جميع الأعضاء، كالأورام والبثور.

أهم مؤلفاته

ومن مؤلفاته "كفاية المحتاج في علم العلاج"، ورسالة في الفصد، وألفية في الطب، وشرح كتاب "القانون" لابن سينا، و"زينة الطروس في أحكام العقول والنفوس". ومن مؤلفاته المشهورة في الأدب كتاب: "تزيين الأسواق" وهو مختصر لكتاب "أسواق الأشواق" للبقاعي. وله كذلك مؤلفات في غير مجال الطب : في الفلك، والتنجيم

وقد ظلت تذكرة داود المرجع في مدارس وكليات الطب في أوروبا والعالم الإسلامي لعدة قرون. وتعود تذكرة داود إلى مسرح العلاج الطبي لتنازع الأدوية الكيماوية عرشها، وتباع هذه الأدوية الطبيعية في عديد من صيدليات أوروبا والعالم.

وفي عام 1599م أدى داود بن عمر الأنطاكي فريضة الحج، ولم يكد ينتهي من حجته حتى وافاه الأجل وهو يصلي الفجر في المسجد الحرام، فحزن عليه أهل مصر وكان عزاؤهم فيه كتابه الخالد "تذكره داود".