إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / إعلان دمشق









المبحث الرابع

المبحث الرابع

اجتماعات عام 1997 وإعلان دمشق ومستقبل العمل العربي

أولاً: اجتماعات عام 1997   

    تجاوزت دول"إعلان دمشق" السؤال المطروح دائماً حول البدايات: هل تكون سياسية أم اقتصادية، إلى الأخذ بالأمرين معاً. ومن هنا كان الاجتماع الأخير لدول الإعلان الثماني في مدينة اللاذقية السورية يومي 26 و27 يونيه 1997، منطلقاً بدا ناجحاً لكافه المراقبين الذين تابعوا مناقشات الاجتماع والقرارات التي صدرت عنه. فبعد أن تناول وزراء الخارجية في بيانهم الختامي قضايا سياسية مصيرية تشغلهم وتشغل المنطقة والعالم، أفردوا مكانا مناسبا في قراراتهم للجانب الاقتصادي، وتحديداً لصيغة من التكامل الاقتصادي الواقعي تتمثل في إنشاء منطقة للتجارة الحرة بين دول الإعلان، كنواة لإقامة السوق العربية المشتركة.

1. الاجتماع الخامس عشر: اللاذقية (يونيه 1997)

    كان اجتماع اللاذقية هو آخر اجتماع لإعلان دمشق، في عام 1997، وقد استغرق الاجتماع يومين، أطلع وزراء خارجية دول الإعلان خلالهما على ورقتَي العمل المقدمتين من كل من مصر وسورية، بخصوص إنشاء منطقة للتجارة الحرة بين دول الإعلان كنواة لإقامة السوق العربية المشتركة. وأكد الوزراء أهمية قيام دول إعلان دمشق باتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق هذه الغاية، التي يمكن أن تواجه بها مستجدات اقتصادية عالمية تستوجب إكساب الأمة العربية القوة الاقتصادية. واتفق الوزراء على أن يجتمع خبراء من مصر وسورية، مع خبراء من الأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الرياض، للإطلاع على القرارات والأنظمة المتعلقة بتنفيذ الاتفاقية الاقتصادية الموحدة بين دول مجلس التعاون، وذلك خلال مدة أقصاها شهر سبتمبر القادم، ثم يجتمع فريق عمل من الخبراء في أقرب فرصة ممكنة في القاهرة لإعداد مشروع الخطوات التنفيذية لإقامة السوق العربية المشتركة، ويرفع تقريره الأول إلى وزراء خارجية دول الإعلان.

    وإلى جانب ذلك تابع الوزراء مشاوراتهم لاستكمال إنجاز "وثيقة العمل العربي المشترك"، وبروتوكول الالتزامات المتبادلة بين الدول العربية، في إطار جامعة الدول العربية، لعرضها على حكوماتهم، تمهيداً لإقراراها بصورة نهائية، وإيداعهما جامعة الدول العربية.

    وفى ختام اجتماعات دورتهم الخامسة عشرة، أكد وزراء خارجية دول إعلان دمشق الثماني أن السلام العادل والشامل يستوجب استعادة الحقوق العربية وفق قرارات الأمم المتحدة التي تقضى بانسحاب إسرائيل الكامل من الجولان، وجنوب لبنان، والأراضي الفلسطينية المحتلة، وضمان ممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وبينها حقه في تقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.

    وفي نهاية الاجتماع صدر البيان الختامي مشتملاً على الآتي:

أ. رفض محاولات الحكومة الإسرائيلية التنصل من الالتزام بالانسحاب الكامل من الجولان.

ب. الإعراب عن الدعم الكامل لصمود سورية ومطالبها العادلة من أجل استرجاع أراضيها المحتلة.

ج. الاستنكار الشديد للقرار الأخير لمجلس النواب الأمريكي حول القدس باعتباره قراراً يتناقض مع قرارات الشرعية الدولية، ومرجعية مؤتمر مدريد.

د. الإعراب عن القلق البالغ إزاء التعاون العسكري والأمني بين تركيا وإسرائيل، باعتبار أنه يشكل تهديداً للأمن العربي، وللاستقرار في المنطقة.

هـ. استنكار التوغل التركي في شمال العراق.

و. التأكيد على ضرورة التزام العراق بتنفيذ قرارات مجلس الأمن المتعلقة باحتلاله دولة الكويت.

ز. التأكيد على سيادة دولة الإمارات على جزرها الثلاث، والدعم المطلق لكافة الإجراءات والوسائل السلمية التي تتخذها لاستعادة سيادتها على هذه الجزر، وتكرار مطالبة الحكومة الإيرانية بإنهاء احتلالها للجزر.

ح. إدانة الإرهاب بكافة أشكاله وأياً كانت مصادره ودوافعه، وإدانة المحاولات لاستقلال هذا الموضوع لأغراض سياسية.

ط. التأكيد على ضرورة عدم الخلط بين المقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال والعدوان، وبين العمليات الإرهابية انطلاقاً من أن مقاومة الاحتلال حق مشروع وفق المواثيق الدولية.

ي. التأكيد على أهمية التعاون بين دول إعلان دمشق لمواجهة ظاهرة التطرف والعنف والإرهاب، والوقوف إلى جانب أية دولة من دول الإعلان تتعرض لعمليات إرهابية والتأكيد على أن التطرف والعنف والإرهاب ظواهر عالمية غير مقصورة على شعب أو منظمة بعينها (أُنظر ملحق نص البيان الختامي، الصادر عن اجتماع وزراء خارجية دول "إعلان دمشق"، اللاذقية، يومي 25 و26 يونيه 1997).

2. أحداث سبقت اجتماعات اللاذقية

أ. أعلنت مصر أن هناك دراسات حول موضوع السوق العربية المشتركة تتم حالياً في أكثر من عاصمة عربية، وإنه ليس شرط أن تنضم جميع الدول العربية إلي السوق المشتركة، ولكن يكفي قيامها بين عدد قليل من الدول، على أن تكون مفتوحة لجميع الدول العربية.

ب. تمنت إيران أن يركز البيان الختامي لاجتماعات اللاذقية، على القضايا الكبرى والجوهرية، ويتغاضى عن المسائل الجزئية، كالخلاف الإيراني ـ الإماراتي على الجزر الثلاث، وأعلنت: "إن اجتماع اللاذقية سيعقد في ظروف تتعرض فيه المنطقة بكاملها لتحديات جسيمة، وتهديدات أمنية وسياسية حقيقية، ومن الأفضل تنسيق الجهود الإيرانية العربية لمواجهتها بدلاً من إثارة قضايا تسبب جدلاً واسعاً، وتنعكس على الوضع الإقليمي سلبياً"، "وإن قضايا التحالف العسكري والأمني التركي ـ الإسرائيلي، والاجتياح التركي لشمال العراق، وقرار الكونجرس الأمريكي باعتبار "القدس" عاصمة موحدة لإسرائيل، وسياسة تهويد القدس التي تمعن الحكومة الإسرائيلية في انتهاجها، وهي قضايا جوهرية وتشكل تحدياً مرئياً وخطيراً".

3. سجال قطري ـ سوري في اجتماع الدول الـثمان

    هيمن موضوع القمة الاقتصادية المتوقع عقدها في الدوحة في نوفمبر 1997، على أعمال الدورة الـ 15 لوزراء خارجية دول"إعلان دمشق" في اللاذقية، وظهر انقسام واضح بين مؤيد ومعارض لانعقاد القمة، تجلى في تغيب وزير الخارجية القطري، وشهدت الاجتماعات جدلاً حاداً بين وزير الخارجية السوري "فاروق الشرع"، ووزير الدولة القطري للشؤون الخارجية حمد بن عبدالله"، إذ شدد الأول على الالتزام بقرارات القمة العربية، ومجلس جامعة الدول العربية، على أساس أن البراهين صارت كافية لتجميد خطوات التطبيع مع إسرائيل، وكان الرد القطري مستنداً إلي أن مصر كانت قد استضافت قمة اقتصادية بعد القمة العربية، ولم تواجه بهذه المعارضة، وأن الدوحة أعطت التزامات لدول العالم بأنها ستعقد القمة الاقتصادية الرابعة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأن القمة تساعد في إظهار مدي رغبة الدول العربية في السلام.

4. اجتماع خبراء دول "إعلان دمشق" في القاهرة خلال الفترة 27 ـ 28 ديسمبر 1997

    اختتم خبراء دول"إعلان دمشق" اجتماعاتهم بالقاهرة يوم 28 ديسمبر 1997، وتوصلوا لوضع تصور شامل للتعاون الاقتصادي بين دول الإعلان يبدأ بإقامة منطقة تبادل التجارة الحرة بين الدول الثمانية، وصولاً إلى السوق العربية المشتركة، وقاموا بوضع نصوص الاتفاقية الاقتصادية الموحدة لدول الخليج موضع البحث خلال الاجتماعات، واتفقوا على التعجيل بتطبيق اتفاقية تيسير التبادل التجاري وإلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات والسلع الزراعية والحيوانية والصناعية، بين دول الإعلان، على أن يتم ذلك خلال مدة تقل عن الـ10 سنوات بالنسبة للمنتجات الزراعية والحيوانية، و5 سنوات بالنسبة للمنتجات الصناعية، بواقع 20% سنوياً، وأكدوا على أن التعاون والتيسير لن يقتصر على المنتجات الزراعية والصناعية، بل سيمتد إلى كافة نواحي الاقتصاد بما يشمل النقل والمواصلات والاستثمار.

    وتوصل خبراء دول"إعلان دمشق" إلى توصيات تتضمن الآتي:

أ. دعم وتنشيط كافة أوجه التعاون بين دول الإعلان وتشجيع القطاع الخاص لإقامة مشروعات مشتركة في إطار التعاون الاقتصادي والمجالات الإنتاجية والخدمية، لتحقيق التكامل الاقتصادي.

ب. إنشاء شركات قابضة يقوم بها القطاع الخاص لاختيار المشروعات ذات الجدوى الاقتصادية في دول الإعلان ودراستها وتنفيذها.

ج. تشجيع مراكز البحث العلمي في الدول الثمانية على التعاون الفعال والمستمر بينها بما يخدم النتيجة الشاملة.

د. اعتبار منتجات الشركات المشتركة بين دول الإعلان منتجات وطنية في كل دول الإعلان.

هـ. الاستفادة من بيوت الخبرة وشركات المقاولات الوطنية في دراسة وتقويم فرص الاستثمار وإقامة المشروعات في دول الإعلان.

و. تشجيع التعاون بين الغرف التجارية والصناعية في دول الإعلان.

ز. ضرورة تبادل الخبرات الفنية والحرفية والعلمية بين دول الإعلان.

5. العراق يأسف لموقف إعلان دمشق

    أعرب العراق عن الأسف الشديد، لما أسماه بالموقف الظالم، الذي اتخذه وزراء خارجية دول"إعلان دمشق"، في البيان الختامي الصادر عن اجتماعات اللاذقية، ودعا هذه الدول إلي الكف عن توجيه الاتهامات الباطلة إلي العراق، وأعلنت الصحف العراقية، يوم 28 يونيه 1997، على لسان وزير الخارجية"محمد سعيد الصحاف":"إننا في الوقت الذي نُعبر فيه عن الأسف الشديد تجاه الموقف الظالم، الذي اتخذه وزراء خارجية ما يسمي بدول"إعلان دمشق"، فإننا نؤكد مرة أخري أن إطلاق الاتهامات الباطلة، ضد العراق لن ينفع حتى الأغراض الأنانية الصغيرة والطارئة التي حركت المجتمعين في اللاذقية، ودفعتهم إلي تكرار التجني الأجوف على العراق، وجمعهم وهم واحد هو استرضاء الأمريكيين، وفي الوقت الذي تنطلق فيه الطائرات الحربية الأمريكية والبريطانية، من أراضي وأجواء السعودية والكويت، لتستفز العراق وتعتدي عليه كل يوم ومن دون انقطاع منذ أغسطس 1991، يزعم وزراء خارجية ما يسمي بدول"إعلان دمشق" أن العراق يقوم بأعمال استفزازية ضد الكويت والدول المجاورة، وفي الوقت الذي نفذ العراق فيه جميع التزاماته، التي فُرضت عليه في قرارات مجلس الأمن، ردد المجتمعون في اللاذقية المزاعم الأمريكية، التي تنكر على العراق تنفيذه تلك القرارات، وتمنع مجلس الأمن من تنفيذ التزاماته المقابلة تجاه العراق، وذلك برفع الحصار الجائر عنه"، وزعم وزير الخارجية العراقي أن العراق أعاد جميع الأسري والمرتهنين الكويتيين وغيرهم، بعد توقف الحرب في مارس 1991 مباشرة.

ثانياً: إعلان دمشق ومستقبل الأمن العربي

1. تحديث النظام العربي والحاجة إلى قيادة إقليمية

    يقف العالم العربي، بأطرافه المؤثرة أمام مفترق الطرق، ويدخل عصراً جديداً للعلاقات الدولية وهو في حالة من الوهن الشديد. لقد عاش طوال تاريخه حياة شاقة ومثقلة برصيد عريض من الفشل في ظل نظام القطبية الثنائية. وما كاد يلتقط أنفاسه لمحاولة التكيف مع الأوضاع الجديدة، التي فرضها الوفاق بين العملاقين، حتى عاجلته أزمة الخليج بضربة شديدة أردته أرضاً من جديد. وسريعاً ما انهار نظام القطبية الثنائية تاركاً النظام العربي الواهن لمواجهة منفردة مع القوة المهيمنة على المنظومة الدولية، حول قائمة من الخلافات التاريخية، دارت أساساً حول القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي.

    فإذا لم يتم إحياء النظام العربي بإقامته على أساس من سلطات حقيقية لمؤسساته، وعلى قوى حقيقية بين أطرافه، تصبح السياسات الإقليمية أمام بديلين هما:

أ. الاستجابة للدعوة لإقامة ترتيبات إقليمية بديلة، على أساس توازنات بين قوى حقيقية راغبة في صيانة السلام الإقليمي، وقد يكون بعض هذه القوى غير عربي. وبالتالي يفقد النظام العربي صلاحياته وينقلها عملياً وقانونياً إلى ترتيبات بديلة، أبرزها هو النظام الشرق الأوسطي، الذي تدعو إليه الولايات المتحدة.

ب. عدم الاعتماد على أي توازنات أو تحالفات، ويفضي هذا الوضع حتماً إلى وجود درجة من عدم الاستقرار والصراعات والمنافسات الإقليمية التي قد ينفجر بعضها في شكل حروب أهلية وإقليمية، من دون ضابط أو رادع. بل ومن المحتمل أن تتحول الساحة الإقليمية إلى الفوضى الشاملة بما يماثل الوضع في لبنان أثناء الحرب الأهلية: حيث تواجه كل الأطراف بعضها بعضاً، ولا تستطيع حتى أن تمنع انقسامها الداخلي أو النزعة لإقامة تحالفات متنقلة ومتعارضة، بهدف التصفية الدموية حتى لأكثر الخصومات تفاهة وعقماً. وفي الحالتين يتضمن معنى اضمحلال النظام العربي فكاً للارتباط السياسي بين المشرق والمغرب العربيين، وفكاً للارتباط بين القلب والأطراف وتضعضعاً للروابط المتبادلة بين الدول العربية بشكل عام.

ولا ريب أن النظام العربي سيكون مصيره الاضمحلال كنظام سياسي إقليمي إذا لم يتم النهوض بآلياته للأمن الجماعي وتحديث مفاهيم هذا الأمن. وهناك حد أدنى ضروري، ضرورة مطلقة، لأي مشروع جاد للتحديث والنهوض بالأمن العربي، يتمثل في ثلاثة إجراءات أساسية، وهي كالتالي:

(1) التعريف الدقيق والواقعي للتهديدات للأمن والسلم الإقليمية التي تعتبر في نطاق مسؤولية نظام الأمن الإقليمي الجماعي. ويشمل هذا التعريف الواقعي الاعتراف بأن من الممكن أن تشكل دول عربية مصدراً لتهديد أمن دول عربية أخرى.

(2) تفويض النظام الإقليمي بقدر معقول من السلطة السياسية والمعنوية لتقييد مجال التصرف الإستراتيجي والأمني المنفرد في الحالات التي ينشأ فيها عن هذا التصرف نتائج سلبية على أمن بقية أطراف النظام الإقليمي أو أضرار ملموسة بالمصالح الأمنية والإستراتيجية العربية العامة.

(3) الترجمة المادية المحددة للالتزامات الأمنية المتبادلة في نطاق النظام العربي بإنشاء آلية تنفيذية ومؤسسية ذات ولاية أمنية إقليمية. وهنا تأتي فكرة إنشاء قوة عسكرية مشتركة باعتبارها جوهر التحديث المطلوب لإنهاء نظام الأمن العربي. وفي ظل الخلافات العربية المستحكمة حول كافة هذه الأمور يبدو من المستحيل تقريباً تصور إمكانية الوفاء بالمتطلبات الجوهرية للتحديث والنهوض بنظام الأمن العربي إلا في سياق العملية الجدلية لتأسيس قيادة إقليمية. ويمثل التحالف الثلاثي بين مصر وسورية ودول الخليج الست: وهو التحالف الذي تبلور بصدور إعلان دمشق الإمكانية الوحيدة المتاحة في أعقاب أزمة الخليج لدفع هذه الجدلية إلى الأمام.

    والمقصود هنا بقيام تحالف دمشق الثلاثي ليس إخضاع النظام العربي لهيمنة من جانب دولة أو طائفة من الدول، وإنما توفير ثقل سياسي وعسكري ومعنوي وراء مجموعة محددة من القيم العملية لمنع الاتجاه العام لتفتت العالم العربي ومنح هذا العالم آلية جادة للأمن والتأقلم مع الأوضاع الدولية المتغيرة.

    وصلت قوة عوامل التفتيت في النظام العربي إلى درجة جعلت مجرد صيانة تحالف دمشق من هذه العوامل أمراً صعباً. وفي المقابل، فإن بروز قوى إقليمية غير عربية يفتح الباب أمام دول الخليج لإعادة رسم توجهاتها الإستراتيجية الإقليمية. وفي هذا السياق ظهرت نزعة قوية داخل مجلس التعاون الخليجي للانصراف عن نظام الأمن العربي ككل والاتجاه نحو التنسيق مع إيران، على حساب إعلان دمشق. وبالرغم من ذلك فلا شك أن هذه النزعة قد انطلقت من العوامل والتداعيات المباشرة لأزمة الخليج. ولم ينف ذلك قوة الاعتبارات التي تغري مجلس التعاون في مجموعه بالعودة إلى نظام الأمن العربي، عبر بوابة إعلان دمشق.

    وانطلاقاً من هذه الاعتبارات يبدو أن قمة مجلس التعاون الخليجي الثانية عشر بالكويت قد حسمت الاختيارات الإستراتيجية المفتوحة أمامها لصالح المعاني التالية:

(أ) التأكيد على أولوية الأمن الذاتي الجماعي، من خلال برنامج طموح، وإن كان أطول زمنياً مما تضمنته توصيات اللجنة الأمنية العليا برئاسة السلطان قابوس لتشكيل جيش خليجي موحد.

(ب) تعزيز التعاون الجماعي مع إيران في الميادين الاقتصادية والثقافية، من دون التطرق إلى بلورة شكل محدد وجماعي للتعاون الأمني، إلا في حدود التفاهم الإستراتيجي، والسماح بأشكال معينة من التعاون الأمني على المستوى الثنائي.

     فكانت المذكرة المقدمة من وزراء خارجية دول المجلس قد طرحت أمام القمة مشكلة إيجاد التوافق بين الصفة الجماعية والصفة الثنائية للعلاقات مع إيران. ولفتت الانتباه إلى مشكلات معينة مثل استمرار وجود قوى سياسية في إيران معادية لدول المجلس، واختلاف التحليل السياسي لطبيعة التركيبة السياسية في إيران، وتفاوت العلاقات الثنائية بين هذه الدول وإيران. ووفقاً للبيان الختامي للقمة الصادر في 25 ديسمبر عام 1991 اكتفى قادة الخليج بالتأكيد على حرصهم على"دفع العلاقات الثنائية مع إيران".

2. تحقيق الأهداف واستراتيجيات النهوض

إن هدف تحقيق إنهاض النظام العربي وتحديثه. يمكن تحقيقه من خلال تصورين أساسيين هما:

أ. النظام العربي كجماعة أمنية Security Community

    إن تحقيق أوسع قدر ممكن من المشاركة العربية شرط جوهري لهذا النهوض، ومن ثم فإن الفرصة العملية الإستراتيجية للنهوض تتمثل في مصالحة حقيقية مع بقية أطراف النظام العربي ودفعها للمشاركة في تطبيق هذه الإستراتيجية. ويتطلب ذلك بدوره تطوير إعلان دمشق ذاته سواء لحل المعضلات العملية المحيطة بمهمة بناء نظام أمني عربي فعال أو لتعزيز إمكانية القبول به من جانب بقية أطراف النظام.

ب. النظام العربي كجماعة اقتصادية Economic Community

    إن بناء الوحدة الاقتصادية العربية هو أفضل ميدان لتلاقي وتبادل المصالح بين الأقطار العربية، بناء على اعتقاد باستحالة تحقيق إجماع إستراتيجي عربي حقيقي حول القضايا الأمنية. ويزدهر هذا التصور في أوقات الأزمات عموماً. غير أن من المتوقع أن ينمو التأييد له بدرجة كبيرة في ظروف الأزمة الحالية.

    يتمثل السند الحقيقي لهذه الاستراتيجية في التركيز على التكيف مع البيئة الدولية والإقليمية المتغيرة، بشكل إيجابي خلاق وشامل، على الصعيدين الخارجي والداخلي. فالتكيف الإيجابي الخارجي لا يعني فقط بالتعامل العقلاني العملي مع البيئة الدولية الجديدة، وإنما أيضاً بالمحافظة على الهوية العربية بصيانتها في وجه التهديدات الخارجية الجسيمة.

    أما التكيف الإيجابي الداخلي فيعني أساساً بتوفير آلية ديموقراطية للتحول السياسي ولتحقيق المصالحة، بين التيارات الكبرى في السياسة العربية، ولو على المدى الوسيط. وعلى الصعيدين معاً، فإن المعنى الدقيق للتكيف الإيجابي يُبنى أساساً على التكامل العربي حتى لو تم في المجال الاقتصادي وحده في البداية.

    ومن ثم فإن استراتيجية إعلان دمشق تبدو الأكثر ترجيحاً من الناحية العملية في المدى المباشر. ومع ذلك فإنه لا يبدو أن هذه الاستراتيجية يمكن أن تنجح في المدى الوسيط، إلا إذا اعتمدت على حركة متناسقة ومتوسعة تدريجياً لكسب القبول المبدئي والعمل بها من جانب كل أطراف النظام العربي. ويعني ذلك بدوره أن يمثل إعلان دمشق نقطة انطلاق نحو العمل على محاور تلتقي عندها الجوانب الجوهرية في كل الاستراتيجيات السابقة. وفي الممارسة العملية تدفع الحاجة لمشاركة كل الأطراف الفاعلة في النظام العربي إلى جعل نموذج الاندماج القومي والإقليمي هو المثل الأعلى المنشود على المدى الطويل.

3. جوانب القصور في إعلان دمشق

    ينظر البعض إلى إعلان دمشق للتنسيق والتعاون بين الدول العربية على أنه خطوة بالغة الأهمية، جاءت في وقت حرج لكي تبلور المشروعات الأمنية التي طرحت من قبل أطراف عربية. كما تتمثل في حرص الدول العربية الثمانية المشاركة على اعتماد ميثاق جامعة الدول العربية كأحد أسس العمل، وتأكيده على العمل على بناء نظام عربي جديد، من أجل تعزيز العمل العربي المشترك، ثم إصراره على العمل لكي تتمكن الأمة العربية من توجيه كافة إمكاناتها لمواجهة التحديات التي يتعرض لها الأمن والاستقرار في المنطقة ولتحقيق حل عادل وشامل للنزاع العربي الإسرائيلي وقضية فلسطين على أساس ميثاق الأمم المتحدة والقرارات ذات الصلة. وبذلك يكون إعلان دمشق قد تجاوز محنة الغزو العراقي للكويت، وبعد أن تصور البعض أن العمل العراقي سوف يؤدي إلى أن يكفر البعض بالعمل العربي المشترك ويسعى لكي يتقوقع على ذاته، عادت الأهداف العربية الأساسية لكي تحتل أولوياتها على قائمة الاهتمامات العربية.

    وعلى الرغم من كل هذه النواحي الإيجابية فإن نصوص هذا الإعلان سواء في وضعه الأصلي الذي وقع في 6 مارس 1991 أو التعديل الذي ادخل عليه في يوليه 1991، تعكس جوانب قصور عديدة لعل أهمها:

أ. أنه تجنب تفسير المبادئ التي قام عليها.

ب. لم يطرح الإعلان رؤى محددة لتنفيذ هذه المبادئ.

ج. افتقر الإعلان إلى برامج العمل التي تحدد الالتزامات والواجبات. أنه لم يوزع الأدوار على الأطراف المشاركة في الإعلان وبذلك فتح إعلان دمشق الباب أمام الاجتهادات والتأويلات.