إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / حركة عدم الانحياز





الهيكل التنظيمي




الفصل الأول

المبحث الأول

مفهوم حركة عدم الانحياز وعلاقتها بالحياد الإيجابي

    كان للصراع الذي عرفه المجتمع الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف التحول من نظام عالمي يقوم على مبادئ سيطرة وهيمنة القوى الاستعمارية إلى نظام عالمي يقوم على مبادئ التعاون والتبادل والحرية والمساواة والعدالة، أثره في زيادة النشاط الاستعماري من أجل الحفاظ على مراكز نفوذه في العالم بصفة عامة وفي المستعمرات بصفة خاصة، واتبع الاستعمار عدة أساليب اتخذت أشكال متعددة، منها إقامة التكتلات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وكذلك بث روح الفرقة والخلاف بين الدول حديثة النشأة والاستقلال والتدخل في شؤونها الداخلية. ولمواجهة هذه المخاطر، لم يكن أمام الدول حديثة الاستقلال إلا المطالبة بأسس جديدة للعلاقات الدولية تضع نهاية للسيطرة والهيمنة الأجنبية بمختلف أنواعها وأشكالها، حتى تتمكن من فرض وجودها على الساحة الدولية وتحرير المزيد من المستعمرات، وقد كانت محاولات التضامن بين شعوب هذه الدول منذ زمن بعيد، لكن هذه المحاولات لم تتبلور بشكل منظم وواضح إلا مع ظهور الحركة التحررية التي اجتاحت المستعمرات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتعددت اللقاءات الإقليمية الهادفة إلى توحيد الصف، وتوطيد العلاقات فيما بين الشعوب، حتى بدأت تتضح معالم التعاون الأفرو ـ آسيوي بعد انعقاد مؤتمر كولومبو عام 1954م، وبالرغم من أن التضامن الأفرو ـ آسيوي لم يكن ظاهرة حديثة، إلا أن هذا التضامن يستند إلى جذور عميقة في التاريخ، تتمثل في قيام حضارات وثقافات أفرو ـ آسيوية عرفتها شعوب القارتين في كل من وادي النيل ووادي دجلة والفرات وشبه الجزيرة العربية، وكذلك في الهند والصين وأفريقيا، حيث قامت في هذه المناطق حضارات وثقافات عريقة0

    ولقد أثرت وتأثرت هذه الحضارات ببعضها البعض، ويفسر ذلك ظهور التضامن الأفرو آسيوي في هاتين القارتين، ولم تتوقف الحركة النضالية الأفرو ـ آسيوية عند مجرد عقد المؤتمرات الإقليمية، ولقد مرت محاولات التعاون الأفرو ـ آسيوية بعدة مراحل تمثلت في الآتي:

أولاً: مرحلة ما قبل مؤتمر باندونج:

    عقدت عدة اجتماعات ومؤتمرات دولية في باريس عام 1920م، وفي لندن عام 1923م، ضمت ممثلين من شعوب إفريقيا وآسيا المضطهدة ، إلا أن ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917م، كانت من أهم عوامل بلورة هذا التوجه المناهض للاستعمار وتحرر شعوب العالم الثالث، وكان مؤتمر باكو عام 1920م، ومؤتمر إركوتسك عام 1921م، قد مهدا لإنشاء رابطة مناهضة للإمبريالية عام 1924م، التي بادرت إلى الدعوة لعقد المؤتمر الأول للشعوب المقهورة في موسكو، وفي عام 1927م عقد مؤتمر بروكسل الذي شمل أول تعبير لفكرة عدم الانحياز، كذلك عقدت عدة مؤتمرات في الفترة ما بين الحربين العالميتين في القاهرة ومكة المكرمة عام 1926م، وفي مدينة القدس عام 1931م، وقد أدانت هذه المؤتمرات الاستعمار بكافة أشكاله.

ثانياً: مرحلة بعد الحرب العالمية الثانية:

    كان نشأة جامعة الدول العربية عام 1945م، التي سبقها بروتوكول الإسكندرية وانعقاد المؤتمر العربي في القاهرة عام 1944م بمثابة خطوة أساسية نحو الأفرو ـ آسيوية، وفي الهند كان انعقاد مؤتمر العلاقات الآسيوية في نيودلهي عام 1947م، الذي حضره أكثر من 25 دولة آسيوية بهدف مكافحة الاستعمار، ويعتبر هذا المؤتمر خطوة تجاه بلورة التوجه التعاوني الأفريقي ـ الآسيوي، وخلال عام 1949م تشكلت في الأمم المتحدة كتلة من حوالي 12 دولة أطلق عليها في البداية المجموعة العربية ـ الآسيوية، ثم بعد انضمام مصر وأثيوبيا إلى المجموعة أصبحت تعرف بالكتلة الأفرو ـ آسيوية، وكانت هذه المجموعة تحاول انتهاج سياسة محايدة بين الكتلتين.

ثالثاً: مؤتمر باندونج عام 1955:

    هو أول مؤتمر لتأسيس الحركة الأفرو ـ آسيوية كظاهرة مناهضة للاستعمار في باندونج بإندونيسيا وكان أبرز المشاركين فيه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، والزعيم الهندي جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru، والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو Ahmed Sukarno، والسياسي الصيني شو إن لاي Chou En Lay[1]، ولقد أخذت التوجهات التعاونية الأفرو ـ آسيوية مدلولاً جديداً مع ظهور سياسة عدم الانحياز حتى كان مؤتمر القاهرة عام 1957م، والذي حضرته سبع وأربعون دولة بوفود شعبية غير رسمية، وأصدرت خلاله عدة قرارات أكثر تشدداً تجاه الغرب والاستعمار، وقرر هذا المؤتمر إنشاء أمانة عامة يكون مقرها القاهرة، ويكون هدفها نشر الفكر الأفرو ـ آسيوي التقدمي. وفي عام 1961م انعقد مؤتمر بلجراد بغياب كل من الصين والاتحاد السوفيتي، وتحددت خلاله فكرة عدم الانحياز، ومنذ ذلك التوقيت بدأ اختفاء الحركة الأفرو ـ آسيوية بسبب الصراعات المحلية بين بلدان العالم الثالث نفسها وتبعية العديد من الدول المستقلة للغرب، وقد ساهم ذلك في فقد الحركة لمضمونها الثوري، خاصة بعد تأجيل انعقاد مؤتمر الجزائر عام 1965م لأجل غير مسمى والذي وضع بذلك نهاية لهذه المرحلة، إلا أن معظم دول العالم الثالث بدأت استبدال المؤتمرات الأفرو ـ آسيوية بمؤتمرات دول عدم الانحياز، والتي أخذت تركز جهودها على البعد الاقتصادي للتحرر والاستقلال، وتشجيع حركات التحرر، وطرحت نفسها كممثل للدول الفقيرة في مواجهة الدول الغنية المتقدمة.

    في إطار ممارسة الحق الشرعي لشعوب العالم في استقرار الأمن والسلم الدوليين، قامت معظم الدول فرادى أو مجمعة بانتهاج سياسة تكفل لها تحقيق أهدافها وغايتها القومية، وكانت لهذه السياسة سمات متعددة خلال عدة مراحل. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي المرحلة الأولى وخلال السعي لتحقيق التوازن النووي كان الاتجاه الشعبي أكثر ميلاً إلى سياسة عدم التوسط بين القوى الدولية مهما كانت الأسباب والظروف، وفي المرحلة الثانية والتي تحقق فيها توازن دولي قائم على سياسة الانتقام الشامل البعيد المدى، انتهجت معظم دول العالم سياسة الحياد الإيجابي في إطار تبنى توجهات خاصة حيال تصرف بعض الدول في مجال الانتقام بعيد المدى، وفي المرحلة الثالثة والتي تحقق فيها التوازن النووي الكامل، تبنت هذه الدول سياسة عدم الانحياز، تأكيداً على مشاركتها في الحفاظ على السلام العالمي والتعايش السلمي، كأحد الأهداف التي كانت تسعى إلى تحقيقها الدول غير المنحازة، ورغم التفسيرات المختلفة والمتباينة لمفهوم التعايش السلمي إلا أن اتجاهات عدم الانحياز والتعايش السلمي في ظهورها كسياسة جديدة دفعت إليها اعتبارات الحرب الباردة والتكتل العالمي، والصراع بين المعسكرين والأهوال التي تهدد العالم من احتمالات نشوب حرب، تستخدم فيها الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.

        ولقد أثبتت وقائع ما بعد الحرب العالمية الثانية عجز منظمة الأمم المتحدة في احتواء العديد من المشاكل، كذلك وضح تدخل مجلس الأمن لصالح الدول الكبرى والعظمى، ونتيجة لانحياز مجلس الأمن في مواقفه، وكذلك زيادة حدة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، بدأت بعض الدول المستقلة تتجمع تحت شعار الحياد، لتمارس الضغط على الكتلتين بهدف تحقيق السلام والأمن الدوليين، وفي هذا الإطار ظهرت سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والذي تعددت الآراء حول أشكاله وأقسامه، إلا أنه يوجد اتفاق عام على أن الحياد له أنواع محددة تتمثل في الآتي:

1. الحياد العرضي وهو ما يسمى الحياد بالإرادة المنفردة.

2. الحياد الدائم أو ما يطلق عليه الحياد الاتفاقي.

3. الحياد في حالة الحرب.

4. الحياد الملازم والمكون لكيان الدولة.

5. التحييد كصيغة لاتفاق الكتلتين وهو ما يعرف بالحياد الوسطي.

6. الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.

رابعاً: المفاهيم المختلفة للحياد الإيجابي وعدم الانحياز:

    إن الحياد الإيجابي من الناحية السياسية هو من صور الحياد، التي ترتب عليها ظهور الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، في محيط العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الثانية، وفي إطار الحياد الإيجابي تتبنى الدولة سياسة محايدة تبعدها عن الحرب الباردة وتكتلاتها، حتى تتمكن من القيام بدور إيجابي تحقق من خلاله تخفيف حدة التوتر الدولي، وفض المنازعات بالطرق السلمية، والدول التي تأخذ بهذه السياسة تلتزم ببذل الجهد للتوفيق بين الأطراف المتصارعة أو المتنازعة، وتؤيد صاحب الحق في قضيته إعمالاً بنظرية الحرب العادلة والحرب الغير عادلة. ورغم اختلاف الأصول الفكرية والمدلولات اللغوية والسياسية للحياد التقليدي القانوني أو الحياد الإيجابي أو عدم الانحياز، إلا أن الهدف واحد وهو الرغبة في اتباع سياسة تبتعد عن النزاعات والحروب.

    يوجد تمايز واضح بين الحياد الإيجابي المعاصر والحياد التقليدي القانوني، الذي يقصد به مجموعة القواعد والنظم القانونية الدولية التي تنظم العلاقات فيما بين الدول المتحاربة والدول الغير متحاربة، والذي بموجبه تبقى الدول الغير متحاربة بعيدة عن دائرة الصراع المسلح، وهو ما يطلق عليه حق الحياد، ولقد أرسى مؤتمر فيينا عام 1815م القواعد الأساسية لنظام الحياد، كذلك كان لتطبيق قواعد الحياد من جانب الولايات المتحدة الأمريكية منذ إعلان مبدأ مونرو عام 1823م، وحتى خروجها من عزلتها عام 1917م أثر كبير في تحديد وتطور مفهوم الحياد.

    وخلال القرن التاسع عشر كان المعنى المقصود بالحياد هو المعنى العسكري، وقد حُدد بشكل خاص في مؤتمر لاهاي الخامس حول الحقوق والواجبات للدول المحايدة عام 1907م، والذي من خلاله وضعت قواعد الحياد في الحرب البرية والبحرية، وجاء إعلان لندن عام 1909م مكملاً لمؤتمر لاهاي الخامس بتنظيمه للحياد في الحروب البحرية، وقبل بداية الحرب العالمية الأولى تعرضت قواعد الحياد التقليدي القانوني إلى العديد من النقد، حيث لم يلتزم بها عدد كبير من الدول، وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية وضح أهمية تغيير النظام التقليدي للحياد، مما أدى إلى وضع معايير جديدة للحياد والتي تتفق مع مقتضيات ومتطلبات استقرار المجتمع الدولي، حيث لم يعد هناك حق للدولة ذات السيادة في استخدام القوة لحل مشاكلها، وأصبح إعلان الحرب عملاً غير مشروع، وترتب على ذلك مسؤولية دولية تعطي للغير الحق في اتخاذ مواقف معينة، والتمييز بين الأطراف المتحاربة ومعاملتهم وفقاً لمشروعية دعواه وحقوقه. ومن هذا المنطلق ظهرت فكرة الحياد الإيجابي الذي تنحاز فيه الدول إلى أحد طرفي النزاع أو الصراع.

    واختلفت آراء مؤسسي سياسة الحياد الإيجابي حول المصطلح نفسه، فكان جواهر لال نهرو يعترض على هذا المصطلح، رغم أن الهند منذ استقلالها وهي تأخذ بسياسة الحياد الإيجابي، وكان نهرو يفضل استخدام مصطلح اللاالتزام، ويرجع ذلك إلى تخوفه من مصطلح حياد إذ يعني مدلولها اللغوي اللامبالاة. أما جمال عبدالناصر فكان يفضل استخدام كلا المصطلحين معاً؛ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وكان يفضل أحياناً مصطلح الحياد الإيجابي، بينما كان الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو Josip Broz Tito يقتصر استخدامه على مصطلح عدم الانحياز مع تجنبه لاستخدام مصطلح الحياد الإيجابي، إلا أنه رغم اختلاف الأصول الفكرية والمدلولات اللغوية والسياسية لهذه المصطلحات الثلاث المتعلقة بالحياد التقليدي والحياد الإيجابي وعدم الانحياز فإن الهدف في جملته واحد، وهو الرغبة في الابتعاد عن النزاعات والحروب، سواء كانت حروباً كلاسيكية أو حروباً باردة، ومن ثم فإن تعبير الحياد الإيجابي له دلالة قاطعة على شكل الحياد بمعناه وشكله الحديث. وتتحدد مبادئ الحياد الإيجابي في الآتي:

1. عدم المشاركة في الأحلاف العسكرية، كذلك عدم الانحياز إلى أحد أطرافها في إطار الحرب الباردة.

2. التعاون والتعامل مع كلا المعسكرين الشرقي والغربي مع المحافظة على الاستقلال للدول المحايدة.

3. المشاركة في حل المشاكل والأزمات الدولية، مع مساندة الشعوب غير المستقلة وحديثة الاستقلال، ودعم منظمة الأمم المتحدة لتنفيذ قراراتها وإجراءات تنفيذها لصالح هذه الدول.

        وفي إطار هذه المبادئ لا يكون هناك اختلاف بين الحياد التقليدي والحياد الإيجابي من حيث الامتناع عن الاشتراك في الصراعات المسلحة، إلا أن الاختلافات الأساسية بينهما تتمثل في أن الحياد التقليدي لا يوجد له دور في التعامل مع الأطراف المتصارعة، بهدف إيجاد الحلول واحتواء الصراع، بينما الحياد الإيجابي يقوم أساساً بالتعاون مع أطراف الصراع لاحتوائه، أما في حالة دعم ومساندة حركات التحرر، فإن دول الحياد الإيجابي ودول عدم الانحياز ملزمة بمساندة كافة حركات التحرر وتكون منحازة لها وتدعمها.

        فضلت الدول المشاركة في مؤتمر بلجراد عام 1961م، استخدام مصطلح عدم الانحياز على مصطلح الحياد الإيجابي، الذي يفترض قيام الصراع المسلح، مع تأكيد الرغبة في الابتعاد عن هذا الصراع مهما كانت دوافعه أو طبيعته، أما في حالة تعرض دولة حديثة الاستقلال لاعتداء خارجي ودخولها في صراع مسلح سواء مع إحدى الكتلتين أو دولة منضمة إلى إحداهما، فإن الدول غير المنحازة لا يكون موقفها محايداً، بل تناصر وتساند الدولة حديثة الاستقلال، وبذلك لا يوجد تطابق بين مصطلحي الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، سواء من الناحية اللغوية أو من حيث المدلول السياسي، لأن عدم الانحياز في الواقع يمثل جانب من جوانب الحياد الإيجابي، كما أن عدم الانحياز يمثل الناحية السلبية لمنطلق سياسي إيجابي، خاصة وأن مصطلح عدم الانحياز يعكس فكرة تقليدية قديمة، مؤداها رغبة بعض الشعوب في حصر آثار الحرب في مناطق معينة وعدم الاشتراك فيها. وبذلك يعتبر عدم الانحياز من الناحية اللفظية كلمة ناقصة فيما تعبر عنه، فمصطلح عدم الانحياز لا يعني أن الدول التي تتبنى هذه السياسة لا تهدف إلى تجريد نفسها من إمكانيات اتخاذ مواقف

    لا تكون منحازة مسبقاً إلى أي منهما، بل انحيازها يكون بعد دراسة وتقييم مسبق للموقف، وبذلك يكون الانحياز كامن لكن تتضح معالمه على أساس كل قضية على حدة، ومن ثم يكون انحياز الدول والحركات الشعبية غير المنحازة تمليه المصلحة الوطنية لهذه الدول والحركات، وبذلك لا يكون هناك عدم انحياز ثابت ومستمر، وإنما توجد مواقف غير منحازة أي حياد إيجابي.

    ومن منطلق المفهوم القانوني توجد اختلافات واضحة بين سياستي الحياد وعدم الانحياز، فبعد أن تطور مفهوم الحياد خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، وتأكد خلال القرن العشرين، برزت سياسة عدم الانحياز، وكان يطلق عليها الحياد Neutrality وأحياناً Neutralism وأحياناً أخرى أضيف إليها تعبير إيجابي، إلا أن الحياد كمفهوم قانوني قد حُدد في مؤتمر لاهاي عام 1907م، حيث يفترض في الدول المحايدة الامتناع عن المساهمة في أي صراع مسلح، أو تقديم أية مساعدات للأطراف المتحاربة وتتمثل الاختلافات بين سياسة عدم الانحياز والحياد في الآتي:

أ. إن أساس الحياد هو اتفاقات دولية أو قوانين داخلية، أي أنه ينبع من أساس قانوني، في حين أن عدم الانحياز يقوم على اعتبارات سياسية وليست قانونية.

ب. إن الشاغل الأساسي للدول المحايدة هو الحرب، والابتعاد عنها في حالة اندلاعها واتباع سياسة تهيئ لهذا الموقف في حالة السلام، أما عدم الانحياز فهو سياسة شاغلها الرئيسي هو وقت السلم، وفي حالة نشوب الصراع المسلح فإن للدولة حرية اتخاذ قرارها.

ج. إن سياسة الحياد كما ظهرت في أوروبا هي سياسة سلبية في المقام الأول، أما سياسة عدم الانحياز كما تبلورت في العالم الثالث فهي سياسة إيجابية في المقام الأول، حيث اضطلعت بعدة مبادرات لتعزيز السلام وتخفيف حدة التوتر الدولي، وتغيير هيكل النظام السياسي والاقتصادي، فهدف الدول المحايدة هو مجرد الحفاظ على حيادها وقت الحرب، أما هدف الدول غير المنحازة فهو بناء عالم جديد.

د. إن الحياد كمفهوم قانوني يترتب عليه حقوق والتزامات بين الدول المحايدة والدول المتحاربة إزاء بعضها البعض، كما أنه يستلزم اعتراف الدول المتحاربة بحياد دولة ما، وإلا فإن ما يعرف بالحياد المسلح للدفاع عن النفس يمكن أن يظهر في الواقع الفعلي.

خامساً: مفهوم العقيدة الإسلامية للحياد الإيجابي وعدم الانحياز:

    يقسم الفقه الإسلامي العالم إلى دار إسلام ودار حرب، ويجمع الفقهاء على أن ما دخل في محيط سلطان الإسلام ونفذت فيه أحكامه وأقيمت شعائره قد صار من دار الإسلام، ووجب على المسلمين في حالة الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوباً كفائياً بقدر الحاجة وإلا فوجوبها عينياً[2]، وكانوا كلهم آثمين بتركه، وإن الاستيلاء عليه من جانب أعداؤه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده وإن طال الزمن، وبذلك تضم دار الإسلام كافة الأراضي والبلاد الإسلامية مهما كانت متباعدة، ورعاياها سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، أما دار الحرب، فطبقاً للفقه الإسلامي فهي البلاد التي لا يطبق فيها أحكام الإسلام الدينية والسياسية وليس فيها سلطة إسلامية، ولذلك فهي خارج نطاق السلطة الإسلامية، ولقد خرج الإمام الشافعي رضي الله عنه عن هذا التقسيم الثنائي بإضافة دار ثالثة، وهي الدار التي تتمثل في الدول المحايدة، أي التي لا تعتبر دار إسلام ولكنها لا تعادي دار الإسلام، بل تدفع لها الجزية، كما تعتبر دار حرب، دار العهد، أو دار الصلح، وهي الدار التي قصد بها الأمام الشافعي الدار التي لم يسيطر عليها المسلمون، وعقد أهلها الصلح بينهم وبين المسلمين على شيء يؤدونه في أرضهم يسمى خراجاً، دون أن تؤخذ منهم الجزية لأنهم في غير دار الإسلام، ولقد وضح ذلك خلال الفتوحات الإسلامية في بلاد النوبة وصلح أرمينية وكذلك نجران، فقد عقد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صلحاً مع نصارى نجران، أمنهم فيه على حياتهم، وفرض عليهم خراج وقيل أنها جزية.

    ورغم اختلاف الفقهاء حول تقسيم العالم، حيث يعتقد بعضهم بعدم وجود ما يسمى بالحياد في الإسلام، والواقع أن الحياد كنظام سياسي قانوني من خصائص سيادة الدولة ولم يعرف إلا حديثاً، إلا أن من دراسة الفقه الإسلامي يظهر وجود فكرة لمبدأ الحياد، تشبه إلى حد كبير نظام الحياد الحالي حيث يوجد حالات حياد من الناحية التاريخية الإسلامية، قائمة على أساس اعتبارات عملية تكون قسماً مستقلاً من العالم يسمى دار الحياد أو عالم الحياد، وهي البلاد التي يوافق العالم على إعفائها من الجهاد وهذا يختلف عن حياد اليوم، وبذلك يكون الحياد المفروض هو الشكل الوحيد من الحياد المسموح به في الإسلام، ويتمثل ذلك في حالة إثيوبيا الحيادية حيث لم يعتبر المسلمون الحبشة سابقاً دار حرب، نظراً للعلاقات الحسنة التي كانت قائمة بين المسلمين الأوائل والأحباش، فقد وفر النجاشي الحماية للمهاجرين إليه من المسلمين من بطش قريش، كما أحسن الرد على كتاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام، الذي دعاه فيه إلى الإسلام فأسلم، ومن ثم فإنه لا يمكن اعتبار بلاد الحبشة من دار الإسلام حيث لم تكن أحكام الإسلام مطبقة فيها، كذلك لم تكن دار حرب لمواءمة الإسلام لها، كذلك لا يمكن أن يطلق عليها دار حياد، ولكن يوجد حالة مغايرة لأحكام دار الحرب ودار الإسلام معاً، وخير ما يمكن الاستشهاد به ما جاء في القرآن ]وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ[ w (سورة الحجرات، الآية 9). ومن هذه الآية الكريمة يبدو أن الخطاب الموجه إلى الدول التي تقف بعيداً عن الخلافات والنزاعات ويرسم لها الإسلام دوراً محدداً، ولعل هذا الدور الذي حدده الإسلام سابقاً وفي إطار المتغيرات العالمية من تكتلات وأحلاف، فإن أفضل ما يمثله هو الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.

سادساً: أيديولوجية القومية العربية وسياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز:

    تستند القومية العربية في مجالها السياسي إلى مبدأي الاستقلال والوحدة كذلك تقوم على سياسة مستقلة تنبع من مصلحة الأمة العربية ذاتها، وتلك هي سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز إلى أي من الكتلتين الغربية أو الشرقية، ويرتبط بذلك المشاركة الإيجابية من أجل تحقيق السلام، وإقرار مبدأ التعايش السلمي بين دول العالم، مهما اختلفت العقائد والمذاهب بينها، وكذلك فإن القومية العربية باعتبارها قومية متحررة فهي قومية محررة في الوقت نفسه، من حيث إنها لا تعمل على التحرر من الاستعمار في الدائرة العربية فحسب، وإنما تحمل مسؤوليات تجاه حركات التحرر في العالم ـ خاصة في الدائرة الأفريقية، وما يتطلب ذلك من مناهضة الاستعمار حينما وجد. ومن خلال اختلاف مفهوم الحياد الإيجابي عن مفهوم الحياد المطلق، فالحياد الإيجابي الذي يعتبر إحدى القواعد الدولية في بناء المذهب القومي العربي يقوم على مبدأين أساسيين هما عدم الانزلاق أو الانحياز إلى أي من الكتلتين الدوليتين المتناهضتين والتعايش السلمي مع الجميع، والمبدأ الثاني إيجاد قاعدة ارتكاز أو جبهة عدم انحياز تحقق التوازن الدولي، بمشاركتها في حل المشكلات الدولية حلاً سلمياً، وتخفيف حدة الصراع الدولي، فالقومية العربية حين نادت بمبدأ وسياسة الحياد الإيجابي لا تعني أن يكون حياداً انفرادياً، وإنما تعني حياداً تحتفظ فيه بحرية حركتها وزيادة فعاليتها وإيجابيتها في إنكار سياسة الاعتداء، ومواجهة التنافس بين الكتلتين الهادف إلى السيطرة على الدول المختلفة، والعمل من جهة أخرى على نصرة قضايا الشعوب الساعية إلى تحررها، فلا يمكن أن يكون هناك حياد بين القومية والاستعمار، ولا بين التعاون القائم على أساس من عدم الاحترام المتبادل، وكذلك مع الاستغلال القائم على أسس غير متكافئة وفرض الهيمنة والسيطرة. والقومية العربية بمقوماتها وأهدافها ومنهجها تحقق فكرة التعاون الدولي والتفاهم الدولي في إطار مبادئ أساسية هي:

1. احترام الاستقلال السياسي لكل دولة، ومراعاة العدالة الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

2. حق كل دولة في اختيار ما تراه صالحاً لها من النظم السياسية والاقتصادية.

    ويعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي السوري أول حركة سياسية عربية قومية نادت بسياسة الحياد الإيجابي، حيث كان يعترض الحزب على سياسة الأحزاب الشيوعية التي تنادي بالوقوف اللا مشروط إلى جانب الكتلة الشرقية، كما كان يعارض الأحزاب اليمينية والدينية في مناداتها بالوقوف إلى جانب الكتلة الغربية، تحت ستار محاربة الزحف الشيوعي، ولقد حدد حزب البعث العربي الاشتراكي السوري مفهومه عن الحياد الإيجابي خلال المؤتمر القومي الثالث في عام 1959م، والذي تمثل في الآتي:

أ. الحياد الإيجابي هو طريق العرب إلى حماية جبهتهم الوطنية الداخلية، ولنجاح ثورتهم، ومكافحة السيطرة الاستعمارية والتسلط الأجنبي، فالتبعية لأحد المعسكرين الدوليين تؤدي إلى تفسخ هذه الجبهة وإخضاع الثورة العربية لتيارات الحرب الباردة.

ب. الحياد الإيجابي هو طريق العرب إلى ربط ثورتهم بالثورة التحررية المتعاظمة في آسيا وأفريقيا.

ج. الحياد الإيجابي هو طريق العرب للمساهمة في تخفيف حدة التوتر الدولي وإقرار التعايش السلمي، وإبعاد شبح الحرب نهائياً، فالحياد الإيجابي بتكوينه قوى شعبية ضخمة ترفض التبعية، وفكرة اقتسام العالم بين المعسكرين، كما أن فكرة الحياد الإيجابي تخفف من حدة هذا الانقسام، ويوجد منطقة سلام منيعة واسعة تساعد كل معسكر على مواجهة أزمته وتصحيح أوضاعه، وتفرز ظروف التعايش والتقدم الإنساني السلمي.



[1] يكتب الاسم في بعض المراجع هكذا: Zhou Enlai .

[2] فرض الكفاية يعني إن قام به البعض سقط عن الآخرين إلا في حالة الاحتياج فإنه يكون واجب على الجميع. أما فرض العين فيجب على كل مسلم أن يفعله وإن لم يفعله فهو آثم.