إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / حركة عدم الانحياز





الهيكل التنظيمي




المبحث الثاني

المبحث الثاني

نشأة حركة عدم الانحياز وتطورها التاريخي

    نشأت حركة عدم الانحياز في ظل ظروف متعددة ومتغيرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث اشتدت حدة التنافس والصراع بهدف فرض النفوذ، وظهرت الحرب الباردة خلال نهاية عقد الخمسينيات وبداية عقد الستينيات، وكان للتيارات الفكرية والفلسفية التي سادت بعض مناطق العالم لها تأثير واضح على ظهور الحركة الأفرو ـ آسيوية وحركة عدم الانحياز، حيث بدأت تتضح المعالم السياسية والأيديولوجية لهاتين الحركتين، ولقد ساهمت المؤتمرات القارية سواء كانت مؤتمرات آسيوية أو مؤتمرات أفريقية، في إرساء الأسس السياسية للحياد الإيجابي وعدم الانحياز (أُنظر جدول مؤتمرات دول قارتي آسيا وأفريقيا قبل انعقاد مؤتمر باندونج)، حتى انعقاد مؤتمر باندونج بعد أن أدركت شعوب القارتين بأنها تعاني من مشاكل واحدة ومعبرها واحد وتواجه عدو واحد، ولقد تعددت المؤتمرات القارية التي سبقت مؤتمر باندونج، الذي يعتبر نهاية لمرحلة المؤتمرات الإقليمية محدودة العدد والمحصورة في إطار القارة الواحدة، وهي في أغلبها مؤتمرات آسيوية، بسبب محدودية الدول الأفريقية المستقلة خلال فترة الأربعينيات، وبصفة عامة اتسمت هذه المؤتمرات بعدة ظواهر تمثلت في الآتي:

1. محدودية عدد الدول المشاركة، وهو ما يعكس الاهتمام الإقليمي أكثر من الاهتمام العالمي، وكانت معظم الدول المتواجدة دول آسيوية. كذلك كانت بعض الدول منتظمة في حضور هذه المؤتمرات، والبعض الآخر كان متغير وفقاً لأهمية وأهداف المؤتمر.

2. تحددت أهداف المؤتمر في مناقشة قضية أساسية واحدة، كان منها قضايا حرب الهند الصينية وقضية إندونيسيا، وكذلك قضايا التفرقة العنصرية والاستعمار الغربي.

3. لم يكن لمعظم الدول الآسيوية ميولاً كبيرة لإقامة تنظيمات إقليمية، ويرجع ذلك لرغبتها في إيجاد دوراً فاعلاً في السياسيات العالمية، وبالتالي كان حضورها لتحقيق هذا الهدف.

4. كانت معظم الدول الأفريقية ذات نشأة حديثة، ولذلك كانت نظرتها إلى الوحدة الأفريقية تفوق في جديتها نظرتها إلى الاجتماعات والمؤتمرات الأفرو ـ آسيوية.

   بدأت مرحلة التضامن الأفرو ـ آسيوي في إطار سياسة التشاور والتقارب بين الشعوب والدول في قارتي آسيا وأفريقيا، بهدف تحقيق التعاون على كافة المستويات، ومكافحة الاستعمار، وتأييد حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولقد تعزز هذا التضامن في مؤتمر باندونج عام 1955، وأخذت الشعوب الآسيوية ـ الأفريقية على عاتقها مهمة تدعيم هذا التضامن، فأنشئت منظمة هي منظمة تضامن الشعوب الأفريقية ـ الآسيوية، وأقامت لها أمانة عامة، وعقدت مؤتمراتها في القاهرة عام 1957م، وكوناكري عام 1960م، وتنزانيا عام 1963م، وغانا عام 1965م، وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لبدايات التضامن الآسيوي ـ الأفريقي فإنه حقق أهدافه عندما تجاوز حدوده الإقليمية، وتجسد في حركة عدم الانحياز وتضامن دول القارات الثلاث بدخول دول أمريكا اللاتينية. لكن وضح منذ تأسيس منظمة تضامن الشعوب الأفريقية ـ الأسيوية عام 1957م، تأثير الاتحاد السوفيتي والصين عليها، ومع زيادة حدة الخلاف الصيني ـ السوفيتي والصراعات المحلية بين بلدان العالم الثالث نفسها وتبعية العديد من هذه البلدان المستقلة حديثاً شكلياً للغرب، قد ساهم في التأثير على فكرة التضامن الأفرو ـ آسيوي وتفريغها من مضمونها، وكان تأجيل انعقاد مؤتمر الجزائر عام 1965م لأجل غير مسمى قد وضع حداً لهذه المرحلة، حيث اتجهت معظم دول العالم الثالث لاستبدال المؤتمرات الأفرو ـ آسيوية بمؤتمرات بلدان عدم الانحياز.

أولاً: الأسباب المنطقية لسياسة عدم الانحياز:

1. بدأت معالم سياسة عدم الانحياز تتضح في ظل متغيرات عالمية، وضح خلالها زيادة انتشار التوجهات الاشتراكية والشيوعية بينما اختفت الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية، ومن ثم تحتم على الغرب بصفة عامة والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة السعي لإيقاف انتشار التوجهات الشيوعية. إلا أنه كان هناك رفض واضح للدول المستقلة حديثاً للانضمام إلى الأحلاف المختلفة في توجهاتها، ويرجع ذلك لرغبتها في أن تظل في منأى عن المنازعات، إلا في الحالات التي يطلب إليها أن تتدخل فيها كوسيط، كما أنها رغبت في الابتعاد عن اشتباكات الحرب الباردة، فقد كان هناك في السابق شكلان للسياسة المناهضة للأحلاف، إلا أن سياسة الحياد قد أضافت شكل ثالث مما يؤكد تزايد العداء تجاه الأحلاف بصفة عامة، فكان الشكل الأول المناوئ للأحلاف يقضي بمناهضة أي تحالف مع بلاد معينة، وإن كان يؤيد أو يتسامح مع سياسة الأحلاف بصورة عامة، حيث كان الرفض لحلف بالذات مع إمكانية توسيع نطاق البحث عن حلفاء لتعبئتهم ضد أعدائها. ويقضي الشكل الثاني من السياسات المناوئة للأحلاف بالامتناع عن الدخول في أي حلف مهما كان شكله، ويمكن اتباع هذه السياسة بعد دراسات تشمل الموازنة بين السلبيات والإيجابيات التي قد تتحقق باتباع أي سياسات أخرى، وهذا ما تتبعه دول الحياد التقليدية، ولا تتطلب هذه السياسة في الواقع أن تعارض الدولة التي تتبعها في وجود الأحلاف بين الدول الأخرى، أما الشكل الثالث من الحياد المناوئ للأحلاف فيقوم على معارضة أية تحالفات تعقد حتى ولو كانت بين دول أخرى، وحتى إن لم يكن لا شأن لها بها، حيث ترى أن التنافس على الحلفاء قد يكون سبباً في التوتر الدولي، ومن ثم الوصول إلى حالة الصراع المسلح، خاصة وأن التحالفات تضاعف مجموع القوى وتشجع على استخدامها وتحرض على سباق التسلح، والذي ينعكس بالقطع على معدلات التنمية الداخلية، ولما كانت الأحلاف تقوم على الاشتراك في العداء وليس في الصداقة، فإنها تميل في الغالب إلى التفكك والتمزق، وآنذاك تصبح الحرب وسيلة للحيلولة دون هذا التفكك بين أعضاء الحلف، فإذا كانت سياسة الأحلاف لها انعكاساتها على سياسة الدولة الخارجية، فإنها تؤثر كذلك على الأوضاع الداخلية، ومن ثم فإن تبنى سياسة عدم الانحياز يقوم عل ضوء التقديرات العقلانية للأوضاع التي يتطلبها الأمن القومي والاستقرار الداخلي.

2.     لقد تعددت دوافع اتباع سياسة عدم الانحياز، فمع زيادة الصراعات الدولية زاد تخوف الدول الصغرى حديثة الاستقلال من أن تجرفها سياسة الأحلاف إلى اكتساب أعداء جدد، ومما لاشك فيه أن الثمن السياسي للحلف يصبح كبيراً عندما يتجاوز نطاق التفاهم الأولى مع الحليف، ويصل إلى حد اكتساب عداء أعدائه كذلك، ولقد وجدت دول الحياد ودول عدم الانحياز أن تبنيها لفكر مناهض للأحلاف كان في إطار الفكرة الحيادية، التي تؤكد على عدم إمكانية الدول النامية حديثة الاستقلال من خلال جهودها الفردية أو الجماعية في تحقيق أمنها وسلامتها، وخاصة ضد أسلحة الدمار الشامل، وبذلك يكون التضامن الذاتي للدول التي تتبنى سياسة عدم الانحياز في معارضتها للدول العظمى للتحالف معها هو في حد ذاته حلف فعال في الأجواء النووية المحيطة لها. كذلك رأت الدول حديثة الاستقلال التي عملت ضد سياسة الأحلاف أنه يوجد علاقة تربط بين سياسة الأحلاف الغربية وبين الاستعمار الغربي، حيث رأت أن الغرب كان يسعى لإقامة أحلاف تربط بينه وبين الدول التي كانت تستعمرها، وقد تشمل دول لم تكن من المستعمرات في السابق، ومن ثم فإن هذه الأحلاف ستكون صورة جديدة للاستعمار، الذي سيجعل الوجود الغربي دائماً وأزلياً، ولذلك كانت معظم التوجهات والرؤى للدول الحديثة الاستقلال أن أخطار الأحلاف الاستعمارية الجديدة قد تهدد بصورة غير مباشرة كافة دول المنطقة.

3.     أدى افتراض تحقيق النصر في الحرب الباردة إلى زيادة الشعور ضد الانحياز، حيث وضح أن معظم حركات التحرر الاستقلالية نجحت إلى حد كبير بسبب الحرب العالمية الثانية التي منيت خلالها الدول الغربية بهزائم أولية، ولكنها تمكنت من الانتصار، وقد أكد ذلك للحياديين إمكان انتصار الغرب على الكتلة الشرقية في النهاية ولذا فهو ليس في حاجة إلى أية مساعدة، ومن ثم أصبح لزاماً على الدول التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية أن تستخدم نفس أساليبها في نيل استقلالها، حتى تثبت دعائم هذا الاستقلال وتأكيده. ومن ثم كان تفهم الدول حديثة الاستقلال بخطورة الحرب الباردة والتي هي في الأصل بديلاً عن الحرب العالمية الثالثة والتي كانت في صورة تنافس اقتصادي أثرت على بناء الدول النامية.

4.     وكان إعلان العديد من قادة دول عدم الانحياز عن خوفهم من السيطرة الشيوعية، وكذلك سخطهم على الإرهاب النووي السوفيتي جزءاً لا يتجزأ من سياسة عدم الانحياز، ومن ثم دفعهم هذا الخوف إلى الحيطة والحذر وكان سبباً واضحاً من أسباب المواقف اللا انحيازية، لكن انعدام الخوف يمكن أن يكون كذلك سبباً من أسباب اللا انحياز، خاصة عندما يكون الابتعاد عن الكتلة الشيوعية أحد العوامل التي تحقق المناعة من مخاطرها، ومن ثم فإن جوانب كثيرة من العقائد الحيادية في الأمن الدولي ترتكز إلى درجة متفائلة من الثقة في الحماية الذاتية.

5.     وفي إطار ميل العديد من الدول حديثة الاستقلال إلى تدويل سياساتها الخارجية، على غرار التركيب الحزبي الداخلي التي كانت تتحالف مع مختلف القوى الخارجية وتتلقى العون المادي والمعنوي منها، فإن سياسات عدم الانحياز والحياد الإيجابي ليست إلا من وسائل المعارضة لمثل هذه الاتجاهات، ومن المفروض أن يؤدي عدم الانحياز إلى تعزيز الوضع الدولي للدولة، ومن ثم إلى تقوية السلطة الداخلية لنظام الحكم، كما تؤدي هذه السياسة كذلك إلى تحقيق الاستقرار على المدى القصير، ويستهوي الأساس اللاانحيازي الأحزاب الوطنية والتقليدية، كما يعمل على عزل الصراعات الحزبية والإقليمية في البلاد عن مشاكل التدخل الخارجي، وكلما كانت المتاعب الداخلية أكثر حدة زاد الميل إلى تجاوز حدود عدم الانحياز إلى سياسة الحياد النضالي، ومما لاشك فيه أن الخوف من الانقسامات الداخلية هو أحد الأسباب في تنمية الروح النضالية التي تسيطر على حكومات الدول الحديثة التي لم تتعزز وحدتها الداخلية بعد، ويوفر الحياد كسياسة خارجية فعالة محوراً للتماسك الداخلي، كما يحد من المعارضة الداخلية للحكومات، يضاف إلى ذلك أن سياسة الحياد النضالي كانت تستهوي الكثير من الدول الحديثة كرد فعل طبيعي لتبعية أيام الاستعمار السابقة.

ثانياً: رؤية الزعامات التاريخية لسياسة عدم الانحياز:

    لم يكن العداء الاستعماري إلا رد فعل سياسي ونفسي للسيطرة السياسية الأوروبية السابقة والتسلط الاقتصادي، فكان تمجيداً للاستقلال الذي تحقق، وكذلك مطالبة بالحرية والاستقلال للدول التي مازالت تعاني من التبعية للاستعمار، أما في الإطار الأفريقي ـ الآسيوي كان انعكاساً لصراع سياسي ومذهبي يتحتم خلاله أن يتعزز الموقف بين الانحياز وعدم الانحياز، وكذلك موقفها من الحرب الباردة التي اعتبرها الزعماء التاريخيين لسياسة عدم الانحياز، جمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو والسياسي الغاني كوامي نكروما Kwame Nkrumah أنها لا تقل خطورة عن الاستعمار، وقد اختار كل منهم سياسة عدم الانحياز لرغبته في الاحتفاظ باستقلال بلاده وحيادها الذي لا يميل إلى الكتلة الشيوعية ولا إلى التحالف الغربي، ولقد رأى الزعماء التاريخيين لسياسة عدم الانحياز التي تعبر عن مصلحة ذاتية متفتحة، تحقق العديد من المزايا للدول الغير منحازة على الصعيد العسكري تتمثل في الآتي:

1. تضمن سياسة عدم الانحياز الحرية السياسية والاستقلال، كما تسهم في تعزيز المكانة الوطنية.

2. تتيح سياسة عدم الانحياز حرية العمل، بعكس الانتماء إلى الأحلاف التي تحد من هذه الحرية.

3. تحقق سياسة عدم الانحياز الابتعاد عن التورط في الصراعات الكبرى التي تعنيها.

4. يزيد الانحياز من المشاكل المحلية الداخلية ويجعلها عسيرة الحل.

5. تحول الأحلاف بما تنطوي عليه من التزامات عسكرية، عن متطلبات التنمية الاقتصادية الضرورية والملحة، في إطار موارد محدودة لدى الدول حديثة الاستقلال.

6. تكون الدول اللا منحازة في موقف أفضل يمكنها من تقبل أو تطلب العون الاقتصادي من طرفي الصراع في الحرب الباردة.

        رغم أن زعماء حركة عدم الانحياز يعللون اتباعهم لهذه السياسة بمقتضيات الحاجة والمصلحة القومية، والمبادئ الأخلاقية السامية، ويؤكد كل منهم أن الرغبة في عدم الانحياز هي ثمرة طبيعية لتاريخ شعبه المميز، كما يعترفوا بأن متطلبات السياسات العالمية والاهتمام بالمصالح القومية تشير كلها إلى أن سياسة عدم الانحياز هي أفضل السياسات، إلا أنهم لم يتشابهوا كل التشابه في تقديراتهم لسياسة عدم الانحياز، فكان نهرو يميل إلى تبرير سياسته على صعيد المبادئ الأخلاقية العالمية الشمولية، لا على صعيد المصالح القومية، أما عبدالناصر ونكروما فكانا أقل ميلاً إلى مثل هذا التبرير، حيث أكد كل منهما على أن سياسة عدم الانحياز وتأييدهما للتعايش السلمي سيؤثران على أوضاع الصراع بين الشرق والغرب، ويحدان من احتمالات الحرب النووية، بل وتضع حداً كبيراً للحرب الباردة.

        حدد زعماء حركة عدم الانحياز أربعة أهداف أساسية يسعون لتحقيقها هي تثبيت دعائم استقلالهم السياسي، والقضاء على الاستعمار الأوروبي، وتنمية اقتصادهم الوطني، والقيام بدور خاص إما فرادى أو مجتمعين في محاولة لتسوية الصراعات بين الدول الكبرى، وقد تعرضت سياسة عدم الانحياز لعدة اختبارات وإن كان تطبيقها قد تأثر ببعض الأحداث، إلا أن الزعماء الثلاثة قد استمروا على سياستهم الحيادية، وكان كل منهم يؤمن بأن نظريته قد باتت عميقة الجذور، بحيث تمكنه من دعم سياساته المتبدلة، التي كان يرسمها أحياناً لمواجهة الظروف السريعة التغيير والتحول على الساحة الدولية. وقد كان نهرو أكثر اهتماماً من عبدالناصر ونكروما باحتواء الأخطار الناجمة عن الاستقطاب النووي، إلا أنهما قاما بتأييد جهوده السلمية في الأمم المتحدة، ويعتبر نهرو من المنفذين لسياسة الوساطة كأسلوب أمثل لحل المشاكل العالمية واحتواء منازعات الحرب الباردة، أما عن نكروما فإنه لا يؤيد كثيراً قيام دول عدم الانحياز بدور الوساطة في الحرب الباردة، ولكن طالب بإيجاد قوة ثالثة غير نووية تضم دول عدم الانحياز، وتعمل كقوة عازلة للحروب بين الكتلتين الشرقية والغربية، وكان يرى أنه على الكتلة الثالثة التي تضم الدول الأفريقية والآسيوية أن تدعم القضايا التي تعزز السلام والأمن الدوليين، وأن تقوم بالضغط الأوروبي على الكتلتين الرئيسيتين لمنعهما من دفع الدول المختلفة إلى حرب مفجعة، ويعارض نهرو، نكروما في تكوين قوة ثالثة منظمة، حيث كان يعتبر نفسه الفاعل الأساسي والناطق الرئيسي باسم تجمع حيادي طارئ ويتعمد الإبقاء عليه غامضاً، كما إن عبدالناصر لم يظهر اهتماماً كبيراً باقتراح نكروما الخاص بتكوين قوة ثالثة أو بجهود نهرو للوساطة لاحتواء الحرب الباردة، إذ أن اهتمامه كان منصرفاً إلى قضايا أخرى أكثر صلة ببلاده، وكان يعارض تكوين كتلة حيادية ويطالب بتطبيق سياسة عدم الانحياز أولاً، قبل أن يصبح العالم ثلاث كتل بدلاً من اثنتين.

        عارض كل من نهرو وعبد الناصر ونكروما النشاط العسكري الذي ينطوي على المواثيق والتعاون العسكري، فلقد رأى نهرو أن المواثيق العسكرية في كافة صورها تؤدي إلى زيادة التوتر والمخاوف، ولذلك كان يعارض جميع الأحلاف العسكرية بما فيها حلف شمال الأطلسي، وحلف جنوب شرق آسيا، وحلف بغداد، وحلف وارسو، والميثاق السوفيتي ـ الصيني، كما عارض سباق التسلح والمنافسات بين الدول الكبرى، كما أكد عبدالناصر على أن سياسة الكتل والمواثيق العسكرية تؤدي في النهاية إلى سباق تسلح، يخلق مزيد من التوتر، لذلك فإنه عارض حلف بغداد، حيث طالب بأنه إذا كان لابد من عقد مواثيق دفاعية في العالم العربي، فإن هذه المواثيق يجب أن تكون عربية خالصة. كما كان يصر نكروما على أن سياسة الكتل والمنافسات ستزيد حدة الخلافات الدولية وكان يحذر الدول الأفريقية من الدخول في مواثيق دفاعية مع دول خارجية، لأن ذلك يهدد الوحدة الأفريقية وينقل ساحة الحرب الباردة إلى القارة الأفريقية.

        أجمع أبرز زعماء عدم الانحياز الثلاثة على معارضتهم للتسلح النووي، وتأييدهم لاقتراحات نزع السلاح، وبالرغم من أن الآراء المتعلقة بنزع السلاح والتي أعلنوها في دورة الأمم المتحدة عام 1960م، كانت تتفق بصورة عامة مع مواقفهم، حيث أيد نهرو عقد اتفاق على منع التجارب النووية كما طالب عبدالناصر بوضع حد لهذه التجارب مع إيجاد نظام للإشراف والمراقبة يؤدي إلى تحقيق السلام والأمن الدوليين، كما دعا إلى الخفض المستمر في نفقات التسليح. كما أكد نكروما على النتائج الاقتصادية السلبية الناجمة عن سباق التسليح والدور الذي تستطيع دول عدم الانحياز أن تؤديه في مجال الإشراف على التسليح ومراقبته.

        من تحليل آراء نهرو وعبد الناصر ونكروما في سياسة عدم الانحياز نجد أنها تميزت بعدة خصائص أثرت على السياسات الخارجية لكل من الهند ومصر وغانا في الآتي:

أ. كانت القومية هي الهدف الأساسي لجميع دول عدم الانحياز، حيث كانت تسعى لبناء دولة قومية قادرة على توطيد استقلالها السياسي وتأمين تنميتها الاقتصادية، ولذلك كان النضال الأساسي لدول عدم الانحياز هو صراع بين القومية والاستعمار، وليس الصراع بين المعسكر الشرقي والغربي، حيث كان يعتبر الاستعمار هو الخطر الرئيسي الذي يهدد مصالحها وأهدافها.

ب. لم تكن سياسة عدم الانحياز إلا انعكاس للحرب الباردة، حيث عملت دول عدم الانحياز على نشأة كتلة ثالثة تمثلت في الحياد الأفرو ـ آسيوي، خاصة بعد تأثر السياسات الخارجية للدول الحديثة الاستقلال بالماضي الاستعماري من جانب، وبالحرب الباردة من جانب آخر، إلا أن بعض الدول كان لها ميلاً واضحاً إلى جانب المعسكر الشرقي، على حين تميل دول أخرى إلى جانب المعسكر الغربي.

ج. وضح اقتناع قادة الدول الحديثة الاستقلال ذات التوجهات اللاانحيازية أن هذه السياسة هي المثلى لتحقيق مصالحهم القومية، وعلى الرغم من أن زعماء حركة عدم الانحياز نهرو ـ عبدالناصر ـ نكروما يعترفون بأن الحكمة والحاجة تمليان السياسة الحيادية، إلا أنهم كانوا يفسرون دائماً عدم انحيازهم في السياسات الخارجية والداخلية ويبررونه على صعيد المبادئ الأخلاقية السامية وأن هذه السياسة هي السبيل الأمثل لإسهام بلادهم في السلام العالمي.

د. رغم انعكاس آثار الحرب الباردة على معظم الدول، ومنها دول عدم الانحياز، إلا أن بعضها تمكن من تحقيق نفعاً محدوداً على المدى القصير، حيث تلقت بعض المعونات الاقتصادية من المعسكرين الشرقي والغربي، ولو لم تكن هناك حرب باردة، لكانت المساعدات التي تلقتها دول عدم الانحياز أقل بكثير مما حصلت عليه فعلاً. كما أن بعض دول عدم الانحياز استطاعت التمتع بميزة اقتصادية من جراء عدم ارتباطها العسكري بأي من الكتلتين، إذ أن بقاءها غير منحازة أدت إلى خفض نفقاتها العسكرية.

هـ. كان إسهام دول عدم الانحياز في الحفاظ على السلام العالمي والاستقرار محدوداً بعض الشيء، حيث لم يكن هناك جهوداً للتوسط في خلافات الدول الكبرى بفاعلية إلا عندما تكون الدول الكبرى راغبة في تسوية خلافاتها، حيث كان يجري التوصل إلى اتفاق من طريق الوسائل الدبلوماسية العادية دون الحاجة إلى وساطة، ويتحدد بذلك دور دول عدم الانحياز بالمشاركة في فرق المراقبة الدولية التابعة للأمم المتحدة.

و. كانت تتوقف درجة وحدة الكتلة الأفرو ـ آسيوية في سياستها الخارجية ضمن كتلة عدم الانحياز على أبعاد المشكلة المعروضة، حيث كانت تقترع هذه الدول كثيراً في الأمم المتحدة ككتلة واحدة لأنها كانت تتجاوب إما مع قضايا مناهضة الاستعمار، أو مع إقرار عام يتناول شؤون السلام، ولكن هذه الوحدة المرتكزة على عداء الاستعمار والرغبة في تحقيق السلام العالمي كانت تنهار وتظهر الاختلافات عندما تكون المشكلة مؤثرة على مصالح وصراعات محلية وإقليمية.

ثالثاً: الإطار الدولي لنشأة سياسة عدم الانحياز:

    إن عدم الانحياز ليس مفهوماً سلبياً فهو ليس حياداً، ولم يكن سياسة القوى أو الانعزال، بل هو تعبير عن حركة دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تهدف إلى تحويل النظام الدولي بما يحتويه من صراعات إلى نظام يقوم على العدالة لخدمة مصالحهم القومية، من أجل بناء اجتماعي واقتصادي قوي، وكذلك إقامة نظم سياسية صالحة، ولقد كانت البيئة الدولية السائدة سواء قبل الحرب العالمية الثانية أو بعدها ذات تأثير بالغ على نشأة سياسة عدم الانحياز، حيث تميز الوضع السياسي في المرحلة الأولى اللاحقة على الحرب العالمية الثانية، وخاصة في نهاية الأربعينيات وفترة الخمسينيات بالآتي:

1. ظهرت القوة النووية كأداة للصراع المسلح حيث ألقيت أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما في 6 أغسطس 1945م، وألقيت القنبلة الثانية على مدينة ناجازاكى في 9 أغسطس 1945م ، وانعكس ذلك على أساليب الحرب، مما أدى إلى تسابق في تطوير وسائل التدمير، حيث أمكن التوصل لصناعة القنبلة الهيدروجينية عام 1952م.

2. انقسم العالم إلى معسكرين، وظهرت معالم الحرب الباردة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انقسم الحلفاء لاختلاف توجهاتهم الأيديولوجية، حيث كانت بداية انتشار الفكر الشيوعي في أوروبا الشرقية منذ عام 1949، وبدأت الثورة الشيوعية في الصين عام 1949م، وبدأت حركة التحرر الوطني في فيتنام ونشبت حرب كوريا عام 1950.

3.     أدى تسابق المعسكرين الشرقي والغربي من أجل التسلح والسيطرة وإيقاف توسع المعسكر الآخر إلى وضوح معالم الحرب الباردة، والتي كانت عبارة عن صراع دولي غير مسلح يقوم على التهديد باستعمال القوة، وكان ينعكس ذلك على زيادة حدة التوتر التي تجعل من الصراع المسلح احتمال قريب الحدوث، ولقد تمثلت معالم الحرب الباردة في الإذاعات العدائية والدعايات المثيرة، وتناول الاتهامات والتصرفات العدائية بين الزعماء والقادة، وتوجيه الإنذارات والتهديدات بين الدول، وسرعة حشد القوات العسكرية في مناطق التوتر.

4.     حققت الولايات المتحدة الأمريكية سبقاً نووياً في بداية الحرب الباردة حتى استطاع الاتحاد السوفيتي تحقيق تفجيره النووي عام 1953م، ثم تسابق الطرفان في تفجيراتهما الهيدروجينية عام 1954م، إلا أن الاتحاد السوفيتي حقق تفوق في الفضاء بإطلاق أول قمر صناعي عام 1957م.

5.     ظهرت بعض الدول التي كان لها موقف خاص في بداية الحرب الباردة ومنها يوغسلافيا، حيث سعى جوزيف بروز تيتو منذ عام 1948م للمحافظة على استقلالية بلاده من النفوذ السوفيتي رغم توجهاته الشيوعية، وواجه عداء الكتلة الشيوعية، كذلك لم يقبل المساعدات التي عرضتها عليه الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد ساعد ذلك على تبلور سياسة الحياد وعدم الانحياز.

6.     برزت معالم سياسة الأحلاف العسكرية خاصة بعد سلسلة المعاهدات التي أبرمها الاتحاد السوفيتي في عام 1943م، مع تشيكوسلوفاكيا، وفي عام 1945م مع يوغسلافيا وبولندا، الأمر الذي اعتبر قيام تجمع دولي يقوده الاتحاد السوفيتي، وتمثل الرد الغربي في معاهدة بروكسل للضمان الجماعي عام 1948م بين كل من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولكسمبورج، ثم كانت معاهدة حلف شمال الأطلسي بين دول معاهدة بروكسل وكندا وإيطاليا والدانمارك والنرويج والبرتغال وأيسلندا إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

7.     مع تبلور معالم الحرب الباردة وآثارها عملت الولايات المتحدة الأمريكية على إيقاف المد الشيوعي واحتوائه بسلسلة من الأحلاف والمعاهدات الدولية والتي تمثلت في الآتي:

أ. معاهدة شمال الأطلسي عام 1949م، وانضمت إليها كل من تركيا واليونان عام 1951م، ثم ألمانيا الغربية عام 1955م، وعمد هذا الحلف إلى تعزيز ودعم قوة أعضائه العسكرية حيث تبنى سياسة عسكرية تقوم على التسلح النووي.

ب. حلف البلقان بين تركيا واليونان ويوغسلافيا عام 1953م، وبهدف إيجاد تعاون دولي ضد الحظر الشيوعي. إلا أن هذا الحلف سرعان ما تفكك بسبب نبذ يوغسلافيا لسياسة الأحلاف

ج. حلف جنوب شرق آسيا، والذي سعت الولايات المتحدة الأمريكية من خلاله حصار النجاح الشيوعي في الصين، وتعاظم حركات التحرر الوطني في آسيا، وتكون هذا الحلف من استراليا وفرنسا ونيوزيلندا وباكستان والفليبين وتايلاند والولايات المتحدة الأمريكية، ووقعت هذه الدول على معاهدة جنوب شرق آسيا للدفاع الجماعي في مانيلا عام 1954م.

8. اعتمد الأسلوب السوفيتي في التوسع على مساعدة الأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا، وبوصولها للسلطة تعقد الاتفاقات معها، حيث تمكنت من توقيع معاهدات ثنائية مع كل من تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وبولندا خلال عامي 1943م ـ 1945م، كذلك قامت يوغسلافيا بعقد عدة معاهدات مع كل من بولندا وتشيكوسلوفاكيا وألبانيا والمجر وبلغاريا خلال عامي 1946م ـ 1947م، كذلك تمكن الاتحاد السوفيتي من عقد معاهدات ثنائية مع كل من رومانيا والمجر وبلغاريا وفنلندا عام 1948م. وتلاحظ خلال هذه المرحلة انفصال يوغسلافيا عن الكومنفورم الشيوعي، ومن ثم ألغى الاتحاد السوفيتي معاهدته معها عام 1948م.

9. إزاء قيام حلف شمال الأطلسي ونشأته ككتلة يضم ألمانيا ، بدأ الاتحاد السوفيتي في الشعور بأن المعاهدات الثنائية أصبحت غير مناسبة، لذا عمل على تكوين حلف وارسو عام 1955م، والذي تكون من الاتحاد السوفيتي وألبانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وبولندا ورومانيا، إضافة إلى إعلان الاتحاد السوفيتي عن مشروع مولوتوف للتعاون الاقتصادي مع دول شرق أوروبا لمواجهة مشروع مارشال، ثم أنشأ مجلس المعونة الاقتصادية المتبادلة "الكوميكون" عام 1949م للإشراف على مشروع مولوتوف. كذلك كون الكومنفورم.

10. كان نشأة عصبة الأمم عام 1920م بهدف تحقيق السلام الدولي ومنع الحروب وتنشيط التعاون بين الدول، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939م واستمرارها لمدة ستة سنوات، حتى أمكن عقد مؤتمر سان فرانسسكو عام 1945م، لوضع نظام دولي جديد والتوقيع على ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م، والذي أوضح أهدافها في الآتي:

أ. حفظ السلم والأمن الدوليين.

ب. إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس المساواة بين الدول.

ج. تحقيق التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

        لكن رغم الآمال التي كانت معقودة على الأمم المتحدة كمنظمة دولية تستطيع القيام بدور فعال في حفظ السلام زادت حدة التوترات والصراعات الدولية ومنيت خلالها بإخفاقات متعددة.

رابعاً: الإطار العربي لنشأة سياسة عدم الانحياز:

    لقد عانت المنطقة العربية من السيطرة الاستعمارية، حيث تقاسمتها العديد من الدول الاستعمارية بريطانيا ـ فرنسا، ونظراً لوضوح معالم الحركات الوطنية العربية المطالبة بالاستقلال، عملت القوى الغربية لإقامة الأحلاف الهادفة إلى فرض سيطرتها على المنطقة، ومن ثم عرضت أشكال مختلفة لهذه الأحلاف تختلف في الآتي:

1. مشروع قيادة الشرق الأوسط، على أساس إنشاء منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط تضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والدول العربية وإسرائيل وجنوب أفريقيا واستراليا ونيوزيلندا، على أن تكون مصر مقر قيادة قوات المنظمة التي تخصصها الحكومات، إلا أن مصر عارضت هذه المنظمة عام 1951.

2. حلف بغداد، الذي تطورت الدعوة لإقامته عبر مراحل مختلفة، أولها كان عقد اتفاقات ثنائية بين العراق وتركيا في فبراير عام 1955م لإقامة حلف بينهما للمساعدة في الدفاع الجماعي عن النفس طبقاً لميثاق الأمم المتحدة، وانضمت المملكة المتحدة للحلف في مايو 1955م، وتبعتها باكستان في يوليه 1955م، ثم إيران في نوفمبر 1955م، وانضمت الولايات المتحدة للجنة العسكرية واللجان الأخرى في عام 1957م، وكانت هي المصدر الأساسي لتسليم أعضاءه ورسم إستراتيجيتهم.

3. مبدأ إيزنهاور، الذي أعلن أثر إخفاق العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، والذي يسمح من خلاله استخدام القوات الأمريكية في الشرق الأوسط إذا كانت هناك ضرورة، على أن يرتبط ذلك بتقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية لدول الشرق الأوسط التي توافق على المبدأ ولقد قام مبدأ أيزنهاور على أساس عدة اعتبارات هي:

أ. ملء الفراغ الذي نتج في الشرق الأوسط بعد انتهاء الاستعمار الإنجليزي والفرنسي ويجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تشغل هذا الفراغ.

ب. عدم تحديد المقصود بالشرق الأوسط لذا اختلفت حدود منطقة الشرق الأوسط والتي شملت المنطقة من مضيق جبل طارق حتى بحر العرب ومن تركيا حتى المملكة العربية السعودية، كما قد تمتد لتشمل إثيوبيا وغيرها.

ج. تترك عملية تحديد ضرورة التدخل الأمريكي حسب تقدير السلطة الأمريكية.

        ولقد قبلت المشروع كل من لبنان ودول حلف بغداد، وقد عارضه كل من مصر وسورية والأردن واليمن، وطرح جمال عبدالناصر نظرية الحياد وعدم الانحياز كبديل أساسي لنظرية الأحلاف التي سعت الكتلتين لفرضها على المنطقة.