إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / حلف بغداد (الحلف المركزي CENTO)









الفصل الثاني

المبحث الثاني

السياسة المصرية تجاه الاحتلال

    تُعَدّ الفترة الممتدة بين عامَي 1947 و1956، فترة حاسمة، بالنسبة إلى السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، الرامية إلى الدفاع عن المنطقة، في مواجهة الغزو السوفيتي. غير أن وجود إسرائيل، قد خلق جواً من عدم الاستقرار، داخل المنطقة، ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية، تتحمل المسؤولية الإضافية، الناجمة عن الصراع بين العرب وإسرائيل.

    وأجّج الصراع، في فلسطين، الشعور القومي العربي؛ فأخذ النفوذ البريطاني يتراجع، في منطقة الشرق الأوسط؛ بينما راح النفوذ السوفيتي يتزايد فيها، ما حمل الولايات المتحدة الأمريكية، على أخذ زمام القيادة في المنطقة. وزيادة مساعدتها العسكرية لدولها، لتدعيم الأمن؛ والعمل على تقوية الأنظمة الغربية.

    وخلال الفترة، بين 16 أكتوبر و17 نوفمبر 1947، اجتمع ممثلو الحكومتَين، البريطانية والأمريكية، في واشنطن، لتنسيق السياسة، الإستراتيجية الاقتصادية، في الشرق الأوسط، وشرق البحر الأبيض المتوسط؛ ولا سيما توجيه الجوانب المتقابلة من سياستَيهما، إلى قنوات متفق عليها، يمكن إدارتها.

    ومثلت محادثات البنتاجون، عام 1947، الاندماج الرسمي للشرق الأوسط، في نطاق دفاعي أمريكي، أخذ في الاتساع، مع موافقة أمريكية على المسؤولية الخاصة لبريطانيا، في الدفاع عن المنطقة. وقد أكد ذلك ما كتبه ريموندهير، الذي حدد التصورات الأمريكية لاستمرار الهيمنة العسكرية البريطانية، ذاكراً أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تأمل توسيع نطاق نفوذها، الاقتصادي والسياسي، في مصر؛ في الوقت، الذي كانت تؤيد فيه استمرار الوجود البريطاني في منطقة القناة، لتحمل المسؤولية الأساسية، في الدفاع عن الشرق الأوسط، كجزء من مفهوم شامل لمقاومة السوفيت.

    وقد قنِع البريطانيون، من المحادثات بموافقة واشنطن على استمرار الوجود البريطاني في السويس؛ بينما أقروا بتوسيع نطاق الدخول الاقتصادي الأمريكي.

    وسرعان ما اتضح مدى سياسة الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، الخاصة بتطويق السوفيت، عندما أعقب "مبدأ ترومان" إصدار مشروع مارشال.

    وفي يناير 1949، ألقى الرئيس ترومان خطاباً، ضمّنه أُسُس السياسة، التي يعتزم تنفيذها؛ وأبرزها وجوب تقديم الولايات المتحدة الأمريكية، المساعدة الفنية، إلى الدول الأقل تقدماً؛ وهو ما عرف، بعد ذلك، بـ "النقطة الرابعة". وأثار هذا الموضوع اهتمام غالبية الأوساط، الاقتصادية والمالية والصناعية والاجتماعية والعمالية، الأمريكية والدولية. كما استمعت إليه المناطق الأقل تقدماً في العالم، في انتباه، وترقبت ما يتخذ في شأنه من ترتيبات، وما يطرأ عليه من تطورات، بقصد المبادرة إلى الانتفاع به، كلما استطاعت إلى هذا النفع سبيلاً

    وأيقن صانعو السياسة الأمريكية، بأنه ما لم يكن هناك دفاع عسكري كافٍ، في مواجهة الأهداف التوسعية السوفيتية، فإن التقدم، الاقتصادي والاجتماعي، سيكون بطيئاً، وغير مؤكد؛ وأن بلدان الشرق الأوسط، ستكون أهدافاً واعدةً، للسيطرة الشيوعية، من الداخل. وكان ترومان يرى أن التطور الاقتصادي، في الشرق الأوسط، هو الوجه الآخر من العملة، معتقداً أن المعونات، المخصصة لتطوير منشآت الزراعة والصحة والتعليم، هي وسيلة مهمة، في مواجهة الدعاية الشيوعية.

    وإزاء بدء الاتحاد السوفيتي بمهاجمة المعسكر الغربي، في غير موقع: غربي أوروبا، جنوب شرقي آسيا، الشرق الأقصى، حيث الحرب الكورية، أدرك الساسة الأمريكيون، أن الأمن القومي الأمريكي، بات مهدداً، وأيقنوا أن حلف شمال الأطلسي، ليس كافياً للحفاظ على ذلك الأمن.

    ورأوا أن منطقة الشرق الأوسط، هي نقطة الضعف في نظام الدفاع الغربي؛ وأنه يمكن دفع الخطر الشيوعي، بإنشاء حلف "الحزام الشمالي"، من الدول الواقعة جنوب الاتحاد السوفيتي مباشرةً، وهي: باكستان، وإيران، والعراق، وتركيا؛ إذ سيحول دون نفاذ الخطر الشيوعي إلى قلب منطقة الشرق الأوسط. ورسخ لديهم، عقب نشوب الحرب الكورية، عام 1950، أنه لا بديل من "قيادة الدفاع المشترك" عن الشرق الأوسط، لمواجهة خطر الاتحاد السوفيتي، الذي بدأ يتحرك في كل اتجاه، لكسر الحصار الأمريكي، المضروب حوله. وشرعوا يلحون على بريطانيا بضرورة الاتفاق مع مصر، في شأن الجلاء عن قاعدة السويس؛ بينما طفق جيفرسون كافري، السفير الأمريكي لدى القاهرة، يحاول إقناع الحكومة المصرية بضرورة الانضمام إلى الحلف الدفاعي عن الشرق الأوسط.

    وبحلول أبريل 1950، كان الرئيس ترومان، ومستشاروه، في وزارة الخارجية والبنتاجون، قد قبلوا خطط رؤساء الأركان البريطانيين، الداعية إلى التحالف العسكري الإنجليزي ـ المصري، للمعاونة على الدفاع عن الشرق الأدنى، في حالة العدوان السوفيتي؛ وتقوية الجيش المصري، بمعدات عسكرية بريطانية، مع التحكم في قطع الغيار، للسيطرة على زمام الأمور. وكان البريطانيون يخططون لاجتذاب الدول العربية الأخرى، وإسرائيل، إلى ترتيبات الدفاع المتطورة، في الشرق الأدنى.

    ولم يتأخر الرد العربي؛ إذ صدر، في 13 أبريل 1950، قرار "معاهدة الضمان الجماعي العربي"، التي تُعدّ أي اعتداء على إحدى دولها، اعتداءً عليها جميعاً؛ والتي تعبّر عن رفض التعاون مع الغرب على درء الخطر الشيوعي المحتمل. فرأت فيها الدول الغربية الثلاث: الولايات المتحدة الأمريكية، وإنجلترا، وفرنسا، خطراً يهدد مستقبل إسرائيل وأمنها. وبإيعاز من واشنطن، أصدرت، في 25 مايو 1950، بيانها المعروف بـ "البيان الثلاثي"، الذي ينمّ على فقد بريطانيا زمام المبادرة، وانتهاج سياسة منفردة، بل إن السياسة البريطانية أصبحت، مع بداية عام 1950، تابعة للسياسة الأمريكية.

أولاً: حزب الوفد، يرفض الأحلاف:

    مع بداية عام 1950، كان حزب الوفد، هو الذي يحكم مصر، بعد أن فاز بالأغلبية في الانتخابات. وكان الدكتور محمد صلاح الدين، وزير الخارجية في الحكومة الوفدية، هو المسؤول عن مواصلة المفاوضات مع الإنجليز، حول الجلاء والسودان. وقد اتخذ موقفاً صلباً، تعثرت معه المفاوضات، مرات كثيرة، في الموضوعَين الرئيسيَّين المطروحَين؛ فقد كان الإنجليز يصرون على الدفاع المشترك، في حين أصر المفاوض المصري على الجلاء خلال فترة معقولة، وتعقبه ترتيبات دفاع، لا تصبح احتلالاً، من جديد.

    وفي الوقت الذي راحت فيه المفاوضات تتعثر، وتكاد تتوقف، فإن السياسة المصرية، كالعادة في تلك السنين، بذلت جهداً واسعاً في لفت اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية، لكي تضطلع بدور، يوفق بين المواقف، ويفتح أبواب التوصل لاتفاق.

    وكانت القوى الشعبية المصرية، إضافة إلى التنظيمات السرية، التي ظهرت تحت الأرض، في القوات المسلحة ـ قد بدأت بالعمل المسلح ضد قوات الاحتلال البريطاني، في منطقة قناة السويس. وما لبثت القيادة العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط، أن عرضت خطتها لاحتمال الضرورة المباشرة في منطقة قناة السويس، واحتمال الضرورة القصوى، التي تصل إلى حدّ احتلال الدلتا والقاهرة والإسكندرية. وكان الاسم الرمزي لهذه الخطة الكبيرة، لإعادة غزو مصر، في الواقع، هو "روديو" "RODEO".

    حاول القصر أن ينقل زمام إدارة المفاوضات، من الدكتور محمد صلاح الدين إلى غيره؛ ولكن النحاس باشا، وقف، بكل قوة، إلى جانب وزير خارجيته؛ واتجهت الحكومة المصرية إلى إقناع الولايات المتحدة الأمريكية، باتخاذ موقف نشيط، في هذه التعقيدات كلها.

    وأرسلت الحكومة الأمريكية إلى مصر وكيل وزارة خارجيتها، روبرت ماكجي، في مهمة إلى القاهرة، بتفويض سياسي واسع. ولم يستطع أن يصل إلى شيء محدد؛ وإن كانت زيارته إلى مصر، والنشاط الأمريكي، الذي سبقها ولحقها، قد أثارا شكوى متزايدة لدى الحكومة البريطانية، على مستوى مجلس الوزراء، وعلى مستوى هيئة أركان حرب الدفاع عن الإمبراطورية؛ إذ استشعر البريطانيون، أن هناك لعبة مزدوجة، تجرى في مصر: الحكومة المصرية تحاول إغراء الأمريكيين بالاقتراب؛ والحكومة الأمريكية ترغب في الاقتراب، بسبب الإغراء المصري، أو لغيره من الأسباب.

    وكتب هربرت موريسون، وزير الخارجية البريطاني، خطاباً شديد اللهجة، إلى نظيره الأمريكي، دين أتشيسون، يتهم فيه الولايات المتحدة الأمريكية، صراحة، بأنها بما تتخذه في مصر من سياسات، إنما تساعد على تأزيم الموقف، بدلاً من أن تساعد على حله، وأنها في الواقع، تكرر المنطق نفسه، الذي اتبعته في إيران، والذي أدى إلى ضياع عبدان، وانهيار موقف شركة النفط البريطانية ـ الإيرانية، وظهور ثائر خطير، معاد للغرب كله، مثل الدكتور محمد مصدق.

    وقد بدأ هربرت موريسون رسالته، بالتطرق إلى الموضوع مباشرةً، بقوله: "كما تعلم، فإن مشكلة العلاقات الإنجليزية ـ المصرية، تشغل بالنا، هنا. وقد أزعجتني الدلائل، التي تظهر أن هناك بعض الخلافات في الرأي، بينكم وبيننا، في صدد هذه المسألة. ونظراً لأني أشعر أن أي خلاف بيننا، لا بدّ من اجتنابه، فقد وجدت أنه من المفيد، أن أكتب لك، الآن، لأطلعك على تفكيري؛ وأرجو ألاّ يضايقك، أن أعرض أفكاري، بصراحة تامة، في هذه الرسالة الشخصية؛ لأنه بين الأصدقاء، يمكن التحدث بصراحة. وأودّ أن أقول، في البداية: إن المشاكل بيننا، في صدد مصر، لا ترجع، بأي شكل، إلى نقص في التعاون بين سفارتكم هنا، وبيننا وبين سفارتنا في واشنطن ووزارة الخارجية الأمريكية، أو بين سفارتنا في القاهرة؛ بل على العكس، أودّ أن أسجل، هنا، أن التعاون بيننا، كان دائماً ودياً. وكان تبادل الآراء حراً تماماً؛ ولهذا، فإن الخلافات بيننا، الآن، قد تكون لها أسباب أعمق من التبادل العادي للآراء، في صدد الشؤون الجارية".

    ثم راح هربرت موريسون في رسالته، بعد هذه البداية الصريحة، يتحدث إلى دين أتسيشون، في موضوع الخلاف بين الحليفَين، في صدد مصر. فتحدث عن "تمسك بريطانيا بمعاهدة عام 1936"، ثم تطرّق إلى ما يتصور أنه يهم الولايات المتحدة الأمريكية، في الموضوع، فقال: "إن مصر، ليست، ولن تكون أبداً قادرة على الدفاع عن نفسها، ضد عدوان، من قبل دولة كبرى؛ وقد رأينا ذلك في الحرب الأخيرة، ولاشك أننا سنراه، مرة أخرى، إذا نشبت حرب جديدة. ولكن مصر، ليست مهمة لذاتها فقط، وإنما لكونها، كذلك، العنصر الرئيسي، في الدفاع عن الشرق الأوسط كله؛ ولا أودّ أن أذكرك، مرة أخرى، بأهمية الشرق الأوسط، في الدفاع عن العالم الحر".

ثانياً: التسلل الأمريكي:

    كانت الولايات المتحدة الأمريكية، حتى وسط لهيب الحرب العالمية الثانية، تحاول أن تعتصر الإمبراطورية البريطانية، تمهيداً للاستئثار بإرثها. ولم يكن اللورد كليرن، المندوب الثاني البريطاني في مصر، واعياً ما يجري.

    وفي بداية الخمسينيات، اتضح أن الولايات المتحدة الأمريكية، مقبلة على دورها الإمبراطوري الجديد، وهي مصممة على إزاحة الإمبراطورية القديمة (بريطانيا) ووراثتها في المنطقة: المصالح (امتيازات النفط)، والمواقع (القواعد والأجواء والبحار).

    وكان الاتحاد السوفيتي يراقب ما يجري على الساحة، وهو يراهن على تفاعلات التاريخ؛ وعلى أي حال، فهو، في هذه الظروف، نصف مشلول؛ فالحرب، التي لم تصل بدمارها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ـ طاولت عنده كل شيء: الحقول والمدن والمصانع، على طول المسافة الممتدة من موسكو إلى روستو. فضلاً عن أنه كان مشغولاً بأولويات، طرحت نفسها؛ إذ كان عليه أن يفرض أوضاعه الجديدة، في أوروبا الشرقية، قبل أن يمد بصره إلى الشرق الأوسط، والعالم العربي.

ثالثاً: إلغاء معاهدة عام 1936:

    وفي يوم الاثنين، 8 أكتوبر 1951، أعلن النحاس باشا، رئيس وزراء مصر، في البرلمان المصري، الملتئم بمجلسيه (النواب والشيوخ) ـ إلغاء معاهدة 26 أغسطس 1936، واتفاقيتَي 19 يناير، و10 يوليه 1899، في شأن إدارة السودان. وقدم إلى البرلمان المراسيم بمشروعات القوانين، المتضمنة هذا الإلغاء.

رابعاً: موقف بريطانيا حيال إلغاء المعاهدة:

    أعلنت الوزارة البريطانية (وزارة العمال) تمسكها بالمعاهدة. وقال هربرت موريسون، وزير الخارجية، إن بريطانيا ستقابل القوة بالقوة، إذا اقتضى الأمر، لبقاء قواتها في منطقة قناة السويس. وإن الحكومة البريطانية، لن تذعن لمحاولة مصر تمزيق المعاهدة.

    وأصدرت السفارة البريطانية في القاهـرة، مساء 8 أكتوبـر 1951، بياناً، أعلنت فيه أن إلغاء الحكومة المصرية للمعاهدة، من جانبها وحدها، هو عمل غير قانوني، ويخالف أحكام المعاهدة؛ وأن الحكومة البريطانية، تعدّها سارية المفعول، وتعتزم التمسك بحقوقها، بمقتضى هذه المعاهدة.

    وألقى ونستون تشرشل، زعيم المحافظين، وزعيم المعارضة، وقتئذ، خطاباً، في مجلس العموم، أيد فيه موقف حكومة العمال. وقال إن إقدام حكومة مصر على إجلاء الإنجليز عن منطقة قناة السويس، والسودان، هي ضربة أشد خطراً، وأكثر مهانة للكرامة، من اضطرارهم إلى الجلاء عن عبدان، في إيران.

خامساً: مقترحات الدول الأربع ورفضها:

    اتفقت حكومات الدول الأربع: بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتركيا، على أثر إلغاء مصر معاهدة عام 1936، على التقـدم، مجتمعـة، بمقترحات إلى الحكومة المصرية، لتكون بديلاً من هذه المعاهدة.

    وأساس هذه المقترحات، أن تقبل مصر الدفاع المشترك مع هذه الدول الأربع؛ وأن تكون حماية قناة السويس منوطة بقوات دولية، تشترك فيها مصر وبريطانيا وأمريكا وفرنسا وتركيا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا، ويكون لجزء من هذه القوات حق البقاء في مصر، حتى في حالة السلم؛ وأن يستمر الحكم البريطاني في السودان، مع إنشاء رقابة دولية، لا تحد من سيطرة الإنجليز فيه، وجعل علاقة مصر بالسودان، علاقة مياه فحسب.

    الغرض من هذه المقترحات، إذاً، هو استبدال معاهدة بمعاهدة عام 1936، لا تختلف عنها في الجوهر؛ واستبدال احتلال دولي، بالاحتلال البريطاني، تشترك فيه بريطانيا وحلفاؤها، وتقْبله مصر وترتضيه.

    قدمت هذه المقترحات إلى الحكومة المصرية، يوم السبت، 13 أكتوبر 1951. ففي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، استقبل الدكتور محمد صلاح الدين، وزير الخارجية المصرية، في مقر الوزارة، في بولكلي[1]، رالف ستيفنسن، سفير بريطانيا؛ ثم جفرسن كافري، سفير الولايات المتحدة الأمريكية؛ ثم كوف دي موروفيل، سفير فرنسا؛ ثم فؤاد خلوصي طونحاي، سفير تركيا، استقبلهم على التعاقب، وأفضى كلٌّ منهم إليه بفحوى هذه المقترحات. وكان السفراء الأربعة، قد طلبوا مقابلة الوزير المصري، مجتمعين؛ ولكنه أصر على أن يقابلهم منفردين، حتى لا يكون اجتماعهم في المقابلة شبه مظاهرة، فنزل السفراء على إرادة الوزير. وانفرد سفير بريطانيا بتقديم نصوص المقترحات مكتوبة؛ واكتفي سفراء الدول الأخرى الثلاثة، بالتصريح أنهم مؤيدون لمضمونها.

سادساً: رفض المقترحات:

    اجتمع مجلس الوزراء المصري، في بولكلي، يوم الأحد، 14 أكتوبر 1950، للنظر في مقترحات الدول الأربع. وفي دعوة مصر للاشتراك في منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط التي كان يراد إنشاؤها، وقرر رفض هذه الدعوة ورفض المقترحات من أساسها وأنها غير صالحة لأن تكون تمهيداً لإجراء مباحثات جديدة للوصول إلى اتفاق جديد، وقرر رفضها، والاستمرار في إلغاء معاهدة عام 1936. وأعلن فؤاد سراج الدين وزير الداخلية والمالية المصري، وقتئذ، هذا القرار، في مجلس النواب، إبان التئامه، في 15 أكتوبر 1951.

    بعد أن أقر البرلمان المصري تشريعات إلغاء معاهدة 1936، حددت الحكومة الموقف بين بريطانيا ومصر والسودان، في رسالة، بعث بها الدكتور محمد صلاح الدين، وزير الخارجية المصري، إلى السفير البريطاني لدى القاهرة، في 27 أكتوبر 1951، قال فيها: "أتشرف بأن أبعث إلى سعادتكم نسخاً، باللغة الفرنسية، من التشريعات، التي وافق عليها البرلمان، ونشرت بالجريدة الرسمية، من النص التفصيلي لبيان رئيس مجلس الوزراء، الذي أعلنه في مجلس البرلمان، في هذه المناسبة، والذي كان بمثابة مذكرة تفسيرية لهذه التشريعات السابقة الذكر".

    "ويترتب على هذه الإجراءات، ألا تسري، من الآن، معاهدة الصداقة والتحالف، بين المملكة المصرية وبريطانيا العظمى، التي وقعت في لندن، يوم 26 أغسطس عام 1936؛ وكذلك الاتفاق، الذي وقع في نفس اليوم، بشأن ما تتمتع به القوات البريطانية، حتى الآن، من حصانات وامتيازات؛ فضلاً عن اتفاقيتَي 19 يناير و10 يوليه عام 1899، بشأن إدارة السودان. وإن إلغاء معاهدة 26 أغسطس عام 1936، ليستتبع، بالضرورة، أن تكون له نتائج، من بينها انتهاء التحالف بين مصر وبريطانيا العظمى، وانتهاء تخويل الأخيرة وضع قوات، أيّاً كانت، في منطقة قناة السويس. ولن يكون وجود هذه القوات في مصر، من الآن فصاعداً، إلاّ ضد إرادة الشعب والبرلمان والحكومة المصرية. وبالتالي، فلا شك في أن هذا احتلال بالإكراه، وغير مشروع، لهذه البلاد. كما أن إلغاء اتفاقيتَي 19 يناير و10 يوليه عام 1899، ينهي النظام الإداري المؤقت، الذي أقيم في السودان، بمقتضى هاتَين الاتفاقيتَين".

سابعاً: قيادة الشرق الأوسط (MECOM):

    اعتقدت واشنطن، أن النمو السريع للفوائد النفطية الأمريكية، في المملكة العربية السعودية؛ وتزايد الاستخدام الأمريكي لقناة السويس ـ يخولان الولايات المتحدة الأمريكية، الاضطلاع بدور أكبر، في الدفاع عن مصر والشرق الأوسط. ومع ظهور الفوائد الأمريكية، وإزاء الاتجاه المتزايد للاتحاد السوفيتي نحو البحر الأبيض المتوسط، وإلغاء معاهدة الدفاع البريطاني، طلب وزير الخارجية الأمريكية، دين أتشيسون، من وزير الدفاع، جورج مارشال، مساعدته على تدعيم خطة الدفاع في الشرق الأوسط. فاقترح وزير الدفاع أن تعمل الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، جنباً إلى جنب، لتنسيق الجهود، ولإنشاء نظام أمني إقليمي فعال، ضد العدوان السوفيتي المحتمل. وقد أمل أتشيسون، أن تنظم اليونان وتركيا وإيران، إلى التحالف الغربي؛ وأشار إلى أن تركيا واليونان، ستعملان كعضوين من أعضاء حلف شمال الأطلسي، الذي سوف تنضمان إليه، بالتدريج.

    وما لبث الأمريكيون أن اكتشفوا، في يونيه 1951، حينما وصلت محادثات الجلاء، البريطانية ـ المصرية، إلى طريق مسدود ـ أن منظمة الأطلسي، لم تكن فاعلة في المنطقة. فعمدوا إلى إنشاء نظام عسكري، مشابه للنظام البريطاني في الشرق الأوسط، الذي أثبت فاعليته، إبان الحرب العالمية الثانية. وبعد انقضاء فترة المحادثات، وافقت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، في 8 سبتمبر 1951، على إنشاء قيادة شرق أوسطية (MECOM)، تؤلف القيادة الخلفية العليا؛ وإنشاء مراكز قيادة في القاهرة، ستساعدها لجنة عليا، مؤلفة من الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وتركيا. وكان الإستراتيجيون العسكريون الأنجلو ـ أمريكيون، يأملون أن يسمح اقتراح قيادة شرق أوسطية (MECOM)، باستمرار استخدام منشآت قاعدة السويس، لتأمين حمايتها، والإعداد للدفاع الإقليمي، والمساعدة على إخماد الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ورأى المخططون الغربيون يرون أن نجاح الميكوم (MECOM)، يعتمد على انضمام مصر إليها؛ إذ إن قناة السويس، هي قوام المشروع؛ فضلاً عن أن مصر، العضو في الجامعة العربية ـ هي أهم دولة عربية؛ وسيحفز انضمامها إلى القيادة الشرق أوسطية، الدول العربية الأخرى إلى التأسي بها.

    وفي 13 أكتوبر 1951، قدّم سفراء تركيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، الاقتراح المشترك، إلى الحكومة المصرية. فرفضه مجلس الوزراء المصري، بجلسته المنعقدة ببولكلي، الأحد 14 أكتوبر 1951. وأعلن رئيس الحكومة المصرية، الإثنين 15 أكتوبر،أن حكومته، لا تستطيع قبول هذه الاقتراحات، أو أي اقتراح آخر، يتعلق بالخلافات الحادة، بين المملكة المتحدة ومصر؛ ما دامت القوات الاستعمارية الإنجليزية موجودة في مصر والسودان. أمّا بالنسبة إلى القوى الوطنية في مصر، فإن مشروع الـ (MECOM)، ما كان إلا قناعاً، يستتر به الإنجليز، الذين سيحتفظون بمركز القوة في قاعدة السويس. ناهيك بأن المصريين، لم يفكروا في الحاجة إلى الدفاع عن أنفسهم، في مواجهة السوفيت، خلال الخمسينيات؛ بل سارعوا، قبل أن ينصرم شهر واحد، إلى الكفاح المسلح، في مواجهة القوات البريطانية، في منطقة قناة السويس.

    لقد فشلت فكرة الـ (MECOM)؛ لأن توقيتها وتخطيطها، كانا سيِّئَّين؛ إضافة إلى أنها اطَّرحت من حسابها القوى الوطنية. ففي 25 أكتوبر، كشف، مثلاً، سفير مصر لدى واشنطن، كامل عبدالرحيم ـ النقاب عن أن مصر لم تستشر، قبل أن يقدم إليها الاقتراح، ولم تُدعَ إلى الاشتراك في محادثات التخطيط له. وأشار إلى الروح الوطنية، التي ظهرت في مصر، ورفضها الاقتراح، الذي سيؤدي إلى إطالة عمر الاحتلال، الذي طالما عارضه المصريون.

    مّا ردود الفعل العربية، فكانت متباينة؛ إذ أيد الاقتراح بعض الدول العربية، كالعراق ولبنان. وعارضه بعضها الآخر، كسورية. وفي 8 نوفمبر 1951، أعلن عبدالرحمن عزام باشا، الأمين العام للجامعة العربية، أن العالم العربي، كان ضد حلف الدفاع الشرق أوسطي؛ لانشغال الدول العربية بالعدوان الإسرائيلي عمّا عداه.

    عد فشل الغرب في إنشاء حلف الدفاع الشرق أوسطي انبرى الإنجليز يخططون لإنشاء منظمة دفاعية، مركزها جزيرة قبرص، القريبة من منطقة السويس. بيد أنهم تخلّو عن ذلك؛ لعدن فاعلية الجزيرة، وعدم كفاءة مرفئها الوحيد، في فاماجوستا. غير أنهم لم يتخلّوا عن الفكرة؛ إذ بادر ونستون تشرشل، في 17 يناير 1952، إلى اقتراح عقد جلسة مع الكونجرس الأمريكي، وطلب من الولايات المتحدة الأمريكية، أن تدفع قوات الإشارة إلى التمركز عند قناة السويس، كدليل على وحدة الهدف، الذي يحفز الدولتَين إلى البحث عن حل للدفاع عن الشرق الأوسط. غير أن واشنطن، تلقت الاقتراح بفتور.

    ي الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة الأمريكية، قد اتخذت دور الوسيط، في المحادثات المصرية ـ البريطانية. وحاول السفير الأمريكي، جيفرسون كافري، إعادة النظام. وعمل على طمأنة الملك فاروق، بأن القوى الغربية، لم تكن تحاول السيطرة على مصر. أمّا وزير الخارجية الأمريكي، أتشيسون، فقد حث نظيره البريطاني، أنتوني إيدن، على إجراء نوع من المصالحة، في مجلس العموم؛ فاستجاب له إيدن. غير أن محاولات الأمريكيين، كانت عقيمة. وبحلول مارس 1952، كانت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، في الشرق الأوسط، قد وصلت إلى أدنى مستوى لها.

ثامناً: منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط:

    في أغسطس 1952، كان القادة العسكريون الغربيون قد نبذوا مشروع الـ (MECOM)، وقرروا إنشاء منظمة دفاعية، شرق أوسطية، تضم كلاًّ من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وأستراليا ونيوزيلندا واتحاد جنوب أفريقيا. وقوامها لجنة من المستشارين العسكريين، يضعون الخطط الخاصة بالدفاعات الإقليمية. وضعت بريطانيا مسودة المشروع، وسلمتها، في سبتمبر، إلى القوى صاحبة العلاقة. أمّا الجنرال محمد نجيب، الذي أطاح بالملك فاروق، في يوليه 1952، فقد أعرب للولايات المتحدة الأمريكية، أنه مستعد لمناقشة أي أفكار للدفاع عن الشرق الأوسط، بعد الانسحاب البريطاني من مصر.

    وفي نهاية عام 1952، موعد انتهاء إدارة الرئيس ترومان، كانت إخفاقات الولايات المتحدة الأمريكية، تتوالى؛ إذ فشلت في تحسين العلاقات الأنجلو ـ مصرية. وخابت في تنظيم أي صورة من صور منظمة الدفاع الإقليمية. وكان موقفها، في الشرق الأوسط، سيئاً؛ إذ إن علاقتها بإنجلترا، المحتلة لمصر، وبإيران، لم تلقَ أي استحسان من الدول العربية. وعلى الرغم من زيادة مساعداتها للدول العربية، من خلال "النقطة الرابعة"، واتفاقات المساعدة المشتركة، فإنها لم تفلح إلا في كسب تأييد القليل من تلك الدول، لإنشاء حلف دفاعي.

    في أوائل يناير 1953، وبُعَيد تسلّم الرئيس أيزنهاور الإدارة الأمريكية، توجّه تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني، إلى واشنطن، ساعياً إلى تأييد أمريكي لبلاده، في محادثتها مع المصريين، الرامية إلى استمرار الاحتلال العسكري البريطاني لمنطقة السويــس. فاستجاب له أيزنهاور، الذي أشار إلى أن المصلحة الذاتية للولايات المتحدة الأمريكية، تتطلب مثل هذا التأييد؛ نظراً إلى اعتماد أوروبا على قناة السويس، من أجل تدفق النفط، بكميات كبيرة. ومع أوائل الربيع، توجّه إيدن، وزير خارجية بريطانيا، إلى واشنطن، لمناقشة مشروع الدفاع عن قناة السويس، الذي يخول بريطانيا الاحتفاظ بالوجود العسكري في منطقة القناة. فكان رد الرئيس الأمريكي، "أنه من الضروري، أن تحتفظ بريطانيا بالقاعدة؛ وأن لا تجلو عنها، قبل توقيع اتفاقية مع المصريين، في شأن انضمامهم إلى مشروع الدفاع". لقد أتَّبع الرئيس أيزنهاور سياسة ترومان وأتشيسون. لكنه كان يكره انضمام الولايات المتحدة الأمريكية، إلى بريطانيا ومصر. ويرى أن الاشتراك الأمريكي في مثل هذا المؤتمر، يمكن أن يتحقق، إذا دعا الجنرال نجيب واشنطن إلى الحضور؛ وهو ما لم يحدث؛ إذ إن المصريين قرروا رفض المشروع البريطاني.

تاسعاً: حكومة الثورة ترفض الأحلاف:

    بعد ثورة 23 يوليه عام 1952، سلم السفير المصري لدى واشنطن، مذكرة إلى الحكومة الأمريكية، جاء فيها:

1.     إن فكرة منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط، التي تقترحها الدول الغربية؛ أو أي منظمة من نوعها ـ هي غير مقبولة، بالنسبة إلى مصر. فمثل ذلك، يعني، ببساطة، أن مصر تستبدل بقوات بريطانية، تحتل أراضيها، قوات من دول غربية، تفعل الشيء نفسه. وهذا، بدوره، سيعني استمرار الاحتلال الأجنبي.

2.     إن الدفاع عن الشرق الأوسط، ينبغي له أن يرتكز على ميثاق الضمان الجماعي، بين دول الجامعة العربية. ولما كانت بريطانيا مرتبطة بمعاهدات، مع العراق والأردن؛ والولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة بمعاهدات، مع المملكة العربية السعودية؛ فليس هناك حاجة، إذاً، إلى شيء إضافي.

3.     بعد إتمام الانسحاب، غير المشروط، من مصر، فإنها ستكون على استعداد لمناقشة أي أفكار، للدفاع عن الشرق الأوسط.

4.     إن مصر، لا يمكن أن تكون شيوعية. وهي، على أي حال؛ ستقاوم أي عدوان على أراضيها، دفاعاً عن مصالحها الخاصة.

5.     إن العلاقات ببريطانيا، قد تتطور إلى الأسوأ. وستقدر مصر كل التقدير، كل مساعدات، تقدّمها الولايات المتحدة الأمريكية، لإقناع بريطانيا بعدم الإصرار على البقاء في قاعدة قناة السويس.

6.     إن مفتاح الموقف في الشرق الأوسط، يرتبط بقوة مصر، الاقتصادية والعسكرية. وفي هذا الصدد، فإن حكومة الثورة، في مصر، تتطلع، باهتمام، إلى مناقشة جدية مع الطرف الأمريكي، بهدف مساعدتها اقتصادياً، وتمكينها من تسليح جيشها.

عاشراً: مصر والضمان الجماعي:

    طلبت مصر تطبيق ميثاق الضمان الجماعي. وأهابت بالدول العربية الالتفاف حوله، والتعاون تحت لوائه، من خلال جامعة الدول العربية. ونزولاً على رغبة مصر، وبناء على توجيهها، دعت الأمانة العامة للجامعة العربية، الحكومات العربية، إلى إيفاد رؤساء أركان الحرب في جيوشها، إلى القاهرة، لعقد مؤتمر عسكري، بقصد تنفيذ أحكام الميثاق.

    وافتتح هذا المؤتمر، في القاهرة، في 26 أغسطس 1953. وعقد ست جلسات. وشكل لجنة فرعية، لوضع اللائحة الداخلية لمجلس الدفاع العربي الأعلى، الذي ينص الميثاق على أن يتألف من وزراء الدفاع والخارجية، في الدول العربية، ورؤساء أركانها في شؤون الدفاع العليا.

    ودُعي مجلس الدفاع الأعلى، فاجتمع، في دورة ثانية، يوم السبت، 9 يناير 1954، لدراسة وسائل تنظيم الدفاع عن الدول العربية وتنظيم جيوشها وتدريبها وتوحيد أسلحتها. ووافق المجلس في هذه الدورة على مشروعَين. ينص الأول على تزويد الأردن بالأسلحة، لمواجهة العدوان الإسرائيلي. ويقضي الثاني بإنشاء صندوق، للإنفاق على مشروعات الدفاع العربية.



[1] بولكلي منطقة بوسط الإسكندرية يقع بها المقر الصيفي لمجلس الوزراء المصري.