إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / حلف بغداد (الحلف المركزي CENTO)









المبحث الثالث

المبحث الثالث

محاولات واشنطن لربط الدول العربية، ودول المنطقة، بأحلافها

    دأبت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، منذ أن رفضت مصر، في 14 أكتوبر 1951، الانضمام إلى منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط (M-E-D-O)، الرامية إلى ربط الدول العربية بعجلة الغرب ـ على السعي إلى جر الدول العربية، تدريجاً، إلى هذا الحلف.

    وقد رفضت الثورة المصرية، منذ اندلاعها، في 23 يوليه 1952، كل محاولة من الغرب لضمها إلى هذه المنظمة؛ إذ رأتها بديلاً من معاهدة 26 أغسطس 1936. ونادت بسياسة الحياد، التي تعارض التكتلات والأحلاف العسكرية الاستعمارية، ثنائية كانت أم جماعية.

أولاً: زيارة دالاس إلى مصر:

    بعد أن وصلت المحادثات الأنجلو ـ مصرية، إلى طريق مسدود، قرر وزير الخارجية الأمريكية، جون فوستر دالاس، ضرورة اللجوء إلى طريق جديد، يؤدي إلى الدفاع عن الشرق الأوسط. وكان مقتنعاً بأن السوفيت، سيهاجمون. فاختار أن يلقي نظرة على الموقف، لتحديد الاقتراح البديل. وفي الفترة، الممتدة ما بين 9 و29 مايو، تنقل دالاس في أرجاء الشرق الأوسط. وكانت أول محطة له في القاهرة.

    وأدى أول تصريح، أدلى به، عقب وصوله إلى مطار القاهرة، في 11 مايو 1953، إلى تبديد كل آمال مصر، أن تنتهج واشنطن سياسة أكثر استعداداً للمساعدة؛ إذ قال: "إن الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس أيزنهاور، تهتم اهتماماً جدياً بالدفاع عن الشرق الأوسط. وقد ناقشت هذا الأمر مع الحكومة البريطانية، على أساس مبادئ، كان قد أمكن الوصول إليها، مع إدارة الرئيس ترومان. كذلك، فإننا ناقشنا هذا الموضوع، وما يتصل به، مع الحكومة المصرية وممثليها، في واشنطن والقاهرة. وإن الولايات المتحدة الأمريكية، مهتمة برفاهية هذا الجزء من العالم؛ وقد توصلت إلى اقتناع بأنه لا بدّ من تحقيق حل، يضمن سيادة مصر الكاملة، ويؤكد الجلاء المرحلي للقوات البريطانية عنها، على نحو يحفظ أهمية منطقة القناة وقاعدتها، فتظل صالحة للعمل السريع، للدفاع عن العالم الحر، في حالة نشوب حرب".

    وخلال مباحثات دالاس مع وزير الخارجية المصري، الدكتور محمود فوزي، في 11 مايو، والتي حضرها الوفد الأمريكي، المكون من هارولد ستاسين، مدير إدارة الأمن المتبادل؛ وهنري بايرود، مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط. أوضح الدكتور محمود فوزي أهمية مشروع السد العالي، مشيراً إلى أنه سيتعين على مصر، أن تعتمد على "أصدقائها"، لتوفير رأس المال والخبرة الفنية، اللازمين له. وأكد أنه لا يتقدم، بذلك، بطلب رسمي للحصول على معونة، بل إنه يضع وزير الخارجية في الصورة فحسب.

    وبعد ذلك، أثار الدكتور فوزي القضية المحورية، وهي منطقة القناة، مؤكداً أن مصر تحاول حل قضايا الخلاف، بين القاهرة ولندن، "بالطريقة الأمريكية العملية الناشطة". إلاّ أن إصرار البريطانيين على الاحتفاظ "بالإدارة الفنية" للقاعدة، كان يعوق التوصل إلى اتفاق نهائي، بل يعرض السيادة المصرية للخطر؛ إذ لا يمكن استخدام المخازن والفنيين البريطانيين الباقين، ذريعة لاستمرار السيطرة الأجنبية.

    وأشار الدكتور محمود فوزي إلى أن منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط، هي "بالتأكيد مسألة غير محددة المعالم". واستطرد يقول، إن "هناك، أحياناً، اختلافاً عميقاً، بين الأوراق الموقَّعة وطبيعة الأشياء". وإنه ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية، أن تثق بأن مصر، لن تستخدم قوّتها في مواجهة الغرب؛ وإنما لصد العدوان من جانب "دوائر أخرى". وإن التزاماً بنظام دفاع جماعي، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون من شأنه أن يثير المصاعب (إشارة غير مباشرة، إلى المعارضة الشعبية لمثل هذا الارتباط الرسمي بالغرب).

    وخلال محادثات دالاس مع اللواء محمد نجيب، في 11 مايو، علم دالاس، أن المصريين يعتزمون إجلاء القوات البريطانية عن قاعدة السويس؛ وإدارة تلك القاعدة بأنفسهم، من دون الاعتماد على الفنيين البريطانيين. وعلم، كذلك، أن ثقة المصريين بالإنجليز، باتت دون ثقتهم بالسوفيت. وأعلن نجيب، أن مصر لا تستطيع الاشتراك في أي حلف من الأحلاف، مع القوى الغربية؛ وإنما ستتعاون معها، في حال جلاء بريطانيا.

    ويقول اللواء محمد نجيب، رئيس جمهورية مصر، في مقابلته دالاس: "وصل جون فوستر دالاس إلى القاهرة، ضمن برنامج لزيارة عدد من دول المنطقة … وكان انطباعي الأول عنه، أنه يمثل راعي البقر الأمريكي، الذي تنقصه رقة الحضارة. قدّم إليّ دالاس رسالة شكر، من الرئيس أيزنهاور، عن هديه كنت قد أرسلتها له، مع سفيرنا في واشنطن، الدكتور أحمد حسين؛ وكانت تمثالاً لإلهة الحكمة، من آثار مصر القديمة … ومع خطاب الشكر هدية من الرئيس أيزنهاور، عبارة عن مسدس، غطيت قبضته بالفضة، ونقش عليه العبارة الآتية، بالإنجليزية (إلى الجنرال نجيب، من صديقه الجنرال أيزنهاور). وقال دالاس، وهو يقدم المسدس "إنه هدية عظيمة"، وعقب جيفرسون كافري، السفير الأمريكي بالقاهرة، بقوله "إنها هدية نافعة، ولكن لتأييد السلام" … وقلت لهما، فوراً، وأنا أضحك، "إننا نستخدم السلاح فقط، في حالة الدفاع عن النفس".

    وبدأ دالاس حديثه مشيداً بحركتنا، وما حققته في مجال الإصلاح الداخلي. ثم انتقل إلى الشيوعية وخطرها على الشرق الأوسط، قائلاً: "إن روسيا تريد السيطرة على العالم، عن طريق نشر الشيوعية. وإن أمريكا تقوم بعمل حزام حولها، للدفاع عن العالم الحر. إن الشرق الأوسط، يمثل جزءاً هاماً في هذا النزاع؛ وإنه يجب قيام حلف من الدول العربية، بزعامة مصر، لاستكمال هذا الحزام. وإن حكومة الرئيس أيزنهاور، عنيت بدراسة الدفاع عن الشرق الأوسط، بالاشتراك مع بريطانيا؛ وإن مسألة الدفاع عن هذا الجزء من العالم ورفاهيته، هي من المسائل التي تعنى بها الحكومة الأمريكية ". وكان دالاس يتحدث بلهجة التاجر، الذي يريد أن يروج لبضاعته".

    ويستطرد الرئيس محمد نجيب، فيقول: "وكان ردي على دالاس، بأن الخطر الشيوعي، هو خطر محتمل؛ ولكن الواقع، الآن، هو أن الإنجليز يحتلون بلادنا، فعلاً، رغم إرادتنا، فهُم، الآن، أعداء لنا ... وإنه بديهي، أنه لا يمكننا التحالف مع أعدائنا. وقلت له إن جلاء الجيوش البريطانية، هو أهم شيء،أجمع عليه الشعب المصري. أمّا الحديث عن عمل حزام، حول الاتحاد السوفيتي، واشتراك مصر في حلف، مع العالم الحر، فهذا أمر لا يمكنني البحث فيه، الآن … ولكنني أعدك بدراسة هذا الموضوع، بعد جلاء الإنجليز، وتحرير إرادتنا. وأوضحت لدالاس أسباب قطع المفاوضات الأخيرة، ذاكراً له أن الإنجليز، قد وصلوا بالمفاوضات إلى طريق مسدود. وقال دالاس، إنه لا بدّ من وجود عمل، يتمشى مع السيادة الكاملة لمصر، مع جلاء القوات البريطانية، على أن ينظم هذا الجلاء، حتى تظل القاعدة الحربية الهامة، في منطقة القناة، بمستودعاتها، في أمان تام، وأن تكون ميسّرة لاستعمال "العالم الحر"، في حالة قيام حرب، في المستقبل. وختم دالاس حديثه راجياً مني، أن يخيم الهدوء على منطقة الشرق الأوسط، حتى يعود إلى واشنطن، ويجتمع بالرئيس أيزنهاور".

    ويقول جيفري أرونسن: أمّا الاجتماع، الذي استغرق ساعتَين، مع محمد نجيب، فقد كان أكثر تعرضاً لجوهر المسائل. أشار الرئيس نجيب، خلاله، إلى سقوط واشنطن من مكانها، في نظر العرب، نتيجة لسياستها إزاء فلسطين، وتأييدها لبريطانيا، وكيف أن ذلك، أدى إلى نفور الرأي العام من فكرة الأحلاف، التي تضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

    وقال نجيب، إن الاتفاقات، لا تكون "محترمة"، إلاّ إذا كانت بين أطراف متساوية. وحذر دالاس بقوله: "لو قلت إنني سأدخل حلفاً، فإنني سأخسر كل أنصاري". وأعلن أنه عندما يتحرر الشعب، ويتخلص من شكوكه، فإنه "سيكون مستعداً لأن يثق في أي طرف، حتى المملكة المتحدة. حررونا من الاحتلال البريطاني، وعندئذ، نستطيع أن نتفاوض بحسن نية". وأعرب عن اعتقاده، أنه يمكن تطوير ميثاق الأمن الجماعي الغربي، إلى " شيء ما، طيّب". وأضاف قائلاً، إن حل الخلافات الإنجليزية ـ المصرية، من شأنه أن يحقق "ما تريدونه، وما نريده"، في الدول العربية.

    وخلال اجتماع دالاس إلى الرئيس محمد نجيب، أبدى جمال عبدالناصر، نائب رئيس مجلس الوزراء، ووزير الداخلية، تسليمه بضرورة الدفاع عن الشرق الأوسط، واقتناعه، في الوقت نفسه، بأن أهل المنطقة، هم الذين يستطيعون الدفاع عنها؛ ويحق لهم، بعد أن يحددوا ضرورات أمنهم، أن يستعينوا على ذلك بمن يشاءون.

    كما أكد جمال عبدالناصر لدالاس، أن العرب لا يرون أمامهم خطراً على أمنهم، غير خطر الاستعمار، الذي سيطر على أراضيهم، منذ القرن التاسع عشر وقبله. وفي حالة مصر، فإن الاستعمار البريطاني، فرض سيطرته المطلقة، لأكثر من سبعين عاماً؛ وليس من المعقول، أن نقفز، فجأة، فنقول لشعبنا إننا اكتشفنا له عدواً جديداً، هو الاتحاد السوفيتي وهو لَمّا يتخلص بعد من عدوه القديم، الاحتلال البريطاني، كما كان عبد الناصر قاطعاً، مع دالاس، في تأكيد أن النزعة القومية، التي تنتهجها ثورة يوليه، هي القوة الوحيدة، في مصر، القادرة على الحيلولة دون انتصار حركة ثورية، معادية، في جوهرها، للغرب؛ وأنه بدلاً من أن تنتهج الولايات المتحدة الأمريكية سياسات، تقوض الرصيد القومي لمجلس قيادة الثورة، فإنها ينبغي أن تساند جهوده، بتقديم الأسلحة والمعونات، وقبول الانسحاب البريطاني الكامل؛ من دون أي التزام رسمي مصري، تجاه منظمة دفاع الشرق الأوسط المقترحة، أو تجاه حلف البلقان.

    وكان أشد ما يخشاه محمد نجيب، والقادة العسكريون، هو افتقار القادة العسكريون، إلى الحساسية، تجاه حاجات النظام، الذي لا يزال يفتقر إلى تأمين قيادته،ومنهمكاً في ارتجال السياسات، التي تستهدف تدعيم سيطرته. فحتى 30 أبريل 1953، كان هنري بايرود، مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، يشير إلى أنه "إذا فشل نجيب"، فإن ذلك سيعنى أن الجيش قد فشل. وإذا فشل الجيش، فما من أحد يعرف ما سيحدث، بعد ذلك، في مصر.

    وعلى الرغم من تأييد دالاس للموقف البريطاني، من قضية الجلاء عن الأراضي المصرية، فإنه كان يسعى إلى أن ينأى بالسياسة الأمريكية عن السياسة البريطانية؛ ويجاهر بأن الولايات المتحدة الأمريكية، على صلتها الوثيقة ببريطانيا، فإنها لا تقبَل السياسة البريطانية قبولاً آلياً. وهو ما تمثل في قوله: "إننا نشارك المملكة المتحدة تراثاً ثقافياً ودينياً، وهو ما يعطينا وجهة نظر متماثلة، إزاء معظم المشكلات؛ وذلك في الوقت، الذي نحتفظ فيه بحق ممارسة التقرير المستقل تماماً، في كل الحالات. ومن الخطأ أن يقول أحد، إن المملكة المتحدة، تقود الولايات المتحدة الأمريكية، من أنفها".

ثانياً: واشنطن ترسم خطاً جديداً للحزام الشمالي (التعاون العسكري والاقتصادي):

    بعد أن غادر دالاس مصر، توقف في تل أبيب، ثم غادرها إلى الأردن وسورية ولبنان والعراق والمملكة العربية السعودية، حيث شعر بالكره الشديد، الذي يكنّه العرب للإسرائيليين؛ وسبر عمق عدائهم للإنجليز؛ وقلة اهتمامها بالاتحاد السوفيتي. وقد واصل دالاس تبشيره بالدفاع الجماعي، وتوّج رحلته بزيارات قصيرة إلى كلٍّ من الهند وباكستان وتركيا واليونان وليبيا.

    وفي الهند، قال: "أعتقد أن من الأهمية بمكان، أن تنشأ منظمة دفاعية إقليمية، في الشرق الأوسط؛ إذ من المكلف جداً، أن تنشئ دوله مؤسسات دفاعية خاصة بها، بشكل منفرد". فالنظام الجماعي أقلّ نفقة، وأدعى للاعتماد عليه. وليس لدي تصورات محددة، بدقة، في شأن نوع المنظمة، التي ينبغي إنشاؤها؛، ولكنني آمل أن يكون هناك نوع ما من التطور الإقليمي، نحو الأمن الجماعي.

    عاد دالاس إلى الولايات المتحدة، في أواخر مايو 1953، وهو يحمل انطباعات محددة عن الموقف في الشرق الأوسط، جعلته يدرك أن المشروع الإقليمي، يجب أن يتفق مع رغبات شعوب المنطقة؛ وأن أي محاولة لفرضه، ستكون عقيمة. لقد أيقن بأن هناك مدّاً واسعاً من الشعور المعادي للغرب، في المنطقة، هو الذي حمل معظم الدول على التنكر لأي مشروع دفاعي. غير أنه أيقن، كذلك، بأن الدول، التي تعرف باسم "الدول الشمالية"؛ وهي تركيا وإيران والعراق وباكستان، يمكن أن تنضم إلى منظمة دفاعية إقليمية.

    وحفزت جولة دالاس، السياسة الأمريكية إلى تعديل خطوطها العامة. فاستبدلت تفاهماً ثنائياً، غير رسمي، في شأن التعاون، العسكري والاقتصادي، بفكرة إنشاء تحالف جماعي ملزم، في الشرق الأوسط، على غرار حلف شمال الأطلسي. وهذا "التفاهم غير الرسمي"، سيشكل الخطوة الأولى نحو "نظام دفاع إقليمي كامل" للمنطقة. وكانت الدول الأكثر رغبة فيه، تقع على الحافة الشمالية للمنطقة الشاسعة، التي زارها وزير الخارجية الأمريكي، جون فوستر دالاس؛ ففي العراق وباكستان، وإلى درجة أقلّ في سورية، كان التهديد السوفيتي أكثر استشعاراً، منه في مصر والبلدان الأخرى، الواقعة إلى الجنوب.

    لاحظ دالاس، أن التعاون الأمريكي مع إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، كان ذا أهمية كبيرة، بالنسبة إلى دول الشرق الأوسط. وتأكد أن أي نوع من أنواع التنظيم العسكري، يجب أن ينبع من داخل المنطقة نفسها. ورأى أن تركيا والعراق وباكستان، هي أكثر الدول، التي يحتمل أن تتعاون فيما بينها. لقد كانت انطباعات دالاس شاملة، إلا أنه نسي حقيقة مهمة، هي قوة القومية العربية، التي انتابها الشك في الأحلاف الغربية.

    ويمكن تلمس الملامح الرئيسية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، من خلال البيان، الذي أدلى به دالاس، في 29 مايو 1953؛ والخطاب، الذي ألقاه عبر الإذاعة، في الأول من يونيه 1953؛ وتوصياته، التي قُنّنت في وثيقة مجلس الأمن القومي، التي أقرها الرئيس أيزنهاور، في 11 يوليه 1953. وهي تتلخص في النقاط الآتية:

1.     العديد من الصراعات الإقليمية، في الشرق الأوسط، ظلت انعكاساً للصراع الأمريكي ـ السوفيتي؛ فسُحُب الحرب الباردة، التي لم تسمح لدالاس إلا برؤية ذراع السوفيت الخفية، التي تستغل النزاعات الإقليمية؛ إن لم يكن هو نفسه الذي يحركها ـ ظلت ثابتة في مكانها. ولا يعني ذلك، أن دالاس، ظل غافلاً عن التناحر المرير، في النزاع البريطاني ـ المصري، أو الصراع العربي ـ الإسرائيلي؛ وإنما بدت له تلك الصراعات ظواهر عابرة، تستمد أهميتها من دعمها أو عرقلتها للجهود، التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية، لكسب الحرب الباردة، أو استعداداً للحرب "الساخنة".

2.     تعيين الشرق الأوسط، وجنوبي آسيا، أهدافاً حيوية، بالنسبة إلى المصالح الأمريكية، الخاصة بالحرب الباردة.

3.     محاباة الدول، التي تأخذ بالتطور المنظم. والحركات القومية، التي تنطوي على السيطرة الاجتماعية، والتحركات الإصلاحية المعتدلة، والاهتمام بحماية المصالح، الاقتصادية والأمنية، الأمريكية ـ سيكون في مقدورها أن تطمئن إلى حظوتها لدى واشنطن.

    واقترح دالاس استبعاد نفوذ بريطانيا وفرنسا وجيوشهما، من الشرق الأوسط؛ على أن يواكب ذلك دور أكبر لسياسة أمريكية، قوامها الحياد، وعدم التحيز في العلاقات بإسرائيل والعالم العربي، والحفاظ على وحدة الثلاثة الكبار. وأكد أن وجود القوات البريطانية في الشرق الأوسط، هو "عامل اضطراب، أكثر منه عامل استقرار"؛ وأن العامل الإسرائيلي، وارتباط الولايات المتحدة الأمريكية، في أذهان شعوب المنطقة، بالسياسات الاستعمارية، الفرنسية والبريطانية ـ "هما عبء ثقيل معلق في أعناقنا"؛ وأن المنطقة بأسرها، تقريباً، تجتاحها روح ثورية متعصبة، تجعلها تضخم من مشكلاتها المحلية، وتقلل من الخطر السوفيتي. وارتأى الوزير الأمريكي، في ختام اقتراحه، أن تبادر واشنطن إلى:

1.     السعي، بكل الوسائل الممكنة، إلى تهدئة مخاوف العرب، إزاء الأهداف الإسرائيلية، مستقبلاً؛ وإقناعهم بأن الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل وفقاً لسياسة عدم تحيز حق.

2.     بذل كل جهد ملائم، لإيجاد حل، أو على الأقل تخفيف ما تعانيه مصر وإيران والمملكة العربية السعودية، وكذلك، العلاقات الهندية ـ الباكستانية.

3.     تقديم كميات صغيرة، من مخصصات التنمية الاقتصادية، إلى دول معينة في المنطقة؛ وتشجيع استخدام أموال النفط، حيثما تتوافر، في أغراض التنمية الاقتصادية؛ والحرص على استخدام أموال المساعدات الأمريكية، في تطوير مشروعات المياه، التي ستخفف من المشكلات المحددة، مثل إعادة توطين اللاجئين، ومن مصلحتنا أيضاً تقديم كميات صغيرة من المعدات العسكرية؛ وإيثار بعض الدول المختارة، بكميات محدودة من المعدات العسكرية، تستخدم في بسط الأمن الداخلي، وتقوية الدفاع عن المنطقة، واكتساب ميزات سياسية.

4.     الإقرار بأن الدول العربية، لن تنضم، علناً، في هذا الوقت، إلى ترتيبات دفاعية، بالاشتراك مع القوى الغربية؛ ما يشكل فجوة خطيرة في الحزام الشمالي، الذي يتسم، أصلاً، بالحساسية إزاء التهديد السوفيتي. لذلك، لا بدّ من تلافي الانبهار بمفاهيم، لا أساس لها في الواقع؛ والسعي، من خلال تدابير، كالتي سبق ذكرها، إلى تحسين الموقف العام، من دون مطالبة أحد بمقايضة محددة. وعندما تُطلب ضمانات محددة من الدول المحلية، فإنها يجب أن تكون بسيطة، ومباشرة، وغير مفرطة في نزعتها القانونية. لسنا، بوجه عام، في وضع، يسمح لنا بأن نطالب بعائد محدد لاستثماراتنا، في هذه المرحلة. والفرصة الوحيدة المتاحة، هي أن نمضي قُدماً، ونحن نظهر الثقة والصداقة والأمل، لكي نحقق النتائج المرجوة.

ثالثاً: تنظيم شبكة جديدة، من دول الشرق الأوسط:

    واصل الأمريكيون، عقب جولة دالاس في الشرق الأوسط، تأييد استراتيجية بريطانيا وموقفها في السويس. بيد أنهم قرروا انتهاج سياسة مستقلة في المنطقة، تتيح لهم التغلغل فيها، بمعزل عن البريطانيين؛ فجهدوا في إنشاء تعاون عسكري أوثق، مع دول "الحزام الشمالي؛ ونشطوا إلى كسب النفوذ، في منطقة الهلال الخصيب. وعزمت إدارة الرئيس إيزنهاور، في أواخر يوليه 1953، على ملء الفراغات الإستراتيجية"، في الشرق الأوسط، وجنوب شرقي آسيا "بتحالفات إستراتيجية جديدة".

    وفي منتصف نوفمبر، أُوفِد الأدميرال رايت، قائد البحرية الأمريكية في البحر الأبيض المتوسط، إلى الشرق الأوسط، ليحذر من أخطار الفراغ الإستراتيجي، وليجري محادثات حول فكرة التحالف الجماعي. وفي وزارة الخارجية الأمريكية، أكد بايرود الأنباء الصحفية المتوالية، عن تشكيل تحالف، يضم تركيا وإيران والعراق وباكستان؛ ويحول دون تعرّض أوروبا لعملية التفاف، من جانب قوى معادية، في غربي آسيا.

رابعاً: التوسع الأمريكي في الشرق الأوسط:

    أنجز دالاس أولى مآثره، في "الحزام الشمالي"، في أبريل 1954، حينما وقعت تركيا وباكستان معاهدة صداقة وتعاون بينهما، لتحقيق الأمن المشترك؛ لا تعدّ تحالفاً عسكرياً؛ وإنما هي تنطوي على تعاون سياسي، وتشاور عسكري؛ ولا تتضمن تخطيطاً دفاعياً مشتركاً، بل هي إعراب عن تقدير طرفَيها "للأخطار الخارجية المشتركة، وتهديدات التخريب الداخلي". وأعقب ذلك الإعلان، في بغداد، في 25 أبريل 1954، أن واشنطن، وافقت على إمداد العراق بالأسلحة. وسارع الأمريكيون إلى عقد مؤتمر، في إستانبول، في منتصف مايو 1954، استمر أربعة أيام، وحضره ثلاثة عشر من رؤساء البعثات الأمريكية إلى المنطقة الممتدة من اليونان حتى باكستان. وخلال المناقشات، ذكر أن مساعد وزير الخارجية الأمريكية، بايرود، أعلن أن واشنطن، تعدّ حلف أنقرة ـ كراتشي، هو أهم تطور في الشرق الأوسط، منذ الحرب العربية ـ الإسرائيلية، عام 1948؛ وأنها تأمل توسيعه، ليشمل دولاً أخرى في الشرق الأوسط، وبخاصة إيران والعراق؛ وهو، بالنسبة إلى السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، يماثل معاهدة الدفاع الأوروبي، بالنسبة إلى سياسة واشنطن في أوروبا.

    وأعرب المسؤولون، في هذا المؤتمر، عن ثقتهم بأن الانتخابات المقبلة، في العراق، ستخلق المناخ السياسي الداخلي، الضروري لالتحاق العراق بالتحالف، الذي سيملأ الفراغ، الذي خلقته منظمة دفاع الشرق الأوسط، والجامعة العربية "العاجزة"؛ وسيلفت العرب عن ميثاق الأمن الجماعي العربي، ويحول اهتمامهم بعيداً عن إسرائيل؛ وسيضمن لباكستان، الموالية لواشنطن، قيادة العالم الإسلامي، بعد تفوّقها على مصر، التي قد تفقد تأييد الجامعة العربية؛ فتضطر إلى الاكتفاء بالزعامة "الإسلامية لأفريقيا".

    على الرغم من أن الحلف الباكستاني ـ التركي، كان، من الناحية العسكرية ـ الإستراتيجية، عديم الفائدة، لا يعني سوى "تقنين للضعف"؛ فإنه أثار حفيظة بريطانيا وامتعاضها؛ إذ رأى البريطانيون، أن السياسة الأمريكية المستقلة، لن تضر بما تبقى من نفوذ بريطانيا في المنطقة فحسب، بل إنها تتعارض، كذلك، مع إستراتيجيتها الدفاعية، التي تتركز على السويس. وكتب جيمس سبين، في "الميدل إيست جورنال"، يقول: "من الواضح، أن فكرة "الحزام الشمالي" الأمريكية، لا تنسجم مع سياسة، تتركز على السويس ... فنقل البؤرة الأولية في الخطط الدفاعية الأمريكية، من قاعدة القناة، إنما يقلص القوة البريطانية تجاه مصر، وينزل بنزاع السويس إلى مجال مجادلات القوى الاستعمارية الأوروبية، بدلاً من مجال التنظيم الدفاعي المشترك. إن مد النفوذ الأمريكي المباشر إلى جنوبي آسيا، يكمل "الاستيلاء" الأمريكي على الشرق الأوسط".

    أمّا في العالم العربي، فقد قبِل المعاهدة الباكستانية ـ التركية، مبدئياً، كلٌّ من الأردن وسورية والمملكة العربية السعودية. وأعربت مصر عن مخاوفها من تلك المعاهدة. وأبلغ، وزير الخارجية المصري، الدكتور محمود فوزي، السفير الأمريكي لدى القاهرة، كافري، أن مصر ستقاوم "بكل الوسائل" اشتراك العراق في الحلف التركي ـ الباكستاني. كما أعلنت اللجنة السياسية، في جامعة الدول العربية، تحت قيادة مصر ـ معارضتها انضمام أي دولة عربية إلى أحلاف دفاعية غربية. وكذلك، لم ترحّب القاهرة بإمداد العراق بالأسلحة الأمريكية.

خامساً: الجلاء عن مصر، والدخول الأمريكي إلى المنطقة:

    تحثّ إحدى الوثائق الإستراتيجية الأمريكية، التي أقرها مجلس الأمن القومي الأمريكي، في 23 يوليه 1954 ـ الولايات المتحدة الأمريكية على "ربط مصر بالترتيبات الدفاعية، إذا ما طلبت ذلك. وأن نوضح لها، أن مفهوم "الحزام الشمالي"، لا يقلل من الأهمية، التي توليها الولايات المتحدة الأمريكية لتقوية مصر ... الاستمرار في تقديم المعونات العسكرية للدول، التي تُشكل "الحزام الشمالي" (تركيا وباكستان وإيران والعراق). وتقديم المساعدات العسكرية، عندما تدعو لذلك التطورات الخاصة بقاعدة السويس ...".

    وعلى أثر توقيع "الاتفاق الإنجليزي ـ المصري"، في 27 يوليه 1954، سارع الرئيس الأمريكي، أيزنهاور في اليوم التالي، إلى الإشادة باتفاقية الجلاء، بين مصر وإنجلترا، قائلاً: "أعتقد أن الآمال الوطنية المشروعة، كانت موضع صيانة (في الاتفاقية)؛ وأن متطلبات الدفاع الغربية، كانت موضع رعاية. وآمل، الآن، مخلصاً، أن يكون في مقدور مصر، أن تمضي قُدماً، من الفور، مع أصدقائها، في تحسين وضعها، الاقتصادي والأمني. أنني سعيد جداً بذلك".

    وفي اليوم نفسه، أصدر جون فوستر دالاس، بياناً، يؤكد، من جديد، سعادة الولايات المتحدة الأمريكية بالاتفاقية، واهتمامها بتقديم المعونة، قائلاً: "إن ما حدث، هو خطوة كبرى في تطور العلاقات، بين بلدان الشرق الأدنى ودول الغرب. وإن هذه الاتفاقية، قد قضت على مشكلة، لم تكن تؤثّر في العلاقات، بين المملكة المتحدة ومصر فحسب، بل في علاقات الدول الغربية بالدول العربية، كذلك. وآمل أن تكون بداية حقبة جديدة، من التعاون الأوثق، بين دول الشرق الأدنى ودول الغرب".

سادساً: محاولة إشراك مصر في تحالف أمريكي:

    بعد توقيع اتفاقية الجلاء المصرية ـ البريطانية، نشطت الولايات المتحدة الأمريكية، لإشراك مصر في تحالف أمريكي، متجاهلة القيود المفروضة على جمال عبدالناصر؛ واعتقاد رجال الثورة المصرية، أن الدفاع عن المنطقة، يأتي من الداخل، بالاعتماد على دولها. وحاول جمال عبدالناصر، أن يشرح ذلك للأمريكيين؛ وقال لمراسل "نيويورك تايمز"، كينيت لاف، بعد التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاقية الجلاء: "بعد تسوية السويس، خلا الطريق من كل ما يعوق إنشاء علاقات طيبة مع الغرب. ولكن هذا الإصرار على الأحلاف، لن يؤدي إلاّ إلى إبقاء الشكوك القديمة حية في أذهان الشعب؛ والشيوعيون يعرفون جيداً كيف يستغلون مثل هذه الشكوك".

    وبادر السفير الأمريكي، كافري، في اليوم نفسه، الذي وقعت فيه اتفاقية الجلاء ـ إلى إبلاغ وزير خارجية مصر، محمود فوزي، استعداد الولايات المتحدة الأمريكية، للبدء بمناقشات في شأن المعونة، التي حُددت قيمتها في مذكرة، قدّمها دالاس إلى الرئيس الأمريكي، أيزنهاور، في 6 أغسطس 1954؛ والبالغة 20 مليون دولار لمرافق التنمية ومثلها في المجال العسكري.

    وفي الوقت، الذي بدأت فيه المفاوضات الأمريكية ـ المصرية، في شأن المعونة، كُلف هربرت هوفر، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية، بالإشراف على برنامج المساعدات الخارجية؛ فوضع لها شروطاً، لا تبيح إعطاءها، إلاّ للدول التي تتعاون مع الخطط العسكرية الأمريكية؛ وإلاّ عُدَّت تبذيراً. ولم تكن المعونة المخصصة لمصر، استثناء من هذه القاعدة؛ فوثائق مجلس الأمن القومي الأمريكي، توضح أن واشنطن مستعدة لتوفير مساعدات متزايدة لمصر، لسببَين:

1.     قدرتها المتزايدة على أداء دور مهم، في التعاون مع الغرب على ترتيبات الدفاع عن المنطقة.

2.     تقوية اقتصادها ووضعها الأمني، لتكون قادرة على الإسهام في الحفاظ على المصالح الأمنية الغربية، في الشرق الأدنى.

سابعاً: المعونة العسكرية لمصر:

    رهنت الولايات المتحدة الأمريكية، المعونة العسكرية لمصر، بضرورة التزامها متطلبات تشريع الأمن المتبادل الأمريكي؛ ما حال دون الاتفاق في شأن تلك المعونة.

    وفي أوائل نوفمبر 1954، بذلت محاولات لحل الخلافات؛ اضطلع بإحداها إيفلاند وجيرهارد (كمبعوثين لوزارة الدفاع الأمريكية)، اللذان حاولا إقناع جمال عبدالناصر بضرورة وجود فريق عمل (مستشارين)، سيبقى في مصر ريثما يسلّم الأسلحة للوحدات. ولكن عبدالناصر، اعترض على هذا الاقتراح.

    وذكر مايلز كوبلاند مهمة هذه البعثة بشيء من التفصيل، مُبْرزاً التناقضات الأمريكية ـ المصرية، إذ يقول: "شرح بيل إيفلاند لكلٍّ من جمال عبدالناصر؛ ورئيس أركانه، عبدالحكيم عامر؛ ومساعده، حسن التهامي … أن الدفاع الإقليمي، هو النوع الوحيد، الذي يمكن أن يكون فعالاً، في الشرق الأوسط؛ فالقدرات العسكرية المنفردة لكل دول الشرق الأوسط، إذ ما أضيف بعضها إلى بعض، فإنها ببساطة، لن تفيد أحداً، ولا سيما مصر".

    ورد عامر قائلاً: "إن ترتيباً إقليمياً، قد يخدم أغراضكم أنتم. وقبل أن نقول ما الذي يخدم أغراضنا، فإننا نودّ أن نعرف من الذي سنقاتله؟ من الذي سوف نقاتله؟" .. واعترف جيرهارد وإيفلاند، بأن من "فرضيات التخطيط"، في واشنطن، أن الروس سيكونون العدو؛ ولكن، ليس هناك ضرورة لقول ذلك، بصراحة، في الخطط الإقليمية. وقال جيرهارد: "إن توقعنا يتمثل في أن تكون ترتيباتكم الدفاعية الإقليمية، موجهة إلى أي عدو يظهر في الأفق. وسنجازف، فنترك التعرف بالعدو المشترك، إلى لحظة ظهور خطر حقيقي".

    واستبعد جمال عبدالناصر، الذي كان يجلس هادئاً، خلال المناقشة، ذلك الغموض النظري، الخاص "بالعدو"؛ فالمخططون العسكريون العرب، سيرون إسرائيل هي العدو؛ بينما سيشغل الإستراتيجيون الأمريكيون أنفسهم بالاتحاد السوفيتي.

    وقال عبدالناصر: "سيقول العرب، إنكم تحاولون توحيدهم، لكي يحاربوا عدوكم أنتم. ولو أظهروا أي نية في محاربة عدوهم هم، فإنكم ستوقفون كل المعونات، من الفور؛ وأي اتفاقية عسكرية إقليمية، لا تضع هذا الموقف في حسبانها، ستكون خدعة".

    ورداً على ما نقل عن دالاس، أن العرب "ينبغي أن يدركوا، أن عدوهم الحقيقي، هو الشيوعية الدولية"، قال عبدالناصر: "في هذه المنطقة، لا نعرف سوى عدوَّين: الإسرائيليين، الذين لا نزال في حالة حرب معهم، من الناحية الفنية؛ والبريطانيين، الذين يحتلون أرضاً عربية. إن العرب لا يعرفون أي شيء عن الروس؛ ومن الحماقة إثارة خوفهم من غزو سوفيتي!!".

    وراح إيفلاند يكرر الموقف الأمريكي، أن المعونات، الاقتصادية والعسكرية، لدول الشرق الأوسط، ستتلاءم مع مدى مواءمة كلٍّ من هذه الدول لخطط الدفاع الأمريكية، المعادية للسوفيت.

فردّ عبدالناصر، قائلاً:

    "ربما يكون نوري باشا مستعداً لاتخاذ قراراته، على أساس ما إذا كانت تتفق أو لا تتفق مع إستراتيجيتكم العالمية. ولكنني، لست مستعداً لذلك؛ فإنني أعتزم أن أصدر حكمي على القضايا، حسب وقائعها الموضوعية؛ وألاّ أتخذ قراراتي، إلاّ على أساس ما هو مفيد لمصر. والتمتع بهذا النوع من الحرية، هو هدف، لا يقلّ، في أهميته، بالنسبة إلينا، عن الازدهار الاقتصادي. وإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم مما تقولان، فإنني أعتقد، أن حكومتكما ستكون، على المدى البعيد، أكثر عوناً لدولة حرة، منها لدولة تابعة".

وقال إيفلاند:

    "هراء. ليس هناك شيء، من قبيل "الاستقلال" الكامل لأية دولة في هذا العالم؛ وبالذات لدولة، تعتمد على المعونة الخارجية، مثل مصر". واشترط، لإعطاء المعونة الاقتصادية، أن تراعي الدولة، التي مُنِحتها، المصالح الأمريكية؛ وإلاّ فهناك أُخريات، سيفعلن ذلك، لدينا، بالفعل: العراق ولبنان والأردن والمملكة العربية السعودية وتركيا وإيران وباكستان".

    واستغل جمال عبدالناصر وصول نورمان بول، في منتصف نوفمبر 1954، ليعرض، من جديد، المنطق، الذي يكمن وراء رفضه قبول الشروط، المرتبطة بمَنْح المعونة العسكرية الأمريكية. وكان بول، مدير قسم الشرق الأدنى، في إدارة العمليات الخارجية والمعونات الاقتصادية، في وزارة الخارجية ـ يزور القاهرة، لمتابعة أمور تتصل باتفاقية المعونة الاقتصادية، التي أعلنت في 6 نوفمبر. ولذلك، لم يكن مستعداً، على الإطلاق، لمناقشة جمال عبدالناصر، في قضية المعونة العسكرية الأمريكية. وهكذا، أخفقت البعثات الأمريكية. وتبددت الآمال المصرية؛ وإذا الطرفان كل في طريق.