إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / منظمة التحرير الفلسطينية، والأحزاب والفصائل الفلسطينية





الهيكل التنظيمي لمنظمة التحرير
روافد وانشقاقات حركة فتح
روافد وانشقاقات الفصائل الفلسطينية




المبحث العاشر

المبحث التاسع

المنظمة وزعمائها

أولاً: المنظمة في ظل أحمد الشقيري:

    ولد أحمد أسعد الشقيري[1] في قلعة تبنين، بالقرب من مدينة عكا، عام 1908. كان والده شيخاً، في عهد السلطان عبدالحميد. وكانت والدته تركية. عاش أحمد الشقيري، في بداية حياته، في مدينة طولكرم، ثم مدينة عكا، حيث كان والده يمتلك البساتين. تلقى تعليمه الأول في مدارس عكاوية، ثم التحق بمدرسة في القدس، حيث أكمل تعليمه. ثم انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث شارك في المظاهرات، المنددة بإعدام الشهداء، في سورية ولبنان، في مايو 1916؛ فأمرت الحكومة الفرنسية بإبعاده عن جميع البلاد، المشمولة بالانتداب الفرنسي. وكان ذلك في 13 مايو 1927.

    عاد الشقيري، في نهاية عام 1927، إلى عكا، حيث عمل في جريدة "مرآة الشرق"، لصاحبها بولس شحادة؛ فدخل معترك الصحافة، والسياسة. وبدأ يشارك في الندوات والمؤتمرات، التي تعقد في فلسطين، ولا سيما مؤتمر يافا، عام 1928. وأسهم في إنشاء جمعيات الشبان المسلمين، على غرار ما عرفته مصر، من جمعيات إسلامية. وكان عضواً في مؤتمر مدينة القدس، الذي تقرر فيه تأسيس جمعيات الشبان المسلمين، في كل أنحاء البلاد، العربية والإسلامية.

    ثم درس الشقيري الحقوق، وأصبح محامياً. وعمل مع الحاج أمين الحسيني، في الحقل الوطني. وشارك في ثورة 1936، في فلسطين. وكان البريطانيون يطاردونه، فاعتقل في مدينة دير البلح، في قطاع غزة، بينما كان متوجهاً إلى القاهرة؛ وأودع سجن القطاع، ثم سجن عكا. وبعد الإفراج عنه، رحل إلى سورية، ثم عاد إلى عكا، عام 1940، بعد أن سمحت له بريطانيا بالعودة.

    عاصر أحمد الشقيري العهدَين: العثماني والبريطاني، وأحداث فلسطين وحربها، ومولد الجامعة العربية، التي عمل بها سبع سنوات. عاش الحياة العربية العامة، فسار في موكبها، ووقف على أحداثها، وساهم في صنع وقائعها، عبر حقبة حافلة، امتدت ما يقرب من نصف قرن، شهد خلالها المخاض العسير للوحدة العربية. وكانت القضية الفلسطينية، خلال هذه الفترة، هي القنبلة، التي تساقطت شظاياها في عدد من العواصم، العربية والأجنبية، فأحدثت الثورات والانقلابات والانتفاضات. وقد حققت تلك الثورات كثيراً من الإنجازات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ لكنها لم تحقق الإنجاز الكبير للقضية الفلسطينية، التي قامت من أجلها.

    شغل أحمد الشقيري، عام 1951، منصب الأمين العام المساعد للجامعة العربية، المكلف بالشؤون الفلسطينية. وعمل رئيساً للوفد السوري، والوفد السعودي، إلى هيئة الأمم المتحدة، مدة خمسة عشر عاماً. وانتهى عمله في الهيئة الدولية، عام 1962. دافع، خلال هذه المدة، عن القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية فلسطين؛ وتصدى للاستعمار ورجاله، أمثال: الملك جورج السادس، والرؤساء: ترومان، وأيزنهاور، وكنيدي، وديجول، ووزرائهم وسفرائهم. وفي عقب وفاة أحمد حلمي عبدالباقي، عام 1963، ممثل فلسطين في الجامعة العربية، اختِير أحمد الشقيري خلفاً له؛ طبقاً لملحق ميثاق الجامعة العربية المتعلق بفلسطين، والذي ينص "على أن يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين، للاشتراك في أعماله، إلى أن يتمكن الشعب الفلسطيني من اختيار ممثليه". وتضمنت الفترة الأولى من قرار مجلس الجامعة، الرقم 1909، الصادر في 19 سبتمبر 1963، اختيار أحمد الشقيري مندوباً لفلسطين في الجامعة العربية.

    بعد هذا التكليف، عمد أحمد الشقيري إلى الاتصال بالشعب الفلسطيني، والدول العربية؛ من أجل التحضير للمؤتمر الفلسطيني الأول، الذي انبثقت منه منظمة التحرير الفلسطينية ونظامها الأساسي وميثاقها. وانتُخب الشقيري رئيساً لها، ومنذئذٍ، أخذ يجوب بقاع الأرض، من أجل تحرير فلسطين؛ داعياً إلى وحدة الشعب الفلسطيني؛ فضلاً عن دعوته إلى الوحدة العربية، التي رآها طريقاً إلى تحرير فلسطين.

    كان يؤمن بأن قضية فلسطين، هي ملك شعبها، صاحب الكلمة الأولى، والأخيرة، في شأنها؛ وعليه أن يبنى كيانه بعقله، وإرادته، وعزيمته، ولا تبنيه الدول العربية، لا مجتمعة، ولا منفردة؛ وإنما يقتصر دورها على دعم كفاح الفلسطينيين. فهو يؤمن، إذاً، أن الكيان الفلسطيني "فلسطيني عربي"؛ فلسطيني البناء، ولكنه عربي الوسائل والإمكانات؛ فإذا كانت الوسائل هزيلة، كان الكيان هزيلاً وإذا كانت قوية، كان قوياً، وثورياً.

    شرع الشقيري يؤسس الجيش الفلسطيني النظامي، (جيش التحرير)، في قطاع غزة، وبعض البلدان العربية. وتولّى تمثيل فلسطين في مؤتمرات القمة العربية، وفي المؤتمرات الدولية. وكان لا ينظر إلى المنظمة بصفتها عملاً فدائياً فقط؛ بل بادر إلى توجيه سياستها نحو بناء المؤسسات، الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، بهدف تلبية حاجات الشعب الفلسطيني؛ بل جعل منها دولة، توفّر جميع الخدمات للشعب الفلسطيني المشتت؛ وهو ما نصت عليه المادتان الرقمان 11 و28، من ميثاقها القومي.

    وفي عهد أحمد الشقيري، أُسِّس العديد من المؤسسات المدنية، مثل مؤسسة رعاية أُسَر الشهداء والمسجونين، وهي تناظر دائرة الشؤون الاجتماعية، في منظمة التحرير الفلسطينية. وقد تأسست عام 1965، بغرض رعاية عائلات أولئك الذين يستشهدون في مواجهة العدوّ الإسرائيلي.

    لقد اضطلع أحمد الشقيري، منذ ولادة المنظمة، بدور سياسي مهم؛ إذ عمل على إبراز دورها، سياسياً، حيث لم يكن للشعب الفلسطيني دور سياسي منفصل عن الأمة العربية؛ وإنما انحصر دوره في ظل النطاق العربي. لقد بذل الشقيري جهداً ضخماً، من أجل توسيع نطاق الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها ممثلاً شرعياً، ووحيداً، للشعب الفلسطيني؛ والاعتراف بحق هذا الشعب في العودة، وتقرير المصير، وإنشاء دولته المستقلة على أرض وطنه. ولذلك سعى إلى توطيد علاقة المنظمة بدول العالم، ولا سيما الدول الاشتراكية، وفي طليعتها الاتحاد السوفيتي، والصين الشعبية، التي سمحت بتدريب جيش التحرير الفلسطيني على أراضيها؛ وزارها وفد من منظمة التحرير الفلسطينية، عام 1965.

    إن علاقات المنظمة، خلال تلك الفترة، بدول العالم الثالث، والكتلة الاشتراكية، والتنظيمات الثورية في العالم ـ أسهمت في دعم منظمة التحرير الفلسطينية، عسكرياً ومالياً وسياسياً؛ إذ أصبحت القضية الفلسطينية، تحتل مكانة مرموقة، على الصعيد الدولي؛ واطّرد اكتسابها مزيداً من الأصدقاء والمؤيدين. فانطلقت تدافع عن قضيتها، سياسياً وعسكرياً؛ مبرزة الدور، السياسي والعسكري، لشعب فلسطين. ولم يكفّ الشقيري عن التنقل بين الدول العربية، من أجـل كسب الدعم والتأييد، وتحقيق مكاسب، سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية.

    قبل تكوين المنظمة، كانت هناك تطلعات إلى إعادة صياغة الهوية الفلسطينية الوطنية، في إطار نضالي، يتيح للشعب الفلسطيني الاضطلاع بدوره، السياسي والعسكري، في تحرير وطنه. وقد تجسدت في تكوين تنظيمات، كان لبعضها طابع فلسطيني محض، مثل حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وانبثق بعضها الآخر من إطار قومي عربي، مثل حركة القوميين العرب، وحزب البعث الاشتراكي. ولكن هذه التنظيمات لم تستطع تجسيد الهوية الفلسطينية، وإنشاء كيان، مثل منظمة التحرير الفلسطينية، يمثل الشعب الفلسطيني، في المحافل كافة، العربية والإسلامية والعالمية.

    منذ تكوين المنظمة، لم يحدث بينها وبين التنظيمات لقاء حقيقي، يجمعهما تحت راية المنظمة. ولذا، تفجر الصراع بينهما، وتمثّل في الانتقاد الشديد للمنظمة ورئيسها، الذي تفاقمت أمامه الصعاب؛ إضافة إلى تحديات الأنظمة العربية، وخاصة الأردن؛ فأصبح عاجزاً عن توسيع مظلة المنظمة، لتستوعب، في أطرها وأنشطتها، كلّ الشعب الفلسطيني وأدواره النضالية، من خلال التنظيمات. ففي يناير 1967، اعتقلت السلطات الأردنية عدداً من المسؤولين في المنظمة، متذرعة بالانفجارات، التي وقعت في القدس، وتسببت بإغلاق المكتب الأردني فيها؛ ما أثار غضب أحمد الشقيري، وجعله يوجه الانتقـاد إلى الملك حسين.

    أثار بعض القرارات، التي أصدرها أحمد الشقيري، في مطلع فبراير 1967، والمضادة لجيش التحرير؛ ونقل شفيق الحوت، مدير مكتب المنظمة في بيروت، إلى الهند، سخط ذلك الجيش، وبخاصة كبار الضباط؛ ومعارضة الحوت، واستنكار بعض قادة المنظمة لنقله، واعتراضهم على تصرفات رئيس المنظمة.

    في الوقت نفسه، حدث خلاف، بين رئيس المنظمة ومندوب الحكومة الأردنية، في اجتماعات الدورة العادية السابعة والأربعين، لمجلس جامعة الدول العربية، التي عقدت في القاهرة، من 14 إلى18 مارس 1967؛ وذلك في أعقاب اتهام الشقيري، للحكومتَين: الأردنية والسعودية، بالخروج عن مقررات الجامعة العربية، ومطالبته بطرد الأردن منها. وقد انتهى الخلاف إلى انسحاب المندوب الأردني من الاجتماعات. أمّا الحكومة السعودية، فأعلنت، في مذكرة، رفعتها إلى الأمانـة العامة للجامعة، في 16 مـارس 1967، عدم قدرة رئيس المنظمة على تمثيل الكيان الفلسطيني.

    لقد تأزم الموقف، حينما طلب الشقيري، طرد الأردن من الجامعة العربية؛ وهو مطلب ليس من السهل تحقيقه. بل هو مأخذ عليه؛ إذ لم يستطع أن يدرك أن الجامعة، لم تكن قد قررت، حينذاك، الاعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً، ووحيداً، للشعب الفلسطيني؛ وأن صلاحياتها تساوي صلاحيات بقية الدول العربية، الأعضاء في الجامعة.

    وخلاف الشقيري مع كلٍّ من الأردن والمملكة العربية السعودية، وبعض أعضاء قادة المنظمة، استمر حتى عشية حرب 5 يونيه 1967. وبعد هزيمة الجيوش العربية، فقدت المنظمة والتنظيمات الفلسطينية ثقتها بها؛ وانبثقت الإرادة الفلسطينية، معتمدة على العمل الفدائي. وأصبح على الشعب الفلسطيني، أن يتولى زمام المبادرة بنفسه، في شؤون قضيته، العسكرية والسياسية. وقد شجع ذلك التنظيمات على أن تبرز في الساحة الفلسطينية، وخاصة في المناطق المحتلة، وأن تقف في وجه أحمد الشقيري، وتكتسب التأييد الجماهيري الفلسطيني، المناهض للمنظمة وبعض الأنظمة العربية؛ ما جعل الشقيري في وضع الحائر، بين موقعه من المنظمة، التي لم يشتد ساعدها، وبين الأنظمة العربية والتنظيمات الفلسطينية.

    وجد الشعب الفلسطيني نفسه في الأرض المحتلة، بعد حرب يونيه 1967، أنه قد وقع تحت ظلم الاحتلال، مضطراً إلى المواجهة، بمعزل عن الدعم العربي. وأدت هذه المواجهة اتساع نطاق التفاعل ما بين الجماهير الفلسطينية والتنظيمات الفدائية؛ ما أضعف من موقف أحمد الشقيري.

    ويمكن القول إن العمل الفدائي الفلسطيني، قد أصبح بعد يونيه 1967، بلا منازع، ممثلاً للإرادة الوطنية النضالية للشعب الفلسطيني. كذلك، تقلصت قوة تأثير الأنظمة العربية في الشعـب الفلسطيني، وبدأ بعض التنظيمات، مثل فتح، تظهر بشكل واضح على مسرح الأحداث.

    في ظل هذه الظروف، لم يستطع أحمد الشقيري، أن يكون في مستوى العمل على تحقيق متطلبات الشعب الفلسطيني. ولا هو تمكن من نقل المنظمة إلى دورها الطبيعي، المطلوب منها في هذه الفترة، وهو أن تعبِّر عن إرادة الشعب الفلسطيني، قولاً وعملاً. وكان الرجل متسرعاً في أمور كثيرة، ولا يراعى الكثير من المتغيرات، العربية والدولية بصفة عامة، والمتغيّرات الفلسطينية بصفة خاصة. فقد ترك، مثلاً، مؤتمر القمة العربي، المنعقد في الخرطوم، في 27 أغسطس 1967، وانسحب، ولم يوقع قرارات المؤتمر؛ لأنه لم يستجب طلباته، المتمثلة في عدم انفراد أيّ بلد عربي بقبول أيّ حل للقضية الفلسطينية. وكان المفترض أن يراعى موقف وملوك الدول العربية رؤسائها، وما يتعرضون له من ضغوط عالمية.

    كذلك، عارض، بل رفض قرار مجلس الأمن، الرقم 242، الصادر في 22 نوفمبر 1967، والذي ينص على إقرار مبادئ السلام العادل، والدائم، في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن هذا القرار، لا يعطى الشعب الفلسطيني كلَّ حقوقه؛ فقد كان على الشقيري، أن يتفاهم مع الملوك والرؤساء العرب، على هذا القرار، قبل الرفض جملة وتفصيلاً.

    وفي نهاية عام 1967، تعرضت المنظمة، من جديد، لبعض التطورات الداخلية. وتفاقمت متاعب أحمد الشقيري. وازداد نشاط تنظيمات الشعب الفلسطيني، بل كُوِّنت تنظيمات جديدة، تساير الظروف الطارئة، وكان لا بدّ أن تهبّ رياح التغيير، بعد الخلاف بين المنظمة و"حركة فتح"، التي وجّهت مذكرة إلى مؤتمر وزراء الخارجية العرب، أعربت فيها عن قلقها الشديد، إزاء التصريحات المضلِّلة، التي يطلقها الشقيري؛ موضحاً للرأي العام، العربي والعالمي، أن المنظمة تضطلع بواجبها الوطني، في الأرض المحتلة؛ بينما كلّ العمليات العسكرية، في الأرض المحتلة، تضطلع بها "حركة فتح"، والتنظيمات الفلسطينية الأخرى. وطالبت الحركة، بسد أبواب أجهزة الإعلام العربية في وجهه؛ حتى لا يتخذ منها وسيلة لخدمة أغراضه الشخصية، في تضليل الجماهير.

    وفي هذه الفترة، رفع سبعة من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة، في 14 ديسمبر 1967، مذكرة إلى رئيس المنظمة؛ مطالبينه بالتنحي عن الرئاسة، بسبب أساليبه، التي لا تحترم مصلحة الشعب الفلسطيني. وأيدتهم مجلة "الحرية" اللبنانية، الناطقة بلسان "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وذلك في عددها الصادر في 18 ديسمبر 1967. ووجّه "الاتحاد العام لطلبة فلسطين" برقية إلى عبدالخالق حسونة، الأمين العام لجامعة الدول العربية، في 19 ديسمبر، مؤيداً تنحية الشقيري.

    ويمكن القول إنه في هذه الفترة، تقاربت في وجهات النظر بين كافة الفصائل الفلسطينية، بهدف تنحية الشقيري، الذي غضب، وأقدم على فصل السبعة، المطالبين بتنحيته؛ فأصبح عدد أعضاء اللجنة التنفيذية سبعة أعضاء، بدلاً من أربعة عشر عضواً.

    إزاء الضغوط على الشقيري، بادر إلى دعوة اللجنة التنفيذية، بكامل أعضائهـا، إلى جلسة، عقدت برئاسته، في مقر المنظمة، في القاهرة، بتاريخ 24 ديسمبر 1967؛ وأعلن فيها بإيجاز شديد، وبحضور ممثلي وسائل الإعلام المختلفة، تنحِّيه عن رئاسة المنظمة.

    وبعث الشقيري بكتاب استقالته إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي سلمته إياه المنظمة، كذلك، مع كتاب آخر باعتماد يحيى حمودة، ممثلاً لفلسطين لدى الجامعة.

    كذلك، وجهت المنظمة رسالة إلى مجلس الجامعة العربية في خصوص الاستقالة، جاء فيها: "إن منظمة التحرير الفلسطينية، تعتبر أن استقالة رئيسها السابق أمر داخلي. وهو لا يؤثر في تمثيل المنظمة للشعب العربي الفلسطيني، ولا في قرارات مجلس جامعة الدول العربية؛ ومنها ما أقره المجلس، على مستوى الملوك والرؤساء".

    قبلت اللجنة التنفيذية تنحّي الشقيري. وأعربت، في رسالتها إليه، في اليوم نفسه، عن تقديرها وشكرها العميقَين، للجهود التي بذلها منذ قيام المنظمة. كما اتخذت قراراً، بموافقة جميع أعضائها، يعهد إلى يحيى حمودة، أحد أعضائها، رئاسة المنظمة، بالوكالة؛ وتمثيل فلسطين لدى الجامعة العربية، إلى حين انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني.

    وفي اليوم التالي أصدرت اللجنة التنفيذية بياناً، تعهدت فيه تشكيل مجلس، تتمثل فيه إرادة الشعب الفلسطيني، وتنبثق منه قيادة جماعية مسؤولة، تسعى إلى توحيد النضال المسلح وإسعاره، وتحقيق الوحدة الوطنية، وتعبئة الجهود القومية، وتطوير أجهزة المنظمة.

    وافقت الوفود العربية، المشاركة في دورة انعقاد مجلس جامعة الدول العربية، العادية، الثامنة والأربعين، يوم الاثنين، 8 فبراير 1968، على تنحّي أحمد الشقيري، واختيار يحيى حمودة خلفاً له، بالوكالة، ومفوضاً إليه ممارسة كافة اختصاصاته.

    بعد الشقيري، بدأت مرحلة من مراحل تطور منظمة التحرير، بضمها المنظمات الفدائية، التي قادت العمل الفلسطيني المسلح، في السنوات التالية. وكان عام 1968، مرحلة انتقال المنظمة من العمل السياسي إلى العمل العسكري، وهو العام الذي شهد، كذلك، محاولة المنظمات الفدائية تطوير المنظمة، وجعلها "منظمة ثورية" عسكرية، تعمل من أجل توحيد جميع فصائل المقاومة، في تنظيم واحد، لحرب تحرير شعبية طويلة الأمد.

    لقد كان الشقيري من المؤمنين بفكرة الوحدة العربية الشاملة. ونجح، إلى حد كبير، في جعل هذا الشعار هدفاً قومياً، أجمع عليه كلّ الشعب الفلسطيني؛ إذ دعا، في أواسط أكتوبر 1967، إلى مشروع إقامة "الدولة العربية المتحدة". وكان الرجل مناضلاً فلسطينياً شريفاً، قضى عمره في مواقع السياسة. وظل يناضل من أجل فلسطين، وتوج هذا النضال بترؤسه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير؛ وعلى الرغم من أنها جاءت بقرار عربي، فقد أكد الشخصية الفلسطينية، ولو في إطارها السياسي.

    ولم ينقطع نضال أحمد الشقيري، حتى فارق الحياة، في الأول من مارس 1980. وكان أبو مازن ـ رحمه الله ـ الابن البار بشعبه وأمته، عروبي الانتماء، وقومي الجذور، بقدر ما كان فلسطيني الهوية، إنساني النزعة.

 ثانياً: المنظمة في ظل يحيى حمودة:

    وُلد يحيى حمودة في قرية لفتة. وهو محامٍ وطني، يميل إلى اليسار. ولا يتمتع بصفات الزعامة، ولذلك، قال عندما أسندت إليه مهمة القائم بأعمال رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم رئيس اللجنة: "أنا لا أستطيع أن أستمر في هذه المهمة. ولا بدّ أن يأتي أحد يتولاها". وبالفعل، تولّى أبو عمار رئاسة اللجنة التنفيذية، وقدم يحيى حمودة استقالته، في مطلع فبراير 1969، في بداية انعقاد الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني، في القاهرة. ولكنه انتُخب رئيساً للمجلس الوطني الفلسطيني، بعد أن استقال من رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

    وهو أحد أعضاء اللجنة التنفيذية، التي عيّنها أحمد الشقيري، في الدورة الثالثـة للمجلـس الوطني الفلسطيني، الذي عقـد في مدينـة غـزة من 20 إلى 24 مايو 1966(أُنظر ملحق اللجنة التنفيذية الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية).

    منذ أن تسلم يحيى حمودة، رئاسة اللجنة التنفيذية، بالوكالة، في 24 ديسمبر 1967، أعلن أن منظمة التحرير الفلسطينية، ستبذل قصارى جهدها في توحيد مختلف الحركات الفلسطينية؛ وستعمل على إنشاء مجلس وطني للمنظمة، تتمثل فيه إرادة الشعب، وتنبثق منه قيادة جماعية مسؤولة، تعمل على زيادة النضال المسلح، وتحقيق الوحدة الوطنية، وتعبئة الجهود القومية، وتطوير أجهزة المنظمة، بما تتطلبه المرحلة الراهنة، وخاصة بعد حرب 1967. كما أعلن، أمام الوفود العربية، المشاركة في دورة انعقاد مجلس جامعة الدول العربية، العادية، الثامنة والأربعين، "أن المنظمة أداة للتحرير. وليس من أهدافها محاربة الحكم في الضفة الغربية، أو أيّ جزء من فلسطين. وهي لا تؤمن بوحدة الضفَتين فحسب، وإنما تؤمن بوحدة الوطن العربي كله. كما تؤكد المنظمة تمسّكها بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره" .

    إن الذي دعا يحيى حمودة، وأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، إلى التفكير في الوحدة، هو تعدد المنظمات الفلسطينية. فقد نشط الرجل، منذ مطلع عام 1968، في جهود حثيثة؛ واتصل بالحركات والأحزاب الفلسطينية، من أجل صياغة العلاقات الفلسطينية الداخلية، بما يلائم متطلبات المرحلة؛ وإعادة بناء المنظمة ومؤسساتها، ومحاولة إيجاد تنسيق بينها وبين التنظيمات الفدائية الفلسطينية، من أجل تحقيق الوحدة الوطنية؛ تمهيداً لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الرابع، الذي كان مفترضاً انعقاده، وفقاً للنظام الأساسي للمنظمة، في أواخر مايو وأوائل يونيه 1967؛ لكن حرب يونيه 1967، حالت دون ذلك .

    كان لحرب يونيه أثر كبير في منظمة التحرير الفلسطينية؛ إذ أصبح شعب فلسطين كله تحت الاحتلال الصهيوني. كذلك، فقدت المنظمة رصيدها بين الجماهير الفلسطينية. ومنعت السلطات الإسرائيلية أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، الموجودين في فلسطين المحتلـة، من مغادرة ديارهم لحضور جلسات انعقاده الرابع. وفي الوقت نفسه، استعرت المقاومة الفلسطينية للاحتلال، ونشأت منظمات فلسطينية جديدة، وأصبح العمل الفدائي أملاً لأبناء فلسطين، والأمة العربية، جميعاً.

    وفضلاً عن ذلك، نادى أبناء الشعب الفلسطيني، بضرورة إعادة النظر في بناء أجهزة المنظمة، ولا سيما العسكرية والسياسية؛ لتمكينها من مواجهة متطلبات المرحلة الجديدة. فدعت "حركة فتح" إلى عقد مؤتمر في القاهرة، في مطلع عام 1968، يبحث إمكانية توحيد المنظمات الفدائية، وتحقيق وحدة وطنية، وتدعيم الكفاح المسلح وإسعاره؛ وتشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر وطني، تضم جميع حركات المقاومة، والشخصيات الوطنية المستقلة .

    وقد لبت الدعوة ثماني منظمات. ورفضت منظمة التحرير الفلسطينية الحضور، على أساس أنها هي إطار الوحدة الوطنية. وكذلك، رفضت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" الحضور؛ لأنها كانت تَعُدّ المنظمة هي الإطار، الذي يمكن أن يجمَع التنظيمات، وليس طرفاً من الأطراف الفلسطينية. وعقد المؤتمر، بين 17 و19 يناير 1968، في القاهرة، من دون أن يحقق الأهداف، التي دعت إليها "حركة فتح". وقد استطاعت التنظيمات الثمانية، المُشاركة في المؤتمر، أن تشكل فيما بينها مجلساً عسكرياً، يهتم بتنسيق أنشطتها.

    ودفع الحركة فشل التجربة الأولى للوحدة الوطنية، في ذلك المؤتمر، إلى اعتماد منظمة التحرير الفلسطينية إطاراً ممكناً للوحدة الوطنية .

    وفي اليوم نفسه، الذي عقدت فيه المؤتمر، نشرت جريدة "الأهرام" في عددها الصادر في 17 يناير 1968، حديثاً ليحيى حمودة، قال فيه: "يجب أن تباشر الجماهير دورها القيادي، في مواجهة قوى الإمبريالية والصهيونية، بالسلاح، الذي أثبت التاريخ أنه أمضى الأسلحة". وتابع يقول إن المنظمة ليست طرفاً من أطراف العمل الوطني الفلسطيني، أو إحدى فصائله فحسب؛ ولكنها الممثلة الرسمية، لكل الشعب الفلسطيني، في جميع المجالات، العربية والدولية، وكلّ المؤتمرات والمحافل الرسمية. وإن الخلاف بين المنظمة وبقية التنظيمات الفلسطينية، هو في الأسلوب، ولا خلاف في الهدف.

    في اليوم التالي لانعقاد ذلك المؤتمر، استقبل الملك حسين رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بالوكالة، يحيى حمودة، وفي رفقته عبدالخالق يغمور، وبهجت أبو غربية، عضوَا اللجنة التنفيذية. وجرى البحث بينهما في استئناف المنظمة أنشطتها، في الأردن، بعد التغيرات التي طرأت عليها، وأدت تنحّي أحمد الشقيري .

    في عهد يحيى حمودة، استعرت حركة المقاومة الفلسطينية، وازداد وتأثيرها، وخاصة بعد حرب الكرامة؛ واتحاد بعضها في تنظيمات جديدة، مثل" "منظمة أبطال العودة"، و"منظمة جبهة التحرير الفلسطينية"، و"منظمة شباب الثأر" التي كونت مجتمعة "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". واتفق بعضها الآخر على مناهج مشتركة، ومواقف موحدة، إزاء الملاحظات المتعلقة بالمجلس الوطني الفلسطيني؛ إذ التقت منظمة التحرير و"حركة فتح"، التي اشترطت تعديل الميثاق القومي للمنظمة ونظامها الأساسي؛ مع تأكيد استقلاليتها، وتحرير إرادة جيش التحرير من التبعية للدول العربية.

    والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن تحرير الجيش الفلسطيني من التبعية العربية؟ وهو ضمن الجيوش العربية المضيفة له، ويتدرب على أراضيها! وفي ظل هذه الظروف الصعبة، وبالتحديد في النصف الثاني من عام 1968، أرسلت المنظمة بعض أعضاء اللجنة التنفيذية إلى عمّان، وبعضهم إلى دمشق؛ حيث سيبحثون أفضل السبل إلى تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني الرابع، تمهيداً لتشكيل القيادة الجماعية، وتوحيد النضال.

    عقد المجلس الوطني دورته الرابعة، في القاهرة، بين 10 و17 يوليه 1968. وحضرها مائة عضو. وكانت موزعة كالتالي: 50 مقعداً لمنظمة التحرير الفلسطينية، والصندوق القومي، والتنظيمات الطلابية والعمالية الفلسطينية؛ و38 مقعداً للمكتب الدائم، وهو التجمع، الذي كانت تتزعمه فتح؛ و10 مقاعد لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"؛ ومقعدان للمستقلين. واتخذ المجلس سلسلة قرارات، أهمها: حرية العمل الفدائي، من جميع الأراضي العربية المجاورة لإسرائيل. وتشكيل قيادة عسكرية مشتركة، لقوات المنظمات الفدائية. وتكون منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولة عن توضيح الموقف للمقاتلين. ورفض قرار مجلس الأمن، الرقم 242. وتدعيم جيش التحرير وتطويره وزيادة حجمه، على أن يكون "حر الإرادة والقيادة". والموافقة على مبدأ توحيد الضرائب المالية. والاتفاق على أن تصدر البيانات العسكرية عن جهة واحدة، مع ذكر الجهة التي اضطلعت بالعمل.

    قرر المجلس الوطني تشكيل مكتب لشؤون الأراضي المحتلة، من ذوي الاختصاص في دائرة التنظيم الشعبي والمجلس العسكري؛ ويُمنح الإمكانات، التي تمكنه من خدمة أهداف الثورة الفلسطينية. وتعديل المادة الرقم 14 من النظام الأساسي، لتنص على أن اللجنة التنفيذية، تؤلَّف من أحد عشر عضواً، بمن فيهم رئيس مجلس إدارة الصندوق القومي الفلسطيني. وتعديل المادة الرقم 3 من النظام الأساسي، بما يسمح للمجلس الوطني بانتخاب جميع أعضاء اللجنة التنفيذية، الذين ينتخبون رئيسها؛ وكذلك، أقر المجتمعون انتخاب اللجنة التنفيذية من داخل المجلس الوطني. وتعديل المادة الرقم 22 من النظام الأساسي، بما يسمح بإنشاء جيش من أبناء فلسطين، يعرف بجيش التحرير الفلسطيني؛ تكون له قيادة مستقلة، تعمل تحت إشراف اللجنة التنفيذية، وتنفذ تعليماتها وقراراتها، الخاصة والعامة.

    وقرر المجلس الوطني تغيير اسم الميثاق القومي الفلسطيني، ليصبح الميثاق الوطني الفلسطيني؛ لأن كلمة الوطني، تنصرف إلى الشعب العربي الفلسطيني؛ في حين أن كلمة القومي، تنصرف إلى الأمة العربية؛ والميثاق هو للشعب الفلسطيني، وليس لجميع الأمة العربيـة؛ وإن كانت فلسطين جزءاً من الأمة العربية.

    قرر أعضاء المجلس الوطني، إزالة النص على أن المنظمة، لن تمارس سيادتها على الضفة الغربية، وقطاع غزة ومنطقة الحمة من الميثاق القومي. ونص الميثاق الوطني المعدل، على أن الشعب العربي الفلسطيني، هو صاحب الحق الأول، والأساس، في تحرير وطنه؛ وهو يؤكد أصالة ثورته الوطنية واستقلاليتها؛ ويرفض كلّ أنواع التدخل والوصاية والتبعية. كما ينص على أن منظمة التحرير، الممثلة لقوى الثورة الفلسطينية، مسؤولة عن حركة الشعب العربي الفلسطيني، في نضاله من أجل استرداد وطنه وتحريره، والعودة إليه، وممارسة حق تقرير مصيره، في جميع الميادين، العسكرية والسياسية والمالية، وسائر ما تطلبه قضية فلسطين، على الصعيدَين: العربي والدولي .

    كما أجمع المؤتمر على رفض كلّ الحلول البديلة من تحرير فلسطين تحريراً كاملاً. ورفض كلّ المشروعات الرامية إلى القضاء على القضية الفلسطينية أو تدويلها. وعُدِّلت المادة المتعلقة باليهود الفلسطينيين، وهم "اليهود، الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين، حتى بدء الغزو الصهيوني لها، يعتبرون فلسطينيين".

    حث المجلس الوطني على العمل الفدائي، في المادة الرقم 10 في الميثاق الوطني الفلسطيني المعـدّل. وأكد إسعاره وشموله، وحمايته؛ وتعبئة كافة الطاقات، الجماهيرية والعلمية، الفلسطينية وتنظيمها، وإشراكها في الثورة الفلسطينية المسلحة؛ وتحقيق التلاحم النضالي الوطني، بين مختلف فئات الشعب الفلسطيني، وبينها وبين الجماهير العربية؛ ضماناً لاستمرار الثورة استِعارها وانتصارها.

    ولئن كانت الفترة، التي تسلّم فيها يحيى حمودة، رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، قصيرة جداً؛ فإنها كانت غنية بأحداثها المهمة، وتطوراتها السريعة، التي أسفرت عن تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية تشكيلاً ثورياً، بعد تعديل بعض مواد الميثاق الفلسطيني والنظام الأساسي فيه. ولكن سرعان ما سيطرت التنظيمات الفدائية على المنظمة، وتولت "حركة فتح" رئاستها؛ وانتُخب ياسر عرفات، في الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني، المنعقد في القاهرة، من الأول إلى الرابع من فبراير 1969، رئيساً للجنتها التنفيذية، وقائداً عاماً لقوات الثورة الفلسطينية. فانتهت، بذلك، رئاسة يحيى حمودة للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بعد فترة قصيرة؛ بذل فيـها قصارى جهده، من أجل الوحدة الفلسطينية.

ثالثاً: المنظمة في ظل ياسر عرفات:

    مهما اختُلف في مكان مولد ياسر عرفات، فإنه ولد في مدينـة القدس، في 5 أغسطس 1929، لأب تاجر، اسمه عبدالرؤوف عرفات القدوة. وأمه هي زهوة أبو السعود، من منطقة القدس؛ وتربطها صلة قرابة بمفتي القدس الراحل، الحاج أمين الحسيني. قضى عرفات طفولته، على بعد خطوات من حائط البراق، حيث كان يتابع الانتفاضات الدموية، إبّان الانتداب البريطاني. وعاش وسط عائلة الحسيني، التي تنتمي إليها أمه.

    وياسر عرفات واحد من سبعة أشقاء وشقيقات. انتقل والده إلى القاهرة؛ ولكن لا أحد يعرف أسباب انتقاله، وإن كان هناك من يعتقد، أن الإنجليز نفوه إليها؛ وثمة من يقول إنه رحل لأسباب تجارية. وأيّاً كانت أسباب انتقاله إلى القاهرة، فإنه واصل عمله في تجارة المواد الغذائية، بالجملة؛ وافتتح مصنعاً للأجبان التي كانت تباع في العالم العربي.

    ويصعب القول إن ياسر عرفات، عاش مراهقة، كسائر أقرانه وزملائه. فقد كانت اهتماماته، منذ الطفولة، منصبة على أشياء، تتجاوز سنّه، وتختلف عن تلك التي يهتم بها الشباب، عادة، في سن المراهقة. كان مولعاً بالسياسة، والشؤون العسكرية؛ يشغله احتلال الاستعمار للعالم العربي.

    وشارك في المظاهرات، المعادية للاستعمار الإنجليزي في مصر. وحضر كثيراً من الندوات السياسية، التي كانت تعقد فيها وقتئذ. وانضم، في شبابه، إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، من خلال الانضمام إلى "اتحاد طلاب فلسطين"، عام 1944، الذي ترأسه، بين عامَي 1953 و1968. وشارك في تهريب الأسلحة والذخيرة، من مصر إلى الثوار في فلسطين. وأسهم في حرب 1948، وخاصة حصار مستوطنة كفار داروم، في غزة.

    واسم ياسر، ليس هو اسمه الحقيقي؛ وإنما أطلق عليه، منذ طفولته المبكرة، لسماحة وجْهه، كما تقول شقيقته الكبرى. أمّا اسمه الحقيقي، فهو محمد عبدالرؤوف عرفات القدوة، حسب قول أحد رفاقه في "حركة فتح"، أمّا الموسوعة البريطانية، فتسميه عبدالرحمن رؤوف القدوة. وأبو عمار، هو اسمـه الحركي، الذي أطلقه على نفسـه؛ تيمناً بالصحابي عمار بن ياسر .

    عاش ياسر عرفات متفرغاً للقضية الفلسطينية، عازفاً عن كثير من ملذات الحياة. وعندما سألته أخته: " لماذا لم تتزوج؟"، أجابها: "أتريدين أن أتهم بتعدد الزوجات؟ ألا يكفى امرأتي الأولى، الثورة الفلسطينية‍".

    خلال حرب 1948، كان عرفات إلى جانب عبدالقادر الحسيني[2]، ابن عم المفتي، الحاج أمين الحسيني. وبعد النكبة، انتقل، مع عائلته، إلى غزة، التي كانت تحت الإدارة المصرية؛ ما ساعد على الوصول إلى القاهرة، ومتابعة دروسه في كلية الهندسة، جامعة الملك فؤاد الأول ـ جامعة القاهرة، الآن.

    انضم ياسر عرفات، إلى مجموعة المناضلين المصريين، محارباً معهم الإنجليز في منطقة قناة السويس، بين عامَي 1951 و1952، حيث تعرّف إلى بعض قادة الثورة المصرية؛ ومنهـم كمال الدين حسين، وخالد محيي الدين، ومجدي حسنين، وعدد آخر من أعضاء مجلس قيادة الثورة المصرية؛ وأقنعهم أن يقبلوا أول دفعة من الضباط الفلسطينيين، من أبناء قطاع غزة. في الكلية الحربية المصرية وكان هؤلاء هم دعائم جيش التحرير؛ ومنهم قائد قوات عين جالوت، منصور الشريف؛ ومساعد رئيس الأركان، عبدالرازق المجايدة؛ وفخري شقورة.

    وفي عام 1952، انتخب ياسر عرفات رئيساً لاتحاد الطلاب الفلسطينيين، بأغلبية ساحقة. وظل محتفظاً بهذا المنصب إلى أن أكمل دراسته الجامعية، عام 1956. ويقول البعض: "إن ياسر عرفات، في أوائل الخمسينيات، لم يلتحق بأيّ حزب سياسي؛ ولكنه كان يعلم، على الأقل، ما هو مضرّ بالقضية الفلسطينية". وإذا صح هذا القول، فعرفات كان عنده حب الانتماء، القومي والقطْري، إلى الأمة العربية، والشعب الفلسطيني. وكان على قناعة بأن الأحزاب السياسية القائمة، والأنظمة العربية، الموجودة في تلك الفترة، لا تستطيع عمل شيء للقضية الفلسطينية؛ ما دفعه إلى إنشاء معسكر لتدريب طلاب الهندسة، الراغبين في الاشتراك في الأعمال الفدائية، المتصدية للبريطانيين، في منطقة السويس؛ ثم إنشاء "حركة فتح"، فيما بعد.

    وأثبت عرفات، من خلال قيادته لاتحاد الطلبة، أنه يمتلك جميع مقومات القائد ومواهبه، وقدرته على فرض هيمنته على الآخرين. كما أثبت قدرة فائقة على العمل؛ ونجح، من خلال اتصالاته، أن يصل إلى اللواء محمد نجيب، قائد ثورة يوليه 1952، على رأس وفد من طلبة فلسطين؛ وقدم إليه عريضة مكتوبة بالدم، باسم شهداء فلسطين ومصر، الذين ضحوا بحياتهم من أجل فلسطين. وفي هذا اللقاء، التقى عرفات، للمرة الأولى، عبدالناصر.

    سافر ياسر عرفات، عام 1954، على رأس وفد إلى صوفيا، لحضور مهرجان، رعاه الاتحاد الدولي للطلاب الفلسطينيين في جامعة القاهرة. وفي هذه الفترة، أدرك فشل الحكومات العربية، وضعف الدول العربية وتشتتها؛ وغياب تنظيم، يجسد الشرعيّة الفلسطينية تجسيداً حقيقياً وفعالاً؛ وأهمية الاتصال بمختلف القيادات الفلسطينية، في أماكن وجودها، في غضون الأنشطة الطلابية للشباب الفلسطيني. وتشكلت أول نواة فلسطينية، عام 1954، في غزة، لمحاربة العدوّ الإسرائيلي؛ فيها الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، وكذلك أبو يوسف محمـد النجار، وصلاح خلف (أبو أياد).

    وعندما أكمل ياسر عرفات دراسته الجامعية، وتخرَّج مهندساً مدنياً، فقد قيادته لاتحاد الطلبة، الذي كان غطاء لعمله السياسي. ولكنه سرعان ما وجد غطاء جديداً، إذ أنشأ ما أسماه "جمعية اتحاد الخريجين الفلسطينية"، التي كانت سبيله إلى الاتصال بخريجي فلسطين، في خارج مصر. وقبيل العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، كان ياسر عرفات ضابطاً احتياطياً، أرسل إلى بورسعيد؛ ليشارك، في إطار سلاح المهندسين المصري، في عمليات نزع الألغام.

    لقد حضر خليل الوزير (أبو جهاد) إلى القاهرة، عام 1956، لإكمال تعليمه. وبدأ التحـرك، مع ياسر عرفات، في اتجاه تشكيل حركة فلسطينية مستقلة. ووضعا معاً، في القاهرة، المبادئ الأولية، التي انطلقت منها "حركة فتح".

    عمل ياسر عرفات، بعد تخرُّجه في جامعة القاهرة، مدة سنتَين، في المحلة الكبرى، في مصر. وبعد ذلك، سافر إلى الكويت، للعمل فيها، في أوائل عام 1957. وكان مهندساً، يتمتع بكثير من التقدير والاحتـرام في وزارة الأشغال العامة، في الكويت. وامتلك ثروة هائلة، كان ينفقها على تحركاته، وتحركات رفاقه، التي مهدت لإعلان "حركة فتح".

    والتقى عرفات كلاًّ من خليل الوزير، وفاروق القدومي، وعادل عبدالكريم، ويوسف عميرة، في الكويت، حيث شُكِّلت أول خلية لـ"حركة فتح"، توسعت، فيما بعد، لتكون أول لجنة مركزية على الأرض الكويتية، حيث كان يصرف عليها من شركته الخاصة. والتف حوله عدد قليل، في سِّرية تامة. واجتمع مؤسسو "حركة فتح"، في الكويت، في 10 أكتوبر 1959؛ فكان اجتماعهم، هو النواة الأولى لِما سيصبح، في أقلّ من عشر سنوات، أقوى منظمة تحرير وطني عرفتها فلسطين؛ إذ أمكن إعداد عدة وثائق، والموافقة عليها، في شأن بناء الحركة ونظامها الداخلي، وإستراتيجيتها، ووسائل عملها، وتمويلها.

    حضر ياسر عرفات المؤتمر الفلسطيني الأول، في مدينة القدس، عام 1964، هو وبعض رفاقه من "حركة فتح"؛ على الرغم من اقتناعهم بأن المنظمة، لن تفي بمتطلبات الشعب الفلسطيني؛ بسبب سيطرة بعض الدول العربية عليها. كذلك، زار عرفات بكين، مرتَين، قبل أن يصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية: الأولى عام 1964؛ والثانية عام 1966، وأسفرت عن وعود بالمعونة، تجسدت بعد حرب يونيه 1967 إذ تلقّى العديد من الجماعات الفدائية التدريب العسكري، منذ عام 1968، المعسكرات في الصين.

    كان ياسر عرفات، هو صاحب الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية، ليلة رأس السنة من عام 1965؛ ولم يكن قد تجاوز عمره 35 عاماً. وبعد نجاح العملية، راح بنفسه يوزع البيانات على الجرائد، في بيروت، حيث ظهر، أول مرة، اسم فتح، واسم أبو عمار. ولعل البيان الأول، كان على درجة من الأهمية؛ وقد جاء فيه "بسم الله الرحمن الرحيم. مؤمنين بحق شعبنا في النضال من أجل استعادة وطنه المغتصب؛ وبالثورة العربية، من المحيط إلى الخليج؛ وبدعم قوى التحرر في العالم، قامت وحدات من قواتنا المقاتلة، ليلة 31 ديسمبر 1964، بعمليات ناجحة، أوكلت إليها، داخل الأراضي المحتلـة. وعادت إلى قواعدها سالمة" (أُنظر ملحق البلاغ الرقم (1)) و(ملحق البيان السياسي الأول، الذي أذاعته القيادة العامة لقوات "العاصفة).

    كان أبو عمار يشرف على العمليات الفدائية، ويتقدم الشباب في العمل الفدائي، ويفتح المجال أمامهم، لكي يأخذوا دورهم. وكان يمارس قيادة حازمة في اتخاذ القرار، ويتفقد أُسَر الشهداء في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، في بداية تكوينها. وتعرّض للسجن، فقد أوقفته السلطات البعثية، في سورية، عام 1965؛ لاشتباهها باشتراكه في تخريب خط أنابيب التابلاين؛ ثم أفرجت عنه، بعد بضعة أيام، لعدم وجود أدلة تدينه. كما أودعته السلطات البعثية، في سورية، سجن المزة، مع بعض قادة فتح، الذين كانوا في دمشق، حينها؛ ومنهم خليل الوزير، ووليد أحمد نمر (أبو على أياد)، وممدوح صيدم (أبو صبري). ووجهت إليهم تهم اغتيال اثنَين من أعضاء فتح، في نهاية فبراير 1966، كانا يعملان في مصلحة النظام السوري؛ وهما: يوسف الأعرابي، ومحمد حشمت، وكلاهما فلسطيني، تطوع في صفوف "العاصفة". ولكنها أفرجت عنهم، بعد جدال عنيف، على أثر اتصالات صلاح خلف، وفاروق القومي، ومحمد يوسف النجار، مع وزير الدفاع السوري، في تلك الفترة، حافظ الأسد؛ وبعد أن طرحت عليهم العديد من الأسئلة عن فتح، وأيديولوجيتها وأهدافها، وعن عرفات، بخاصة، الذي كان يعرف، حينها، باسمه القتالي: رؤوف.

    قاد أبو عمار، أثناء حرب يونيه 1967، عمليات تسلل، خلف خطوط العدوّ؛ الهدف منها تعويقه. وحينما تأكدت الهزيمة، صمم ياسر عرفات على مواصلة النضال حتى تحرير فلسطين. وكان أول من دخل إلى الأراضي المحتلة، لتنفيذ أعمال عسكرية، غايتها رفع الروح المعنوية للسكان؛ بينما كان العالم العربي كلّه غارقـاً في الهزيمة.

    كان أبو عمار ينفذ عمليات عسكرية ناجحة، تقلق أجهزة الأمن الإسرائيلي. وبلغ حرصه على سرّية العمل الفدائي، أنه مر أمام البيت، الذي عاش فيه طفولته، في القدس نفسها؛ وكان أخوه واقفاً ببابه، فمرّ صامتاً، حتى إنه لم يلق التحية عليه، حتى لا ينكشف أمره.

    بدأت فتح، بقيادة ياسر عرفات، تبني مواقعها الارتكازية، على طول نهر الأردن، بعد هزيمة عام 1967. وحينما اشتد العمل الفدائي، في مطلع عام 1968، شنت إسرائيل هجوماً على مدينة الكرامة؛ فطلبت السلطات الأردنية من عرفات الانسحاب منها؛ ولكنه رفض ذلك وقال: "نطعـم لحومنا لجنازيـر الدبابات، ولا ننسحب". وخاض معركة من أعظم المعارك الفدائية وأعجبها؛ ومعه عدة مئات من الفدائيين، كبّد فيها إسرائيل خسائر بشرية ومادية، وأجبر قواتها على الانسحاب، بعد أن عجزت عن تحقيق أي تقدم، وأرهقها أسلوب حرب العصابات. وسجلت معركة "إثبات الذات الفلسطينية" أشرف نصر للمقاتل الفلسطيني، الذي طاول سلاحه، أول مرة، الجيش الإسرائيلي، الذي قيل إنه لا يُقهر؛ حتى إن بعض المؤرخين، يرون أن الانطلاقة الفلسطينية، بدأت يوم الكرامة. بعـد هذا النصر العظيم، الذي حققه الفدائي الفلسطيني، بصموده في وجه الأعداء، بقيادة أبو عمار، استمر عرفات في قيادة العمل الفلسطيني، على الجبهات؛ واستمر التأييد يصل إلى الثورة الفلسطينية، وخاصة من جمهورية مصر العربية، ورئيسها جمال عبدالناصر، الذي أعلن، في بداية عام 1968، أنه يؤيد العمل الفدائي، ويمده بكل إمكاناته، المادية والمعنوية

    أعقب ذلك تعيين ياسر عرفات، في 15 أبريل 1968، ناطقاً رسمياً باسم "حركة فتح"؛ واستطراداً، باسم "العاصفة". وهكذا، حمل أبو عمار الأمانة، وبدأ يتحمل متاعب الشعب الفلسطيني، وتجشَّم مسؤولية نجاح الثورة الفلسطينية. وبدأت الاتصالات بين المنظمة و"حركة فتح" من أجل انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الرابع، الذي انعقد في أكتوبر 1968، في القاهرة، حيث اتُّفِق علـى وضع الأسس، اللازمة لإعادة تكوين منظمة التحرير الفلسطينية. كما أرسى ياسر عرفات، الأسس، الفكرية والسياسية والتنظيمية، للمنظمة، بما يتفق وتطورات الأحداث، خلال تلك الفترة؛ إذ مَسَّت الحاجة إلى تعديل الميثاق القومي، والنظام الأساسي، تعديلاً جوهرياً؛ وهو ما طالبت به "حركة فتح"، برئاسة أبو عمار.

    لقد أصبحت الوحدة الوطنية الفلسطينية هدفاً كبيراً؛ ولكن وفقاً لمقولة عرفات: "لا نريد وحدة مكاتب، ولا وحدة مناورات سياسية؛ ولكننا نريدها وحدة حقيقية، تستمد نبضها من ميدان النضال". وأسفر جهده من أجل الوحدة، عن تنسيق قوات "العاصفة" وقوات التحرير الشعبية، عملياتهما في داخل إسرائيل.

    وفي الأول من فبراير 1969، انعقدت الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني، بحضور جميع المنظمات الفدائية، باستثناء "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، و"جيش التحرير الفلسطيني"، اللذَين عارضا سيطرة فتح على معظم مقاعده. وانتهت الدورة إلى انتخاب ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ وبذلك، تكون "حركة فتح"، قد انضمت المنظمة، بل تولت رئاستها؛ فأصبح الناطق الرسمي باسمها رئيساً للجنتها التنفيذية.

    منذ تلك اللحظة، بدأت المنظمة تزداد أهمية، على المستويات: السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، في الساحتَين: العربية والدولية، حيث بدأ نشاطها يزداد، في ضوء خطة العمل، التي أقرها المجلس الوطني الفلسطيني، وخصوصاً توحيد الكفاح المسلح الفلسطيني؛ إذ سعى عرفات إلى حل الخلافات الداخلية بين فصائل المقاومة الفلسطينية، فعقدت اللجنة التنفيذية اجتماعاً، في عمّان، في 16 و17 فبراير 1969، وقررت تشكيل هيئة، باسم "قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني"، بمشاركة تلك الفصائل كافة. كما اتخذت قراراً، يقضي بتطوير "جيش التحرير الفلسطيني"، وزيادة عديده وقدرته، وتطوير أسلحته. كذلك، اتخذت قراراً، يضمن رعاية المرضى، والمصابين، والشهداء، والأسْرى، من ذلك الجيش، ومن قوات التحرير الشعبية، والمدنيين الفلسطينيين، في داخل فلسطين وخارجها. وتلك التطورات والإصلاحات، هي أول الثمار، في ظل رئاسة عرفات لمنظمة التحرير الفلسطينية.

    بعد أن تسلُّم ياسر عرفات رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بادر إلى تدعيم موقف المنظمة، عالمياً؛ فزار الاتحاد السوفيتي، على رأس وفد منها، في فبراير 1970، تلبية لدعوة من اللجنة السوفيتية لتضامن بلدان آسيا وإفريقيا. وفي خلال الزيارة، اجتمع عرفات مع ممثلي الأوساط الاجتماعية السوفيتية، والشخصيات الحزبية والرسمية. وعلى أثرها بدأت عملية تطوير التعاون، بنجاح، بين المنظمات، السوفيتية والفلسطينية، الاجتماعية والثقافية والشبابية والنسائية، والاتحادات.

    وفي السبعينيات، اشتد العمل الفدائي المسلح، في الأراضي المحتلة. وواجهت منظمة التحرير أشد مشاكلها خطراً، وهي مشكلة الخلاف بينها وبين النظام الأردني، الذي أصدرت حكومته بياناً، في 10 فبراير 1970، تضمن 11 نقطة، استهدفت التشدد مع حركـة المقاومـة، والسيطـرة عليها، والحـد من حركتها وفاعليتها.

    لم يتوانَ عرفات في إنقاذ المنظمة؛ ولكن إصرار الأردن على خطته، أرغم الفلسطينيين على الدفاع عن أنفسهم. فكانت مذابح عامَي 1970 و1971، ولا سيما "أيلول الأسود" (سبتمبر) ـ إيذاناً بنهاية الوجود الفلسطيني المتنامي في الأردن. وكانت تلك الضربة من أقسى الضربات، التي تلقتها قوات المقاومة الفلسطينية، منذ تكوينها. غير أن عرفات، استطاع أن يحافظ على كيان منظمة التحرير الفلسطينية، وقوى الثورة الفلسطينية؛ فخرج بقواته من الأردن إلى لبنان.

    كان عرفات يشارك من حوله في صنع القرار واتخاذه. وهو رجل عسكري، وسياسي، واجتماعي؛ عنيد في بعض المواقف؛ ومقاتل شرس. إنه يتمتع بإرادة حديدية، تنقذه من أيّ أزمة، مهما اشتدت؛ وبدأ في مواصلة المسيرة، خلافاً لظن خصومه، أنهم تمكنوا من السيطرة عليه، ودفعه إلى خارج مسرح الأحداث. والدليل على ذلك ثباته، على الرغم من خروجه من الأردن ولبنان.

    كان عرفات يطلِع الزعماء والملوك والرؤساء العرب، على أوضاع الشعب الفلسطيني. فعشية مذابح "أيلول الأسود"، بعث إليهم ببرقية، يطلِعهم فيها على الأوضاع في الأردن؛ وقال لهم: "اللهم، فاشهد أني بلغت".

    لقد استطاع أن يضع منظمة التحرير الفلسطينية، في معظم المحافل الدولية، في مكانة، سياسية ودبلوماسية، ربما لم تحرزها أيّ حركة من حركات التحرير. فالمنظمة عضو مراقب في الأمم المتحدة، ودول عدم الانحياز، والدول الإسلامية، وجامعة الدول العربية، وعضو مراقب في منظمة الوحدة الإفريقية. وقد أنشأت في أكثر من مائة وسبع عشرة دولة، سفارات، وممثليات، ومكاتب؛ إضافة إلى الدعم السياسي، الذي تلقاه من جميـع حركـات التحـرر، والأحـزاب، والهيئـات التقدمية والعمالية.

    لقد استطاع عرفات أن يبنى علاقات سياسية بالدول، العربية والعالمية؛ وكذلك علاقات اقتصادية. ووقّع اتفاقيات اقتصادية، وخاصة مع الدول الاشتراكية؛ والمعروف، دولياً، أن اتفاقيات التعاون، لا توقَّع إلا بين الدول؛ ولذا، كانت المنظمة هي أول حركة تحرير وطني، في التاريخ، توقّعها. فقد أبرمت، مثلاً، اتفاقية اقتصادية، مع ألمانيا الديموقراطية؛ وفي أثناء التوقيع، قال وزير التجارة الألماني: "إننا نعرف مع من نوقِّع هذه الاتفاقية ولماذا؟. نحن نوقِّع اتفاقية مع منظمة التحرير؛ وهي حركة تحرير وطني، ولكننا نوقِّعها، لكي ننقل اعترافنا بكم، من الاعتراف السياسي إلى الاعتراف بحق تقرير المصير على الأرض الفلسطينية نفسها".

    عندما خرج عرفات من الأردن، وأخذ يبنى قواته، من جديد، في لبنان، كان هدفاً للهجمات الإسرائيلية، بدءاً بتلك التي وقعت في الأيام الأربعة الأخيرة من فبراير 1972، وانتهاءً إلى حصار بيروت، عام 1982.

    أمّا حرب 6 أكتوبر 1973، فقد كانت خيراً لمصر، والأمة العربية، والقضية الفلسطينية؛ إذ شرعت، أمام عرفات، أبواباً جديدة سوى باب الحرب؛ منها باب السلام، واعتراف الدول العربية، عام 1974، بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلاً شرعياًن وحيداً، للشعب الفلسطيني. واعتراف الأمم المتحدة بها، في 22 نوفمبر 1974، عضواً مراقباً فيها.

    لقد أعيد انتخاب عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، غير مرة. وحصل على عدة أوسمة وجوائز للسلام. ففي عام 1979، حصل على وسام جوليت نوري الذهبي، من مجلس السلم العالمي. وحصل، عام 1981، على الدكتوراه الفخرية، من الجامعة الإسلامية، في حيدر آباد، في الهند؛ ومن جامعة جوبا، في السودان.

    تكلَّل نضال ياسر عرفات من أجل فلسطين، بعملية السلام، وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية على الأرض الفلسطينية، ومرجعيتها منظمة التحرير الفلسطينية؛ فهو القائل: "عندما نبحث عن السلام، وننادى به، فليس هذا جديداً علينا، كثورة فلسطينية، وكشعب فلسطيني؛ فنحن لا نقاتل من أجل القتال، ولسنا مرتزقة، ولا باحثين عن الحروب. ولكننا حملنا السلاح لمواجهة الظلم، والاضطهاد، والاحتلال، الذي واجه شعبنا، والاعتداء الذي حدث على أرضنا ومقدساتنا. والعالم كله يعلم ذلك، وكان معظمهم شهوداً على المأساة الفلسطينية".

    وطالما تعرّض عرفات لعمليات اغتيال، في مناطق مختلفة. وكان من أشهرها عملية حمام الشط، في تونس، حيث هدمت الطائرات الإسرائيلية، في أكتوبر 1985، مبنى منظمة التحرير؛ ولكنه نجا؛ وإنما استشهد العديد من أبناء فلسطين في هذه العملية.



[1] أسعد الشقيري: هو والد أحمد كان من الأعضاء البارزين في حزب الاتحاد والترقي وكان من الخطباء البارزين في الدولة العثمانية، باللغة العربية واللغة التركية على السواء، وكان مفتى الجيش الرابع، جيش جمال باشا الملقب `بالسفاح` وكان رفيق السفاح وصاحبه، وكانت صلات أسعد واسعة وصلاحياته تتناول سورية كلها ولبنان والحجاز وعسير واليمن، أي آسيا العربية ما عدا العراق وترأس وفد علمي مؤلف من أكثر من ثلاثين عالماً من سورية وفلسطين ولبنان إلى الأستانة في 28 سبتمبر 1915م ومات رحمه الله في فبراير 1940م في عكا.

[2] عبد القادر الحسيني- مناضل فلسطيني وثائر ومجاهد عربي ابن زعيم فلسطيني كبير وهو ابن موسى كاظم باشا الحسيني من مواليد القدس، درس الصحافة والتاريخ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، شارك في ثورة 1936، وجرح في موقعة قرية الخضر، وأسره الإنجليز، واشترك في ثورة العراق عام 1941، وأدرك عمق المأساة الفلسطينية وشعر بألم الوطن، واستلم قيادة الجيش الفلسطيني عام 1947، تحت إشراف الهيئة العربية العليا واستشهد في معركة القسطل بالقدس، وهو يقاتل على رأس رجاله عند أول بيت من بيوت قرية القسطل يوم 8 أبريل عام 1948.