إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / منظمة المؤتمر الإسلامي





علم المنظمة




المبحث السادس

المبحث السادس

فعالية المنظمة في ميدان تسوية المنازعات

أولاً: تسوية المنازعات في وثائق المنظمة

نصت الوثائق الرسمية لمنظمة المؤتمر الإسلامي، على تسوية المنازعات، في مجالين: الأول ميثاق المنظمة، والثاني القرارات الصادرة عن مؤتمر القمة الإسلامي. وقد نص الميثاق في المادة الثانية فقرة (ب)، على مجموعة من المبادئ التي تعمل المنظمة في إطارها. فأشار إلى أن "الدول الأعضاء تقرر وتتعهد بأنها في سبيل تحقيق أهداف الميثاق، تستوحى المبادئ التالية". ونص البند الرابع من هذه المادة، على أن من ضمن مبادئ المنظمة "حل ما قد ينشأ من منازعات فيما بينها بحلول سلمية، كالمفاوضة، أو الوساطة، أو التوفيق، أو التحكم". ومن ثم، فقد أتى ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي على موضوع تسوية المنازعات، ضمن مبادئ المنظمة، كما هو الحال في ميثاق الأمم المتحدة (المادة 2/3)، وميثاق منظمة الوحدة الأفريقية (أ 3/4) وخلافاً لميثاق منظمة الدول الأمريكية، الذي أتى على ذكر التسوية السلمية للمنازعات ضمن الأهداف والمبادئ على السواء.

وأول ما يلاحظ على المبدأ (2/ب/4)، من ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، أنه يمثل الإشارة الوحيدة في الميثاق، إلى موضوع تسوية المنازعات. ومن ثم، فقد جاء الميثاق خلوا من النصوص القانونية المفصّلة، التي توضح الأجهزة العاملة في ميدان تسوية المنازعات. وقد طرأ تحسن ملموس على هذه الحالة، حينما صدر النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية الدولية، وأُلحق بالميثاق بقرار صادر من مؤتمر القمة الإسلامي الخامس، المنعقد سنة 1987. يُضاف إلى ذلك، أن الدول الأعضاء في المنظمة، لم تعقد اتفاقيات لاحقة لتحديد إجراءات التسوية السلمية للمنازعات، على غرار "المعاهدة الأمريكية للتسوية السلمية للمنازعات" المعقودة في إطار منظمة الدول الأمريكية سنة 1948. كذلك، من الواضح من حرفية المادة (2/ب/4)، أن تعهد الدول الأعضاء بتسوية منازعاتها بالطرق السلمية، إنما يسرى فقط على المنازعات، التي تثور بين الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، بدليل الإشارة الصريحة إلى حل ما قد ينشأ من منازعات فيما بينها. وهذا بخلاف ما ورد في المادة الأولى، من اتفاقية الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، المعقودة في إطار جامعة الدول العربية سنة 1950، التي تنص على عزم الدول المتعاقدة، على "فض جميع المنازعات الدولية بالطرق السلمية، سواء في علاقاتها المتبادلة فيما بينها، أو في علاقاتها مع الدول الأخرى. فالالتزام الوارد في المادة (2/ب/4) من ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، لا يسرى إلاّ على المنازعات التي تثور بين الدول الأعضاء. ويضيف بعض الدارسين أن الالتزام الوارد في المادة (2/ب/4)، يقع على الدول الأعضاء كما يقع على المنظمة ذاتها.

ويلاحظ، أيضاً، على المبدأ الرابع، من مبادئ منظمة المؤتمر الإسلامي، أنه قد أتى على الوسائل السلمية، باعتبارها الوسائل "الوحيدة" لتسوية المنازعات بين الدول الأعضاء. ومن ثم، فان هذا المبدأ استبعد الوسائل غير السلمية لتسوية المنازعات، وذلك تمشياً مع مبدأ التسوية السلمية للمنازعات الدولية، الذي استقر في القانون الدولي، منذ اتفاقية التسوية السلمية للمنازعات الدولية سنة 1907، وأصبح إحدى السمات، التي تميز مواثيق التنظيمات الدولية الحكومية. وتأتى أهمية ذلك، من أن الميثاق استبعد الوسائل غير السلمية، على الرغم من أن استعمال هذه الوسائل أمر وارد في المبادئ الأصولية الإسلامية، لتسوية المنازعات بين المسلمين، ومن ثم بين الدول الإسلامية. فقد جاء في القرآن الكريم: ]وَإِنْ طاَئفَتَانِ مِنْ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الّتْي تَبْغِي حَتَّى تَفْيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِين[ w، (الحجرات: الآية 9).

فتدل الآية على أنه، إذا حدث نزاع مسلح بين فئتين مسلمتين، فإنه يتوجب على بقية المسلمين التدخل فوراً في الإصلاح بينهما، فإن رفضت طائفة منهما ولم ترضخ للصلح، ولم تستجب له، وجب على المسلمين جميعاً أن يتجمعوا لقتال هذه الطائفة الباغية. فإن الإسلام يقدم إليه طُرقاً أخرى لتسوية النزاع، وهي اجتماع الأطراف الإسلامية غير المتنازعة، لمقاتلة "الفئة الباغية"، أي الفئة التي ترفض الحلول السلمية، بهدف إجبارها على قبول التسوية السلمية، وليس بهدف هزيمتها أو تدميرها. بعبارة أخرى، فإن القتال ينبغي أن يتوقف بمجرد قبول "الفئة الباغية" اللجوء إلى الطرق السلمية. ومعنى ذلك، أن استعمال "القتال"، أي أسلوب التدخل المسلح من الأطراف الثالثة، أمر وارد في الإسلام، كأداة لإجبار المتنازعين على اللجوء إلى الطرق السلمية. ولكن المبدأ الرابع من مبادئ منظمة المؤتمر الإسلامي، اكتفي بالإشارة إلى الطرق السلمية وحدها. بل زاد على ذلك المبدأ الخامس من المادة (2/ ب) حين أكد، على امتناع الدول الأعضاء من استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها في العلاقات بين الدول الأعضاء.

ويُعد ميدان تسوية المنازعات، من الميادين التي يمكن لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أن تطور بصددها تقاليد سياسية وقانونية، للتعامل بين الدول الأعضاء، تنفق مع المبادئ الإسلامية لتسوية المنازعات بين المسلمين. وهي مبادئ تتميز عن المبادئ القانونية الدولية التقليدية، لتسوية المنازعات الدولية، الواردة في مواثيق التنظيمات الدولية الأخرى. ويزيد من أهمية هذه المسألة أن المنظمة تنص في مقدمة أهدافها، على أنها تسعى لتحقيق التضامن الإسلامي بين الدول الأعضاء.

من ناحية أخرى، نص المبدأ الرابع على مجموعة من الأدوات السلمية، لتسوية المنازعات بين الدول الأعضاء، وهي المفاوضة، والوساطة، والتوفيق، والتحكيم. وهذه الأدوات هي بذاتها الأدوات المنصوص عليها في المادة 3/4، من ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية. بينما أتى ميثاق جامعة الدول العربية على ذكر أداتين فقط لتسوية المنازعات، هما الوساطة والتحكيم. بينما نص ميثاق منظمة الدول الأمريكية، على سبع أدوات سلمية هي: المفاوضات، والمساعي الحميدة، والوساطة، وتقصي الحقائق، والتوفيق، والتسوية القضائية والتحكيم. أي إن ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي تضمن أدوات لتسوية المنازعات تفوق ما هو وارد في ميثاق جامعة الدول العربية، وتعادل ما هو متضمن في ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، وتقل عما هو ثابت في ميثاق منظمة الدول الأمريكية.

ويلاحظ أن ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، ذكرت أدوات التسوية السلمية للمنازعات المشار إليها "على سبيل المثال"، وليس على سبيل الحصر. وذلك حينما أشار إلى "حل ما قد ينشأ من منازعات فيما بينها بطرق سلمية كالمفاوضة...". ومن ثم، فان الميثاق فتح المجال أمام إمكانية اللجوء، إلى طرق سلمية أخرى لتسوية المنازعات، كالمساعي الحميدة، أو الوسائل القضائية. وذلك على غرار ميثاق منظمة التسوية الأمريكية، الذي أورد في المادة (24) وسائل تسوية المنازعات على سبيل المثال، وحددها بأنها المفاوضات، والمساعي الحميدة، والوساطة، وتقصى الحقائق، والتوفيق، والتسوية القضائية، والتحكيم، "والوسائل الأخرى، التي تتفق عليها أطراف النزاع في أي وقت". أما ميثاق جامعة الدول العربية وميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، فقد أوردا وسائل تسوية المنازعات على سبيل الحصر. فقد أشارت المادة الخامسة، من ميثاق الجامعة إلى الوساطة والتحكيم، على سبيل الحصر، وان كان مجلس الجامعة قد توسع في تفسير المادة الخامسة، ولجأ إلى أدوات أخرى لم ينص عليها الميثاق. كذلك، أشارت المادة (3/4) من ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، إلى المفاوضة، والوساطة، والتوفيق، والتحكيم، على سبيل الحصر.

ويرى بعض الدارسين أن ذكر المفاوضة، والوساطة، والتوفيق، والتحكيم، في ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، يتضمن بالضرورة ترتيباً لتلك الأدوات، حسب أولوية اللجوء إليها في تسوية المنازعات. ذلك أن الترتيب المشار إليه، يعني أنه على الدول الأعضاء أن تلجأ أولاً إلى المفاوضات لتسوية منازعاتها، فإذا فشلت المفاوضات، فعليها اللجوء إلى الوساطة. ثم التوفيق، وأخيراً التحكيم. ويبني هؤلاء هذه الحجة، على أساس أن هناك ترتيباً لأدوات تسوية المنازعات في المادة (33/1) من ميثاق الأمم المتحدة، حيث تنص هذه المادة على تسوية المنازعات" قبل كل شئ بالمفاوضات، والتحقيق، والوساطة، والتوفيق، والتحكيم...". ومع وجاهة هذا المنطق، نلاحظ أن المادة (2/ب/4) من ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي لا تشير بشكل صريح إلى ترتيب معين لأولوية اللجوء إلى أدوات التسوية السلمية للمنازعات، كما هو الحال في المادة (33/1) من ميثاق الأمم المتحدة، ثَم فيُمكن اللجوء إلى أي من الأدوات، التي قد تكون مناسبة لتسوية نزاع معين، من دون الالتزام بالبدء بالمفاوضات.

من ناحية أخرى، لم تميز المادة (2/ب/4)، من ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، بين الأشكال المحتملة لاستعمال أدوات التسوية السلمية للمنازعات، طبقاً لطبيعة المنازعات المعروضة أمام المنظمة. ومن ثم، فانه يجوز استعمال كل الأدوات المذكورة في المادة، في تسوية جميع أشكال النازعات بين الدول الأعضاء. وذلك خلافاً لما ورد في "المادة الخامسة من ميثاق جامعة الدول العربية"، فهذه المادة تحدد أنه حينما يتدخل مجلس الجامعة في المنازعات، التي يخشى منها وقوع حرب بين الدول الأعضاء، فان تدخله يكون مقصوراً على استعمال أسلوب الوساطة. ولا يجوز للدول المتنازعة رفض وساطة المجلس، ولكنها ليست ملزمة بقبول الحلول، التي يقدمها مجلس الجامعة لتسوية النزاع. أما في حالة النزاعات الأقل أهمية (أي التي لا تتعلق باستقلال الدول وسيادتها وسلامة أراضيها)، فان مجلس الجامعة يستطيع، أن يستعمل أسلوب التحكيم، بعد موافقة الدول المتنازعة على ذلك.

أمّا على مستوى قرارات مؤتمرات القمة الإسلامية، فقد نص "إعلان مؤتمر القمة الإسلامي الأول" الصادر في الرباط 1969، على أن الدول المشاركة" تعلن التزامها بتسوية المشكلات، التي قد تنشأ فيما بينها بالوسائل السلمية، بما يؤكد مساهمتها في تدعيم السلام والأمن الدوليين، وفقاً لأهداف ومبادئ الأمم المتحدة، ويلاحظ أن الإعلان اقتصر على تعهد الدول المشاركة في المؤتمر، بالتسوية السلمية لمنازعاتها المتبادلة، ووضع هذا التعهد في سياق ميثاق الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي لم يُشِرْ إليه في ميثاق المنظمة فيما بعد. وربما كان ذلك راجعاً، إلى أن منظمة المؤتمر الإسلامي لم تكن قد نشأت بعد. ولذلك، فان "إعلان لاهور" الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامي الثاني، المنعقد في باكستان سنة 1974، نص على "تصميم الدول الأعضاء على حل ما قد ينشأ بينها من خلافات بالوسائل السلمية وبروح الأخوة، والاستعانة، كلما كان ذلك ممكنا، بجهود الوساطة أو المساعي الحميدة من جانب دولة أو أكثر، من الدول الإسلامية الشقيقة، لحل مثل هذه الخلافات". ومن الواضح أن إعلان لاهور، لم يُشِرْ إلى ميثاق الأمم المتحدة، كما فعل إعلان مؤتمر القمة الإسلامي الأول. كذلك، أشار إعلان لاهور إلى، "تصميم الدول الأعضاء على تسوية منازعاتها بالطرق السلمية". وهو نص تقل قوته الإلزامية عن "التعهد" الوارد في ميثاق المنظمة، أو حتى في إعلان مؤتمر القمة الإسلامي الأول، الذي أشار إلى "التزام" الدول الأعضاء بالتسوية السلمية للمنازعات، كذلك، فإن إعلان لاهور لم يشر إلى دور منظمة المؤتمر الإسلامي، في التسوية السلمية للمنازعات بين الدول الأعضاء. وأحال الدول المتنازعة إلى الدول الإسلامية الأخرى، للتوسط لإنهاء المنازعات. كما أن إعلان لاهور ذكر "المساعي الحميدة"، كأداة من أدوات التسوية السلمية للمنازعات، وهو ما لم يُشِرْ إليه في ميثاق المنظمة.

من ناحية ثالثة، دعا القرار الرقم 4/3/س (ق أ)، الصادر عن المؤتمر الثالث للقمة، المنعقدة في المملكة العربية السعودية سنة 1981، الدول الإسلامية إلى اتباع سياسة تقوم على التعاون المتبادل والتعايش، بغض النظر عن اختلاف نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية". كما دعاها إلى "ممارسة الجهد لإزالة أية خلافات فكرية أو مذهبية، يمكن أن تنشأ بينها". وأضاف القرار رقم 4/3/س (ق أ) أنه من الممكن إزالة تلك الخلافات، عن طريق "التأكيد على القيم الأساسية الروحية، والأخلاقية، والاجتماعية، التي توحد بين المسلمين جميعاً، وبالقضاء على الأفكار التي تتعارض مع جوهر الإسلام، وذلك بتشجيع البحوث، والدراسات والندوات، التي تتم من منظور علمي وعملي، وتعالج مختلف المشـاكل التي تـواجهها المجتمعات الإسلامية". من الواضح أن القرار الرقم 4/3 س (ق أ) قد اقتصر على نوع معين من المنازعات، وهي المنازعات الفكرية والمذهبية، وأنه اقترح أسلوب الاتصال الفكري بين الدول الإسلامية، من منظور إسلامي، كأداة لتسوية تلك المنازعات. ومن ثم، فان القرار لم يطور ما جاء في الميثاق، بخصوص تسوية المنازعات.

وقد تناول مؤتمر القمة الإسلامي الرابع، المنعقد في المغرب سنة 1984، مسألة التسوية السلمية للمنازعات. وأصدر في هذا الخصوص "ميثاق الدار البيضاء"، وهو ميثاق يتعلق أساساً بموضوع التسوية السلمية للمنازعات، بين الدول الأعضاء، وقد نص الميثاق على أنه:

"إيثاراً للطرق السلمية والوسائل الإسلامية الصرفة، فيما يتصل بفض ما يمكن أن ينشأ بين دول المسلمين من خلاف أو نزاع، فان ملوك ورؤساء وممثلي الدول والحكومات الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، يعلنون اتفاقهم وإجماعهم على أن يفوضوا للجان مصالحة ووفاق جهورية، مؤلفة من ممثلي دول إسلامية، فض النزاع وتسوية الخلاف"

ويتضح من تحليل الميثاق، أن مؤتمر القمة، قد قسم الدول الإسلامية إلى مناطق إقليمية جغرافية، وانشأ لجاناً إقليمية (جهوية) للمصالحة والوفاق، بحيث تتولى كل لجنة الإشراف على عملية تسوية المنازعات بين الدول الإسلامية الأعضاء، في منطقة إقليمية جغرافية، وبحيث تكون "دائرة اختصاص كل لجنة، مصالحة ووفاق منطقة غير المنطقة، التي ينتمي إليها أعضاء هذه اللجنة.

أما مؤتمر القمة الإسلامي الخامس، المنعقد في الكويت سنة 1987، فقد فضل تفادى العموميات والتركيز على التعامل مع المنازعات المحددة بين الدول الإسلامية. وفي هذا الإطار ركزّ على التسوية السلمية للنزاع بين العراق وإيران، والنزاع بين ليبيا وتشاد.

ثانياً: أجهزة التسوية السلمية للمنازعات، في المنظمة

عندما صدر ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، لم يتضمن نصاً يتعلق بالجهاز المنوط به الإشراف على عملية التسوية السلمية، للمنازعات بين الدول الأعضاء. وإن كان يفهم من سياق اختصاصات مؤتمر وزراء الخارجية، الواردة في الميثاق، أن هذا المؤتمر هو الجهة المختصة بهذه الوظيفة. وقد سارت جهود منظمة المؤتمر الإسلامي، لإنشاء أجهزة للتسوية السلمية للمنازعات، في طريقين. الأول، إنشاء جهاز سياسي للتسوية السلمية للمنازعات، والثاني، إنشاء جهاز قضائي للإشراف على تلك التسوية. وسيعرض البحث لهاتين المحاولتين، على التوالي:

1. محاولات إنشاء جهاز سياسي، للتسوية السلمية للمنازعات

لم تبدأ منظمة المؤتمر الإسلامي في مناقشة، مشروع إنشاء جهاز سياسي للتسوية السلمية، للمنازعات إلاّ في الدورة الثامنة لمؤتمر وزراء الخارجية، المنعقد في طرابلس في مايو سنة 1977. فقد اتخذ المؤتمر القرار 19/8 س "بشأن التضامن الإسلامي"، الذي نصت الفقرة الرابعة منه على "إنشاء جهاز متخصص لمعالجة الخلافات، التي قد تنشأ بين الدول الأعضاء بالوسائل السلمية". وأضاف القرار في فقرته الخامسة، أن على الأمين العام إعداد "دراسة قانونية حول إقامة هذا الجهاز، مستأنساً في ذلك بالأجهزة المماثلة في المنظمات الدولية، مثل بروتوكول لجنة الوساطة والتوفيق والتحكيم الخاصة بمنظمة الوحدة الأفريقية وغيرها. وفي دورته العاشرة، المنعقدة في فاس في مايو 1979، اتخذ المؤتمر القرار الرقم 33/1 س، وذكرّ فيه الدول الأعضاء بالالتزامات الملقاة على عاتقها، بحل "كافة الخلافات والمنازعات، التي يمكن أن تنشأ فيما بينها، بالوسائل السلمية"، وبأنه "لا يوجد جهاز سياسي ملحق لمنظمة المؤتمر الإسلامي يمكنه بحث الأوضاع العاجلة، التي تطرأ في العالم الإسلامي، أو في العلاقات بين الدول الأعضاء فيما بين دورات الانعقاد الوزارية السنوية". وقرر المؤتمر تكليف الأمين العام، إنشاء لجنة من الخبراء، تختص بما يلي:

أ. بحث كافة الجوانب المتعلقة بشروط، إنشاء واختصاصات لجنة إسلامية للتوفيق، تتولى تسوية الخلافات والمنازعات سلمياً، فيما بين الدول الأعضاء.

ب. بحث جدوى تشكيل لجنة وزارية دائمة، ودراسة وظائف هذه اللجنة، وكافة المسائل المتصلة بتشكيلها وعملها.

ج. تقديم الدراسات والتقارير الخاصة بهذه المسائل إلى المؤتمر، الذي يعرض محتواها على المؤتمر الحادي عشر لوزراء الخارجية. كما يعرض عليه معلومات من شأنها أن تمكنه، من اتخاذ القرارات المناسبة.

ويوضح تحليل قرارات المؤتمر الحادي عشر لوزراء الخارجية، المنعقد في إسلام أباد في مايو 1980، أن المؤتمر لم يناقش تقرير لجنة الخبراء، التي قرر إنشاءها في المؤتمر العاشر، واكتفي باتخاذ القرار الرقم 16/11 س "بشأن أمن البلدان الإسلامية وتضامنها"، الذي نص على تعزيز أمن الدول الأعضاء، بمزيد من التعاون والتضامن فيما بين البلدان الإسلامية. كذلك لم يتناول مؤتمر القمة الثالث، المنعقد في المملكة العربية السعودية 1981، موضوع إنشاء الجهاز السياسي للتسوية السلمية للمنازعات، واكتفي في القرار رقم 4/3 س (ق أ) بدعوة الدول الأعضاء إلى إزالة أي خلافات فكرية أو مذهبية يمكن أن تنشأ بينهم، وذلك بالتأكيد على القيم الأساسية الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي توّحد بين المسلمين جميعاً.

وقد سبق "لميثاق الدار البيضاء"، أن نص على إنشاء لجان المصالحة والتوفيق، بين الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي. بيد أن هذه اللجان لم تتكون، ولم تمارس نشاطاً. لذلك، عاود مؤتمر وزراء الخارجية، في دورته السادسة عشرة، المنعقدة في فاس عام 1986، بحث موضوع إنشاء لجان للتوفيق، بين الدول الأعضاء المتنازعة. واكتفي هذه المرة بدفع الدول الأعضاء لبذل الجهود، لوضع الدراسات اللازمة لإنشاء هذه اللجان. بيد أن الموضوع لم يناقش في المؤتمرات التالية لوزراء الخارجية، حتى المؤتمر الثامن عشر المنعقد في الرياض سنة 1989. وفي مؤتمر القمة الخامس المنعقد في الكويت سنة 1987. ويرجع السبب في عدم طرح موضوع إنشاء لجان التوفيق، إلى أن اختصاص هذه اللجان، أدمج جزئياً ضمن أعمال محكمة العدل الإسلامية الدولية، في إطار الوظيفة السياسية التحكيمية للمحكمة.

من ناحية أخرى، استطاعت المنظمة أن تنشئ لجنة مؤقتة، هي "لجنة السلام الإسلامية"، التي أنشئت للتدخل في عملية تسوية النزاع العراقي ـ الإيراني. وقد تشكلت اللجنة في البداية باسم "لجنة المساعي الحميدة"، في 26 سبتمبر 1980، في أعقاب اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية. وقرر مؤتمر القمة الثالث، توسيع عضوية اللجنة لتضم 7 دول أعضاء في المنظمة. وقد عقدت اللجنة 9 دورات انعقاد في جدة، وقدمت مشروعين للتسوية السلمية للنزاع العراقي ـ الإيراني، ولكنها لم توفق في هذا الصدد، وانتهت بتجميد أعمالها اعتباراً من نوفمبر 1986، حين عقدت أخر اجتماع لها.

2. محكمة العدل الإسلامية الدولية

إذا كان ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، لم ينص على إنشاء محكمة عدل للدول الإسلامية، أو على إمكانية إنشاء تلك المحكمة (كما هو الحال في ميثاق جامعة الدول العربية)، فانه لم يستبعد إمكانية إنشائها حينما ذكر "على سبيل المثال"، أدوات التسوية السلمية للمنازعات.

أ. إنشاؤها

أُثير موضوع إنشاء المحكمة بشكل رسمي لأول مرة، في مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، المنعقد في المملكة العربية السعودية في يناير 1981، حينما اقترحت الكويت على المؤتمر إنشاء تلك المحكمة. وقد اتخذ المؤتمر القرار الرقم 11/3 س (ق أ)، والذي نص على إنشاء "محكمة عدل إسلامية" تكون حكماً وقاضياً فيصلاً، فيما ينشأ بين الدول الإسلامية من خلافات. وقرر المؤتمر.

(1) الموافقة على إنشاء محكمة عدل إسلامية.

(2) الدعوة إلى عقد اجتماع لخبراء من الدول الأعضاء، لوضع نظام أساسي لمحكمة العدل الإسلامية.

(3) تكليف الأمين العام للمنظمة، وضع الترتيبات اللازمة لعقد هذا الاجتماع، وتقديم تقرير بنتائجه، إلى مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية، في أقرب فرصة.

وقد تألفت لجنة من الخبراء لدراسة النظام الأساسي للمحكمة. ووافقت اللجنة في يناير 1983 على مشروع النظام الأساسي، باستثناء مادتين. الأولى تتعلق بعلاقة المحكمة بمنظمة المؤتمر الإسلامي. أمّا الثانية فتدور حول طريقة سريان نظام المحكمة. وقد ثار الخلاف حول ما إذا كانت المحكمة ستُعتبر جهازاً من أجهزة المنظمة، أم مؤسسة مستقلة عنها. كذلك، ثار الجدل حول ما إذا كان نظام المحكمة سيُعتبر سارياً حال موافقة مؤتمر القمة عليه، أم أنه يلزم تصديق الدول على النظام، بعد موافقة مؤتمر القمة عليه.

وقد أثير هذا الجدل في مؤتمر القمة الإسلامي الرابع، المنعقد بالدار البيضاء سنة 1984. وقرر المؤتمر تأجيل الموافقة على مشروع النظام، وتشكيل "لجنة من الخبراء القانونيين، تحت رعاية رئيس مؤتمر القمة الإسلامي الرابع، للاجتماع بدعوة من الأمانة العامة، لتولى دراسة مسودة المشروع في ضوء ما دار من نقاش أثناء مؤتمر القمة الرابع". وقد اجتمعت لجنة الخبراء القانونيين في ديسمبر 1985، وناقشت مشروع النظام الأساسي للمحكمة، وأوصت بأن، تكون محكمة العدل الدولية الإسلامية، هي الجهاز الرئيس الرابع في منظمة المؤتمر الإسلامي، وأن يصبح نظام المحكمة ساري المفعول، بعد تصديق ثلثي الدول الأعضاء عليه.

وقد نظر مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية السادس عشر، المنعقد في "فاس" بالمغرب سنة 1986، المشروع النهائي الذي أعدته لجنة الخبراء القانونيين، ولكنه طلب من اللجنة أن تجتمع مرة أخرى، لكي تنظر في الملاحظات الجديدة للدول الأعضاء. وقد عادت اللجنة إلى الانعقاد في سبتمبر 1986، وراجعت المشروع ووافقت عليه في ضوء تلك الملاحظات، ورفعته إلى مؤتمر القمة الإسلامي الخامس، الذي أنعقد بالكويت سنة 1987. وقد وافق المؤتمر على مشروع النظام الأساسي، الذي قدمته اللجنة مع تعديل المادة الثالثة من ميثاق المنظمة بحيث تصبح المحكمة هي الجهاز الرئيس الرابع من أجهزة المنظمة.

وحتى منتصف عام 1989، لم تكن قد صادقت على النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الإسلامية، سوى خمس دول فقط، هي الكويت والمملكة العربية السعودية، وقطر، وليبيا، والأردن، مما دعا المؤتمر الثامن عشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية، إلى حث الدول الأعضاء، التي لم تصادق بعد على النظام الأساسي للمحكمة، والتعديل المتصل بها في ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، على المبادرة إلى ذلك في أقرب وقت ممكن، وإيداع وثائق التصادق لدى الأمين العام.

ب. نظامها

نص النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية في مادته الأولى، على أن تكون المحكمة هي الجهاز القضائي الرئيس لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وعلى "تقوم على أساس الشريعة الإسلامية وتعمل مستقلة وفقاً لأحكام ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، وأحكام هذا النظام". ويلاحظ أن مشروع النظام الأساسي كان ينص على أن المحكمة تقوم على أساس "مبادئ الإسلام ومصادر الشريعة الإسلامية"، ولكن هذا النص جرى تعديله تفادياً للخلاف حول مفهوم الشريعة الإسلامية. وجُعل مقر المحكمة مدينة الكويت، إلاّ أنه يجوز لها عند الضرورة، أن تعقد جلساتها، وتقوم بوظائفها في أية دولة عضو في المنظمة. ذلك أن دولة الكويت ذاتها، قد تكون عضواً في النزاع المعروض أمام المحكمة. ومن ثم، فقد تقرر المحكمة عقد جلساتها خارج الكويت. ويلاحظ، أن النظام الأساسي لم يربط بين عقد جلسات المحكمة خارج الكويت، وبين موافقة أطراف النزاع المعروض أمام المحكمة على ذلك، كما فعل نظام محكمة العدل الدولية.

وتتألف محكمة العدل الإسلامية الدولية من سبعة قضاه، ينتخبون من قبل المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية، لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. ولا يجوز انتخاب أكثر من عضو من رعايا دولة واحدة. فإذا انتُخب عضو يحمل أكثر من جنسية، من بين جنسيات الدول الأعضاء، عُدّ من جنسية الدولة التي يمارس فيها حقوقه المدنية والسياسية، طبقاً للنظام الأساسي للمحكمة.

اشترط النظام الأساسي (المادة 5/هـ)، أن يراعى مؤتمر وزراء الخارجية في انتخاب القضاة، "التوزيع الإقليمي، والتمثيل اللغوي للدول الأعضاء" ولكنه لم يحدد المقصود بالتوزيع الإقليمي، على غرار ميثاق المنظمة، الذي لم يحدد المقصود "بالتوزيع الجغرافي العادل"، في جهاز الأمانة العامة.

تُرشح الدول الأعضاء في المنظمة، قضاة المحكمة. فترشح كل دولة "ثلاثة أشخاص على الأكثر، ويجوز أن يكون أحدهم من رعاياها (المادة 5/ب)"، ومؤدى ذلك أن الدولة الواحدة لا يجوز لها أن ترشح إلاّ مرشحاً واحداً من رعاياها، ويجب أن ينتمي المرشحون الآخرون على قائمة الدولة، إلى جنسية دولة أخرى. ويمكن طبقاً لهذا النص، أن يكون كل مرشحي الدولة ممن ينتمون إلى جنسية دولة أخرى من الدول الأعضاء. ويعد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي قائمة مرتبة حسب الحروف الهجائية، بأسماء جميع المرشحين، يقدمها إلى مؤتمر وزراء الخارجية لانتخاب قضاة المحكمة من بينهم. ويلاحظ أن، النظام الأساسي لم يحدد اللغة التي ترتب على أساس حروفها الهجائية أسماء المرشحين، لأن ترتيب أسمائهم طبقاً للحروف الهجائية للغة العربية، يختلف عن ترتيب أسمائهم طبقاً للحروف الهجائية للغتين الإنجليزية والفرنسية. وتضيف المادة الخامسة من النظام الأساسي، أنه يُعد ناجحاً من نال الأكثرية المطلقة لأصوات جميع الدول الأعضاء في المنظمة. فلا يُكتفي في هذه الحالة بأغلبية الحاضرين في جلسة التصويت. فإذا لم يتم ملء جميع المناصب القضائية بعد أول جلسة تصويت، عُقدت جلسة ثانية، ثم ثالثة عند الاقتضاء، فإن بقي أي منصب شاغراً، تولى مؤتمر وزراء الخارجية في الجلسة الرابعة إجراء القرعة لاختيار العضو المتبقي، من بين المرشحين الذين حصلوا على أغلبية الأصوات.

وقد اشترطت المادة الرابعة من النظام الأساسي للمحكمة، أن يتوافر في المرشح لمنصب القاضي في المحكمة عدة شروط، هي، أن يكون "مسلماً عدلاً من ذوى الصفات الخلقية العالية، ومن رعايا إحدى الدول الأعضاء في المنظمة، على ألاّ يقل عمره عن أربعين عاماً. وأن يكون من فقهاء الشريعة المشهود لهم، وله خبرة في القانون الدولي، ومؤهلاً للتعيين في أرفع مناصب الإفتاء والقضاء في بلاده". ومعنى ذلك أن النظام الأساسي يشترط أربعة شروط، في قاضى المحكمة:

(1) أن يكون مسلماً عدلاً من ذوى الصفات الخلقية العالية. فلا يعين في هذا المنصب غير المسلم من رعايا الدول الإسلامية الأعضاء، مهما كان تضلعه في الشريعة الإسلامية. ويلاحظ أن النظام لم يشترط مذهباً معيناً للمرشح، ولم يتطلب التحقق من مدى ممارسته للشعائر الإسلامية، وإن كان قد اشترط أن يكون معروفاً بسمو خلقه وعدالته. كذلك، لم يشترط النظام أن يكون المرشح لمنصب القاضي قد ولد مسلماً، فيمكن أن يرشح لهذا المنصب من اعتنق الإسلام منذ فترة وجيزة.

(2) أن يكون من رعايا إحدى الدول الأعضاء في المنظمة.

(3) أن لا يقل عمر المرشح عن أربعين عاماً. ويلاحظ أن النظام لم يحدد كيف يتم حساب عمر المرشح، هل طبقاً للتقويم الميلادي أم التقويم الهجرى؟ أم يكتفي بشهادة حكومة دولته؟.

(4) أن يكون من فقهاء الشريعة المشهود لهم، "وله خبرة في القانون الدولي". معنى هذا النص أنه يشترط في عضو المحكمة، أن يكون من فقهاء الشريعة أساساً، ثم يأتي بعد ذلك شرط ثان وهو أن تكون له "خبرة"، في القانون الدولي، أي أنه لا يشترط أن يكون من فقهاء القانون الدولي، وكانت بعض الدول قد طالبت أثناء مناقشة النظام الأساسي، أن يكون أعضاء المحكمة من فقهاء القانون الدولي ممن لهم خبرة بالشريعة الإسلامية، أو أن تتشكل المحكمة من عدد من علماء الشريعة، وعدد آخر من فقهاء القانون الدولي.

(5) أن يكون مؤهلا للتعيين في أرفع مناصب الإفتاء أو القضاء في بلاده، ولم يحدد النظام الأساسي كيفية التحقق من هذه المسألة.

وقد حدد النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية الدولية، في مادته الحادية والعشرين، أن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، هي وحدها صاحبة الحق في التقاضي أمام المحكمة. ولكن المادة تضيف في فقرتها الثانية، أن الدول غير الأعضاء لها الحق أيضاً في اللجوء إلى المحكمة للنظر في المنازعات، التي تكون أطرافاً فيها، وذلك بشرطين، هما: موافقة وزراء الخارجية، وإعلان الدول غير الأعضاء مقدماً قبولها اختصاص المحكمة والتزامها بأحكامها. ويستدل من المادة الحادية والعشرين أن الحكومات وحدها، هي صاحبة الحق في التقاضي أمام المحكمة، وذلك خلافاً لما في محكمة عدل الجماعات الأوروبية، أو المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، إذ يجوز للأفراد التقاضي أمام هاتين المحكمتين، ورفع الدعاوى ضد حكوماتهم، أو حكومات الدول الأعضاء الأخرى.

ج. اختصاصها

يمكن تحديد اختصاصات محكمة العدل الإسلامية الدولية، كما وردت في النظام الأساسي للمحكمة، في ثلاثة اختصاصات رئيسة، هي:

(1) الاختصاص القضائي

ويشمل هذا الاختصاص عدة نواح هي: النظر في المنازعات، التي تتفق الدول الأعضاء المعنية في منظمة المؤتمر الإسلامي على أحالتها إليها، والمنازعات المنصوص على أحالتها إلى المحكمة في أي معاهدة أو اتفاقية نافذة، وتفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وبحث أي موضوع من موضوعات القانون الدولي، وتحقيق الوقائع التي إذا ثبتت كانت خرقاً لالتزام دولي، وتحديد نوع ومدى التعويض المترتب على خرق أي التزام دولي. ويتضح من ذلك إن اختصاص المحكمة هو اختصاص اختيارى، أي أنه لا يجوز أن يعرض عليها من المنازعات أو المسائل، إلاّ ما تتفق الدول المتنازعة على إحالته إليها. إلاّ أنه يجوز للدول الأعضاء في المنظمة، أن تصرّح بقبول الاختصاص الإلزامي للمحكمة للفصل في المنازعات القانونية، التي تنشأ بينها وبين كل دولة تقبل الالتزام ذاته (م26).

وقد حدد النظام الأساسي (المادة 27)، أن الشريعة الإسلامية هي "المصدر الأساسي"، الذي تستند إليه المحكمة. في أحكامها، كما أنها "تسترشد" بمجموعة أخرى من المصادر، هي القانون الأولى، أو الاتفاقيات الدولية، أو العرف الدولي المعمول به، أو المبادئ العامة للقانون الدولي، أو الأحكام الصادرة من المحاكم الدولية، أو مذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول. ومعنى ذلك أن الشريعة الإسلامية، هي المصدر الأساسي للأحكام، وأن المصادر الأخرى لا تعدو كونها مصادر "استرشادية".

ويصدر حكم المحكمة بالأغلبية البسيطة للقضاة، ولا يكون للحكم أي قوة إلزامية، إلاّ في مواجهة أطرافه، والنزاع محل الدعوى فقط (المادة 28). كذلك فأحكام المحكمة نهائية، ولا يجوز الطعن فيها. وإذا نشأ خلاف حول مفهوم الحكم ومدى تفسيره، تتولى المحكمة تفسير الحكم، وفي حالة امتناع أي طرف في النزاع عن تنفيذ الحكم يحال الموضوع إلى مؤتمر وزراء الخارجية (المادة 29).

(2) الوظيفة الإفتائية

يجوز لمحكمة العدل الإسلامية الدولية أن "تفتى في المسائل القانونية غير المتعلقة بنزاع معروض عليها، وذلك بناء على طلب أي هيئة مخولة بذلك، من قبل مؤتمر وزراء الخارجية"، (المادة 42). فطلب الفتوى أو الرأي الاستشاري يتطلب توافر ثلاثة شروط:

(أ) أن تكون المسألة المستفتى فيها، مسألة قانونية.

(ب) ألاّ تتعلق المسألة المستفتى فيها، بنزاع معروض على المحكمة، بيد أن صدور رأي استشاري في نزاع، يمنع المحكمة من النظر في النزاع فيما، بعد بوصفه مسألة تتطلب حكماً لا رأياً.

(ج) حق طلب الفتوى مقصور على المنظمات والهيئات، التي يخولها مؤتمر وزراء الخارجية هذا الحق. وتسترشد المحكمة في إصدار فتاواها، بالمصادر التي تستند إليها في إصدار الأحكام، إضافة إلى ما كان صالحاً للتطبيق من أحكام نظام المحكمة (المادة 45).

(3) الوظيفة السياسية والتحكيمية

يجوز لمحكمة العدل الإسلامية الدولية، أن "تقوم عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة، أو عن طريق المسؤولين في جهازها، بالوساطة والتوفيق والتحكيم في الخلافات، التي قد تنشب بين عضوين أو أكثر من منظمة المؤتمر الإسلامي، إذا أبدت الأطراف رغبتها في ذلك، أو إذا طلب ذلك مؤتمر القمة الإسلامي، أو المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية، بتوافق الآراء (المادة 46). والواقع أن محكمة العدل الإسلامية، تنفرد بهذه الوظيفة السياسية بين محاكم العدل الدولية المعروفة، كمحكمة الجماعات الأوروبية، أو محكمة العدل الدولية في لاهاي. فقد حددت المادة 46 أن على المحكمة أداء ثلاث وظائف، هي الوساطة، والتوفيق، والتحكيم. ولكن المحكمة لا تقوم بهذه الوظائف من خلال جهازها القضائي ذاته، وإنما من خلال إطار إجرائي، يتألف إما من لجنة من الشخصيات المرموقة، لا يشترط فيهم أن يكونوا أعضاء في المحكمة، أو من مجموعة من كبار المسؤولين في جهازها القضائي والإداري. وقد ترك النظام الأساسي للمحكمة، أن تقرر الإطار المناسب للتدخل في الموضوع المحال إليها. وقد اشترطت المادة 46، أن يكون النزاع المحال إليها مثاراً بين الدول الأعضاء، في منظمة المؤتمر الإسلامي. بعبارة أخرى، فانه لا يجوز أن تقوم المحكمة بالوظيفة السياسية التحكيمية في منازعات بين الدول غير الأعضاء أو بين الدول الأعضاء والدول غير الأعضاء، بخلاف الحال بالنسبة للوظيفة القضائية. كذلك وطبقاً للمادة 46 من النظام الأساسي، فإن الجهات المنوط بها طلب تدخل المحكمة لأداء أي من تلك الوظائف هي الأطراف المتنازعة، ومؤتمر القمة الإسلامي، ومؤتمر وزراء الخارجية. فإذا جاء الطلب من مؤتمر القمة الإسلامي أو مؤتمر وزراء الخارجية. فانه يشترط أن يصدر القرار بالإجماع، وهذا يعني اشتراط موافقة الدول الأعضاء. فبما أن المحكمة لا تنظر إلاّ في المنازعات المثارة بين الدول الأعضاء، وبما أن النظام الأساسي يشترط صدور القرار بالإجماع. فان ذلك يعني منطقياً أن الدول المتنازعة تتمتع بحق الاعتراض على طلب مؤتمر القمة أو مؤتمر وزراء الخارجية من المحكمة أن تتدخل سياسياً أو تحكيمياً في النزاع.

د. مستقبل محكمة العدل الإسلامية الدولية

على الرغم من أن مؤتمر القمة الخامس، المنعقد في الكويت سنة 1987، قرر إنشاء محكمة العدل الإسلامية الدولية، إلاّ أن المحكمة لم تُنشأ بعد، مما دعا مؤتمر وزراء الخارجية الثامن عشر، مناشدة الدول الأعضاء المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة. والواقع أن الطريق ما زال طويلاً، أمام تصديق الدول الأعضاء في المنظمة، على قرار إنشاء المحكمة. وممارستها لوظائفها ويأتي تعقيد الأمر، من أن هناك عدداً غير قليل من الدول الأعضاء في المنظمة، لا يطمئن إلى الطبيعة الإسلامية للمحكمة، تحديداً إلى النص الوارد في نظامها الأساسي بأن الشريعة الإسلامية، هي المصدر الرئيس للأحكام. وهذه الدول هي التي تنص دساتيرها، لأسباب مختلفة، على علمانية الدولة، أو تتجاهل دساتيرها الإشارة إلى الإسلام، كمصدر للتشريع.