إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / ومضات من القرآن الكريم / الأفعال المتعدية في القرآن الكريم









الأفعال المتعدية في القرآن الكريم

الأفعال المتعدية في القرآن الكريم

تمادت اللغة العربية في طواعيتها، حتى جعلت الحرف الواحد فيها متعدد المعنى، بل أباحت أن يشاركه غيره من الحروف في تلك المعاني، ليؤدِّيا، على تفاوت، معنى واحداً. وشرعت لتلك المشاركة ضوابط وشروطاً، تلبس الحرف، لكلِّ معنًى، لَبوسه. بيد أن استخدام الحروف، من دون دراية أو فطنة، أفسد على اللغة العربية أساليبها، وأفقدها ومض إيماءاتها؛ فتلابست معانيها، وتراكبت مبانيها. وشاعت استخدامات لغوية، شتّان ما بينها وبين العربية. فأيّ معنًى للقول: تعرّفت على الشيء؟ معناه أني أصبحت قائماً ومشرفاً عليه. ولكن المقصود أمر آخر؛ إذ القائل يعني: عرفت الشيء.

ومثله:

أكدّ الرئيس على استقلال البلاد.

اعتاد الشاعر على ترديد هذه الصور البلاغية.

وكلٌّ من الفعلين (أكّد) و(اعتاد)، يتعدى بنفسه إلى مفعوله، دونما حاجة إلى جارٍّ يوصله إليه.

والتشويه الأمرّ، يتجلى في إنابة حروف الجر بعضها عن بعض في تعدية الأفعال. فأي حكمة، مثلاً، في تعدية الفعل (أعان) بحرف الجرّ (في)، أو الفعل (اختلف) بحرف الجر (على)؟ إذ يقال:

أعانه في ترجمة الكتاب، تمكنه من اللغة.

اختلفوا على أشياء كثيرة.

وهذه التعدية، لا يجيزها أي تضمين؛ والتضمين هو تشريب فعلٍ ما، أو إعطاؤه معنى فعلٍ آخر، يوائمه، ويقتضيه السياق، ولا يأباه الذوق العربي، مثل: ) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (النور: الآية 63). وفي هذه الآية الكريمة، شُرِّب الفعل في (يخالفون) معنى الفعل في (يخرجون)، فعدِّي الفعل (خالف) بما يتعدى به الفعل (خرج).

وكان الأولى بالفعلَين في (أعانه) و(اختلفوا)، أن يتعدى كلٌّ بحرف التعدية الأوقع، الذي استخدم في النص القرآني المُحْكَم: ...  ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (... (المائدة: الآية 2)، ...) وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ...( (النساء: الآية 157).

ولا يحسبنّ أحد، أنها دعوة إلى التقعّر اللغوي، والتشدّد فيه. وإنما هي همسة لإنصاف الأفعال العربية، وإنزال الحروف منازلها؛ إذ إن قدرة الأفعال على الوصول إلى مفاعيلها، ليست واحدة. فمنها ما يصل إلى مفعوله من دون وسيط، وهو الفعل المتعدي بنفسه: ) وتحبون المال حبّاً جمّاً( (الفجر: الآية 20) ) ألقِ عصاك( (النمل: الآية 10)؛ إذ إن الفعل في (تحبون) والفعل (ألقِ)، وصلا إلى مفعوليهما من دون حرف جرّ مساعد. ومنها ما يعجز عن ذلك، إلا بوساطة حرف جرّ، وهو الفعل اللازم، فمثلاً:

سجد الرجل = الفعل (سجد) لا مفعول به له؛ فهو فعل لازم

سجد الرجل لله = بلغ الفعل (سجد) مفعوله بوساطة حرف التعدية اللام، في (لله)؛ فأصبح فعلاً متعدياً بالحرف.

وكذلك حروف التعدية، تختلف قدرتها على إيصال تأثير الفعل إلى مفعوله؛ ولذا، ليس للتعدية بحرف الجرّ الأصلي، أو شبهه، حرف بعينه، لا بدّ منه. وليس لشيء أن يملي ذلك الحرف، عدا المعنى فقط. فالفعل (سعى)، مثلاً، قد يتعدى بحروف شتّى، يحدِّد كلاًّ منها المعنى المقصود، فمثلاً:

سعى في مشيه: سارع، هرول.

سعى لنفسه: عمل من أجلها.

سعى إلى الشيء: قصد إليه، ذهب إليه.

سعى على الناس: تولّى عليهم. وسعى على الضرائب: عمل في جبايتها.

سعى بصديقه: وشى به.

ومثل الفعل (تحفّظ):

تحفّظ درسه: جهد في حفظه، شيئاً فشيئاً.

تحفّظ على كتابه: صانه.

تحفّظ بأناقته: عُنِيَ بها.

تحفّظ عن أو من عدوّه: احترس.

والفعل (وَكَلَ):

وكل إليه المهمة: عهد بها إليه، فوّضها إليه.

وكل بالله: استسلم إليه.

والفعل (التفت):

التفت إلى الشيء: اتجه نحوه بوجهه.

التفت عن الشيء: أعرض عنه= )قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا...( (يونس: الآية 78).

وليس إظهار وجوه التعدية بالحرف، في بعض سور القرآن الكريم، هو قصراً لأفعالها على تلك الحروف، ولا ادعاء أنها لا تتعدى إلا بها. وإنما هو اقتداء بالتعدية المُثْلَى، التي تأنس إليها الأُذُن العربية الرهيفة. إنها التعدية العاصمة، المتّبَعة في كتاب، تنزّه عن العوج.

وتيسيراً لدخول هذا العمل برفق، فإنه لم يُكتفَ باطِّراح الأفعال الناقصة (كان وأخواتها)، وأفعال المقاربة (كاد وأخواتها)؛ بل أُغفِل اسم الفعل، والمصدر الصريح، والمشتق العامل عمل فعله وغير العامل.

وكذلك، التُفِتَ عن نائب الفاعل، بعد تحوُّله من المفعولية إلى النيابة عن الفاعل. ولم يُعتَمَد إلا الأفعال المثبتة في الكتاب الكريم، دون تلك المحذوفة، التي تقدَّر من خلال السياق القرآني، مثل:) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا(... (هود: الآية 50) فالمفعول به في (أخاهم)، هو مفعول لفعل محذوف، تقديره (أرسلنا). وبالفعل المحذوف عينه، يتعلق الجار والمجرور (إلى عاد).

وأغفل، كذلك، كل جار ومجرور، متعلِّقين بغير الفعل المثبت، مثل:) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ(... (إبراهيم: الآية 37) الجار والمجرور (من ذريتي)، يتعلقان بصفة مقدَّرة لمفعول به محذوف، تقديره أسكنت (فئة) أو (قسماً).

ويُلفَت إلى أن الفعل الواحد، لن يذكر غير مرة واحدة، على وروده مرات عدة، وعلى الرغم من اختلاف تصريفه وصيغته (الماضي ـ المضارع ـ الأمر) (المتكلم ـ المخاطب ـ الغائب). ولكنه سيكرر إن تغيّرت تعديته فكان مفعوله مباشراً أو مؤولاً، أو اختلفت تعديته، أو ازدادت، أو تناقصت، مثل:

)يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ( (مريم: الآية 6)

يرثني، جذر الفعل (و ر ث)، التعدية مباشرة.

يرث، جذر الفعل (و ر ث)، التعدية بحرف الجرّ (من).

أما ترتيب الأفعال، فقد استند إلى جذورها. ولتعرّف جذر فعل مّا، لا بدّ من الرجوع به إلى صيغة الماضي الغائب، وحذف المزيدات فيه، ثم فك التضعيف، إن كان أحد حروفه مضافاً، مثل الفعل (تعدّوا)، فإن ماضيه الغائب (عدّ). وحرف الدال فيه مضاعف، وبفك التضعيف يصبح الفعل (عدد)، فجذره، إذاً، هو (ع د د).

وإذا كان في الفعل ألف مدّ، فيجب ردّ هذا الحرف إلى أصله. وإنْ التبس هذا الأصل، فلا بدّ من البحث عنه تحت أصلَيه، الواو أو الياء. ومثاله الفعل (كان) التام، في الآية 116، من سورة هود:) فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ... ((هود: الآية 116)؛ والفعل (استكانوا)، في الآية 146، من سورة آل عمران )... وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا...( إن صيغة الماضي الغائب من هذين الفعلين، هي واحدة (كان)، ولكن جذريهما مختلفان؛ فالأول جذره (ك و ن)، والثاني (ك ي ن).

ومثل البحث عن جذور الأفعال المعتلة العين، الآنفة ـ كذلك يُبحث عن جذور الأفعال المعتلة اللام، أي تلك التي يكون الحرف الأخير، في ماضيها الغائب، حرف علّة، أصله الواو أو الياء، فالفعل واوي أو يائي. وحين يلتبس أمره، فلا بدّ من البحث عنه تحت أصلَيه. من تلك الأفعال ما يحتمل الوجهين معاً، مثل (علا وعَلِيَ) و(غشا وغشي).

علا فلان: تكبّر واستبدّ:

)إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ((القصص: الآية 4).

)إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ((المؤمنون: الآية 91).

عَلِيَ الرجل: شَرُفَ.

علي الجبل: شهق.

غشا الأمرُ الرجلَ: غطاه.

غشوتُ الرجلَ: أتيته.

غشي الأمرُ الرجل: غطاه.

أما غاية هذا العمل، فهي الحفز إلى التمسك بالأفصح، والتمتع بالأصح؛ والدعوة إلى تدبّر كتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ معنى ومبنى؛ إذ إنه الملاذ، شريعة ولغة.