إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / ومضات من القرآن الكريم / حروف الجر الزائدة في القرآن الكريم









زيادة الباء

زيادة الباء

 ذكر ابن يعيش أنها تزاد في ستة مواضع، قال: "وجملة الأمر أن الباء قد زيدت في مواضع مخصوصة، وذلك مع المبتدأ والخبر، ومع الفاعل والمفعول، وفي خبر(ليس)، و(ما) الحجازية". وقيل أيضاً إن الباء تزاد مع التوكيد المعنوي بالنفس والعين، ومع الحال المنفي عاملها؛ فإذن جملة المواضع ثمانية.

الأول: زيادة الباء مع المبتدأ:

تزاد الباء مع المبتدأ إذا كان المبتدأ كلمة (حسب)، نحو قولك: بحسبك حديث، أي حسبُك حديثٌ، بمعنى يكفيك حديث، فـ(حسبك) مبتدأ، و(حديث) خبر، والباء زائدة، قال سيبويه: "قال الخليل رحمه الله: يدلك على أن: لا رجل، في موضع اسم مبتدأ مرفوع قولك: لا رجلِ أفضلُ منك، كأنك قلت: زيدٌ أفضلُ منك، ومثل ذلك: بحسبِك قولُ السوءِ، كأنك قلت: حسبُك قولُ السوءِ". ومما وُجِّه على ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: )بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ( (القلم: 6) . فقيل الباء زائدة، و(أيّكم) مبتدأ، و(المفتون) خبره.

وقد ذهب إلى زيادتها في الآية أبو عبيدة معمر بن المثنى، قال: ""بأيِّكم المفتون" مجازها أيُّكم المفتون، كما قال الأول:

نحن بنو جَعْدة أصحابُ الفلجْ        نضرب بالسيف ونرجو بالفرجْ".

أي نضرب بالسيف ونرجو الفرجَ، فزاد الباء. وعلى زيادة الباء يكون قوله: أيُكم المفتون، كلاماً  مستأنفاً بعد انتهاء الكلام الأول، عند قوله تعالى: )فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ( (القلم: 5)، قال أبو حيان: "قال عثمان المازني تم الكلام في قوله: ويبصرون، ثم استأنف قوله: بأيكم المفتون"، ويكون المقصود من الاستفهام تحديد أحد الفريقين، أي هل المفتون الرسول أو الكفار، وقد فُسِر المفتون بالمجنون، قال الزجاج: "قالوا: المفتون ههنا بمعنى الفتون، المصادر تجيء على المفعول.تقول العرب: ليس لهذا معقول، أي عقل. وليس له معقود رأي، بمعنى عقد رأى. وتقول: دعه إلى ميسور، بمعنى: إلى يسر؛ فالمعنى: فستبصر وييصرون بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. وفيه قول آخر: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ بالفرقة التي أنت فيها، أو فرقة الكفار التي فيها أبو جهل والوليد بن المغيرة المخزومي ومن أشبههم؛ فالمعنى على هذا: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون. أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفر"، وقال مكي: ""قَوْله: "بأيكم الْمفْتُون"، الْبَاء زائدة وَالْمعْنَى: أَيّكُم الْمفْتُون، وَقيل الْبَاء غير زَائِدَة لَكِنَّهَا بِمَعْنى (فِي)، وَقيل الْمفْتُون بِمَعْنى الْفُتُون، وَالتَّقْدِير فِي أَيّكُم الْفُتُون أَي الْجُنُون".

وزيادة الجار مع المبتدأ في الإيجاب نادرة، ولا يزاد معه إلا الباء، قال ابن يعيش: "ولا يعلم مبتدأ دخل عليه حرف جرِّ في الإيجاب غير هذا الحرف". كما أنها لم تثبت إلا مع كلمة (حسب)، والقرآن أشهر من أن يخرج على هذا الوجه النادر. وذهب السمين الحلبي إلى تضعيف هذا الوجه، قال: "الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير: أيُكم المفتون؟ فزيدت كزيادتها في نحو: بحسبك زيدٌ، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى، إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لاتزاد في المبتدأ إلا في(حسبك) فقط".

وقد ذهبت طائفة أخرى من المفسرين والنحاة إلى أن الباء غير مزيدة في الآية، وأن (بأيكم المفتون) متعلق بقوله (فتبصر ويبصرون)؛ إلا أنهم اختلفوا في توجيهها؛ فمنهم من جعلها على أصلها، ومنهم من جعلها بمعنى (في)، ومنهم من جعل الكلام على تقدير مضاف محذوف. قال ابن سيدة: "قال الحسن والضحاك والأخفش: الباء ليست بزائدة، والمفتون بمعنى الفتنة، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً، وقال الأخفش أيضاً: بأيكم فتنُ المفتون، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً، وهنا أبقاه اسم مفعول، وتأويله على حذف مضاف، وقال مجاهد والفراء الباء بمعنى(في) أي في أي فريقٍ منكم النوع المفتون".

وسبب القول بزيادة الباء في(بأيكم)، هو مجيء(المفتون) اسماً مشتقاً، و(أيكم) اسماً جامداً، والجامد لا يقع خبراً عن الاسم المشتق، بل المشتق هو الذي يقع خبراً عن الجامد؛ لأن الأخبار صفات. ولدفع هذا الإشكال ذهب بعض النحاة إلى القول بزيادة الباء، ليكون (أيكم) مبتدأ و(المفتون) خبراً وفاقاً للقاعدة النحوية، خاصة وأن الباء قد زيدت مع المبتدأ في قولهم: بحسبك درهم.

وفي الوجه الثاني تجد من منع زيادتها في(أيكم) ذهب إلى تقدير المعنى، على أحد وجهين، الأول: أبقاء (المفتون) على أصله من الاشتقاق، وجعل الباء بمعنى (في) لتدل على الظرفية المكانية، كقولك: زيدٌ بالبصرة، أي في البصرة، ويكون المعنى: في أي فرقة وطائفة منكم المفتون؟ و(في) لاتزاد قبل المبتدأ، وهذا مذهب جماعة منهم الفراء. قال السمين الحلبي: "وإليه ذهب مجاهد والفراء، وتؤيده قراءة ابن أبي عبلة: "في أيكم المفتون". والثاني: إخراج (المفتون) عن أصله الاشتقاقي، أي عن اسم المفعول، وذلك بتأويله بمصدر، كما تقول: ليس له مفعول، أي ليس له عقل، أو يؤول على تقدير مضاف محذوف كقوله: )وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ( (يوسف آية 82)، أي أهل القرية، وبهذا تبتعد عن الأخبار بالجامد عن المشتق، وهذا الوجه مذهب جماعة منهم الأخفش، قال أبو حيان الأندلسي: "وقال الحسن والضحاك والأخفش: الباء ليست بزائدة، والمفتون بمعنى الفتنة، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً. وقال الأخفش أيضاً: بأيكم فتن المفتون، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأويله على حذف مضاف"، وعلى هذا الوجه يصح تعليق الباء بما قبلها وتكون غير زائدة، وهو أشهر من سابقه لورود نماذج كثيرة مثله في لسان العرب، ليس نموذجاً واحداً كما في الوجه الأول.

والخلاصة أن الأرجح هو القول بأصالة الباء وعدم زيادتها، وقد رجح هذا ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول مَنْ قال: معنى ذلك: بأيكم الجنون، وَوَجَّهَ (المفتون) إلى (الفتون) بمعنى المصدر؛ لأن ذلك أظهر معاني الكلام، إذا لم يُنْوَ إسقاط الباء، وجعلنا لدخولها وجهاً مفهوماً". كما صرح الزجاج [ان زيادتها في المبتدأ غير جائزة، قال: "والباء في (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) لا يجوز أن تكون لغواً. وليس هذا جائزاً في العربية في قول أحد من أهلها".

الثاني: زيادة الباء مع الخبر:

زيادة الباء في الخبر الموجب نادرة، وذكر ابن هشام أنها تتوقف على السماع، واستشهد لها بقول الحماسي في رده على بعض الملوك عندما سأله فرساً:

فلا تطمعْ أبيتَ اللعن فيها ومنعُكها بشيءٍ يُستطاعُ

حيث زاد الباء في خبر المبتدأ (منعُكها)، وهو قوله (بشيءٍ)، والأصل: منعُكها شيءٌ يستطاع، إي منعك الفرس شيءٌ يستطاع أيُّها الملك. وممّا جاء مشابهاً لذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: )وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا( (يونس: 27) . فقد ذهب الأخفش إلى أن الباء زائدة وأن (جزاء) مبتدأ، و(مثلها) خبره زيدت فيه الباء؛ فقال في معرض حديثه عن المعاني الواردة في الآية: "وزيدت الباء كما زيدت في قولك: بحسبك قولُ السوء"، والمعنى على قوله: جزاءُ سيئةٍ مثلُها، ولعله وجهها على آية سورة الشورى: )وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا( (الشورى:40)، حيث جاءت على السياق نفسه، وهي مكونة من مبتدأ وخبر، وقد وافقه الباقولي على توجيهه هذا، فقال: "دخولها على خبر المبتدأ في موضع، في قول أبي الحسن الأخفش، وهو قوله: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، زعم أن المعنى: جزاء سيئة مثلها، وكأنه استدل على ذلك بالآية الأخرى، وهو قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا). ومما يدلك على جواز ذلك أن ما يدخل على المبتدأ، قد يدخل على خبره لام الابتداء، التي دخلت على خبر المبتدأ، في قول بعضهم: إن زيداً وجهُه لحسنٌ. وقد جاء في الشعر:

أمُّ الحُلَيْسِ لَعجوزٌ شَهْرَبَهْ

والذي أجازه أبو الحسن أقوى من هذا في القياس، وذلك أن خبر المبتدأ يشبه الفاعل من حيث لم يكن مستقلاً بالمبتدأ، كما كان الفعل مستقلاً بالفاعل، وقد دخلت على الفاعل فيما تدخله بعد، فكذلك يجوز دخولها على الخبر". وهو يقصد أن لام الابتداء محلها المبتدأ لا الخبر، لكنها ههنا دخلت على الخبر، وهو قولهم: (لحسنٌ)، وقوله: (لعجوز)، والأصل: إن زيداً لوجهه حسنٌ، ولَأمُّ الحليس عجوزٌ، وبناء على ذلك فكما جاز زيادة الباء في المبتدأ في قولهم: بحسبك قولُ السوء، فكذلك يجوز زيادتها في الخبر في: جزاءُ سيئةٍ بمثلها، قياساً على دخول لام الابتداء على المبتدأ وعلى الخبر.

وقد انتقد أبو حيان توجيه الأخفش هذا انتقاداً لاذعاً، بقوله: "وَتَقَادِيرُ أَبِي عَلِيٍّ وَالْأَخْفَشِ فِيهَا  تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ وَسُلُوكٌ بِهِ غَيْرَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ، وَهِيَ تَقَادِيرُ أَعْجَمِيَّةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَلَاغَةِ لَا تُنَاسِبُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، بَلْ لَوْ قُدِّرَتْ فِي شِعْرِ الشَّنْفَرَى مَا نَاسَبَتْ، وَالنُّحَاةُ الصِّرْفُ غَيْرُ الْأُدَبَاءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِدْرَاكِ الْفَصَاحَةِ، وَأَمَّا تَشْبِيهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَسَبُوا، فَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِمُتَعَيَّنٍ فِيهِ، بَلْ وَلَا ظَاهِرٌ، بَلْ قَوْلُهُ: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، هُوَ خَبَرٌ عَنِ النَّهْيِ، أَيْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِهَا وَحُذِفَ (مِنْهُمْ) لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِمُ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ مَنَوَانِ مِنْهُ". وسيتضح قول أبي حيان هذا عند نقاش القول بعدم زيادة الباء.

وقد ذهب نقر من المفسرين والنحاة إلى توجيه الباء على أنها أصلية غير مزيدة؛ وذلك على أقوال: الأول: جعل (جزاءُ) مبتدأ مؤخراً، خبره محذوف تقديره (لهم)، والمعنى: لهم جزاء سيئةٍ بمثلها. وعلى هذا تكون الباء متعلقة بالمصدر(جزاء)، وهذا توجيه الفراء، قال: "رفعت الجزاء بإضمار (لهم)، كأنك قلت: فلهم جزاء السيئة بمثلها، كما قال: )فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ(، و)فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ(، والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام، وعليه فدية؛ وإن شئت رفعت الجزاء بالباء في (جزاءُ سيئةٍ بمثلها)، والأول أعجب إليّ"؛ فهو يرجح أصالة الباء على زيادتها.

الثاني: جعل (جزاءُ) مبتدأ مؤخراً أيضاً؛ لكن خبره مذكور قبله وهو قوله:"الذين كسبوا السيئات"، وهذا على اعتبار أن(الذين كسبوا) معطوف على قوله:  )لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ( (يونس: 26) في الآية السابقة وأن المعنى: للذين أحسنوا الحسنى، وللذين كسبوا السيئات جزاءُ سيئةٍ بمثلها. وهذا أحد توجيهي الزمخشري، قال: "فإن قلت: ما وجه قوله وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وكيف يتلاءم؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يكون (وَالَّذِينَ كَسَبُوا) معطوفاً على قوله (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وإمّا أن يقدّر: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى: جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا أوجه من الأوّل، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه".

الثالث: جعل (جزاء) خبراً لمبتدأ محذوف تقديره (جزاءُ) مضافٍ إلي (الذين)، والتقدير: جزاءُ الذين كسبوا السيئات جزاء سيئةِ بمثلها. وهذا هو التوجيه الثاني للزمخشري، وقد رجحه على الأول؛ لأن في الأول عطفاً على عاملين، وهو غير جائز عند جمهور النحاة.

الرابع: جعل (جزاءُ) مبتدأ خبره محذوف، و(بمثلها) متعلق به، والتقدير: جزاء سيئةِ مستقرٌ أو مقدر بمثلها، وهذه الجملة خبر عن قوله: "والذين كسبوا السيئاتِ"، والرابط محذوف تقديره (منهم) أي: والذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ منهم مقدرٌ بمثلها، كما حذف الرابط في قولهم:السمن منوانِ بدرهم، وهذا توجيه السمين الحلبي، قال: "الباء ليست بزائدة، والتقدير: مقدرٌ بمثلها، أو مستقرٌ بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبره خبرٌ عن الأول".

الخامس: جعل (جزاءُ) مبتدأ خبره محذوف أيضاً؛ لكن (بمثلها) لا يتعلق به، بل يتعلق بـ(جزاء)، والتقدير:جزاءُ سيئةٍ بمثلها واقعٌ، والجملة أيضاً خبر عن المبتدأ "والذين كسبوا السيئات". وهذا توجيه أبي البقاء، قال : "أن تكون الباء متعلقة بـ(جزاء)، والخبر محذوف، أي وجزاء سيئة بمثلها واقع". والعائد من هذه الجملة الواقعة خبر عن (الذين) محذوف، تقديره: جزاء سيئةٍ منهم، كما حُذف في قولهم: السمن منوانِ بدرهم، أي منوان منه بدرهمٍ.

ولعل كثرة وجوه توجيه الباء في هذه الآية على عدم الزيادة، مقارنة بوجوه توجيهها على الزيادة تؤيد مذهب منع زيادتها في الخبر.

الثالث والرابع: زيادة الباء في خبر(ليس) و(ما):

(ليس) من أخوات (كان)، ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، نحو: ليس زيدٌ قائماً، وهي تفيد النفي. كما تعمل (ما) النافية عملها هذا على لغة أهل الحجاز. والفرق بينهما أن (ليس) فعل و(ما) حرف. وتزاد الباء في خبريهما كلتيهما، نحو: ليس زيدٌ بقائمٍ، وما زيدٌ بقائمٍ، وزيادتها في خبريهما أكثر من عدمها. وذهب النحاة إلى أن هذه الزيادة قياسية، قال ابن هشام في معرض حديثه عن زيادة الباء في الخبر: "وهو ضربان غير موجب فينقاس نحو: ليس زيدٌ بقائمٍ  )وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ((البقرة: 74). وموجب قد يتوقف على السماع".

وعلى الرغم من تخريج كل النحاة للباء في خبر(ليس) و(ما)، على أنها زائدة؛ إلا أن الأكثر في القرآن الكريم اقتران الخبر بها، حيث ورد خبر(ليس) مفرداً صريحاً غير مؤول في القرآن الكريم سبعاً وعشرين مرة، منها ثلاث وعشرون مقترناً بالباء، وأربع فقط غير مقترن، وذلك في قوله: )لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ( (آل عمران آية 113)   ، وقوله: )وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا( (النساء: 94) وقوله: )أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ(  (هود: 8)، وقول: )وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا(   (الرعد: 43) .

 وقد ورد خبر(ما) غير متلوءة بـ(كان) خمساً وعشرين مرة، منها ثلاث وعشرون مقترناً بالباء، ومرتان فقط غير مقترن بالباء، وهما قوله تعالى: )وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا( (يوسف: 31)، وقوله: )الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ(  (المجادلة: 2). وقد أشارت الدكتورة عائشة بنت الشاطئ إلى ذلك، غير أنها حددت المواضع التي لم يقترن خبر(ليس) فيها بالباء بثلاثة، ولم تذكر آية آل عمران: )لَيْسُوا سَوَاءً((آل عمران: 113). ومن هذا الاستقراء يتضح أن الأصل في القرآن الكريم هو اقتران خبر(ليس) و(ما) بالباء، وما كان على الأصل لا يحتاج إلى تعليل أو تخريج، وهذا ما ذهبت إلية عائشة بنت الشاطئ؛ فقالت: "وأمام هذه الظاهرة الأسلوبية من غلبه اقتران خبر(ليس) و(ما) بالباء، لا يهون القول بأنها حرف زائد، إذ مقتضى القول بزيادتها إمكان الاستغناء عنها وإخراجها، وهو لا يؤنس إليه البيان القرآني". وقد أنكرت بنت الشاطئ أن تكون الباء زائدة للتأكيد، كما ذهب إلى ذلك النحاة والمفسرون؛ فتقول: "والمفسرون يذهبون كذلك إلى أن هذه الباء زائدة للتأكيد، وفي منهجنا لا تؤخذ الباء هنا بمعزل عن نظائرها، وقد نلحظ في آيات قرآنية أن الباء تقترن بخبر المنفي بـ(ليس) فلا تؤكد النفي، بل تنقضه وترده تقريراً وإلزاماً، كمثل قوله: )أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ(  (الزمر: 36) الباء فيها لم تؤكد النفي، بل تنقضه وتجعله تقريراً وإثباتاً" ، وتوصلت في خلاصة دراستها إلى أن الباء في خبر(ليس) و(ما) أصلية، تفيد التقرير والإثبات ولا يجوز إسقاطها؛ فقالت: "حيثما جاء الخبر منفياً بـ(ما) أو(ليس)، واقترن الخبر بالباء، أفادت تقرير النفي بالجحد أو الإنكار. وتلزم الباء خبر(ليس) و(ما) في هذا السياق في البيان القرآني، ولا تتخلف إلا حين يكون المقام مستغنياً عن تقرير النفي، أو محتملاً لشك في الخبر"، وتضيف: "ولا أدري ما إذا كان من المجدي أن أقول في هذه الباء غير ما قرره النحاة، كي تبقى حرفاً أصلياً غير زائدٍ، وتظل على أصيل معناها في الإلصاق، وتعمل عملها المباشر في الخبر ملصقة به غير معقولٍ بزيادتها، ومنها معاً سيستفاد خبر المنفى بـ(ما) و(ليس) ".

ويتضح مما تقدم أن دخول الباء على خبر(ليس) و(ما) يدل على معنى أصيل، وهو إثبات الجحود وتقريره. وعليه ينبغي أن تناقش أخبار(ليس) و(ما) التي خلت منها؛ لأنها جاءت على غير الكثير المطرد في القرآن. وقد توصلت بنت الشاطي إلى أن هذه الباء لا تتخلف عن خبرهما، إلا إذا تحقق معناها بدليل آخر، أو كان الجحود غير مقصود يدل على ذلك المقام حيث أغنى عنها في خبر(ما) في آيتي سورتي يوسف والمجادلة، اللتين خلتا منهما القصر بالنفي والاستثناء، فهو يدل على الإثبات والتقرير. قالت بنت الشاطئ: "ولعله قد أغنى عنها في آيتي يوسف والمجادلة التقرير المستفاد من القصر بعدهما: (إنْ أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم)، (إنْ هذا إلا ملكٌ كريم)"، ولم ترد الباء في خبر (ليس) في الآيات سابقة الذكر،لأن الجحد غير مقصود فيها، إذ النفي بسيط معتاد غير متأكد صاحبه مما نفاه في آية الرعد: )وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا( (الرعد: 43)، أو أن المقام في حاجة إلى التأكد قبل نفي الخبر كما في آية النساء: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا( (النساء: 94)، أو أن يكون بعد الخبر تعقيبٌ ينقله عن غيب لم يقع، إلى ماضٍ قد تقرر ووقع، كما في آية هود: )وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( (هود: 8)، أو أن يكون الخبر مقارنة بين فئتين متباينتين لا يجحد الفرق بينهما، كما في آية آل عمران، التي تقارن بين فرقين من أهل الكتاب مؤمنين وكافرين:  )لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ( (آل عمران: 113).

الخامس: زيادة الباء مع الفاعل:

ذكر ابن هشام أن زيادة الباء مع الفاعل على ثلاثة أقسام: واجبة وغالبة وضرورة.

1. الواجبة: وتكون في التعجب الذي على صيغة (أَفْعِلْ به) نحو: أكرم بزيد. فقد ذهب جمهور النحاة إلى أن (أكرم) فعل ماضٍ جاء على صيغة الأمر، و (زيد) فاعله، والباء حرف جر زائد. قال ابن هشام: "فالواجبة في نحو: أحسن بزيد، في قول الجمهور إن الأصل: أَحْسَنَ زيدٌ، بمعنى صار ذا حسن، ثم غيرت صيغة الخبر إلى الطلب، وزيدت الباء إصلاحاً للفظ".

والملاحظ أن الباء في هذه الصيغة لا يمكن حذفها مع استقامة المعنى الأصلي للجملة، كما في سائر حروف الجر الزائدة. وسبب القول بزيادتها يرجع إلى أمرين:

الأول: أن التعجب في العادة يكون من شيء قد حصل وشوهد، لا من شيء لم يحصل بعد؛ وذلك لأن التعجب يحدث بعد المشاهدة، ولا يمكن أن يحدث من أمر لم يقع؛ لأن صفته قد تكون مجهولة للمشاهد، والمشاهد لا يمكن أن يتعجب من شيء لا يعرف صفته، ولذلك عُدت صيغة التعجب (أَفْعِلْ)، المبنية على صيغة الأمر فعلاً ماضياً، والفعل الماضي يأتي معه الفاعل مفرداً ظاهراً، وفاعله في هذا الأسلوب هو المخفوض بالباء.

الثاني: الفاعل في القاعدة النحوية المطردة ينبغي أن يكون مرفوعاً مجرداً عما يبطل رفعه، وهذا يتطلب أن تكون الباء في هذا الأسلوب زائدة.

     ولكي يتحقق هذان الأمران في: أحسن بزيد، فلا بد من جعل (أحسن) فعلاً ماضياً، وجعل (زيد) فاعلاً، وجعل الباء حرفاً زائداً، ومن ثم يتحقق معنى التعجب، وتستقيم القاعدة النحوية. ومما يدل على أن صيغة (أفْعِلْ) مقصود بها الماضي للتعجب قول الأخفش: "العرب تقول: يا أمة الله أكرمْ بزيد، فهذا معنى (ما أكرمه)، ولو كان يأمرها أن تفعل لقال: أكرمي زيداً". وذلك لأن فعل الأمر عندما يكون للمؤنثة المخاطبة يكون فاعله دائماً الضمير ياء المؤنثة المخاطبة، وهو في هذه العبارة مجرد عن الياء، فهو إذن ليس أمراً، ولو كان أمراً لقالت العرب: يا أمة الله أكرمي بزيد، ولم تقل بذلك في هذا الأسلوب.  

      ومما جاء على هذه الصيغة في القرآن الكريم قوله تعالى: )أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ( (الكهف: 26)، فـ(أبصر) فعل ماضٍ جاء على صورة الأمر، مبني على السكون، والباء حرف جر زائد، والهاء ضمير متصل مبني مجرور لفظاً مرفوع محلاً على أنه فاعل للفعل (أسمع)، والمعنى ما أسمعه! قال الزجاج: "أجمعت العلماء أن معناه ما أسمعه وأبصره، أي هو عالم بقصة أهل الكهف وغيرهم"، وقال البيضاوي: "الهاء تعود إلى الله، ومحلها الرفع على الفاعلية، والباء مزيدة عند سيبويه، وكان أصله: أَبْصَرَ، أي صار ذا بصر، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء". وقال الرازي: "أكرمْ بزيد أصله أَكْرَمَ زيدٌ، أي صار ذا كرمٍ، كأغدَّ البعيرُ، صار ذا غدَّةٍ، إلا أنه خرج على لفظ الأمر، ومعناه الخبر، كما خرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر كقوله تعالى: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ( (البقرة: 228). وكذا قولهم: رحمه الله، خبرٌ وإن كان معناه الدعاء، والباء زائدة".

وقد وجه بعض النحاة والمفسرين الآية السابقة وآية مريم: )أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا( (مريم:38)، على غير التعجب، وذلك لاستحالة إطلاق التعجب على الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يخفى عليه شيء، والتعجب أمر خفي سببه. قال الرازي: "التعجب هو استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء؛ فما لم يوجد المعنيان لا يحصل التعجب، هذا هو الأصل، ثم قد تستعمل لفظة التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب، أو من غير أن يكون للعظمة سبب حصول، ولهذا أنكر شريح قراءة من قرأ : )بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ((الصافات: 12) ، بضم التاء من (عجبت)، فإنه رأى أن خفاء شيء ما على الله محال". فإذن معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام، وإن كان في حق العباد لابد مع الاستعظام من خفاء السبب؛ ولهذا ذهب بعض من خرّج هاتين الآيتين على أسلوب التعجب، إلى جعل المقصود من التعجب المبالغة والاستعظام فقط. قال الطبري: "أبصر بالله وأسمع، وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع لايخفى عليه من ذلك شيء". وقال الرازي: "قال النخعي: معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام". وقال الزمخشري: "وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين؛ لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر".

وثمة خلاف بين النحاة في صيغة (أفْعِلْ): هل هي أمر حقيقة، أم لفظ يراد به الماضي؟ قال أبو حيان: "هل أبصر وأسمع أمران حقيقة، أم أمران لفظاً معناهما إنشاء التعجب؟ في ذلك خلاف مقرر في النحو"، وبناء على هذا الخلاف ذهب بعض المفسرين والنحاة إلى تخريج (أسمع) و(أبصر) على أنهما أمران حقيقة، وعليه تكون الباء حرفاً أصلياً غير زائد، والفاعل ضميراً مستتراً وجوباً تقديره (أنت)، أي أبصِرْ يا محمد بوحي القرآن الحقَّ. قال القرطبي: "يحتمل أن يكون المعنى: أبصر به، أي بوحيه وإرشاده هداك وحججَكَ والحقَّ من الأمور، وأسمع به العالمَ. فيكونان أمرين لا على وجه التعجب، وقيل أسمعْهم وأبصرْهم ما قال الله فيهم". وقال أبو حيان: "قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى: أبصِرْ بدين الله وأسمع، أي بصِّرْ بهدي الله وسمِّعْ، فترجع الهاء إما على الهدي وإما على الله، ذكره ابن الأنباري. وقرأ عيسى: أسمَعَ به وأبصَرَ على الخبر لا على التعجب، أي أبصر عباده بمعرفته وأسمعهم، والهاء كناية عن الله تعالى". وقد وجه الرازي (أفعل) على الأمر الحقيقي وجعل الباء للإلصاق أو الاستعانة، قال: "قولك: أكرم بزيد، يفيد أن زيداً بلغ في الكرم إلى حيث كأنه في ذاته صار كرماً حتى لو أردت جعل غيره كريماً، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّل لك غرضك، كما أن من قال اكتب بالقلم، فمعناه أن القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك".

وخلاصة هذه المسألة أن الباء تكون زائدة، على توجيه من جعل (أسمع) و(أبصر) أمرين لفظاً ومعناهما التعجب، وتكون أصلية غير زادة على توجيه من جعلهما أمرين لفظاً ومعناً، أي على الحقيقة. وزيادة هذه الباء لا تتمشى مع قاعدة تعريف الحرف الزائد، إذ بحذفها يتغير المعنى تغيراً كلياً. وبسبب ذلك منع الدكتور فضل عباس زيادتها في هذا الأسلوب: "ولو أن الباء زائدة كما قالوا لاختلّ المعنى؛ لأن النظم يصير هكذا: أسمعْهم وأبصرْهم، وهذا غير مقبول؛ لأن الآية تتحدث عن يوم القيامة، "أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا"، وليس هناك جدوى من أن يسمعهم النبي، صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله، وليس المقصود أن ينظر إليهم كذلك، بل ما أسمعهم وأبصرهم في هذا اليوم، فسمعهم شديد وبصرهم حديد".

2. الغالبة: وزيادة الباء الغالبة في فاعل (كفى) نحو قوله تعالى: )وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا( (النساء:166) ، المعنى: كفى الله شهيداً؛ فالباء زائدة، واسم الجلالة مجرور لفظاً بالباء الزائدة، مرفوع محلاً على أنه فاعل للفعل (كفى). ويؤيد زيادتها مجيء فاعل "كفى" مجرداً منها، في قوله تعالى:   )وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ( (الأحزاب: 25)، وفي قول الشاعر:

عُمَيْرة ودِّعْ إن تجهزتَ غادياكفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا

وتكون زيادتها غالبة في فاعل (كفى) في القرآن الكريم، عندما يكون على صورة الماضي؛ حيث وردت مزيدة معه ستاً وعشرين مرة، من أصل ثمانٍ وعشرين؛ فخلت منها آية الأحزاب السابقة، وآية الحجر: )إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ((الحجر:95). وأما عندما يكون "كفى" على صورة المضارع، فالغالب فيه أن يأتي مجرداً منها، حيث ورد في القرآن أربع مرات في سورة البقرة وآل عمران والعنكبوت وفُصِّلت، ولم تزد إلا في آية فصلت:)أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ( (فصلت: 53). كما أن هذا الفعل ورد منه اسماً عاملاً مرة واحدة في القرآن، ولم تزد الباء مع فاعله، وهو قوله تعالى: )أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ( (الزمر:36).

وقد ذهب جمع من النحاة والمفسرين إلى القول بزيادة الباء في فاعل (كفى)، مع اختلاف توجيههم لفائدة هذه الزيادة. قال الزجاج: "الباء في موضع رفع مع الاسم؛ المعنى: كفى الله شهيداً"، ويرى الطبري أن زيادتها تدل على المدح. قال: "قوله: )وَكَفَى بِرَبِّكَ( (الأسراء:17) أدخلت الباء في قوله (بربك)، وهو في محل رفع ؛ لأن معنى الكلام: كفاك ربك وحسبك ربك بذنوب عباده خبيراً، دلالة على المدح، وكذلك تفعل العرب في كل كلام كان بمعنى المدح أو الذم، تدخل في الاسم الباء، والاسم المدخلة عليه الباء في موضع رفع؛ لتدل بدخولها على المدح أو الذم، كقولهم: أكرم به رجلاً، وناهيك به رجلاً، وجاد بثوبك ثوباً، وطاب بطعامك طعاماً، وما أشبه ذلك من الكلام. ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت؛ لأنها في محل رفع"، ثم قال: "فأما إذا لم يكن في الكلام مدح أو ذم، فلا يدخلون في الاسم الباء. لا يجوز أن يقال: قام بأخيك، وأنت تريد قام أخوك، إلا أن تريد قام رجل آخر به، وذلك معنى غير المعنى الأول". وذكر أبو حيان أن زيادة الباء مع الفاعل تؤدي إلى مضاعفة معنى الفعل، قال: "قال ابن عيسى إنما دخلت الباء في (كفى بالله) لأنه كان يتصل اتصال الفاعل، وبدحول الباء اتصل اتصال مضاف واتصال الفاعل، لأن الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها". وذكر أيضاً أن زيادة الباء تحول صيغة الخبر إلى الأمر، قال: "قال ابن عطية: (بالله) في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبين معنى الأمر في صورة الخبر، أي اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك".

وقد ذهب آخرون إلى أن الباء في هذا الأسلوب حرف أصلي غير مزيد؛ لكنهم اختلفوا في تحديد الفاعل. فذهب بعضهم إلى أن الفعل (كفى) مضمن معنى فعل الأمر (اكتفِ)، وأن الفاعل ضمير المخاطب، أو أن الفاعل مضمر يفسره الفعل (كفى)، أي هو مصدره. قال أبو البقاء العكبري: "في فاعل (كفى) وجهان: أحدهما: هو اسم الله، والباء زائدة دخلت لتدل على معنى الأمر، إذ التقدير: اكتفِ بالله. والثاني: أن الفاعل مضمر، والتقدير: كفى الاكتفاء بالله، فبالله على هذا في موضع نصب مفعولاً به"، وقال أبو حيان: "قال الزجاج: دخلت الباء في الفاعل لأن معنى الكلام الأمر، أي اكتف بالله. وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة". وقد امتدح ابن هشام ما ذهب إليه الزجاج في هذا التوجيه، فقال: "قال الزجاج دخلت لتضمن (كفى) معنى (اكتفِ)، وهو من الحسن بمكان، ويصححه قولهم: اتَّقى الله امرؤٌ فعل خيراً يثبْ عليه، أي ليتقِ ولْيفعل، بدليل جزم (يثبْ)، ويوجهه قولهم: كفى بهند، بترك التاء". ومعنى قوله: بترك التاء أن هند لو كانت فاعلاً لجلبت معها تاء التأنيث وقيل: كفت هند، كما تقول: أكلت هند، بإثبات تاء التأنيث في الفعل، وما دام لم تثبت فهذا يدل على أن هند ليست فاعلاً.

 وخلاصة هذه المسألة أن الأكثر في فاعل الفعل الماضي (كفى) في القرآن الكريم، أن يرد مجروراً بالباء إن كانت فيه دلالة على الأمر، أي كان بمعنى (اكتفِ)، وهذه الباء وُجِهت إما على الزيادة مع الفاعل للتأكيد، وإما على الأصالة، ويكون الفعل عندئذ مؤول بالأمر وفاعله ضمير المخاطب. والتوجيه الثاني استكان له كثير من النحاة، كما تقدم، وقد أيده الدكتور فضل عباس بقوله: "هذا التأويل منسجم مع الآيات التي جاءت بهذا النظم، ذلك أن المتدبر لهذه الآيات يجد أنها جاءت حثّاً للمخاطبين أن يكتفوا بالله تبارك وتعالى، فلا يرهبوا أعداء الله. ونكتفي بهذه الآية الكريمة دليلاً على ما قلناه: )أَلَمْ  تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا( (النساء: 44-45) ، ألم تر كيف جاءت الآية هنا في هذا السياق ترشد المسلمين، كي لا يصيبهم الخور من عدوهم ما داموا يكتفون بالله وليّاً ونصيراً". وإذا لم تكن في "كفى" فيه دلالة على الأمر، فلا ترد معه باء الجر، ويكون فاعله ظاهراً. قال ابن هشام: "ولا تزاد الباء في فاعل (كفى) التي بمعنى: أجزأ وأغنى، ولا التي بمعنى: وقى، والأولى متعدية لواحد كقوله:

قليلٌ منك يكفيني ولكنْ  قليلك لا يقال له قليلُ

والثانية متعدية لاثنين كقوله تعالى: )وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ  فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( (الأحزاب: 25)، )فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( (البقرة:137).

3. الضرورة: وهي ما لم تكن من الموضعين السابقين، كقول الشاعر:

ألم يأتيك والأنباء تنمى بما لاقت لبون بني زياد

المعنى: ألم يأتيك ما لاقت لبون بني زياد، حيث زاد الباء مع الفاعل (ما) الموصول. وهذا النوع لم يرد في القرآن الكريم؛ وذلك لأن القرآن خالٍ من الضرورة.

السادس: زيادة الباء مع المفعول به:

تزاد الباء مع المفعول به كثيراً، وزيادتها معه غير مقيسة. قال المرادي : "زيادتها معه غير مقيسة مع كثرتها"، وذلك نحو قولك: زوجتك بفلانة؛ فالباء زائدة، وفلانة مفعول به، المعنى: زوجتك فلانة،  وقال ابن هشام: "كثرت زيادتها في مفعول (عرفت) ونحوه، وقلت في مفعول ما يتعدى إلى اثنين".

وقد وجهت الباء على الزيادة مع المفعول به في القرآن الكريم في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى: )وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا( (مريم: 25) فـ(هزي) فعل أمر مبني على حذف النون، وياء المخاطبة ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل، والباء حرف جر زائد، و(جذع) اسم مجرور لفظاً بحرف الجر الزائد منصوب محلاً على أنه مفعول به، والمعنى: هزي إليك جذع النخلة. قال الطبري: "وهزي إليك بجذع النخلة كما يقال: زوجتك فلانة، وزوجتك بفلانة، وكما قال:  )تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ(  (المؤمنون:23)، بمعنى: تنبت الدهنَ؛ وإنما تفعل العرب ذلك؛ لأن الأفعال تكنى عنها بالباء، فيقال إذا كنيت عن: ضربت عمراً: فعلت به، وكذلك كل فعل، فلذلك تدخل الباء في الأفعال وتخرج، فيكون دخولها وخروجها بمعنى؛ فمعنى الكلام: وهزي إليك جذع النخلة" ، وقال القرطبي: "الباء في قوله (بجذع) زائدة مؤكدة، كما يقال: خذ بالزمام، وأعطِ بيدك، قال تعالى:  ) فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ( (الحج:22)،  أي فليمدد سبباً".

وذهب بعض النحاة والمفسرين إلى أن الباء في هذه الآية أصلية غير مزيدة. ووجهوا الآية على حذف مفعول (هزي)، أو تضمين (هزي) معنى فعل يتعدى بالباء. قال السمين الحلبي: "يجوز أن يكون المفعول محذوفاً، والجار حالاً من ذلك المحذوف، تقديره: هزي إليك رطباً كائناً بجذع النخلة"، وأجاز المبرد أن يكون (رطباً) المذكور مفعولاً لـ(هزي)، وأن (تساقط) هو الذي قد حذف مفعوله، قال أبو حيان: "أجاز المبرد في قوله (رطباً) أن يكون منصوباً بقوله (وهزي)، أي وهزي إليك بجذع النخلة رطباً تساقط عليك؛ فعلى هذا الذي أجازه تكون المسألة من باب الإعمال، فيكون قد حذف معمول تساقط". ووجه الدكتور أحمد بدوي الآية على تضمين (هزي) معنى (أمسكي)، وأن المعنى: أمسكي بجذع النخلة هازة، قال: "فقد ضمن (هزي) معنى أمسكي هازة، فجيء بالباء مصورة لمريم ممسكة بجذع النخلة تهزها، مبعدة هذا الجذع حيناً ومقربة له إليها حيناً آخر". وقال ابن عاشور: "ضُمّن (هزي) معنى: قرِّبي أو أدني، فعُدى بـ(إلى)، أي حرِّكي جذع النخلة وقربيه يدنُ إليك ويلنْ بعد اليبس، ويسقط عليك رطباً. والمعنى: أدني إلى نفسك جذع النخلة"، ويلاحظ أن كلام ابن عاشور اتجه إلى حرف الجر (إلى)، على الرغم من أن الإشكالية في حرف الجر الباء، وتوجيهه في التضمين يدل على زيادة الباء، حيث جعل (جذع) مفعولاً به لـ(أدني) في قوله: أدني إلى نفسك جذع النخلة.

وذكر أبو حيان أن سيبويه والفراء يجيزان في بعض الأفعال أن تتعدى بنفسها أو بالباء، و(هزي) هذا أحدها؛ وعليه تكون الباء أصلية دون حذف أو تضمين، قال: "قال الفراء تقول العرب: هزّه وهزَّ به، وخذ الخطام وخذ بالخطام، وهزَّ رأسه وبرأسه، ومدَّه ومدَّ به، وحكى سيبويه: خشَّنت صدره وبصدره، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد. وهذا نص في المسألة".

ومثل الآية السابقة قوله تعالى: )وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ( (البقرة: 195). فقد ذهب بعض النحاة والمفسرين إلى القول بزيادة الباء في (بأيدكم) للتأكيد، وأن المعنى: لا تلقوا أيديَكم إلى التهلكة؛ وذلك لأن الفعل (القى) يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى: )فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ( (الشعراء: 45). قال الأخفش: "الباء زائدة نحو زيادتها في قوله: :  )تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ(  (المؤمنون:23)، وإنما هي تنبت الدهن". وقال الزمخشري: "الباء في (بأيديكم) مزيدة مثلها في: أعطى بيده للمنقاد، والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم". وقال أبو حيان: "قال أبو عبيدة وقوم الباء زائدة، التقدير: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، ويكون عبّر باليد عن النفس، كأنه قيل: ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة".

          وذهب آخرون إلى القول بأن الباء أصلية غير مزيدة، وأن الفعل (تلقوا) ضمن معنى الفعل (تفضوا)، الذي يتعدى بها، وأن المعنى: لا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة. قال ابن هشام: "وقيل ضمن (تلقوا) معنى: تفضوا". وقد اختار أبو حيان هذا التوجيه، فقال: "والذي نختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو (بأيديكم)؛ لكنه ضمن (ألقى) معنى ما يتعدى بالباء فعداه بها، كأنه قيل: ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة، كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض، أي طرحت جنبي على الأرض، ويكون إذ ذاك عبّر عن الأنفس بالأيدي؛ لأن بها الحركة والبطش والامتناع".

وذهب فريق إلى القول بحذف مفعول (تلقوا)، وأن المعنى لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة. وعلى هذا القول تكون الباء أصلية غير مزيدة أيضاً؛ لكنها تدل على السببية. قال القرطبي: "وقال قوم التقدير: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول لا تفسد حالك برأيك". وقال الإمام ابن عاشور: "وقيل الباء سببية والأيدي مستعملة في معنى الذات كناية عن الاختيار، والمفعول محذوف، أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة باختياركم". وقد اختار الدكتور فضل عباس هذا التوجيه، فقال: "الآية الكريمة إذن تريد أن تبين أن اليد هي سبب التهلكة، والمعنى إذن: أنفقوا وجاهدوا ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، فتكون اليد سبباً في الهلاك ... فالباء هنا للتعدية وقد تفيد السببية". 

وخلاصة المسألة فإن الباء قد تزاد مع المفعول، وزيادتها غير لازمة؛ ويمكن أن تكون أصلية على التضمين، أو تقدير مفعول محذوف. ومتى ما أمكن أن تكون أصلية لايحكم عليها بالزيادة، قال المرادي: "المختار أن ما أمكن تخريجه على غير الزيادة لا يحكم عليه بالزيادة. وتحريج كثير من هذه الشواهد ممكن على التضمين، أو حذف المفعول".  

السابع: زيادة الباء مع التوكيد المعنوي بالنفس:

          تزاد الباء في التوكيد المعنوي بالنفس والعين، تقول: جاء زيد بنفسه وبعينه، والمعنى: جاء زيد نفسه وعينه. ومما وجه على ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ( (البقرة: 137). فقد ذهب بعض النحاة والمفسرين إلى القول بزيادة الباء، وأن (أنفسهن) توكيد معنوي لنون النسوة في (يتربصن)، والمعنى: يتربصن أنفسهن، وعليه فإن (أنفسهن) مجرور لفظاً بالباء الزائدة، مرفوع محلاً لتوكيده للنون الواقعة فاعلاً للفعل (يتربص). قال ابن عاشور: "زعم بعض النحاة أن (بأنفسهن) تأكيد لضمير المطلقات، وأن الباء زائدة ومن هنالك قال بزيادة الباء في التوكيد المعنوي". وقد اعترض ابن هشام على هذا التوجيه، من ناحية الصناعة النحوية والمعنى؛ فمن الصناعة النحوية، فحق ضمير الرفع المتصل في التأكيد أن يفصل بينه وبين مؤكده بضمير منفصل؛ ومن ناحية المعنى، فإن التوكيد المعنوي يكون عند التباس الأمر؛ وهنا لا يوجد التباس. قال: "فيه نظر، إذ حق الضمير المرفوع المتصل المؤكد بالنفس أو العين أن يؤكد، أولاً، بالمنفصل، نحو: قمتم أنتم أنفسكم، ولأن التوكيد هنا ضائع، إذ المأمورات بالتربص لا يذهب الوهم إلى أن المأمور غيرهن، بخلاف زارني الخليفة نفسه". وقد خالف أبو حيان ابن هشام في اعتراضه هذا، وزعم أن (أنفسهن) توكيد، وإن لم يسبقها ضمير منفصل؛ لأنها خرجت عن التبعية لدخول حرف الجر عليها، وأن الأخفش يجيز ذلك. قال: "لا يقال إن التوكيد هنا لا يجوز، لأنه من باب توكيد الضمير المرفوع المتصل، وهو النون التي هي ضمير الإناث في (يتربصن)، وهو يشترط فيه أن يؤكد بضمير منفصل، وكان يكون التركيب: يتربصن هن بأنفسهن، لأن هذا التوكيد لما جُرَّ بالباء خرج عن التبعية، وفُقِدت فيه العلة التي لأجلها امتنع أن يؤكد الضمير المرفوع المتصل حتى يؤكد بمنفصل، إذا أريد التوكيد للنفس والعين، ونظير جواز هذا: أحسن بزيد وأجملْ، التقدير: وأجملْ به، فحذف وإن كان فاعلاً –هذا مذهب البصريين- لأنه لما جُرَّ بالباء خرج في الصورة عن الفاعل، وصار كالفضلة فجاز حذفه، هذا على أن الأخفش ذكر في المسائل جواز قاموا أنفسهم من غير توكيد"، هذا من جهة الصناعة، ومن جهة المعنى قال: "وفائدة التأكيد هنا أنهن يباشرن التربص، وزوال احتمال أن غيرهن تباشر ذلك بهنَّ، بل هنَّ أنفسهنَّ المأمورات بالتربص، إذ ذاك ادعى لوقوع الفعل منهنَّ، فاحتيج إلى ذلك التأكيد لما في طباعهن من الطموح إلى الرجال والتزويج، فمتى ما أكد الكلام دل على شدة المطلوبة".

وذهب آخرون إلى القول بأصالة الباء وعدم زيادتها، وأن الفعل (يتربص) مضمن معنى (يتلبث)، والمعنى: يتلبثن بأنفسهن ولا يرمينها في طلب الزواج، قال الإمام ابن عاشور: "يتربصن بأنفسهن، يتلبثن وينتظرن مرور ثلاثة قروء"، وللزمخشري توجيه قريب من هذا، قال: "وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص".

 وخلاصة هذه المسألة أن الباء في (بأنفسهن) يجوز أن تكون زائدة أو أصلية للتعدية، بيد أن أصالتها تنسجم مع المعنى أكثر من زيادتها، وذلك لأن التوكيد بالنفس يكون عند التباس الأمر، نحو قولك: جاء الأمير، فهذا يحتمل أن يكون جاء الأمير أو رسوله أو أمره أو شيء آخر يتعلق بالأمير؛ فإن قلت: جاء الأمير نفسه، زال هذا الالتباس وتعين مجيء الأمير. وفي (بأنفسهن) لا يلتبس الأمر في أن المقصود بالتربص هو غير المطلقات، حتى يزال بالتوكيد بالنفس.

الثامن: زيادة الباء مع الحال:

جوّز ابن مالك زيادة الباء مع الحال المنفي عاملها، واستشهد لها بقول القحيف العقيلي:

فما رجعت بخائبةٍ ركابٌ حكيم بن المثيب منتهاها

على أن الباء زائدة، و(خائبة) حال من (ركاب)، والمعنى: فما رجعت خائبة ركابٌ حكيمٌ منتهاها. وقول الآخر:

كائنٌ دعيت إلى بأساء داهمة   فما انبعثت بمزؤود ولا وَكَلِ

فـ(بمزؤود) حال من ضمير المتكلم في (انبعثت)، والباء زائدة، والمعنى: فما انبعثت مزؤوداً، أي مذعوراً. وذكر ابن هشام أن أبا حيان قد خالف ابن مالك في هذا، وخرّج البيتين على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، قال: "ذكر ذلك ابن مالك وخالفه أبو حيان، وخرّج البيتين على أن التقدير: بحاجةٍ خائبةٍ، وبشخصٍ مزؤودٍ، أي مذعور، ويريد بالمزؤود نفسه".  وعلى الرغم من مخالفته لابن مالك، فقد جوز أبو حيان زيادة الباء مع الحال في القرآن الكريم في قوله تعالى: )وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( (البقرة: 212) فقد جوز في (بغير حساب) أن يكون حالاً من فاعل (يرزق) أو من مفعوله، والمعنى: والله يرزق غيرَ مُحاسِبٍ أو غيرَ مُحاسَبٍ، والباء زائدة فيهما، قال: "وَإِذَا كَانَ لِلْفَاعِلِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: الْمَعْنَى يَرْزُقُ اللَّهُ غَيْرَ مُحَاسِبٍ عَلَيْهِ، أَيْ مُتَفَضِّلًا فِي إِعْطَائِهِ لَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ عَادٍّ عَلَيْهِ مَا يُعْطِيهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَجَازًا عَنِ التَّقْتِيرِ وَالتَّضْيِيقِ، فَيَكُونُ: حِسَابُ مَصْدَرًا عُبِّرَ بِهِ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ: حَاسَبَ، أَوْ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ: حَسَبَ، وَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً فِي الْحَالِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ زِيدَتْ فِي الْحَالِ الْمَنْفِيَّةِ، وَهَذِهِ الْحَالُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا نَفْيٌ، وَمِمَّا قِيلَ: إِنَّهَا زِيدَتْ فِي الْحَالِ الْمَنْفِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابُ  حَكِيمُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مُنْتَهَاهَا

أَيْ: فَمَا رَجَعَتْ خَائِبَةً، وَيُحْتَمَلُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ حِسَابُ مَصْدَرًا عُبِّرَ بِهِ عَنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: غَيْرَ مُحَاسَبٍ عَلَى مَا يُعْطِي تَعَالَى، أَيْ: لَا أَحَدَ يُحَاسِبُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا مَنَحَ، فَعَطَاؤُهُ غَمْرًا لَا نِهَايَةَ له. وإذا كان: لمن، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِيَرْزُقَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَرْزُوقَ غَيْرُ مُحَاسَبٍ عَلَى مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَكُونُ أَيْضًا حَالًا مِنْهُ، وَيَقَعُ الْحِسَابُ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مُحَاسَبٌ مِنْ حَاسَبَ، أَوِ الْمَفْعُولِ مِنْ حَسَبَ، أَيْ: غَيْرُ مَعْدُودٍ عَلَيْهِ مَا رُزِقَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أي: غير ذي حساب، وَيَعْنِي بِالْحِسَابِ: الْمُحَاسَبَةَ أَوِ الْعَدَّ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَيْضًا". وقال السمين الحلبي: "قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل أي: ترزقه وأنت لم تحاسِبْه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول أي: غيرَ مُضَيِّقٍ عليه". وعلى الرغم من تجويز أبي حيان والسمين الحلبي لزيادة الباء مع هذه الحال غير المنفي عاملها، فإنهما ضعفا هذا التخريج؟ قال أبو حيان: "وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ، وَفِيهَا زِيَادَةُ الْبَاءِ"، ثم قال: "وَالْأَوْلَى أَنُ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِبَاءِ الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ: لِلْمَصْدَرِ، وَلِلْفَاعِلِ، وَلِلْمَفْعُولِ، وَيَكُونُ الْحِسَابُ مُرَادًا بِهِ الْمُحَاسَبَةُ، أَوِ الْعَدُّ، أَيْ: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا حِسَابَ عَلَى الرِّزْقِ، أَوْ: وَلَا حِسَابَ لِلرَّازِقِ، أَوْ وَلَا حِسَابَ عَلَى المرزوق. وَكَوْنُ الْبَاءِ لَهَا مَعْنًى أَوْلَى مِنْ كَوْنِهَا زَائِدَةً، وَكَوْنُ الْمَصْدَرِ بَاقِيًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ مَجَازًا عَنِ اسْمِ فَاعِلٍ، أَوِ اسْمِ مَفْعُولٍ، وَكَوْنُهُ مُضَافًا لِغَيْرٍ، أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُضَافًا لِذِي مَحْذُوفَةً". وقال السمين الحلبي: "وكونُ الباء تُزادُ في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةً كقوله:

فما رَجَعَتْ بخائبةٍ رِكابٌ  حكيمُ بن المُسَيَّب مُنْتَهَاها

وهذه الحالُ - كما رأيتَ - غيرُ منفيةٍ فالمنعُ من الزيادة فيها أَوْلى"، ثم قال: "وأمَّا وجهُ عدمِ الزيادةِ فهو أن تَجْعَلَ الباءَ للحالِ والمصاحبة. وصلاحيةُ وصفِ الأشياء الثلاثة - أعني الفعلَ والفاعلَ والمفعولَ - بقولِهِ: (بغير حساب) باقيةٌ أيضاً، كما تقدَّم في القولِ بزيادَتِها. والمُراد بالمصدرِ المحاسبةُ أو العدُّ والإِحصاءُ، أي: يرزقُ مَنْ يشاء ولا حسابَ على الرزقِ، أو ولا حسابَ للرازق، أو ولا حسابَ على المرزوق، وهذا أَوْلَى لما فيه من عدمِ الزيادةِ، التي الأصلُ عدمُها ولِما فيه من تَبَعِيَّة المصدرِ على حالِهِ، غيرَ واقعٍ موقع اسمِ فاعلٍ أو اسم مفعولٍ، ولِما فيه من عَدَمِ تقديرِ مضافٍ بعد (غير)، أي: غيرَ ذي حساب". إذن الراجح في هذه الباء أن تكون أصلية غير مزيدة، ومعناها المصاحبة.