إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الأزمة الأفغانية (تاريخياً.. وسياسياً.. وعسكرياً)





توزيع القبائل

مناطق توزيع القوات المتحاربة
التقسيمات الإدارية



الأزمة الأفغانية (تاريخيا، وسياسيا، وعسكرياً)

المبحث الثاني

التدخل العسكري وآثاره

أثار احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، يوم 27 (كانون الأول) ديسمبر 1979م، ردود فعل عالمية، وإقليمية واسعة، على مستوى دول الجوار، التي تجمعها حدود مشتركة مع أفغانستان، وهي الصين وباكستان وإيران؛ وعلى المستوى الدولي، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الإسلامية، ومنها المملكة العربية السعودية.

وأصبح الرأي العام العالمي، رافضاً لأي تدخل من دولة كبرى، في شؤون الدول الصغرى. وعلى الرغم من كل المزاعم السوفيتية، في مشروعية هذا التدخل، لكونه بناء على الطلب المتكرر للحكومة الشرعية، أي حكومة حفيظ الله أمين ـ إلاّ أن غالبية دول العالم استنكرت هذا التدخل، الذي تحول إلى احتلال عسكري بالقوة، دام قرابة عشر سنوات.

أولاً: أسباب التدخل السوفيتي في أفغانستان

على الرغم من أن بداية العلاقات الحقيقة، بين الاتحاد السوفيتي وأفغانستان كانت منذ عام 1878م، إلاّ أن العلاقة الفعلية بدأت منذ عهد أمان الله في عام 1919م، حتى عام 1979م. ويمكن تقسيمها إلى فترتين:

الفترة الأولى:     وتبدأ بحكم أمان الله، وتنتهي عام 1973م بانتهاء الملكية، وإعلان الجمهورية في أفغانستان بواسطة محمد داود. وقد شهدت هذه الفترة علاقات متزايدة، بين أفغانستان والاتحاد السوفيتي. ولكن يمكن اعتبارها فترة جس النبض، ولكن، في الوقت نفسه، تأكد للاتحاد السوفيتي أنّ البيئة الداخلية لأفغانستان، جاهزة لاختراقها أيديولوجياً، ثم يلي ذلك استكمال السيطرة على المجتمع الأفغاني.

الفترة الثانية: تبدأ بإعلان الجمهورية عام 1973م، برئاسة محمد داود، حتى حدوث التدخل السّوفيتي المسلح، مروراً بثورة (نيسان) أبريل 1978م. وشهدت هذه الفترة عملية تسكين كاملة للكوادر الشيوعية ـ التي تم تدريبها في الاتحاد السوفيتي ـ داخل الجهاز الحكومي، والجيش الأفغاني، والوحدات الإنتاجية.

ويمكن تلخيص أسباب الاتحاد السوفيتي ودوافعه للتدخل، في الآتي:

1. حماية أمن الاتحاد السوفيتي

أ. يتسم النظام الشيوعي بالمركزية الشديدة، خاصة في مجال السياسة الخارجية. وهذا يؤكد على قدرة صانع القرار السياسي على التحرك، في المجالات المختلفة، بحرية واسعة، عن نظيره في النظام الديموقراطي، الذي يجد صعوبة كبيرة في اتخاذ القرار. وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفيتي حقق السيطرة الكاملة على مقدرات الشعب الأفغاني، من خلال حزب شيوعي يتولى الحكم، على الرغم من ضعفه أمام التيارات الدينية الإسلامية، إضافة إلى قوات مسلحة، جميع قادتها ينتمون إلى حزب الشعب الديموقراطي. ولكن كل هذه التبعية، لم تكن كافية، من وجهة النظر السوفيتية، فقد تصور القادة السّوفييت أن نظام الحكم في أفغانستان غير مستقر، وأن زعماء الأحزاب في صراع على السلطة، حتى الشّيوعيين منهم، (جناحي پرچم وخلق)، دليل على ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكنها استمالة هؤلاء الزعماء بالقليل، وفي مقابل ذلك تُعيد تمركز بعض التجهيزات الرادارية. فمعدات تجسس شمال أفغانستان، قادرة على تصوير الأسلحة المتطورة والمنتشرة في آسيا الوسطى. وهذا التصور يُعد، إلى حدٍ ما، منطقي ويمكن حدوثه. وكما احتل الاتحاد السوفيتي الجمهوريات الثلاثة الجنوبية (طاجيكستان، اوزبكستان، تركمنستان)، فمن الممكن، وحماية لأمنه، أن يحتل أفغانستان، خاصة أن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين وباكستان جيدة. هذا هو تصور الاتحاد السوفيتي لحماية أمنه.

ب. من الواضح أن للمؤسسة العسكرية السوفيتية، أثراً كبيراً في اتخاذ قرار التدخل في أفغانستان. كانت وجهة نظرها، التي أقنعت بها القيادة السياسية، أن هذا التدخل سوف يوفر لهم قواعد أفغانية متقدمة، خاصة في الجنوب، هذه القواعد سوف تسمح لهم بالاقتراب من المياه الدافئة في المحيط الهندي، والذي سوف يقربهم أيضاً من منابع البترول، أي تهديد مصالح الدول الغربية، إضافة إلى أن هذا الاقتراب له أهمية إستراتيجية. ويوضح هذا البعد أحد الكتاب في كتابه قائلاً.

"... إلاّ أن تقدير الموقف، الذي بناء عليه اتخذت المؤسسة العسكرية هذا القرار، لم يكن دقيقاً، فقد تصوروا أن العملية العسكرية لن تزيد على أن تكون مناورة تدريبية، لن تستغرق بضعة أيام، وبالفعل لم تزد عملية الغزو عن ثلاث ساعات، أما ما بعد الغزو، فهو، الذي استغرق عشر سنوات. فقد وجدت القوات المسلحة السوفيتية، التي بلغت 120 ألف جندي حسب تقديرات موسكو، بمعداتهم وأسلحتهم وخطوط إمداداتهم، نفسها في مستنقع، شبيه بمستنقع فيتنام بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. فالدفاع عن العقيدة، هو أصعب أنواع القتال، وهو سر هزيمة الاتحاد السوفيتي من المقاومة الأفغانية، التي تدافع عن الإسلام في مواجهة الإلحاد ….".

ج. للاتحاد السوفيتي تجارب وذكريات كثيرة، للغزوات المتكررة التي تفشل دائماً، إلاّ أن آثارها كانت كبيرة على المستوى الدولي. ولذا فإن أمن حدوده، كان الهاجس الأول على الدوام، والموضوع الرئيس الذي يُطرح على مائدة المفاوضات، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي بناء على اتفاقية يالتا، أمكنه تأمين حدوده بواسطة السيطرة على دول أوربا الشرقية، من خلال نظام ماركسي، يخضع لسيطرة كاملة من الاتحاد السوفيتي. وحاول الاتحاد السوفيتي مراراً تأمين حدوده الجنوبية مع أفغانستان، وتبلغ 1400 كم، إلاّ أنه فشل لأَن فترة المحاولة صاحبت احتلال بريطانيا للهند، ومن ثم لم يستطع تحقيق طموحاته في تأمين الجار الجنوبي، بالتدخل المسلح، ولكنه لم يستسلم للفشل. فكانت محاولة عام 1979، التي كللت بالنجاح. وهذا يؤكد على أن عنصر الأمن، هو الذي دفعه إلى التدخل المسلح.

2. الاستيلاء على الموارد الاقتصادية

يؤكد بعض المحللين السياسيين، أن الاتحاد السوفيتي له مصالح اقتصادية عديدة، في أفغانستان، أهمها الثروات الطبيعية، ولكونها تملك احتياطاً كبيراً من الغاز الطبيعي والفحم والحديد عالي الجودة. كما يُعتقد أن البترول موجود بكميات كبيرة، ومن السهل اكتشافه إلاّ أن الاستثمار من هذا المجال محدود لعدم توافر الأمن والاستقرار، إضافة إلى احتمال وجود ثروة من اليورانيوم والبلوتنيوم. وقد بلغت المساعدات الاقتصادية والعسكرية، التي قدمها الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، في الفترة ما بين عام 1955 ـ1980م، حوالي 3.5 مليار دولار، أُنفقت على مشروعات اقتصادية، وأبحاث جيولوجية، تمت بمعرفة الخبراء الروس، المنتشرين في المؤسسات الأفغانية. ويؤكد على هذا أحد الكتاب في كتابه، قائلاً:

" …وقد دلت التقارير الجيولوجية على أن أرض أفغانستان، تحتوي على كميات من البترول، كما تحتوي على الغاز الطبيعي، الذي يستورده الاتحاد السوفيتي، بمعدل 3 مليار متر مكعب سنوياً، ولقد استهلك الاتحاد السوفيتي، منذ عام 1967م، أكثر من 30 مليار متر مكعب من حقول أفغانستان، لاستخدامها في مناطق آسيا الوسطى، وتدفع موسكو سعراً أقل من السعر العالمي ثمناً للغاز الأفغاني. فمثلاً بينما طلبت إيران 160 دولار، ثمناً لكل ألف متر مكعب، وهو السعر الذي تدفعه أمريكا لكندا، أو المكسيك، فإن موسكو لم تدفع سوى 37 دولاراً لكل ألف متر مكعب. ولكن بموجب اتفاقية عام 1982م، أصبح السعر 100 دولار، بينما السعر العالمي 150 دولاراً…".

ولكن هل العائد، الذي دخل الخزانة السوفيتية، يساوي حجم الإنفاق على التدخل العسكري في أفغانستان، من بداية الاحتلال (نهاية عام 1979م)، حتى نهاية حكم نجيب الله (1992م)؟ يتضح بالمقارنة، أن ما أُنفق على هذه الحملة، وما تكبده الاقتصاد السوفيتي من استنزاف، يساوي أضعاف العائد أو يزيد، في وقتٍ يعاني فيه المواطن السوفيتي، من سوء مستوى المعيشة، وتدني جميع أنواع الخدمات. وهذا ما أثر على مستوى المواطن العادي.

3. إيقاف المد الإسلامي

دارسو الحرب الباردة متفقون على أن اهتمامات السوفييت الأولى، هي إقامة حزام أمني عقائدي يحميها من انهيار الأيديولوجية الماركسية. وبدءاً من لينين، حتى بريجينيف، لم يختلف الأسلوب. ففي فترة حكم بريجينيف، لم يعد التعايش السلمي يمثل مرحلة انتقالية في تاريخ تطور الاتحاد السوفيتي. بل على العكس، فإن زعماء الكرملين ركزوا على استغلال جميع الفرص، لنشر الاشتراكية على مستوى العالم، كلّما سنحت الفرصة. وقد تلاحظ ذلك بالنسبة للدول، التي حصلت على معونات من الدول الاشتراكية. فبجانب هذه المعونات، لا بد من قدر من الثقافة الروسية، يتناسب مع كمية المعونة المقدمة. وهذا ما حدث بالنسبة لأفغانستان. فالبداية كانت من خلال العلاقات الثقافية، مثل التعليم والتدريب؛ ثم تطور إلى المعاونات الاقتصادية، التي كانت دائماً، وعلى جميع المستويات، يمثلها الخبراء. ومن خلال هؤلاء الخبراء، يبدأ نشر الفكر الشيوعي والأيديولوجية الماركسية. وهكذا، حققت موسكو نجاحاً كبيراً في هذا الصدد، حيث سيطرت كلياً على مقاليد الأمور. وتولى الحكم حزب شيوعي، وحاول بمختلف الوسائل أن يقوم بإصلاحات. وكانت النية خالصة، في تحقيق تقدم للشعب الأفغاني. كانت البداية مبشرة، والمعونات المختلفة تتدفق على أفغانستان. إلاّ أن خطأ الأسلوب، هو الذي أوجد النفور من جراء تطبيقات النظام الماركسي. فمثلاً عند تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وهو قانون من الناحية الاجتماعية، وفي ظروف المعيشة المتدنية للشعب الأفغاني، يحقق آمالاً عريضة لمثل هذا الشعب. ولكن لأن حكومة حزب الشعب الديموقراطي ـ وهي حكومة شيوعية ـ هي التي أصدرته، فإن الفلاحين رفضوا استلام الأراضي الموزعة عليهم، تحت دعاوى دينية كثيرة. ويؤكد هذا أحد الكتاب في كتابه قائلاً:

ولقد يدهش القارئ إذ يعلم، مدى تغلغل المفهوم الخاطئ عن الدين لصالح الإقطاعيين والمستقلين. إذ رفض كثير من الفلاحين قبول الأراضي التي وزعتها عليهم الدولة، بموجب قانون الإصلاح الزراعي، بحجة أن ذلك تدخلاً في أمر النظام، الذي وضعه الله؛ فهو الذي قرر وجود النظام الطبقي، ويرزق من يشاء بغير حساب. وبناء عليه، فإن حصول الفلاح على قطعة أرض مما كان يملكه الإقطاعي أمر حرام لأنها ليست ملكاً للفلاح …".

ويدل هذا على أن الفكر الإسلامي هو المسيطر على الشعب الأفغاني، وعلى أسلوب إدارة البلاد. وأن ما يتم إصداره من قوانين تتعارض مع الإسلام لن تجد قبولاً. وهذا ما أدركه بريجينيف، فإن شعب أفغانستان المسلم لن يرضخ لحزب الشعب الديموقراطي، وأن التمرد ومحاولة المقاومة لن تكون إلاّ البداية.

إضافة إلى ذلك فإن قيام الثورة الإيرانية في فبراير 1979م، قد يكون لها تأثيرعلى جارتها أفغانستان. بل إن الاتحاد السوفيتي، كانت لدية القناعة، بأن حفيظ الله أمين، يجري اتصالات سرية، مع قلب الدين حكمتيار، زعيم الحزب الإسلامي، من أجل التمهيد لإقامة حكومة ائتلاف بين الاثنين. هذا التحليل لا يمكن أن يصدقه، حتى رجل الشارع، لأن المعروف عن حكمتيار، شدة كراهيته للاتحاد السوفيتي وللشيوعية، ومن ثم لا يمكن أن يجري أي نوع من المفاوضات، مع حفيظ الله أمين. إلاّ أن تقدير الموقف السوفيتي عن أفغانستان، والمعلومات التي كانت لدى القيادة السياسية في موسكو، لم تكن على المستوى المناسب. فقد شعرت موسكو بالثورة الإسلامية في إيران، وأن الولايات المتحدة الأمريكية فقدت حليفها التقليدي، وأن احتمالات التقارب مع أفغانستان ممكنة، ثم يتبع ذلك بث الفكر الثوري الإسلامي، في جمهوريات جنوب الاتحاد السوفيتي (طاجيكستان، ازوبكستان، تركمنستان) وهي جمهوريات إسلامية بالفعل، يجمعها تحالف تحت قيادة الاتحاد السوفيتي، وحكومات تسيطر عليها أحزاب شيوعية، وقادة شيوعيون يعينون بواسطة القيادة السياسية، في موسكو.

على ضوء العوامل السابقة، كان قرار التدخل المسلح في أفغانستان، متوازناً مع المصالح السوفيتية. ولكن ما نتائج هذا القرار؟ لقد كانت تداعيات القرار على غير المتوقع؛ فلم تكن مشروع تدريب، أو مناورة عسكرية، كما توقعتها المؤسسة العسكرية السوفيتية، إنما كانت مجموعة من المشاكل، وضعت الاتحاد السوفيتي في موقف محرج أمام العالم.

ثانياً: آثار التدخل السوفيتي في أفغانستان

عندما اتخذ الاتحاد السوفيتي قراره بالتدخل في أفغانستان، الذي تحول بعد ذلك إلى احتلال دام عشر سنوات، لم يكن يدرك في حينه، خطورة هذا القرار. فقد اعتمد على تقدير موقف خاطئ للأمور للآتي:

1. فيما يتعلق بالمجتمع الأفغاني، لم يدرك أن العقيدة الإسلامية لن تسمح له باختراقها، مهما كانت حجم المساعدات، أو التغلغل الثقافي في حياة المواطن الأفغاني البسيط. بل إنه لم يدرس نفسيته، فيتعرف من خلالها على مدى تقبل الشعب الأفغاني للعقيدة الماركسية.

2. اعتقد الاتحاد السوفيتي أن رد الفعل الداخلي بالنسبة للمجتمع، سوف يكون بسيطاً، طالما أن الإعلام سوف يقوم بالدور التضليلي لهذا المجتمع. فكما هو معروف، فإن أسلوب المعيشة اليومي للمواطن الأفغاني، كان يسبب له كثيراً من المعاناة، حيث يحصل بالكاد على قوت يومه. ثم يفاجأ هذا المواطن البسيط، بحمله عسكرية ضخمة، تتكلف الكثير من النفقات، التي هو في أشد الحاجة إليها. لذا، أصبح ينظر لهذه الشعارات، نظرات شك وترقب للانقضاض عليها. وهذا ما حدث بالفعل، حيث يقال، إن لأفغانستان دوراً كبيراً فيما وصل إليه الاتحاد السوفيتي من تفكك.

3. كان لتجارب الاتحاد السوفيتي السابقة في التدخل العسكري، وسلبية المجتمع الدولي تجاهه، أثر كبير في قراره بغزو أفغانستان. ففي عام 1956م، قام بغزو المجر بقوات عسكرية، من أجل القضاء على حركة التمرد التي حدثت في البلاد. وفي عام 1962م، حدثت أزمة كوبا، وفي عام 1968م، احتل براغ. وكل هذه الانتهاكات كانت تتم، دون معارضة إيجابية من المعسكر الغربي، لأن هذه الدول يجمعها حلف وارسو. أما أفغانستان ـ وبصرف النظر عن معاهدة الصداقة التي تجمعه معه ـ فإن هذا التدخل يعتبر خرقاً فاضحاً للنظام العالمي وللقانون الدولي.

للأسباب السابقة، اتضح أن قرار التدخل لم يكن ليصدر من دولة كبرى، لها إستراتيجية يتم التخطيط لها بحسابات دقيقة، وتراعي احتمالات الصواب والخطأ. ولكن الأغلب، لابد أن يكون صواباً. لقد كانت آثار هذا التدخل كثيرة ومؤثرة، على كلٍ من أفغانستان والاتحاد السوفيتي.

آثار الغزو على أفغانستان

1. أدرك الثلاثي الحاكم بواسطة حزب الشعب الديموقراطي (أمين، كارمل، نجيب الله)، مدى تمسك الشعب الأفغاني بالدين الإسلامي، وأنه من الصعوبة محاولة تزييف الحقائق، فالنظام الشيوعي لا يتمشى مع العقيدة الإسلامية. فقد حاولوا مراراً القول إن القوانين الماركسية، وضعت من أجل رفع مستوى المواطن الأفغاني، وأنها قوانين وضعية تسير في اتجاه، لا يتعارض مع شعائر الإسلام، في حين أغفلوا ولم يوضحوا تعارضها مع الشريعة الإسلامية. وهكذا، وضعوا نظامهم في مأزق أمام الشعب الأفغاني، فواجهة الحكم أساساً مرفوضة، أي لا قبول كلية لتوجهاتهم. وأنشأ نجيب الله، عندما كان رئيساً لجهاز المخابرات الأفغاني (الخاد)، الذي تم إنشاؤه، وتدريب عناصره بواسطة المخابرات الروسية "ك ج ب" (KJB)، قسماً خاصاً بالشؤون الدينية، لمساعدة الجهاز، حيث جند بعض رجال الدين المزيفين، من أجل إنشاء مراكز دينية لبث الدعاية، وإجراء عمليات غسيل المخ، ومحاولة إقناع المواطنين الأفغان بعدم تعارض الإسلام مع الشيوعية.

وإزاء مقاومة الشعب الأفغاني لنظم الحكم التعسفية، لم يجد النظام الشيوعي خلاف عمليات القهر، حتى أن تقريرّي منظمة العفو الدولية، ولجنة حقوق الإنسان، تحدثتا عما يعانيه المواطنون داخل أفغانستان. وأوردتا في تقاريرهما القصص المروعة، عن التعذيب، خاصة بالكهرباء، والمحاكم والأحكام الصورية. وكانت معظم عمليات التعذيب، تحت إشراف المستشارين السوفييت، بما لهم من خبرة كبيرة في هذا المجال.

2. من أهم نتائج الحرب الأفغانية، بروز مشكلة اللاجئين الأفغان، خصوصاً في باكستان وإيران، حيث وصل عددهم حوالي 4 ملايين لاجئ، الأغلبية منهم في باكستان (2.5 مليون) والباقي (1.4 مليون) في إيران، وعددهم بين تركيا ودول الخليج المختلفة. وكانت إيران تتحمل عبئاً كبيراً من وجود اللاجئين. إذ بينما تتلقى باكستان معونات من الدول الأجنبية، وهيئات الإغاثة الدولية، لم تكن إيران تتلقى أي معونة. ويضيف الإيرانيون أن تكلفة اللاجئ تصل إلى أربعة دولارات يومياً، وهذا يوضح حجم التكلفة.

وإضافة إلى مشكلة اللاجئين، هناك خسائر الاحتلال، الذي وصل إلى حوالي مليون شهيد، ومئات الآلاف من الجرحى الذين يصعب حصرهم. أما عن الخسائر المادية، فالعديد من القرى والمنازل والمرافق قد دمرت. والأراضي الزراعية بها ملايين الألغام المضادة للأفراد دون خرائط، أي يستحيل تطهيرها، كما يمكن اعتبار الزراعة متوقفة تماماً.

3. أدى طول سنوات الحرب الأفغانية ـ السوفيتية، وحاجة المجاهدين إلى تمويل متطلبات الحرب، إلى ظهور تجارة غير مشروعة في المخدرات، خاصة الأفيون. وكان يزرع في إقليم هيلمان وناناجاهار. وقد بلغ إنتاج الأفيون عام 1996م حوالي 400 طن حولت إلى هيروين.

ثالثاً: آثار الغزو على الاتحاد السوفيتي

إن تدخل الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، نتج عنه أنواع من التداعيات، تنحصر في:

1. الآثار الاجتماعية

قبل التطرق إلى التأثير الاجتماعي للعمليات الحربية، على الاتحاد السوفيتي، يجدر الإشارة إلى الهزة، التي حدثت في المجتمع السوفيتي، من جراء اختلاط القوات السوفيتية بالشعب الأفغاني المسلم. فقد ارتكبت القيادة السياسية الروسية خطأً كبيراً، بأن أرسلت قوات إلى أفغانستان، جنودها يعتنقون الديانة الإسلامية (من الجمهوريات الإسلامية)، على أمل أن يحدث نوع من التقارب، ويتفهم الأفغان صدق نوايا الاتحاد السوفيتي، وأنه لا خلاف جوهري بين الدين الإسلامي والشيوعية. ولكن ما حدث هو العكس، فقد ازداد اقتراب الجنود السوفيت من أقرانهم المسلمين الأفغان وتعرفوا على حقيقة الدين الإسلامي، وتعاليمه السمحة، وأنه لا جدوى من التدخل العسكري، والصراع المسلح في شؤون دولة إسلامية، لا تبغي إلاّ السلام. إضافة إلى ذلك، فقد أقبل المسلمون السوفيت على تعلم حقيقة الدين الإسلامي، التي كانت خافية عليهم. بل إن الكثير منهم كان يبيع بعض ممتلكاته، مقابل شراء المصاحف.

وعرف الجيش السوفيتي، لأول مرة، ظاهرة هروب جنوده المسلمين، وانضمامهم إلى المجاهدين الأفغان. وتبينت هيئة الأركان السوفيتية، مدى تعاطف الجنود السوفييت المسلمين، مع المجاهدين. لذا، فإن قيادة القوات المسلحة السوفيتية، وجدت نفسها مضطرة لسحب العناصر القادمة من الجمهوريات المسلمة، خاصة طاجيكستان واوزبكستان وتركمنستان. وكانت تلك الأحداث، وهذا التقارب، هما بداية الخلل في التركيبة الاجتماعية للاتحاد السوفيتي. إذ أصبح المسلمون الروس، في الجمهوريات الثلاث الجنوبية، مصدر قلق لروسيا. وعلى الرغم من أن القيادة السوفيتية، سمحت لهم بحرية العقيدة، إلاّ أنه لا يخفى على أحد إحكام السيطرة على هذه الجمهوريات، من خلال اتفاقيات الأمن، بل إن رؤساء هذه الجمهوريات بالكامل، يخضعون للنفوذ الشّيوعي.

ولا يجب إغفال الانحلال الخلقي، الذي سيطر على بعض القادة والضباط والجنود. فقد كشفت بعض دوائر المخابرات العسكرية "ك ج ب" (KJB) الأقل فساداً، عن وجود عدة شبكات لتهريب الأجهزة الكهربائية، والمخدرات، والدخان، وبعض البضائع، التي تستحوذ على اهتمام المواطن الروسي. فكان بعض الضباط الروس المتورطين في هذه الأعمال، يرسلون البضائع في النعوش المغلقة، بدلاً من الجثث.

وقد أصبح واضحاً أن المجتمع السوفيتي، يحتاج إلى إعداد، لتقبل حقائق قبيحة عن الممارسات الوحشية، التي مارسها الجنود السوفيت. فقد وجدوا أنفسهم أمام أشياء، لم يكن في استطاعتهم تصورها وهم في بلادهم. لقد أصبحت حياتهم اليومية تنحصر في قتل الأبرياء، وحرق وتدمير مختلف المرافق في أفغانستان، إضافة إلى تعاطي المخدرات، التي أدمنوها وتاجروا فيها. ويوضح أحد الكتاب أزمة المجتمع الروسي قائلاً.

"… لكن أهم الدروس على الإطلاق، هو الكشف عن مدى عمق الأزمة، التي أحدثتها الحرب في داخل المجتمع السوفيتي، وليس متصوراً، بالطبع، أن تحدث أزمة سياسية عميقة في الاتحاد السوفيتي، كما حدث في فرنسا مثلاً بعد حرب الجزائر، أو كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد حرب فيتنام. ولكن، مع ذلك، فإن التاريخ سوف يسجل أن هذه الحرب، أدت إلى ظهور رأي عام في الاتحاد السوفيتي، وهي ظاهرة جديدة لم تتبلور من قبل. وكانت، ضمن أسباب أخرى، من دوافع قرار الانسحاب، الذي اتخذه جورباتشوف. وهذه أول مرة يوضع فيها الرأي العام في الاعتبار، عند وضع سياسة خارجية...".

وهكذا انسحب الجيش السوفيتي، وعاد الجنود إلى ديارهم، ومعهم تركة مثقلة من الصراع النفسي، بين الخطأ والصواب، وتركة من جرائم ارتكبوها في حق شعب لا يبغي إلا الحياة الكريمة الآمنة.

2. الآثار السياسية

مع وصول ميخائيل جورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي، حدث تطور كبير سواء على مستوى السياسة الداخلية، أو الخارجية. فعلى المستوى الداخلي، أعطى لحرية الرأي والديموقراطية مساحة أكبر عن سابقيه، من القادة السوفيت. فسمح للصحافة بحرية أكبر في التعبير عن مشاعر الشعب تجاه الأزمات، التي يتعرض لها، وعلى رأسها الاحتلال السوفيتي لأفغانستان.

وقد أثرت حرب أفغانستان في طريقة التفكير السوفيتي، سواء على مستوى المواطن العادي، أو على مستوى القيادات. فالانسحاب السوفيتي، جاء تعبيراً عن الفكر السياسي الجديد لجورباتشوف، الذي قال صراحة: "… إن دخولنا أفغانستان كان خطيئة …"، وهل كان يمكن أن يكتب شاعر، مثل الكسندر كاربتيكو، الذي عاش جانباً من حرب أفغانستان، وأصبح مسموحاً له أن يعبر عن رأيه في ظل الجلاسنوست فيقول: "… لقد كان خطأً كبيراً أن نذهب إلى أفغانستان، ولكننا يمكن أن نتعلم من أخطائنا... الحرب جعلتنا أكثر حكمة، وأكثر قدرة على التفكير بوضوح في أنفسنا ووطننا...".

ومن مظاهر التغيير في السياسة الداخلية، وفي الانفتاح على الديموقراطية وحقوق الإنسان، تسجيل التليفزيون البريطاني برنامجاً إخبارياً مع الجنود، الذين حاربوا في أفغانستان. كانت هذه أول مرة يسمح فيها السوفييت بمثل هذا العمل، خاصة أنه تم داخل معسكرات جنوده، وهم يمرون بمرحلة من الإحباط. وفي هذه المقابلة، قال أحد الجنود المصابين في المستشفي العسكري بكابل:

"… إن بعض زملائه كانوا مستعدين، لمبادلة معداتهم العسكرية بالمخدرات...".

وبدأت الصحافة الروسية ووسائل الإعلام، في نشر أقوال الجنود، الذين ذهبوا إلى أفغانستان، وهم لا يعرفون عنها أو عن شعبها شيئاً. بل ولا يعرفون شيئاً عن القضية، التي سيموتون من أجلها. ذهب هؤلاء الجنود إلى أفغانستان، ولا شيء معهم إلاّ سلاحهم، وورقة عليها تعليمات وأوامر: "لا تعقدوا صداقات، لا تلمسوا النساء، لا تذهبوا إلى المقابر لأي سبب، لا تدخلوا المساجد، احذروا المخدرات …".

وبدأت الحقيقة تتكشف، فالشعب السوفيتي لم يكن يعرف حقيقة مهمة قواته المسلحة الذاهبة إلى أفغانستان! حتى الجنود، الذين قتلوا في المعارك، كان محظوراً أن يذكر أو يكتب على قبورهم، أنهم ماتوا في أفغانستان. ولكن مع تزايد وصول الصناديق، التي تحوي جثث الجنود السوفيت، بدأ الشعب يكتشف حقيقة الحملة السوفيتية على أفغانستان. بدأ يكتشف أن ما قيل له عن مساعدة الأصدقاء في أفغانستان، هو الذي أدى إلى هذا الكم الكبير من الخسائر في الأرواح، وأن ما يقال عن ترحيب الشعب الأفغاني بالتدخل العسكري، لم يكن صحيحا، بدليل كمية الخسائر الكبيرة، من قتلى وجرحى.

في روسيا الآن العديد من الأسئلة، التي سوف تظل مخيمة على القيادة السياسية في موسكو، أبرزها:

أ. كيف دخلت القوات السوفيتية أفغانستان دون موافقة من الكرملين؟

ب. ماذا فعلت هذه القوات…؟

ج. لماذا حولت التدخل إلى احتلال دام منذ عام 1979م، وحتى عام 1989م؟

د. ما النتائج؟

ولا يكفي للإجابة على هذه الأسئلة مقالات الصحافة الروسية، التي تبرز فيها التدخل مدعية أنه كان بحسن نية، للمحافظة على أمن الحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتي! ولا يكفي الاعتراف بأن سنوات هذا التدخل العشر، وحجم الإنفاق العسكري، قد تحولت إلى عبء داخلي، سوف يطول الزمن لإزالته، أو حتى التخفيف من آثاره.

على المستوى العالمي، تسبب هذا الغزو في إفساد العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وما كان منهم إلاّ أن صعدوا من دعمهم للمجاهدين الأفغان، في محاولة لإطالة فترة العمليات الحربية، من أجل المزيد من استنزاف القدرة العسكرية والاقتصادية للسوفييت. لم يؤيد الاتحاد السوفيتي، إلاّ دول أوروبا الشرقية، التي تشترك معه في حلف وارسو، علاوة على بعض الدول التي تجمعها به مصالح مشتركة.

أما دول عدم الانحياز، فقد أصيب أغلبها بصدمة، جراء احتلال الاتحاد السوفيتي، دولة من أوائل الدول المشتركة في الحركة، ومن الدول التي تنتهج دائماً مبدأ الحياد، حتى أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية.

فوجئت هذه الدول، بأن الدولة، التي تزعم أنها تقف بالمرصاد للتدخل العسكري في شؤون الدول الصغرى، تقوم بالعمل نفسه، وتحتل دولة جوار تجمعها بها معاهدات صداقة. ولكن ما رد الفعل العملي لهذا التدخل؟ الواقع أن بعض دول عدم الانحياز، أغمضت عينيها عن مشكلة أفغانستان، حتى إن مؤتمر عدم الانحياز ـ الذي يعقد كل ثلاث سنوات ـ لم يكن له دور فاعل إزاء المشكلة الأفغانية، لتباين المصالح بين دول هذه المجموعة. وخلافاً لِما كان متوقعاً، ففي لقاء القمة السّابق في نيودلهي عام 1983م، وفي هراري عام 1986م، كانت القاعدة هي المحاولات العديدة داخل كواليس هذه اللقاءات، من أجل البعد بموضوع أفغانستان عن المناقشة.

ومما يزيد من الدهشة، أن صفة المحاباة ـ التي أضحت سائدة في هذه اللقاءات ـ أصبحت تؤثر على مصداقية الحركة. وقد أعربت دول عديدة في مؤتمر هراري، الذي انعقد في (أيلول) سبتمبر 1986م، في زيمبابوي، عن قلقها من هذا التحول المنحاز، ووافقت على ضرورة الالتزام بخط مستقل، لا يمكن انتقاده أخلاقياً. لذا، نجد أن وزير خارجية سنغافورة قد ندد في المؤتمر قائلاً:

"… في كل المستندات التي تنشرها حركتنا، لا توجد إشارة واحدة لاحتلال قوة أجنبية لأفغانستان..."، ولا شك أن ذلك يرجع للتعارض الحاد بين معارضي التدخل السوفيتي، وحلفاء حكومة كابل (الشيوعية). ويواصل ممثل حكومة كابل، التي فرضها السوفيت، مشاركته في حركة عدم الانحياز، بينما لا تضم الحركة ممثلاً للمقاومة.

لقد وضعت حرب أفغانستان الاتحاد السوفيتي، في عزلة سياسية شبه كاملة، فيما عدا دول حلف وارسو، وبعض الشركاء الذين لهم مصلحة مع موسكو، مثل الهند وسورية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

أخيراً، يجب التذكير بأن حرب أفغانستان، وضعت حداً لإشعاع الأيديولوجية الماركسية في العالم، فيما عدا دول الكتلة الاشتراكية. فقد تضررت الأحزاب الشيوعية في العالم بشكل هائل من "غلطة كابل"، وفقدت الكثير من مصداقيتها، وبدأ الانحسار العام للحركة الماركسية في مختلف أرجاء العالم.

3. الآثار الاقتصادية

كان خبراء الاقتصاد الغربيون يؤكدون ـ دائماً ـ على أن الاقتصاد السوفيتي يتمتع بقدرة كبيرة، نظراً لموارد البلاد الضخمة التي لا تنضب، ولكن ما نسيه هؤلاء الخبراء أن طموحات الاتحاد السوفيتي ـ خاصة في مجال الإنفاق العسكري ـ كانت دائماً تتخطى إمكانيته إضافة إلى تعهداته لدول كثيرة من أجل الإسهام في دعمها. وكان أهم ما يستنزف القدرة الاقتصادية للاتحاد السوفيتي، إضافة إلى احتياجاته:

أ. الإنفاق التقليدي (اقتصادي ـ عسكري) لدعم سياسته الخارجية، للعديد من الدول الحليفة والصديقة، مثل سورية والعراق وكوبا ونيكاراجوا وفيتنام وكمبوديا … إلخ. وذلك من أجل المحافظة على دائرة نفوذه، في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.

ب. فرضت حرب النجوم، التي بدأتها الولايات المتحدة الأمريكية ـ وأثناء حكم ريجان عام 1983م ـ سباق تسلح أجبر الاتحاد السوفيتي على زيادة مخصصات الإنفاق العسكري، على حساب الميزانية المدنية، مما زاد من تدهور مستوى المعيشة. وبذلك ازدادت نقمة الشعب الروسي على حكومته.

ج. ارتفاع تكلفة حرب أفغانستان بالنسبة لإمكانيات الاتحاد السوفيتي، الذي لم يكن يتوقع أن تستغرق هذه المدة. فخلال عشرة أعوام (من عام 1979 ـ 1989م)، وهي فترة الاحتلال، إضافة إلى فترة دعم حكم نجيب الله منذ عام (1989 ـ 1992م)، بعد الانسحاب الرسمي، أنفق الاتحاد السوفيتي حوالي 50 ـ70 مليار دولار.

قوبل التدخل في أفغانستان، بعقوبات اقتصادية من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعلنت عن تجميد 2 مليار دولار كانت ستستخدم لتمويل مبيعات القمح للاتحاد السوفيتي. وأوقفت بيع التكنولوجيا المتقدمة، وألغت حقوق الصيد للسفن السوفيتية في المياه الأمريكية. وقد تبدو هذه الإجراءات غير ذات قيمة بالنسبة للحدث نفسه، إلاّ أنها تعكس الموقف المتدهور للاقتصاد السوفيتي، الذي وصفه جورباتشوف قائلاً:

"… لقد نمت حالة عبثية… فالاتحاد السوفيتي أكبر منتج للصلب والمواد الخام والوقود والطاقة في العالم، يعاني من عجز فيها بسبب الفاقد والاستخدام غير الكفء. والاتحاد السوفيتي يعد أكبر منتجي الحبوب ويضطر لشراء ملايين الأطنان من الحبوب كل عام للعلف …".

لقد تولى جورباتشوف إدارة البلاد، والاقتصاد السوفيتي غارق في كساد دام لعقد كامل، حيث كان عائد التنمية ما بين عام 1976 – 1985م لا يزيد عن 2% سنوياً. هذا ما كان عليه وضع الاقتصاد السوفيتي، وبالرغم من ذلك فإن حجم إنفاقه الخارجي ـ كما ذكر من قبل ـ كان أكبر من موارده. فكانت النتيجة تدني في مستوى معيشة الفرد الروسي في مواجهة نفقات عسكرية لا تعود عليه بفائدة. هذا الموقف واجه جورباتشوف بشجاعة حين قرر إنهاء الاحتلال العسكري لأفغانستان.

4. الآثار العسكرية

بررت الحكومة السوفيتية للرأي العام السوفيتي، أسباب تداخلها في أفغانستان على أنه واجب وطني، يهدف إلى الدفاع عن الثورة الأفغانية (نيسان) أبريل 1978م، في مواجهة الإمبريالية الأمريكية والصينية والإقطاعيين الأفغان. في البداية لم يعلق الرأي العام على هذا التبرير نظراً لتعوده على مثل هذا الأسلوب في حالات مماثلة. لكن حين بدأت الدفعات الأولى من الجنود في العودة إلى بلادهم من أفغانستان، حاملين معهم الكثير من الأخبار المأساوية عن حقيقة الأوضاع ومدى شراسة العمليات العسكرية، بدأ بعض المثقفين الاهتمام بالموضوع في محاولة منهم لتحليل المشكلة. إضافة إلى أن وسائل الإعلام الغربية أسهمت في إحداث قلق داخل الرأي العام السوفيتي، وأنه لابد أن شيئاً ما يحدث في أفغانستان لا علاقة له بما تردده وسائل الإعلام السوفيتي، وأن قواتها المسلحة ضالعة في هذا الجرم.

هذه القوات التي كانت تقدم رسمياً على أنها من الشعب، وعلى أنها رمز وحدة الشعوب، التي تؤلف الاتحاد السوفيتي، هذا الجيش يحارب معركة لا هوادة فيها ضد أناس بؤساء أمنيتهم الوحيدة هي استقلالهم الكامل، وتمتعهم بعقيدة إسلامية يحافظون عليها.

ويقدر عدد الجنود الروس الذين خدموا في أفغانستان خلال الحرب، بمليون ونصف مليون جندي. هذا العدد الضخم كان عاملاً أساسياً للمعارضة في الاتحاد السوفيتي. فعند عودتهم إلى بلادهم، وبدلاً من أن يكونوا موضع شكر لإنجازهم الوطني ـ كما كانوا يعتقدون ـ فوجئوا بأنهم ضحية لعدم فهم المجتمع السوفيتي لمهمتهم، التي ذهبوا من أجلها. مما يرجح أن هذا الأمر كان بداية التداعي العسكري للنظام كله، حيث يردد الكثيرون بأن التدخل العسكري في أفغانستان كان له أثر كبير ومباشر في انهيار الاتحاد السوفيتي. إن الخسائر المادية، مهما عظمت، لن تتساوى مع مشاعر الظلم التي شعر بها المقاتل السوفيتي، بل إنه يمكن التأكيد على أن بعض المفاهيم الأيديولوجية لهذا المقاتل قد اهتزت، ليس لديه فقط، بل لدى المجتمع المحيط به.

فالتفرقة في المعاملة بين محاربي أفغانستان والمحاربين الآخرين، من ناحية الامتيازات والحقوق الذي يحصل عليها المقاتل، فلا أفضلية لهم مثل تعويضات العمليات الحربية أو مساكن …إلخ مما ولد لديهم شعوراً بالإجحاف والغبن، تجاه حكومة تتصرف وكأنها تلفظهم بعد أن استغلتهم للقيام بعمل غير إنساني.

أما أبشع ما قام به الاتحاد السوفيتي تجاه حوالي 5 ملايين لاجئ أفغاني ـ يعيشون خارج بلادهم ـ يأملون في العودة. لقد زرعت هذه الدولة العظمى الملايين من الألغام المضادة للأفراد، في جميع أنحاء البلاد، وبالقطع دون خرائط، ولنا أن نتصور مدى الخسائر التي يمكن أن تحدث للمواطنين عند عودتهم إلى ديارهم. إن حصاد التدخل والاحتلال السوفيتي لأفغانستان ليس قليلاً، أو يمكن إهماله. فعلاوة على الخسائر المادية في الأسلحة والمعدات، فالخسائر البشرية تتراوح ـ وفقاً لتقديرات الخارجية السوفيتية ـ بحوالي 15 ألف جندي قتيل، و36 ألف جريح، و311 ألف مفقود.

وكما تركت حرب فيتنام بصماتها المدمرة على المجتمع الأمريكي، نجد أن الاحتلال السوفيتي لأفغانستان ترك أيضاً بصمات عميقة على المجتمع السوفيتي ممثلاً في أفراد القوات المسلحة العائدين، وعلى فئة الشباب بصفة خاصة. لقد انقسم الجنود لدى عودتهم إلى ثلاث فئات:

أ. فئة مناضلة من أجل الإصلاحات الديموقراطية، ركزت نشاطها على المؤسسة العسكرية التي ينتمون إليها، حيث إنها المؤسسة الأكثر انضباطاً وتشدداً ومحافظة على النظام، وكانت وسيلتهم هي المنشورات السرية والاجتماعية.

ب. توجد فئة عنصرية متطرفة يسيطر عليها فكرة بعث روسيا الكبرى، وقد شكلوا مجموعات شبه عسكرية أو يمكن أن يطلق عليها عصابات ضاعفت من العنف في المدن الروسية، كما كانوا يقوموا بعمليات ضد الأسيويين (تتار ـ طاجيك ـ أوزبك …إلخ) لكونهم يشبهون الأفغان إلى حد كبير، خاصة من ناحية العقيدة الإسلامية.

ج. أما الفئة الثالثة، فهم القطاع الذي يعيش على هامش المجتمع من جراء إصابته بصدمة نفسية لرفضهم الطابع الخبيث للمجتمع السوفيتي، فما كان منهم إلى الوقوع تحت تأثير تعاطى المخدرات والكحوليات في محاولة منهم للهروب من الواقع. وهؤلاء أسهموا في عهد جورباتشوف في إيجاد نوع من الانحراف الذاتي، الذي أصبح الطابع السائد في بعض المدن الروسية.

هذه هي أهم تداعيات التدخل العسكري في أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفيتي. أما ما يتم تحت شعار المصارحة (الجلاسنوست)، الذي طرحه جورباتشوف فهو أكثر ما يثير الاهتمام لأنه يكشف عن تحولات أساسية في المجتمع السوفيتي، وتغييرات هامة في الفكر النظري، ومناهج التطبيق.

وتبقى حقيقة أكيدة، هي أن حل النزاعات الإقليمية لا يحسمها، دائماً، الأقوى عسكرياً، مهما استخدم فيما من معدات حديثة، فإن حسابات القوة يجب أن تضع في الاعتبار عاملاً رئيساً هو قدرة الشعوب الصغيرة على التضحية. فشعب أفغانستان ضحى بمليون ونصف شهيد، عدا الجرحى والمفقودين، إضافة إلى اللاجئين والمشردين في سبيل استقلال بلاده. لقد أصبحت أفغانستان بلداً بلا موارد أو إمكانيات، حيث دمرت الحرب البنية الأساسية لها، دمرت أغلب مرافق الدولة بل حتى الأراضي الزراعية أصبحت غير صالحة للزراعة.