إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الأزمة الأفغانية (تاريخياً.. وسياسياً.. وعسكرياً)





توزيع القبائل

مناطق توزيع القوات المتحاربة
التقسيمات الإدارية



الأزمة الأفغانية (تاريخيا، وسياسيا، وعسكرياً)

المبحث الرابع

الاحتلال السوفيتي لأفغانستان

بدأت الأزمة الأفغانية واقعياً عام 1973م، وذلك في أعقاب القضاء على الملكية بوساطة الأمير محمد داود، واستيلائه على الحكم، إلا أنه لم يستطع تحقيق الاستقرار والأمن في البلاد، حيث تعاظمت الاضطرابات وزادت حركات التمرد، إلى أن قتل في الانقلاب العسكري في (نيسان) أبريل 1978م. وأعلن حزب الشعب الديموقراطي في بيان إذاعي، أن السلطة قد أصبحت بأيدي المجلس الثوري للقوات المسلحة. وباستيلاء الشيوعيين على الحكم، كخطوة أولى، تأكدت التوقعات من أن الخطوة التالية، ستكون الاحتلال الكامل لأفغانستان.

أولاً: مراحل الاحتلال السوفيتي لأفغانستان

على الرغم من سرعة التدخل العسكري، حيث لم تستغرق العملية العسكرية أكثر من ثلاث ساعات يوم 27 (كانون الأول) ديسمبر 1979م، إلا أن الشواهد تؤكد على أن هذا الغزو تم على ثلاث مراحل، وهي متداخلة مع بعضها يصعب فصلها. فالمرحلة الأولى يمكن أن تتداخل مع الثانية لأنها مرحلة مستمرة، ولا يمكن التأكيد على تاريخ بدايتها.

هل كان عصر ظاهر شاه هو البداية، أم أمان الله أم نادر خان؟ وكلهم تعاونوا وتعاهدوا مع الاتحاد السوفيتي. لذا، فإن مرحلة الاختراق بلغ عمرها حوالي سبعين عاماً، ولا يزال اختراق الاتحاد السوفيتي للمجتمع الأفغاني مستمراً.

1. المرحلة الأولى: الاختراق السوفيتي لأفغانستان

من المؤكد أن أي وجود حقيقي اقتصادي وعسكري سوفيتي في أفغانستان، لا يمكن أن يكون واضحاً وملموساً، دون الاعتماد على قواعد داخلية في أفغانستان. وهذا ما حدث بالفعل، حيث أيّد الاتحاد السوفيتي ومن أجل تجهيز البيئة الداخلية في أفغانستان، للاحتلال العسكري، الأساليب الآتية:

أ. تشكيل حزب الشعب الديموقراطي

شّجع الاتحاد السوفيتي قيام أحزاب سياسية في أفغانستان، مرتبطة بالأيديولوجية الشيوعية، وبالفعل تشكل حزب الشعب الديموقراطي بجناحيه، خلق وپرچم، أثناء فترة حكم ظاهرة شاه. تطور نشاط الحزب، وبالتدريج استطاع أن يُنظّم كوادر وخلايا له داخل المجتمع الأفغاني، على الرغم من المعارضة الشديدة، التي أظهرتها له الأحزاب الإسلامية.

وقد عمد الاتحاد السوفيتي إلى عدم جمع اليساريين في حزب واحد، ومن ثم أيّد وجهة نظر جناحي حزب الشعب، حيث إنه كان مقتنعاً بتوجهات وأنشطة كل جناح. وكانت حجة الاتحاد السوفيتي في ذلك هي: إنه في حالة فشل أحد الجناحين في تنفيذ المهام الموكلة إليه، فإن الجناح الآخر، الذي يدين أيضا بالولاء لموسكو، يمكن أن ينفّذ ما هو مطلوب منه. وتطورت العلاقات بين جناحي الحزب، منذ قيام ثورة (نيسان) أبريل 1978م، وتناوبا السيطرة على مقاليد الحكم. فتارة يحكم جناح خلق ويتخلص من البارشام، وتارة يحكم پرچم ويتخلصوا من جناح خلق. وهكذا ساد عدم الاستقرار في أفغانستان، إلا أن أهم ما ميز الفترة، بين إنشاء الحزب والثورة الشيوعية (عام 1978م)، هو النجاح الكامل في تنظيم وتدريب الكوادر القادرة على القيام بثورة شاملة في البلاد، والاستيلاء على الحكم. فعلى مستوى الجيش الأفغاني، وهو أهم قطاع، والأداة التي قامت بالثورة، كان حفيظ الله أمين مكلفاً بتجنيد أفراد هذا الجيش، وتنظيمهم وتدريبهم على أداء أدوارهم، على قلة عددهم، فمع بداية تشكيل الحزب، كان عدد أعضائه من أفراد الجيش الأفغاني لا يتعدى المائة، أما عند قيام الثورة فقد تعدى العشرة آلاف عضو.

وعلى مستوى القطاعات والفئات المدنية، تمكن الشيوعيون ـ وهذا ليس بجديد ـ من تولى المناصب القيادية المؤثرة على المجتمع الأفغاني بالكامل، بل إنهم ـ كإجراء احتياطي ـ أمّنوا أنفسهم بتعيين كوادر شيوعية كصف ثان لهم. وهذا التنظيم المحكم لا يستطيع القيام به إلاّ أفراد مدربون تدريباً جيداً، أو أن التنظيم بالكامل تم التخطيط له في موسكو، وتم تنفيذه في كابل. ولكن هل بإحكام السيطرة على كابل، تتم السيطرة على أفغانستان بالكامل! لقد ثبت خلاف ذلك، فالحزب الشيوعي أفراده قليلون، ولم يستطع التغلغل في المجتمع الأفغاني بالكامل، حيث كانت العقيدة الإسلامية أقوى من الشيوعية. ومن ثم يمكن القول: إن الثورة الشيوعية لم تتمكن من تولي الحكم، أكثر من عشرين شهراً، أي ما بين فترة الثورة حتى الاحتلال السوفيتي. لذا، لا يمكن أن يقال: إن هذا الحزب قد حقق نجاحا يُذكر، لأن الاستيلاء على الحكم، ليس هو الهدف الرئيس، بل هو وسيلة لإحلال نظام محل نظام آخر. النظام الجديد غير قادر على تحقيق السيطرة والأمن للدولة، من خلال برنامج عمل حزبي، وهذا هو البعد الغائب لحزب الشعب الديموقراطي. وبدلاً من أن يتحاور منظرو الحزب ومفكروه، في إيجاد صيغة جديدة تتمشى مع عقيدة المجتمع الأفغاني، وتجد قبولاً لدى المواطنين، كانوا يتحاورون في كيفية إضعاف الأحزاب الإسلامية، والتشهير برجال الدين، بل التشهير بأنفسهم. فدائماً ما يكون الحاكم السابق عميلاً للإمبريالية الأمريكية، ودائماً ما يتم إعدام الحاكم السابق. والحالة الوحيدة، التي لم تُعدم، لوجوده خارج البلاد. وقد نجح الاتحاد السوفيتي، بمساعدة حزب الشعب الديموقراطي، في الاستيلاء على الحكم، وعين كارمل رئيساً للدولة، إلاّ أن استجابة الشعب الأفغاني لم تمكنه من السيطرة على الحكم، بل إن حرب الجهاد اندلعت، بدءًا من فترة حكمه إلى أن انتهى الاحتلال السوفيتي عام 1989، حيث استُبدلت المقاومة الأفغانية بالحرب الأهلية.

ب. الدعم العسكري

نتيجة لمعاهدة الصداقة بين الاتحاد السوفيتي وأفغانستان، وحجم التعاون المتزايد منذ فترة حكم ظاهر شاه، زاد عدد العسكريين السوفييت خلال الأيام الأخيرة لحكم داود، حتى وصل إلى 600 خبير. وعندما استولى تراقي على الحكم بعد ثورة (نيسان) أبريل 1978م، بدأ السوفييت في زيادة نفوذهم، بحجة دعم الاستقرار في مواجهة المتمردين. وقد تضمنت هذه الأنشطة إنشاء قواعد عسكرية، ووضعها تحت سيطرتهم المباشرة (مثل قاعدة باجرام الجوية)، إضافة إلى زيادة معدلات تدفق الأسلحة والمعدات إلى أفغانستان، برفقة المستشارين العسكريين السوفييت، حيث بلغ عددهم في نهاية حكم محمد داود حوالي 7200 خبيرٍ ومستشارٍ. وازدادت كمية المعدات، التي سُلمت إلى الجيش الأفغاني بطريقة تدعو إلى الشك، فمثل هذا الكم من المعدات، يستوجب أفراداً مدربين قادرين على استخدامها، إضافة إلى أنواع الطائرات المتطورة، سواء المقاتلات أو الطائرات العمودية بأنواعها المختلفة. والتي لم تكن لتسليح الجيش الأفغاني. فالمعروف عن المؤسسة العسكرية السوفيتية أنها لا تفرط بسهولة في أسلحتها المتطورة، والأمثلة على ذلك كثيرة. فأسلوب مساعدتها العسكرية لدول العالم الثالث محصور في الأصناف التقليدية، بل يمكن التأكيد على استحالة إمداد أفغانستان بطائرة عمودية نوع (مي ـ 24)، أو مقاتلة من نوع (ميج ـ 21)، أو صواريخ من نوع (سكود)، أو دبابات من نوع (تي ـ 62)، إِن كل الشواهد تدل على أن هذه الأسلحة قد أرسلت إلى أفغانستان من أجل استخدامها بواسطتهم لغزو أفغانستان. وهذا يؤكد على أن القيادة السياسية في موسكو كانت قد عقدت عزمها على احتلال أفغانستان، منذ فترة، وليس كرد فعل لموقف ناتج عن تمرد إسلامي ضد نظام حكم الثورة الشيوعي.

ج. الدّعم العلمي والثقافي

يكون تشويه الثقافة القومية للدولة، وإبعاد الشعب تدريجياً عنها ـ غالباً ـ هي السياسة التي يؤيدها الاستعمار بهدف اختراق الدولة المطلوب احتلالها. وكانت هذه الممارسات من قبل الاتحاد السوفيتي من خلال ثقافة ماركسية مفروضة على المواطنين الأفغان، مع السيطرة على الميول الفكرية والفنية والتربوية، بإرسال مؤلفات ماركسية، علاوة على مفكرين وكتاب أفغان يدينون للثقافة الماركسية بالولاء، حتى يسهل إقناع الشعب الأفغاني بالفكر الجديد.

وعلى مستوى التعليم، زاد نفوذ السوفييت في الجامعة، وقد هاجم رئيس الجامعة، وهو شيوعي اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ووصفها بأنها لغات تعليم تفسد الكليات مثل الهندسة والعلوم. وقد بدأ نفوذ اللغة الروسية في السيطرة على التعليم، حيث زودت الاتفاقيات التعليمية الأخيرة، الموقعة بين الاتحاد السوفيتي وأفغانستان، بدورات تعليم اللغة الروسية، وتزايد التبادل الطلابي بين جامعات الاتحاد السوفيتي وأفغانستان، بشكل ملحوظ؛ إضافة إلى استبدال عمداء كليات يعتنقون المذهب الشيوعي. بغير الموالين للنظام.

د. الدعم الاقتصادي

كانت أفغانستان تعتمد دائماً على المساعدات الخارجية، حيث وجدت من الاتحاد السوفيتي خير معين لها من خلال المنح والقروض والإسهامات العينية العديدة. لذا، أصبحت هذه المساعدات تستعمل كمعبر للنفوذ السوفيتي إلى المجتمع الأفغاني، بحجة العمل كمستشارين للمشروعات المختلفة. وقد أخطأت الولايات المتحدة الأمريكية عندما شاهدت التحرك النشيط للاتحاد السوفيتي، وازدياد نفوذه الاقتصادي في أفغانستان، وكان رد فعل السياسة الأمريكية بطيئاً وضعيفاً. فعلى سبيل المثال، في فترة حكم داود ما بين عام 1953 و 1963م، بلغت المساعدات الأمريكية السوفيتية لأفغانستان حوالي 1.5 مليار دولار، في مقابل مساعدات أمريكية قدرها 450 مليون دولار، ومساعدات صينية قدرها 72 مليون دولار. أيضاً، أصبح وجود المستشارين في كل مرافق الدولة ظاهرة طبيعية، خاصة الوحدات الإنتاجية، بل يمكن القول إن بعض الخبراء الاقتصاديين أسهموا في إدارة الاقتصاد الأفغاني، وبدأ الفكر الماركسي في السيطرة على هذا الاقتصاد.

2. المرحلة الثانية: التدخل العسكري في أفغانستان (كانون الأول) ديسمبر 1979م

حققت مرحلة الاختراق، التي قام بها الاتحاد السوفيتي بمعاونة الأنظمة الأفغانية، فاعلية كبيرة عند الانتقال للمرحلة التالية، وهي مرحلة التدخل المباشر بالقوات المسلحة السوفيتية. إلاّ إنه من المؤكد أن ثورة (نيسان) أبريل 1978م، كان لها دور كبير في الإسراع بالتدخل العسكري المباشر، سواء عن قصد، أو عن غير قصد.

فعندما أدرك النظام الأفغاني، مدى تمكن جذور الثورة الإسلامية، حاول التهدئة، أو حتى التقليل من أهمية التوجه الماركسي، بسلسلة من الأنشطة الإعلامية، أعلن خلالها كُلاً من أمين وتراقي للشعب الأفغاني، أن الحكومة ليست ضد الإسلام، مدعِّمين ذلك ببيان صدر عن الحكومة موقعاً عليه من حوالي مائة عالم دين، يؤكدون على إسلامية النظام وبعده عن الشيوعية والإلحاد. وحاول السوفيت من أجل حماية مصالحهم، وحتى يستطيع النظام التعامل مع المصاعب التي تواجه، التحرك السريع لمساعدة تراقي وأمين. لم يتخل السوفيت عن فكرة التدخل العسكري، غير أنهم لعدة اعتبارات فضلوا التريث، وعدم الإسراع في مثل هذا العمل. لذا، قاموا بعدة إجراءات من أجل إنقاذ الثورة الأفغانية وحمايتها من الانهيار. فكانت محاولتهم إجراء تغير جذري في الحكومة عن طريق انقلاب عسكري داخل الحزب يطيح بأمين، وربما بغيره في حالة الضرورة. وفي حالة تردي وضع تراقي، يستطيع السوفيت إعادة تنظيم الماركسيين الأفغان، في محاولة للحفاظ على مظهر ودي داخل حزب الشعب الديموقراطي، وإذا فشلت هذه المحاولة، فإنه من الممكن إحياء حزب بارشام، الذي أُقصى زعيمه بابراك كار ميل من قبل حزب خلق.

بدءًا من شهر (شباط) فبراير، و(آذار) مارس 1978م، انتشر العصيان المسلح تلقائياً، حيث تغلغل في معظم الأقاليم الأفغانية. وكان الشعور المعادي للحكومة أقوى في بعض الأقاليم، مثل هزرجات، نوريستان وبدحشان، حيث العزلة الدينية والجغرافية تؤكد على رغبة سكان هذه الأقاليم، في الحصول على الحكم الذاتي المحلي.

في 24 (آذار) مارس 1979م، تمردت كتيبة من الجيش الأفغاني في حيرات، ضد مجموعة من الخبراء العسكريين السوفيت، التي بدورها، أمرت جنود الجيش الأفغاني بإطلاق النار على المتمردين، إلاّ إن الخبراء قتلوا في الاشتباك هم وعائلاتهم. بعد أيام في هذا الحادث، تولى حفيظ الله أمين منصب رئيس الوزراء بدلاً من تراقي، حتى يتمكن من إحكام السيطرة على النظام.

أحدثت انتفاضة حيرات تغييرات مهمة في البلاد، فلم يعد النظام معزولاً فقط من غالبية الشعب الأفغاني، بل أصبح منقسماً على نفسه. ولم يعد للنظام أي خيار، آنذاك، سوى سحق المتمردين. فانطلق أتباع أمين لردع المواطنين، وأرسلت قوات الجيش إلى الريف لإخضاع الإقطاعيين. لكن مجلس الدفاع الوطني الأعلى، خشي من ردة فعل بعض أفراد الجيش الأفغاني، في مواجهة مواطنيهم المسلمين. ومن ثم أعاد الجنود إلى معسكراتهم، مستعيضاً عنهم بقصف منتظم لأماكن الثوار بواسطة الطائرات. وهكذا بدأت عملية الهجرة، حيث تشير الإحصائيات إلى حوالي 400.000 لاجئ، توجهوا إلى باكستان.

هذه الأحداث السريعة، والتداعيات الأمنية داخل أفغانستان، هي التي جعلت الاتحاد السوفيتي يؤكد على ضرورة التخلص من النظام القائم بقيادة أمين، لأن الموقف أصبح من الخطورة بحيث يمكن أن تنتصر ثورة الإسلاميين، ويُقضى على النظام الشيوعي، وهذا ما لا تقبله موسكو.

في 27(حزيران) يونيه 1979م، دانت السيطرة الكلية لحافظ أمين، حيث تولى الأمانة العامة للجنة المركزية للحزب، ووزارة الدفاع، إضافة إلى منصبه رئيسًا للوزراء. واستمر في السيطرة على قوى الأمن الداخلي. وعلى الرغم من أنه يبدو ظاهرياً أنه الرجل الأقوى في النظام، إلاّ إنه لم يُعترف به زعيم الحزب الفعلي لشدة كراهية الشعب له لِمَا اتبعه من أساليب وحشية وديكتاتورية، أسهمت في التعبئة الشعبية ضده. واستمرت تداعيات الموقف، ففي 5 (آب) أغسطس 1979م، وقع تمرد عسكري آخر في موقع قرب بالاهيار في كابل، وكان مسرحاً للمعارك منذ سنوات. وبداية هذا التمرد، كانت بين القوات المتمردة في تلك المنطقة، ووحدات مدرعة موالية لنظام خلق. ومع أن قوات المتمردين كانت تقاتل داخل بالاهيار إلاّ إنه أمكن القضاء على التمرد نهائياً، واعتقل عدد كبير من الضباط والجنود.

ونتيجة للصراع المسلح، بين الجيش الأفغاني الحكومي والقوات الإسلامية، وهو الواجب القتالي الذي كان الجيش الأفغاني يرفضه، إلاّ إنه كان مجبراً على ذلك. ولكن هذا الإجبار لم يدم طويلاً، حيث تمردت بعض الوحدات، واضطرت إلى الانضمام إلى المقاومة. هذا التسرب أحدث نقصاً كبيراً في القوة البشرية، إلى أن وصل تعداد الجيش الأفغاني حوالي خمسة وثمانون ألف جندي.

وفي مواجهة هذا العجز الكبير، اضطر أمين إلى التركيز على الدعم العسكري السوفيتي بوحدات كاملة بأفرادها. وهكذا بدأت الخطوات نحو انهيار النظام تتسارع، ولم يجد الاتحاد السوفيتي أمامه، في مواجهة انهيار حكم أمين إلاّ التدخل العسكري المباشر، ولكن متى؟

إن أجهزة المخابرات الروسية تؤكد على أن التوقيت السليم للتدخل في ظرف ثلاثة أشهر وليس بعد ذلك، علاوة على أن الظروف الدولية تؤكد، أيضاً، على هذا التاريخ.

في أوائل (أيلول) سبتمبر 1979م، أدرك نظام خلق وجوب القيام بعمل ما، فإجراءاته القمعية لم ولن تتمكن من احتواء الانتفاضة الثورية. وفي العاشر من الشهر، توقف الرئيس نور تراقي في موسكو، أثناء عودته من هافانا، حيث التقى الرئيس بريجينيف، وقررا معاً ضرورة عودة كابل إلى النهج الوطني الديموقراطي، ودعوة جناح البارشام إلى الانضمام مجددا إلى الحكومة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، إضافة إلى ضرورة التخلص من أمين، الذي يواجه بكراهية كبيرة من الشعب الأفغاني.

علم أمين ـ عن طريق بعض المخلصين له ـ باجتماع موسكو، وما يدبره له تراقي. لذلك فور عودة الأخير من موسكو، قبض عليه، بعد إجراءات عنيفة، حيث أعدم. وكانت هذه الواقعة هي، التي أدت إلى أن يتخذ الاتحاد السوفيتي قراراً بضرورة تغيير نظام أمين والقضاء عليه، سواء برضائه أو رغماً عنه.

في 16 (أيلول) سبتمبر وبعد تخلصه من تراقي، أضاف أمين رئاسة مجلس الدفاع الوطني الأعلى إلى قائمة مناصبه، وبسيطرته الكاملة على المناصب الحساسة، أدرك أنه لابد من توسيع قاعدة حكمه. فتقرب من الأحزاب الدينية، واعداً إياها بحماية طوائفها. وكدليل لحسن نيته، حل البوليس السري، إلاّ أنه استبدله بعد بضعة أسابيع بقوة أمن أطلق عليها "مخابرات العمال" ثم أعلن أن مجلسا سوف يتم تشكيله بغرض وضع دستور جديد للبلاد. ووعد بحماية صغار الملاك. كما أطلق سراح عدد من المساجين السياسيين. وعلى الرغم من تلك الإجراءات، لم يجد استجابة من المقاومة الأفغانية. وقد اتضح من تسلسل الأحداث، أن إصلاحاته الظاهرية، التي كان يدعي أنها في صالح الشعب الأفغاني، كانت متزامنة مع هجوم قواته على الثوار في إقليمي كونار وباكيتا، وهو الهجوم الذي أسفر عن طرد حوالي مائة ألف لاجئ إلى باكستان. كما أنه ضغط أيضاً على الباكستانيين من أجل إغلاق معابر الحدود. إضافة إلى محاولاته العديدة لقطع خطوط الإمداد، المؤدية إلى المجاهدين في أفغانستان.

في 13 (كانون الأول) ديسمبر 1979م، وصل إلى كابل وفد عسكري على مستوى عال، برئاسة الجنرال، بافلونسكي نائب وزير الدفاع، وقائد القوات البرية، وعضوية ستين خبيراً، وذلك لوضع اللمسات الأخيرة لخطة التدخل العسكري المسلح في أفغانستان. تلك هي المهمة الرسمية للوفد، أما المهمة الظاهرية: فهي منح أمين الشعور بالطمأنينة تجاهه من الاتحاد السوفيتي. ولكن ما هي الأسباب التي أدت بالاتحاد السوفيتي إلى الإسراع باتخاذ قرار التدخل؟ يقال إن هناك سببين رئيسين هما:

أ. السبب الأول

تزايد قوة الانتفاضة الأفغانية، وسيطرتها على بعض الأقاليم، إضافة إلى تهديدها المستمر لكابل مما أضعف من هيبة الحكومة. وهذا يعني أنه في حالة سقوط حكومة حزب الشعب الديموقراطي، فإن الاتحاد السوفيتي لابد أن يغادر أفغانستان.

ب. السبب الثاني

أزمة الثقة بين حفيظ الله أمين والاتحاد السوفيتي، إثر رفضه المصالحة مع بابراك كارميل، واتهامه السفير السوفيتي في كابل بمحاولة تأييد تراقي للقضاء عليه ـ أي أمين ـ إضافة إلى قناعة السوفييت واعتقادهم بأن أمين يحاول التقرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية على حسابهم. ويساعد على اعتقادهم هذا، الفترة التي قضاها أمين في الجامعات الأمريكية، فهو حاصل على ليسانس التربية من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية. إلاّ إن هذه الفترة الدراسية لم تؤثر في أيديولوجية أمين الماركسية. فالثابت أنه قد تم إلغاء الامتحان النهائي له لنيل درجة الدكتوراه، بناء على تعليمات من الحكومة الأمريكية، لنشاطه الشيوعي الزائد، مع ترحيله من الولايات المتحدة الأمريكية فوراً.

3. المرحلة الثالثة: كيف تم الغزو العسكري السوفيتي؟

بدءًا من نهاية (تشرين الثاني) نوفمبر 1979م، تكثّف وجود القوات العسكرية السوفيتية، على طول الحدود مع أفغانستان. وقبل 15 يوماً من الاجتياح العام لكابل، وصلت إلى قاعدة باجرام الجوية، القريبة من كابل، حوالي ثلاثة فرق من الجيش السوفيتي.

وفي يوم 25 (كانون الأول) ديسمبر، كان هناك جسرٌ جوي، قام بحوالي 350 طلعه طيران، خلال ثمان وأربعين ساعة قبل الغزو. وقد تم نقل ما يقرب من 6000 جندي سوفيتي بمعداتهم وأسلحتهم بحجة أن هذه القوات جاءت بناء على طلب حفيظ الله أمين، من أجل إنهاء عمليات "السِّلم" ضد المجاهدين. وقد تم نقل هذه القوات من طشقند. كما تم تقسيمها إلى خمس مجموعات تحت القيادة المباشرة للجنرال ايفانوف.

أبلغ عبدالله أمين، حاكم المنطقة الشمالية، شقيقه ـ حفيظ الله ـ بالحشود، التي تقوم بها القوات السوفيتية داخل الأراضي الأفغانية، إلاّ أنه طمأنه معتقداً أن هذه القوات لابد وأن تكون هي القوات نفسها، التي كان قد طلبها من موسكو لدعم موقفه العسكري. ولم يكلف أمين نفسه مشقة التحقق، من مهمة هذه القوات.

لم تستغرق رحلة إنهاء الغزو السوفيتي لأفغانستان سوى ثلاثة ساعات، حيث تم تحييد القوات الحكومية الأفغانية في كابل، وما حولها من مواقع. وبدأ قصف قصر الشعب، الذي يقيم فيه أمين شخصياً، إضافة إلى بعض المواقع الحيوية، سواء في كابل أو في بعض المدن الأخرى. وهكذا تم الاستيلاء على معظم مرافق الدولة، بما فيها الإذاعة.

كانت خطة الاتحاد السوفيتي التخلص من أمين، وتعيين بابراك كارميل بدلاً منه. وكانت موسكو قد استدعته من مقر إقامته، حيث كان منفياً خارج أفغانستان. وصل كارميل إلى كابل برفقة القوات السوفيتية، التي كانت قد استولت على سجن بولي شرقي ذي الأهمية الكبرى، وقد ضم معظم كوادر جناح پرچم، التي اعتقلها حفيظ الله أمين، ومن قبله تراقي، مثل الجنرال عبدالقادر، وسلطان على كشمندر، وآخرين يعتبرون اليد اليمنى لكارمل. وبعد انتهاء العمليات العسكرية، واحتلال الجيش السوفيتي لأفغانستان، أذاع كارميل بياناً بالراديو أعلن فيه محاكمة حفيظ الله أمين وإعدامه، بسبب جرائمه ضد الشعب الأفغاني، وتشكيل مجلس ثوري برئاسته، ونظراً للظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، فقد توجه بطلب إلى الاتحاد السوفيتي لدعم القدرة العسكرية والاقتصادية للحكومة الأفغانية، من أجل مقاومة التمرد، الذي يجتاح البلاد؛ وأن الكرملين وافق على هذه المساعدات. وبناء على هذا التصريح، بدأت القوات السوفيتية في تعزيز مواقعها، واحتلالها لأهداف إستراتيجية داخل أفغانستان، حتى وصل عدد القوات إلى حوالي 85 ألف، بمعداتهم المتطورة والحديثة.

فَهِمَ الروس دورهم جيداً ـ حتى بداية مرحلة المقاومة المسلحة ـ إذ تجنبوا الخطأ، الذي ارتكبه المستعمرون من قبل، مثل الفرنسيين في الجزائر، والأمريكيين في فيتنام، وهو خطأ محاولة احتلال بلد بقوة عسكرية كبيرة العدد. فهم لم يحّملوا أنفسهم عبء قوة كبيرة العدد، لا حاجة لهم بها. لأن هذه القوة ليست سوى إنفاق سلبي لا عائد منه. لذا كان قرارهم بألاّ تتعدى قواتهم في أفغانستان، 85 ألف جندي.

اتّبعت القوات السوفيتية تكتيكاً جديداً، يتلخص في التجول حول الأهداف الحيوية، وطرق الإمداد، في أرتالٍ مدرعة، تهاجم به الثوار نظراً لقلة أسلحتهم المضادة للدبابات. فإذا تعرضت إحدى الأرتال لهجوم المجاهدين، يتم نجدتها بواسطة الطائرات المروحية، التي كان لها دور كبير في العمليات. وعقب إمداد المجاهدين بالأسلحة المضادة للطائرات والدبابات، كان لذلك تأثير كبير على سير العمليات الحربية، مما أجبر الجيش السوفيتي على تغيير أسلوب استخدام الدبابات والطائرات العمودية.

ومن ثم، فمن النادر وجود الجنود خارج المعسكرات، وبالمثل خارج المدن الكبرى. فالقائد الحذر يتجنب المخاطر، وفي معظم الأوقات، يعيش الجنود السوفييت في معسكرات منعزلة ويتحركون في عربات مدرعة، وتكون تحركاتهم ـ دائماً ـ في مجموعات، لأن الأفراد ـ دائماً ـ معرضين لهجوم المجاهدين.

خلال الأشهر الستة الأولى من عام 1980م، سعى الجيش السوفيتي إلى السيطرة على مناطق الحدود مع باكستان خاصة، كونار وباكيتا وجازتي، حيث المقاومة قوية نسبياً في هذه الأقاليم، مما يمكنها من رد هجمات القوات الحكومية الأفغانية. وكان هدف القوات السوفيتية منع المواطنين الأفغان من الهروب عبر الجزء الشرقي من البلاد، في طريقهم إلى باكستان. إلاّ إنها لم تتمكن. وتدل الإحصائيات على أنه حتى عام 1980م، بلغ عدد الفلاحين حوالي 1.4 مليون لاجئ هاربين من القصف السوفيتي المباشر على المدنيين، سواء في حقولهم أو مصانعهم. وكان السوفييت يقصدون بذلك إخلاء القرى من ساكنيها، أي إخلاء الأراضي الزراعية من زارعيها، لحرمان الشعب الأفغاني، ومن ثم المجاهدين، من المواد الغذائية. وقد اتبع الفلاحون الأفغان نظاماً جديداً في زراعة الأرض، وكانوا يتناوبون الزراعة مع بعضهم تقليلاً لزمن المخاطر. لقد عمدت قوات الاحتلال السوفيتية إلى تفريغ الأقاليم الحدودية من السّكان، حتى تتمكن من إقامة منطقة عازلة في التلال الممتدة على الحدود الباكستانية، خالية من السكان حتى يصبح من السهل الإيقاع بالثوار وأسرهم. أما على الحدود الإيرانية، فقد عبر حوالي 150.000 لاجئ من إقليم حيرات الغربي، في اتجاههم إلى إيران.

وما يتعلق بإدارة البلاد، فقد تركز النّشاط السوفيتي في المدن الكبيرة، خاصة كابل، حيث يسعى السوفييت إلى تثبيت النظام، عبر تحسين التنظيم الإداري لجناح پرچم، وأحياناً يستبدلون العاملين من پرچم بآخرين سوفييت. وقد تعقدت أمور الحكم بسبب حملات التطهير والتغيير، التي يقوم بها پرچم من أجل تصفية حسابات قديمة مع جناح خلق. وأدخل السوفييت نظام البطاقات الشخصية، والتي تم توزيعها على التجار فقط، حيث الهدف منها مساعدة الحكومة في السيطرة على السفر من وإلى المدن المختلفة، وبتلك الإجراءات يتم إحكام السيطرة، ومنع أفراد المقاومة من التسرب إلى الأسواق، مع أن لأفراد المقاومة شبكة من المؤيدين بين التجار، بل في بعض وحدات الجيش النظامي. في مواجهة المقاومة المستمرة للمجاهدين، وتناقص الجيش الأفغاني، أصبح على نظام كارمل، أن يحاول تجنيد أفراد جدد من الشعب الأفغاني، وهذا ما لم يستطع القيام به، بصرف النظر عن رواتب الجنود المرتفعة نسبيا.

وعلى الجانب الآخر، فيما يخص المجاهدين، لم يتم تنظيمهم في صف واحد، حيث تعمل المقاومة كل في منطقته؛ وكل حزب بإمكانياته وموارده، يقاتل العدو الذي يتعرض له. أي أن التنظيم بين الفصائل بعضها مع بعض مفقود، مما يسبب الخسائر فيما بينهم، علاوة على الإهدار في السلاح والذخيرة، على الرغم من النقص الكبير لديهم في الأسلحة والمعدات، سواء من ناحية الكم أو الكيف.

لقد رأى الثوار الأفغان، في نظام حكم كارميل، امتداداً لنظام حفيظ الله أمين، بل إنّ كارمل مجرد دمية في يد السوفييت، حيث لا يغير وجوده في الأمر شيئاً، وأن ما يعلنه حول الجبهة الوطنية، التي ينوي إنشاؤها، محاولة لخداع الشعب الأفغاني. لذلك أعلنوا استمرارهم في الجهاد، ضد نظام كارميل، وضد القوات السوفيتية.

ثانياً: أساليب قتال الجيش السّوفيتي

لم يتوقع الجيش السوفيتي أبداً، حجم المقاومة المسلحة، التي يمكن أن يواجهها جيشهم في أفغانستان، خاصة وأنها المرة الأولى، التي يحارب فيها الجيش السّوفيتي النّظامي حرب مدن وعصابات. كانت روسيا تنظر إلى جيشها على أنه من أقوى جيوش العالم، خاصة القوات البرية، من حيث الكفاءة القتالية. لهذا قدّروا أن الغزو العسكري لأفغانستان مضمون النصر، إلاّ إن الواقع خيب آمالهم، حيث تكبدت هذه القوات الكثير من الخسائر، سواء في الأفراد أو المعدات.

وبدراسة مسرح العمليات في أفغانستان، يتضح أن طبيعة الأرض الجبلية، كان لها أثر كبير على سير العمليات وعلى طبيعة القوات. فتكتيكات المناطق الجبلية تختلف عن تكتيكات الأراضي الأخرى، حيث لكل مسرح تكتيكاته الخاصة به؛ فالأراضي الجبلية تحد من قدرة القوات ـ خاصة الآلية مثل الدبابات ـ على التحرك، كذلك تفتقر إلى الطرق، التي تصلح لتحرك القوات النظامية. لذا، فإنها تحتاج إلى عمليات تأمين هندسي كبيرة، لتسهيل تحرك هذه القوات عبر الممرات الجبلية والوديان. كذلك تؤثر أيضاً على خطوط التأمين الإداري، لاحتمالات تعرضها لكمائن العدو. وأصعب ما في التأمين الإداري هو إخلاء مخابي العمليات، فتأمين طرق الإمداد والإخلاء تحتاج إلى قوات إضافية، وهذا ما حدث بالفعل، حيث كانت القوات الروسية غير قادرة على إخلاء الجرحى والمصابين.

أما من ناحية إدارة العمليات، فإن الحرب في المناطق الجبلية، تشبه إلى حد بعيد حرب العصابات، أي إنها تحتاج إلى تكتيكات الوحدات الصغرى، وليست معركة مشتركة، أي تحتاج إلى حرية اتخاذ القرار بواسطة صغار القادة، وهذا ما يفتقده الجيش السوفيتي، خاصة في المراحل الأولى من احتلاله لأفغانستان. فهو لم يتصور صعوبة القتال في مثل هذه الأراضي، إضافة إلى قصور التدريب على مثل هذه العمليات.

كان الهدف الرئيسي للجيش السوفيتي السيطرة على العاصمة، والمنشآت الحيوية، ومراكز الاتصالات، ملتقى الطرق الرئيسة. والبعد قدر الإمكان عن احتلال المناطق الآهلة بالسكان، لأن ذلك سيعرض قواته لمواجهة المقاومة الشعبية، التي لن يستطيع التعامل معها. لذا، طور من أساليب قتاله، بما يتمشى مع واقع العمليات الحربية، وحصرها في الآتي:

1. الأرض المحروقة

اتّبع الاتحاد السوفيتي سياسة الأرض المحروقة في أفغانستان، وذلك بواسطة غارات جوية مكثّفة على أجزاء كثيرة من البلاد، خاصة الأراضي الزراعية المنتجة، ومرافق الدولة المختلفة، حيث تنطلق الطائرات القاذفة الثقيلة من نوع (TU-16)، والطائرات المقاتلة القاذفة من نوع "سوخوي"، من قواعد داخل أفغانستان، وأخرى من داخل الاتحاد السوفيتي، بهدف تدمير أكبر جزء من أفغانستان بصورة لم يسبق لها مثيل، مما أدى إلى هدم شامل للمنازل والقرى بأكملها والبنية الأساسية،و خاصة الأراضي الزراعية.

وقد استخدمت القوات السوفيتية أنواع الأسلحة كافة لتنفيذ هذه السياسة، مثل النابالم وألغام الفراشة والقنابل بأنواعها، كل هذه الأسلحة كانت كفيلة بتدمير جزء كبير من أفغانستان.

هذا التكامل في استخدام الأسلحة، كان من أجل القضاء على مقومات دولة أفغانستان. والدليل على سوء نية الاتحاد السوفيتي، أنه كثّف من استخدام سياسة الأرض المحروقة خلال الأسابيع القليلة، التي سبقت الانسحاب.

2. الكمائن

إضافة إلى أسلوب الأرض المحروقة، استعان الجيش السوفيتي بالكمائن، وهو أسلوب قديم في العمليات الحربية، إلاّ إنه تم تطويره في مواجهة المجاهدين الأفغان، حيث اعتمد على احتلال طرق المواصلات، التي يستخدمها المجاهدون في أعمال التأمين الإداري للأفراد. ويعتمد أسلوب الكمائن على نقل وحدات من الفدائيين، بواسطة الطائرات العمودية إلى مناطق حاكمة، مثل قمم المرتفعات. وعند مرور القوافل، وغالباً ما كان يجري ذلك ليلاً، فإن هؤلاء الفدائيين يفتحون النيران على القافلة من أسلحتهم المختلفة، محدثين بذلك خسائر كبيرة، وفي الوقت نفسه تُعد إشارة إلى الطائرات العمودية ببدء المعركة، تُضيء أرض المعركة، إضافة إلى اشتراكها في العمليات بالنيران. وبعد انتهاء العملية تتولى إخلاء الأفراد. وقد برهن هذا الأسلوب ـ على الرغم من قلة خسائره ـ على تأثيره النفسي الكبير على المجاهدين، لاعتماده على المفاجأة وقوة النيران.

3. الألغام

شكل استخدام الألغام طابعاً مميزاً لتكتيك الحرب في أفغانستان. ونظراً للظروف الخاصة بمسرح العمليات، استخدم السوفييت نوعاً جديداً من الألغام أطلق عليه لغم "الفراشة"، نظراً لشبهه بها. فله جناحان يستطيع الهبوط بهما على الأرض ببطء، وهو لغم مضاد للأفراد. ويُقدر عدد الألغام المستخدمة ما بين 8 ـ 10 مليون لغم، زرعت في أراضي أفغانستان. وتركز زرع حقول الألغام حول مناطق الأحزمة الأمنية، التي وضعها السوفيت تحسباً لعمليات التسلل، أو صداً لهجمات المجاهدين، إضافة إلى الطرق والمعابر. ومن أجل تعزيز أسلوب "الأرض المحروقة"، التي استخدمها السّوفيت في أفغانستان، لم يكتفوا بحرق المحاصيل الزراعية بل قرروا منع استخدام الحقول مرة أخرى، وذلك بزرعها بالألغام الفردية. وتسببت هذه الأساليب غير الإنسانية في إصابة عشرات الألوف من الفلاحين، بإصابات جسدية يصعب علاجها.

وكان الجيش السوفيتي يزرع الألغام، في المناطق غير المتوقعة، مثل ضفاف الأنهار، أو عند جذوع الأشجار، أو تحت الجثث، أو بين أطلال قرية مدمرة. وبذلك تزداد الإصابات.

وقد استخدمت الطائرات العمودية بكثرة في زرع ألغام الفراشة، حيث زُرع الآلاف منها في مناطق عديدة من أفغانستان. وكان من الصعب تمييز هذه الألغام، لأن ألوانها مشابهة للأرض الخلفية. ومن أهم صفات هذا النوع من الألغام، أنها غير مصممة للقتل النهائي، بل تصيب الأفراد بجراح خطيرة، مما يعوق الفرد المصاب ويشله، ويجعله عبئاً على مجموعته القتالية. وكذلك تجعله عبئاً على المجتمع كله.

4. استخدام الأسلحة الكيميائية

منذ بداية الغزو السوفيتي لأفغانستان، والأقوال تؤكد على استخدام القوات السوفيتية الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. وكان النابالم أول هذه الأسلحة المستخدمة، وقد استعمله الجيش السوفيتي بكثافة في ضرب الريف الأفغاني، منفذاً سياسة "الأرض المحروقة. وكما هو معروف فإن التأثير النفسي للنابالم كبير، لأن التركيب الكيميائي لهذه المادة وشكله الجيلاتيني يجعله يلتصق بالهدف، علاوة على كمية النيران الكبيرة التي يحدثها، مما يسبب ذُعراً كبيراً للأفراد.

وقد اعترف بعض الجنود السوفييت الأسرى، أنه شاهد بنفسه الأسلحة الكيميائية والبيولوجية مخزّنة في القواعد الجوية في كابل، وكوندز.

وقال جندي آخر من الجنود السّوفييت، الذين انضموا إلى المجاهدين: إِنه شاهد بنفسه عودة الأفراد السوفييت المشتركين في عمليات استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وهم أنفسهم مصابون جراء استخدام هذه الأسلحة.

لقد تأكد استخدام السوفييت للأسلحة الكيميائية والبيولوجية، مثل غاز الفوسجين " Phosgene" السام، كذلك استخدامهم لغازات الأعصاب، والمواد الكيميائية الحديثة، مثل الميكوتوكسين "Micotoxin"، الذي يسبب الإعياء والعجز، وغاز الومضة "Flash"، وهو غاز أعصاب قاتل سريع المفعول، وتُلقى هذه الغازات من الطائرات العمودية، أو الطائرات القاذفة المقاتلة.

إن الجيش السوفيتي باستخدامه لأسلحة التدمير الشامل، يهدف القضاء على المجاهدين الأفغان في المناطق، التي يصعب الوصول إليها. كذلك يستخدمون هذه الأسلحة بكثرة، في المناطق التي يريدون تحييدها، أو إقامة مناطق عازلة حول مواقعهم.

5. القوات الجوية

قام الجيش السوفيتي ـ قبل احتلاله لأفغانستان ـ بإنشاء وتطوير بعض القواعد الجوية، من أجل ملاءمتها لأنواع الطائرات المتطورة، التي يستخدمها (قاعدة باجرام ـ قاعدة كابل ـ قاعدة شنداد ـ قاعدة هرات)، إضافة إلى بعض القواعد الفرعية التي كان لها أهمية كبيرة في عمليات القوات الجوية (قاعدة فرح ـ قاعدة كندوز ـ قاعدة جلال آباد).

هذه التجهيزات الهندسية تؤكد على أن القوات الجوية السوفيتية، كان لها دور كبير في القتال ضد أفغانستان، حيث استخدمت أحدث أنواع المقاتلات مثل (الميج 21، 23)، والـ (سوخوي ـ 17، 25)، إضافة إلى الطائرات العمودية. وفي بداية الحرب، كان السوفييت يعتمدون على استخدام الطائرات المقاتلة (ميج ـ 21)، في عمليات الهجوم الأرضي والمعاونة، وتم إحلال الطائرة (ميج ـ 23) محلها. أما الطائرات الـ (سوخوي)، فهي تقوم بدور كبير في المعاونة مع القوات البرية، نظراً لقدرتها الكبيرة، سواء التدميرية أو المناورة، حيث يتم تسليحها بكميات كبيرة من الذخيرة والقنابل. ولتنفيذ أسلوب "الأرض المحروقة"، كانت القاذفات السوفيتية الثقيلة توبولوف ـ 16(TU- 16)، تُقلع من قواعدها في الاتحاد السوفيتي، لقذف مدن أفغانستان، خاصة الشمالية منها، مثل حيرات، والعودة مرة أخرى إلى قواعدها بالاتحاد السوفيتي.

إضافة إلى الأنواع السابقة، كان أيضاً للطائرات العمودية دور كبير، خاصة الطائرة العمودية (مي ـ 24)، وهي طائرة متطورة لها قدرات قتالية عالية، فمن حيث التسليح، فهي مسلحة بصواريخ عيار 57 مم، إضافة إلى الرشاشات الثقيلة، كما يشمل تسليحها القنابل الفوسفورية والحارقة والألغام، وكذلك القنابل الزّمنية الحارقة والعنقودية. وأهم ميزة لهذا النوع من الطائرات الدروع القوية، التي تحميها وتجعل إصابتها في غاية الصعوبة، ولهذا يطلق عليها "الدبابة الطائرة".

هذه الترسانة الكبيرة من الطائرات، كانت تقاتل عدواً، لا يملك من الأسلحة المضادة للطائرات سوى بعض الرشاشات الثقيلة، التي كان قد استولى عليها أثناء العمليات الحربية. وبمعنى آخر، أن هذه الطائرات كانت تقاتل بلا مقاومة، حيث تركزّ قتالها ضد المعسكرات والقرى والمدارس والمستشفيات، أي ضرباً مساحياً، تنفيذاً لأسلوب الأرض المحروقة وإخلاء القرى والمناطق السكنية من سكانها، لعمل مناطق عازلة بينهم وبين المجاهدين.

ومع تطور القتال ازدادت المعونات إلى المجاهدين، وزادت مصادر الإمداد بالسلاح، وتطور التسليح بما يتناسب مع احتياجات المعركة. ومن ثم بدأ المجاهدون في الحصول على أسلحة متطورة، مضادة للدبابات ومضادة للطائرات. هذه الأسلحة الحديثة غيرّت من شكل المعركة، وزادت خسائر الاتحاد السوفيتي، سواء في الطائرات أو الدبابات. وسلّحت الولايات المتحدة الأمريكية المجاهدين بأحدث صواريخها المضاد للطائرات، وهو الصاروخ "ستينجر". أما بريطانيا فأمدت المجاهدين بالصاروخ (بلوـ بايب)، وهو صاروخ مضاد للطائرات أيضاً. وبوصول هذه الصواريخ المتطورة، استطاع المجاهدون تحجيم نشاط القوات الجوية السوفيتية، بل أجبرها على تغيير تكتيكات الاستخدام. وبذلك انحصرت طلعات المقاتلات في التحليق من على ارتفاعات كبيرة، لتكون خارج مدى هذه الصواريخ، مما أفقدها الدقة والفاعلية، إضافة إلى توقف طلعات الطائرات العمودية نهائياً، أي توقفت، أيضاً، استخدامات الدبابات، لأنها كانت تعمل بالتعاون مع الطائرات العمودية. هذا الثنائي، كان يسبب خسائر كبيرة، سواء بين صفوف المقاتلين الأفغان، أو بين المدنين الأبرياء. وبهذه الأسلحة المحدودة الإمكانيات، خسر السوفيت المئات من الطائرات، واضطروا إلى استخدام أساليب قتال تتمشى مع مدى مقاومة قوات المجاهدين.

ما الذي يمكن أن يفعله المقاتل أو المجاهد الأفغاني ذو التسليح اليسير، في مواجهة مثل هذه القوة العظمى؟ فالاتحاد السوفيتي، قوة عظمى، إلاّ إنه تورط في حرب مع دولة فقيرة من أفقر عشرة دول في العالم، وتعددت خسائره وفقد هيبته الكبرى. لقد استطاع المجاهدون الأفغان أن يطوروا من قدراتهم القتالية، كأنهم اكتسبوا نوعاً من الحصانة، وأجبروا الجيش السوفيتي على تغيير عقيدته القتالية، في مواجهة المقاومة الأفغانية، حيث اضطر إلى تقليص إمكانيات المعدات الحديثة حتى تتمشى مع الموقف القتالي، إضافة إلى التغيير الجوهري في استخدام القوات. وشمل هذا الآتي:

أ. القوات المسلحة للاتحاد السوفيتي قوات نظامية، لها إستراتيجية عسكرية، وأسلوب متطور في استخدام المعدات والأفراد، يعتمد على تَنظيم جيد للأفراد في تشكيلات قتالية منتظمة. هؤلاء الأفراد ينتظمون في تشكيلات، يجري تدريبها بخطط تدريبية، بدءاً بالفرد حتى التشكيلات والجيوش الميدانية، التي تقاتل من خلال معركة أسلحة مشتركة، تعتمد على التناسق والتكامل والتعاون، بين القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الجو. إضافة إلى أن أغلب تدريباتهم يتم في أراض واسعة ومنبسطة، لأن القتال داخل المدن، أو قتال حرب العصابات، يختلف كليًا عن القتال في الأراضي المنبسطة. والذي حدث أن الجيش السوفيتي، احتل أفغانستان في تشكيل نظامي، ووجد نفسه في مواجهة أفراد يستخدمون أسلحة بدائية، ويعرقلون مسيرته، ولا يُعرف لهم اتجاه هجوم أو مناطق تمركز، أي لابد للجيش السوفيتي من أن يغير أساليب قتاله. وبالفعل هذا ما قرره، خاصة بوصول الأسلحة المتطورة للمجاهدين. ولمّا كان هذا التغيير يستوجب، إما تدريب تبادلي، أو الدفع بعناصر من الفدائيين للتعامل بأسلوب المجاهدين نفسه. وفي كلتا الحالتين يستلزم هذا وقتاً طويلاً، واستنزافاً للموارد، إضافة إلى أن خسائر القوات السوفيتية تكون غالباً كبيرة نسبياً، الأمر الذي لم تتعود عليه مثل هذه القوات، خاصة في مواجهة عدو ضعيف. ومن هنا فإن التأثير النفسي على القوى العظمى، غالباً ما يكون كبيراً، لأنه لم يتعود على الهزيمة أو حتى المقاومة. وحتى في حالة انتصاره، فإنه انتصار مزيف على شعب أعزل نسبياً، أي لا يوجد تكافؤ حتى يشعر الجندي السوفيتي بأهمية انتصاره.

ب. من ناحية المعدات، فكما هو معروف، فإن الاتحاد السوفيتي قد احتل أفغانستان بأسلحة متطورة لها قدرات قتالية كبيرة إذا ما قورنت بإمكانيات المقاومة، ولكن بتطور سير العمليات، تلاحظ أن الأسلحة الخفيفة التي استخدمها المجاهدون، خاصة الأسلحة المضادة للطائرات وللدبابات، حققت نجاحاً كبيراً حتى إنها في مرحلة من مراحل الجهاد، استطاعت تحييد القوات الجوية والدبابات. وكان رد الفعل من الجيش السوفيتي على هذه الخسائر الكبيرة، نوعاً من الإحباط، حيث اهتزت أمامهم أسطورة الأسلحة المتطورة، التي يصعب تدميرها. وإزاء هذا الكم من الخسائر، اضطرّ الجيش السوفيتي إلى تقليص استخدامات معداته المتطورة، إلاّ في أضيق الحدود، وفي ظروف تحقق له نجاحاً مضموناً. وهكذا، وجد الجيش السوفيتي نفسه أمام موقف مواجهة مع جنوده، إذ كان عليه أن يبرر الخداع الإعلامي، الذي ردده قائلاً: "إن احتلال أفغانستان لن يتعدى أن يكون مناورة تدريبية، دون مقاومة تذكر!".

ج. إضافة إلى ذلك، فإن الاستخدام الاقتصادي للمعدات العسكرية، هو هدف رئيس في حسابات الإنفاق العسكري للدولة، أي أن الطائرة المقاتلة، التي تبلغ تكلفتها الملايين، لابد وأن يكون استخدامها اقتصادياً، أي في مهمة تستدعي هذه التكلفة، ولكن الذي حدث، أن الجيش السوفيتي استخدم المعدات الحديثة، استخداماً يتطلبه موقف العمليات، أي استخداماً بعيداً عن قدرات المعدات. فماذا كانت النتيجة؟ تقليص القدرة القتالية للمعدة، التي صنعت من أجلها، أي استخدام سلاح متطور في غير مجاله ذلك أن قتال المجاهدين لم يكن يستوجب مثل هذه المعدات المتطورة، التي تستهلك إنفاقاً مادياً كبيراً، لأن طلعات الطائرة المقاتلة المتطورة أو طابور الدبابة الثقيلة يستلزم الكثير من الإنفاق، لذا، يلاحظ مدى الإهدار في الموارد في ميدان معركة بدائي. وإذا قيل إن إمكانيات الاتحاد السوفيتي المادية تمكنه من تغطية مثل هذا الإنفاق العسكري، فهذا خطأ، لأن الظروف الاقتصادية التي يمر بها الاتحاد السوفيتي لا تمكنه من إنفاق حوالي سبعين مليار دولار على مثل هذا الاحتلال. إلاّ أن نظام الحكومة الديكتاتوري الشمولي لا يتيح الفرصة أمام الشعب السوفيتي لمحاسبة المسؤولين.

ومع تطور نظام الحكم في الاتحاد السوفيتي، فإن المصارحة أصبحت سمة نظام الحكم في عصر جورباتشوف، الذي أكد على أهمية الجلاء عن أفغانستان، لأن التكلفة المادية قد زادت، وأصبح الشعب السوفيتي في حاجة لمثل هذا الإنفاق، خاصة ما يصرف على دول العالم الثالث. بل إن بعض المسؤولين قد أكدوا على أن موسكو، في سبيلها إلى الكف عن تقديم مساعدات جديدة، سواء اقتصادية أو عسكرية، للأنظمة الاشتراكية لدول العالم الثالث.

وفي مقال لجريدة "الشؤون العالمية" المتخصصة في السياسة الخارجية السوفيتية، ما يؤكد على أن الالتزامات السوفيتية تجاه دول العالم الثالث، أصبحت مكلفة للغاية؛ في حين أن النتائج متواضعة. وهكذا، فالواجب على الدول المستقبلة لهذه المنح، أن تتوقع خفضاً للدعم السوفيتي في المستقبل.

لقد استخدام الاتحاد السوفيتي، أحدث ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا في مجال صناعة الأسلحة والمعدات، إلاّ إن النتيجة كانت مخيبة لآماله وطموحاته، وأثبت للعالم أن التدخل العسكري غالباً، لا يحقق أهدافه، وأن مصيره، دائماً، ما يكون الفشل.