إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / أمن البحر الأحمر





ميناء عصب الإريتري
مضيق تيران
الجزر الجنوبية
تمركز الشيعة في اليمن
دول البحر الأحمر

جزر حنيش



أمن البحـــر الأحمــر

المبحث الخامس

علاقات الدول الكبرى بالبحر الأحمر

أولاً: الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الكبرى

لا يمكن فصل البحر الأحمر عن مجمل المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. فهذا البحر يمثل أهمية خاصة للإستراتيجية الأمريكية في ضوء الاعتبارات التالية:

1. سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى السيطرة على البحر الأحمر، وبصفة خاصة مدخله الجنوبي، بسبب أهميته الإستراتيجية، وارتباطه المباشر بمنطقة الخليج العربي.

2. ضرورة ضمان استمرار تأمين الخطوط الملاحية، التي يمر بها النفط، عبر البحر الأحمر وقناة السويس.

3. ما تشكله المنطقة من أهمية إستراتيجية في مواجهة التجمع الأوروبي، سعياً إلى انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالدور الأكثر فاعلية في السيطرة على النفط وطرق نقله.

4. حرص الولايات المتحدة الأمريكية على استمرار دورها الفاعل في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، والبحر الأحمر والخليج بصفة خاصة، مع العمل على إعادة ترتيب المنطقة طبقاً لمصالحها الإستراتيجية.

5. الأهمية العسكرية للبحر الأحمر، الذي يشكل محوراً أساسياً لأي تدخل عسكري محتمل، في حالة أي تهديد للمصالح الأمريكية في المنطقة وما حولها.

6. وجود مصالح إستراتيجية مشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في البحر الأحمر، على أساس التزام الأولى بضمان أمن الثانية في مواجهة أي احتمالات لفرض قيود خاصة على مضايق البحر أو الملاحة فيه.

وقد برزت أهمية منطقة البحر الأحمر، من منظور الأهداف الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، في أعقاب حرب 1973، حين استُخدم النفط العربي كسلاح سياسي، وهو ما أكد للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان أهمية منطقة النفط في الشرق الأوسط، وخطر الطرق والممرات البحرية في البحر الأحمر، الأمر الذي وضع المنطقة في دائرة التنافس بين القوى الدولية. ومع دخول منطقة البحر الأحمر في دائرة الصراع الدولي، استهدفت الإستراتيجية الأمريكية، يومذاك، الحد من النفوذ السوفيتي في المنطقة، إذ وضع الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، أول مرة، إستراتيجية التدخل الأمريكي في المنطقة بالقوة المسلحة، في حالة تهديد المصالح الأمريكية. وعلى هذا، ظهر في الفكر العسكري الأمريكي ما يعرف بإنشاء "قوات الانتشار السريع"، التي خُصصت للعمل في الخليج والبحر الأحمر، والتي وضعت بإمرة القيادة المركزية الأمريكية.

وظل البحر الأحمر موضع اهتمام الإدارة الأمريكية، على اختلاف عهودها والمبادئ التي تحكمها، من مبدأ نيكسون (1969) حتى مبدأ بوش (1990)، مروراً بمبدأ كارتر (1976) ومبدأ ريجان (1982). وجميعها كانت ترى في البحر الأحمر موقعاً ذا أهمية إستراتيجية، وممراً دولياً للملاحة، ومنطقة يجب أن تسيطر عليها الإستراتيجية الأمريكية، وتطرد منها النفوذ السوفيتي، أو تخفف وجوده إلى أدنى حدّ ممكن، وتضمن لإسرائيل المرور البحري الحر، والوجود العسكري في بعض جُزر البحر وموانئه.

تسعى سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط بصفة عامة، وفي منطقة البحر الأحمر بصفة خاصة، إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي:

1. ضمان عدم سيطرة قوى معادية على البحر الأحمر

من أجل تحقيق هذا الهدف، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بملء الفراغ الذي تركه الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج وعدن، العام 1968، خشية قيام أي دولة أخرى منافسة بمثل هذا الدور. فالولايات المتحدة الأمريكية عدّت نفسها وصية على حماية المصالح الغربية، بعد الانسحاب البريطاني. والمصالح الغربية، من وجهة نظر السياسة الأمريكية، تتمثل في منع انتشار التأثير أو الوجود لأي قوة معادية، في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر وممراتهما المائية ذات الأهمية الإستراتيجية.

ومن أجل تحقيق مصالحها الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، عقدت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من التحالفات، ذات الصبغة السياسية أو الصبغة العسكرية، لتطويق الاتحاد السوفيتي السابق، والحدّ من تأثيره ونفوذه. ومن أمثلة هذه التحالفات "حلف بغداد"، الذي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية استقطاب العديد من الدول العربية للانضمام إليه. ولكن مقاومة بعض الدول العربية للحلف، أدّت إلى تقليصه ثم طيّه.

وفي جميع الأحوال، حاولت الإستراتيجية الأمريكية في البحر الأحمر تفادي أي صِدام مباشر مع الاتحاد السوفيتي السابق في المنطقة، مستفيدة من تجربة تورطها في فيتنام. بيد أن هذا لم يكن يعني أن خيار التدخل العسكري المباشر، لم يكن وارداً في حسبان الولايات المتحدة الأمريكية، وبالذات في الحالات التي تدرك فيها أن مصالحها وأمنها القومي معرضان للخطر. وفي هذا يقول هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: "فنحن (الأمريكيون) يجب أن نكون قد تعلمنا درساً من فيتنام، يتمثل في أنه من السهل الدخول في حرب، ولكن من الصعب الخروج منها. ولكن هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أننا غير قادرين، في أي ظرف من الظروف، على استخدام القوة"

وفي واقع الأمر، فإن التطورات والمتغيرات في السياسة الدولية، وخاصة بعد زوال الاتحاد السوفيتي، تجعل الولايات المتحدة الأمريكية أكثر استعداداً للتدخل المباشر، حينما تتهيأ أسبابه. ويمثل التدخل العسكري الأمريكي المباشر في حرب الخليج الثانية، خير دليل على ذلك.

2. ضمان بقاء إسرائيل واستمرارها

قدمت الولايات المتحدة الأمريكية ـ ولا تزال تقدم ـ جميع الضمانات والإمكانات والمساعدات إلى إسرائيل، ملتزمة بتوفير الأمن والأمان لها، معتبرة إسرائيل حليفها الأول. وعلى هذا، فقد واصلت السياسة الأمريكية تأييد مطامع إسرائيل التوسعية، ومنها مطامعها في البحر الأحمر ومضايقه.

3. ضمان تدفق النفط عبر البحر الأحمر

الهدف الثالث من أهداف الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط والبحر الأحمر، يتعلق بضمان وتأمين تدفق إمدادات النفط من منطقة الخليج العربي، عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر والبحر المتوسط، إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. إن ضمان تدفق إمدادات النفط، وحماية منابع النفط في الخليج العربي، يعدّان من الأهداف الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية، نظراً إلى ما للنفط من تأثير في اقتصاديات الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا. إن حرب 1973، وما ترتب عليها من حظر مؤقت على إمدادات النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا، ومن ارتفاع حاد في أسعار النفط الخام، الذي أثر سلبياً في اقتصاديات الدول الغربية، ما زال ماثلاً في الفكر الإستراتيجي الأمريكي.

كما أوضحت الحرب العراقية ـ الإيرانية، في الثمانينيات، حرص الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية على استمرار تدفق إمدادات النفط من الخليج العربي، على الرغم من خطـر الموقف الناجـم عما عرف بـ "حرب الناقلات "، بسبب مهاجمة كل من العراق وإيران ناقلات النفط في موانئ الطرف الآخر، وفي مياه الخليج. وقد أدى ذلك إلى أن تعزز واشنطن، وبعض القوى الأوروبية، وجودها العسكري في الخليج العربي، لتأمين الحماية البحرية والجوية لناقلات النفط الكويتية، لضمان تدفق النفط من الخليج العربي.

وتُدخل الإستراتيجية الأمريكية منطقة البحر الأحمر في دائرة أوسع، مركزها المحيط الهندي، وتمتد من جنوبي إفريقيا غرباً حتى أستراليا شرقاً، وتشمل خليج عدن والبحر الأحمر وبحر العرب، ومجموعة جُزر المالديف وسيشيل، وخليج البنجال.

وتعتمد الولايات المتحدة الأمريكية، في هذه الدائرة الجغرافية الواسعة، على قواعد عسكرية، بحرية وجوية، وعلى نقاط ارتكاز وتموين، تؤمن للأسطول الأمريكي حضوراً مستمراً في المحيط الهندي وما حوله. وتمثل القواعد العسكرية  التالية أهم القواعد الأمريكية خارج الولايات المتحدة الأمريكية:

أ. قاعدة دييجو جارسيا، الواقعة في جزيرة دييجو جارسيا، التابعة لبريطانيا. وهي تعد أكبر قاعدة أمريكية في المحيط الهندي.

ب. جزيرة مصيرة، الواقعة قبالة الساحل العُماني، على بعد 6.4 كم من مضيق هرمز.

ج. ميناء مطرة، في عُمان.

د. ميناء مومباسا ومطار ننيوكي، في كينيا.

هـ. جزيرة ماهية، في جُزر سيشيل.

و. ميناء إيلات، في إسرائيل.

وفي تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية (1996) تحديدٌ للمضايق التي تعدّها واشنطن "جسر المواصلات بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، وتساعد الولايات المتحدة الأمريكية على نقل بضائعها التجارية وقواتها المسلحة إلى أي مكان في العالم". وهذه المضايق في منطقة الشرق الأوسط، هي: جبل طارق، صقلية، قناة السويس، باب المندب، هرمز، و "إن أي محاولة لإغلاق مضيق هرمز أمام ناقلات النفط تعدّ محاولة خطيرة، تحُول دون وصول النفط إلى الأسواق العالمية. كما أن محاولة عرقلة التحركات العسكرية الأمريكية في المنطقة، وقت الحرب، سوف تدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى استخدام القوة، لضمان استمرار سلامة خطوط المواصلات الحيوية".

وإلى جانب الوجود الأمريكي، نفوذاً أو اقتصاداً أو قوة عسكرية، في منطقة البحر الأحمر وما حولها، ثمة مصالح متنوعة لمختلف الدول الكبرى، كفرنسا وبريطانيا والصين واليابان. ويختلف نوع المصالح والوجود في المنطقة وما حولها، بين دولة وأخرى. ففي حين يتحرك النفوذ البريطاني في ظل النفوذ الأمريكي، تسعى فرنسا إلى تبنّي نوع من الاستقلالية في وجودها وتحركها، خاصة أنها تتمتع بمركز متميز في جيبوتي، المستعمرة الفرنسية السابقة. وفي حين لا تكثر المصالح الصينية في المنطقة، تسعى اليابان إلى إقامة علاقات متوازنة بمختلف دول المنطقة، دعماً لمصالحها الاقتصادية وأسواقها، فضلاً عن استيرادها للنفط من المنطقة.

ثانياً: روسيا الاتحادية

خلفت روسيا الاتحادية الاتحاد السوفيتي، الذي انهار، كدولة عظمى، في مطلع التسعينيات، وتفكك إلى دول كثيرة في العام 1991، وورثته روسيا الاتحادية في المنظمات الدولية وبعض التعاقدات الإلزامية. لهذا، فإن علاقة الاتحاد السوفيتي بالبحر الأحمر أمست تنتسب إلى التاريخ، لأن روسيا الاتحادية، نظراً إلى أوضاع نشأتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أضحت غير قادرة، لمدى زمني منظور، على منافسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة البحر الأحمر وما حولها.

كان البحر الأحمر وما حوله أحد اهتمامات الإستراتيجية العامة للاتحاد السوفيتي، لمواجهة النفوذ الأمريكي في العالم الثالث وأعالي البحار. ولهذا، كان الاتحاد السوفيتي يلجأ، بدوره، إلى إقامة تحالفات وصداقات مع دول العالم الثالث، لتفويت الفرصة على الولايات المتحدة الأمريكية وعدم ترك المجال لها وحدها. ولذلك، كان الوطن العربي وإفريقيا ساحتَيْن للتنافس والصراع بين القوتين العظميين، منذ اندلاع الحرب الباردة مع نهاية الحرب العالمية الثانية.

وإذا كان الاتحاد السوفيتي قد تخلّى عن مبدأ حتمية الحرب بين الشرق والغرب، في فترة الستينيات، وتبنّى بدلاً من ذلك مبدأ التعايش السلمي، الذي ينبذ اندلاع حرب شاملة مباشرة بين القوتين العظميين، فإنه استعاض عن ذلك بإستراتيجية مواجهة التغلغل الأمريكي في العالم الثالث وأعالي البحار.

وكانت الإستراتيجية السوفيتية في البحر الأحمر، تتمثل في دعم نُظُم الحكم الثورية، التي تتصدى للسياسات الغربية. ومن أجل مواجهة النفوذ الأمريكي في منطقة البحر الأحمر وما حوله، عمل الاتحاد السوفيتي على استقطاب حلفاء له في هذه المناطق. ولقد استطاعت السياسة السوفيتية استقطاب العديد من الدول المعادية للولايات المتحدة الأمريكية والسياسات الغربية، مما أعطى الاتحاد السوفيتي مكانة، بات متعذراً على الدول الغربية تجاهلها، خاصة أن الدول التي كان الاتحاد السوفيتي يدعمها، أصبحت ذات دور فعّال في سياسات الوطن العربي وإفريقيا.

ومنذ العام 1977، كسب الاتحاد السوفيتي حليفاً آخر، جنوبي البحر الأحمر، إلى جانب اليمن الجنوبي، وهو النظام الماركسي في إثيوبيا. ولقد استعان نظام "هيلا مريام"، الذي وصل إلى الحكم في العام 1974، بالاتحاد السوفيتي وكوبا، عسكرياً واقتصادياً، على نزاعه مع كل من الصومال والثورة الإريترية. وهي مساعدات ضمنت لإثيوبيا قوة عسكرية متفوقة، لا يستهان بها. وبفضل المساعدات العسكرية والاقتصادية السوفيتية والكوبية، تمكنت إثيوبيا من إحراز نصر عسكري على الصومال في العام 1978 (أوجادين). كما تمكنت من فرض سيطرتها على معظم أنحاء إريتريا.

ولقد أدى الصراع الدائر في القرن الإفريقي إلى مجموعة من النتائج على المستويين الإقليمي والدولي، يهمنا منها تبنّي بعض الدول المطلة على البحر الأحمر سياسات ودّية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، لكسب تأييدها تجاه الدول التي كانت توصف بأنها "دول ثورية".

ويمكن تحديد الأهداف العامة للسياسة الخارجية السوفيتية، في إطار البحر الأحمر وما حوله، بما يلي:

1. السيطرة وفرض النفوذ السوفيتي على الخطوط البحرية من خلال البحر الأحمر، لتتاح فرصة الوجود والتأثير للقوات السوفيتية أينما أمكن ذلك.

2. تقويض المصالح الأمريكية والغربية وتقليصها في البحر الأحمر وما حوله.

3. زيادة مستوى اعتماد "الدول الثورية"، المطلة على البحر الأحمر وما حوله، على الاتحاد السوفيتي.

4. محاولة احتواء دول القرن الإفريقي (الصومال ـ إثيوبيا) إضافة إلى اليمن الجنوبي وإدخالها في حلف أو اتحاد، يدور في فلك الاتحاد السوفيتي، وبذا تتم له السيطرة على باب المندب.

5. نشر النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة، بما يمكّن الاتحاد السوفيتي من التخفيف من حدّة السيطرة الأمريكية والأوروبية الغربية، ويساعد على نشر الأيديولوجية السوفيتية في المنطقة.

6. التوسع في عقد اتفاقيات الدفاع المشترك، والحصول على التسهيلات البحرية والجوية، مع زيادة الوجود العسكري السوفيتي في دول المنطقة.

7. الاحتفاظ بمعدات عسكرية مخزونة، وقوات جوية متمركزة في قواعد جوية، في بعض دول المنطقة، يعمل عليها طيارون كوبيون أو من ألمانيا الشرقية أو سوفيت، بما يمكّن الاتحاد السوفيتي من سرعة التحرك في المنطقة.

وعلى الرغم من أن الإستراتيجية السوفيتية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، كانت باهظة النفقات، نظراً إلى حجم الموارد المادية والعسكرية، التي خصّ بها الاتحاد السوفيتي أطراف النزاع في القرن الإفريقي، فإن نجاح الإستراتيجية السوفيتية في البحر الأحمر، يُعدّ تعويضاً عن هذه الخسائر المادية. إن استعانة بعض الدول المطلة على البحر الأحمر، إلى جانب دول عربية وإفريقية أخرى، بالاتحاد السوفيتي، باعتباره مناصراً لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي التخلص من الاستعمار الاستيطاني والتفرقة العنصرية (إسرائيل وجنوب إفريقيا)، جسدت، إلى حدّ كبير، نجاح الإستراتيجية السوفيتية في هذه المناطق من العالم.

ومع التغـيير المشهود في الإستراتيجية السوفيتية، بعد استلام الرئيس جورباتشوف للسلطة (11/3/1985)، ومع دعم سياسة الوفاق، قلّ التنافس والصراع بين القوتين العظميين في البحر الأحمر.

ثالثاً: الدور الفرنسي

ويمكن إرجاع الاهتمام الفرنسي بدول منطقة البحر الأحمر إلى:

1. تأمين الواردات الفرنسية النفطية، خاصة وأنها تستورد حوالي 46% من احتياجاتها النفطية من دول المنطقة.

2. إثبات وجودها ومشاركتها في تأمين طرق المواصلات والممرات المهمة، وكذا المصالح الإستراتيجية الغربية في ظلت ما توليه فرنسا من اهتمامات جماعية وذاتية بالمنطقة.

3. ضمان عدم انفراد الولايات المتحدة الأمريكية في التحكم في الأوضاع في المنطقة، لاسيما مع إمكانية تصاعد الخلاقات بين دول المعسكر الغربي، في ظل تباين المصالح الاقتصادية بين الأطراف الدولية، وبصفة خاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول المجموعة الأوروبية.

وتسعى السياسة الفرنسية إلى تحقيق وجود ملموس في منطقة البحر الأحمر وإفريقيا بصفة عامة، بما يحافظ على مصالحها السياسية والاقتصادية، ولإيجاد شكل من توازن المصالح في حسابات القوى المؤثرة على الأوضاع في المنطقة، وعلى الرغم من استقلال جيبوتي، الواقعة في مدخل البحر الأحمر عن فرنسا، عام 1977، إلا أن فرنسا احتفظت بقاعدة عسكرية وبحرية ووجود مؤثر في جيبوتي وفي البحر الأحمر، وهو يعد أكبر وجود عسكري فرنسي خارج فرنسا، ويرتبط هذا الوجود من جهة أخري بمصالح فرنسا الخليجية، والمتمثلة في مصادر النفط وطرق نقله.

ولا يقتصر الدور الفرنسي على الوجود العسكري والبحري في المنطقة، حيث لا يمكن إغفال الدور والدعم الاقتصادي الذي تقوم به فرنسا، فضلاً عن قيامها بالإسهام في تسليح عدد من الدول المطلة على البحر الأحمر (جيبوتي ـ مصر ـ المملكة العربية السعودية ـ اليمن... الخ). كما تحرص فرنسا على تدعيم اتصالاتها السياسية بأنظمة الحكم القائمة (وبعض القوي المعارضة)، لاسيما في الدول الواقعة في دائرة الاهتمام الفرنسي (دول الفرنكفون)، خاصة جيبوتي، وذلك في إطار مساعيها للحفاظ علي مصالحها الإستراتيجية وإقرار الأوضاع في تلك الدول لدعم استقرار هذه المصالح في ظل المتغيرات الحالية، ومن ثم الحفاظ علي مصالحها الإسترتيجية في منطقة البحر الأحمر.

وفي إطار حرص فرنسا على دعم دورها في المنطقة بصفة عامة، وجيبوتي بصفة خاصة، وافقت فرنسا على زيادة واستمرار الدعم المادي لجيبوتي، مع تجاوبها مع رغبة جيبوتي في إبقاء قواتها العسكرية العاملة هناك، مع بحث إمكانية زيادتها. كما لا يمكن إغفال المساعي الفرنسية في الحفاظ علي علاقاتها الثقافية بدول المنطقة، سواء من خلال البعثات والمنح الثقافية، أو فروع لبعض الجامعات الفرنسية في بعض دول المنطقة.

رابعاً: الدور البريطاني

على الرغم من إقرار بريطانيا لخفض التزاماتها الدفاعية فيما وراء البحار، نتيجة لما واجهته من ضغوط اقتصادية، وحاجتها  لتخفيض الأنفاق العام، إلا أن ذلك لم يقلل من الاهتمامات البريطانية الكبيرة بدول البحر الأحمر وشرق إفريقيا، خاصة مع الاتفاق السياسي والاستراتيجي لبريطانيا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتوافق مصالحها تجاه المناطق ذات الاهتمام الإستراتيجي المشترك في العالم. ويتخلص الدور البريطاني في المنطقة في الآتي:

1. تصدير نظم التسليح البريطانية إلى بعض الدول الإقليمية التي تطل على البحر الأحمر (مصر ـ المملكة العربية السعودية ـ إسرائيل... الخ).

2. اتجاه حوالي نصف التجارة الخارجية لبريطانيا للدول الواقعة شرق البحر الأحمر (دول الخليج العربي بشكل رئيسي).

3. المحافظة على دورها في الجهود الدفاعية لحلف شمال الأطلسي في المنطقة, ومن هذا المنطلق فهي تحتفظ ببعض القطع البحرية في البحر الأحمر ضمن الإطار العام لإستراتيجية الحلف ومهامه في المنطقة.

4. المشاركة في أي أحداث تتعلق بالدول المطلة علي البحر الأحمر، أو التي تهدد أمن وسلامه المصالح الغربية في المنطقة (تطهير البحر الأحمر من الألغام عام 1984 ـ أزمة الخليج الثانية وحرب تحرير الكويت ـ الصومال... الخ).

5. الوجود البحري البريطاني ضمن القوات المشتركة في منطقة الخليج والبحر الأحمر (قوات أمريكية ـ بريطانية ـ فرنسية ـ أسترالية... الخ).

خامساً: الدور الياباني

تعتمد اليابان في صناعاتها أساساً على المواد الخام التي تستوردها من الخارج، كما أنها تستورد معظم احتياجاتها من الطاقة من منطقة الخليج؛ لذا اتجهت اليابان إلى دعم علاقاتها وتعاونها الاقتصادية مع الدول المؤثرة في المنطقة، وكذا مع دول المضايق والممرات الملاحية التي تتحكم في خطواتها التجارية والبحرية، سواء في منطقة الخليج العربي، أو منطقة البحر الأحمر المهمة إستراتيجياً.

وقد تزايدت الاهتمامات اليابانية بدول منطقة البحر الأحمر، فعلى الرغم من عدم السماح بوجود عسكري خارجي لليابان، إلا أنها تسهم بشكل كبير في تأمين مصالحها والمصالح العربية عامة في منطقة الشرق الأوسط؛ بما فيها الخليج العربي والبحر الأحمر (المساهمات اليابانية الكبيرة في حرب تحرير الكويت، وفي العمليات الدولية بالصومال).

وتتبع اليابان أشكالاً متعددة في دعم دورها في المنطقة، معتمدة علي إمكانياتها الاقتصادية، حيث تسهم في المشروعات الاقتصادية الضخمة بالمنطقة. كما تعمل على أن تسهم في تطوير الصناعات الوطني، وتقديم المساعدات الخاصة بالتكنولوجيا المتطورة، مستهدفة بذلك إيجاد شكل ملائم من العلاقات مع الدول الحيوية في المنطقة، التي تعتبر أسواقاً حيوية لليابان، التي تُعد من أكثر الدول تعاملاً في التجارة الخارجية على المستوى الدولي، وهو الأمر الذي يضعها في مجال تنافس في السوق العالمي مع عديد من القوى الدولية، سواء الأوروبية أو الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يدفع اليابان للحفاظ على قدر من مصالحها الذاتية بدول المنطقة خارج إطار التعاون الغربي، وبذا أصبح لليابان نوع من الوجود غير المباشر في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر.

سادساً: الدور الصيني

مع نهاية الحرب الباردة بدأت الصين في التوجه نحو مصادر الطاقة في إفريقيا، وتأمين خطوط الملاحة الخاصة بها، واستطاعت عقد الاتفاقيات مع السودان وإنشاء خط أنابيب لنقل النفط من جنوب السودان إلى ميناء بور سودان على البحر الأحمر. وتعمل الصين على التحرك سياسياً واقتصادياً تجاه دول حوض البحر الأحمر، من أجل الحصول على النفط، حيث يزداد طلب الصين من النفط بمعدل 30% سنوياً. وتشير التوقعات إلى تنامي الدور الصيني في هذه المنطقة وأن تتجاوز حجم تجارتها الخارجية مع دول حوض البحر الأحمر، حجم التجارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية مجتمعة.

سابعاً: إسرائيل

للبحر الأحمر منزلة خاصة في التاريخ اليهودي، وفي الفكر الإستراتيجي الصهيوني/ الإسرائيلي. فقد نسج المؤرخون العبرانيون ورجال الدين اليهودي، حكايات عن صِلات اليهود الأقدمين بالبحر الأحمر. وتمتد تلك الحكايات إلى مملكة سليمان، في حوالي القرن العاشر قبل الميلاد. ويحكي التاريخ اليهودي أن مملكة سليمان، اتسعت حتى شملت البحر الأحمر، فتزوج بلقيس ملكة سبأ، في اليمن.

وإذا تجاوزنا تلك الأدبيات والأساطير، وانتقلنا إلى مرحلة ولادة الصهيونية في العصر الحديث (1897)، فإننا نلمس، بوضوح، أن البحر الأحمر شغل منزلة خاصة لدى قادة الحركة الصهيونيـة، منذ أن اتجهت الحركة إلى جعل فلسطين "وطناً قومياً لليهود". وقد أقامت الصهيونية دعواها في شأن البحر الأحمر على مزيج من النصوص الدينية والأساطير التاريخية، كمثل زعْمها أن لمملكة سليمان، في القرن العاشـر قبل الميلاد، صِلة وثيقـة بالبحر الأحمر، إذ اتّسع ملكه حتى شمل هذا البحر، وتزوج ببلقيس ملكة سبأ، في اليمن، وأن أسرة هيلاسيلاسي ـ سبط يهوذا ـ في الحبشة، هي من ذُرية هذين الملكيْن. وهذا يفسر إصرار المؤرخين والجغرافيين الإسرائيليين على إطلاق الأسماء العبرية على مواقع، توافق العلماء في العالم على استعمال تسمياتها العربية. ومن أمثلة ذلك إطلاق الإسرائيليين اسم خليج إيلات على خليج العقبة، وخليج سليمان على خليج السويس. وقد أضافت إسرائيل إلى ذلك كله اعتبارات إستراتيجية وأمنية واقتصادية. وقد دفعت تلك الدعاوى والاعتبارات مؤسِّسي إسرائيل وقادتَها إلى العمل للسيطرة على بعض المواقع الإستراتيجية الخاصة بالبحر الأحمر، بدءاً من ميناء إيلات على خليج العقبة.

وكانت الخطة الصهيونية للنفاذ إلى البحر الأحمر، تبدأ باستيطان النقب وسيناء، ثم التمركز على سواحل البحر. وتوجهت جهود الزعماء الصهاينة إلى الدول الغربية الاستعمارية، خاصة بريطانيا، لمساعدتهم على تنفيذ خطتهم.

وحينما كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في العام 1947، تناقش خطة تقسيم فلسطين، استخدمت الصهيونية ما لديها من وسائل الضغط على الإدارة الأمريكية حتى يكون للدولة اليهودية المنشودة نصيب في النقب والبحر الأحمر. وقد أثمرت تلك الجهـود، إذ أصدر الرئيس الأمريكي هاري ترومان، أمره إلى وفد الولايات المتحـدة الأمريكية في الأمم المتحدة: "من أجل إدراج منطقة النقب، مع جزء من خليج العقبة، ضمن حدود الدولة اليهودية، التي كانت في مرحلة المخاض" وحينما شرعت إسرائيل تبني مدينة إيلات، في العام 1951، أعلن بن جوريون أن أساطيل داود وسليمان، ستشق طريقها من جديد في البحر الأحمر، بعد توقف دام أكثر من ألفي عام. وردد المؤرخون الإسرائيليون المعاصرون: "إن البحر الأحمر كان بحراً يهودياً في الماضي، وسيبقى كذلك في الحاضر والمستقبل". وما أن تولى ديفيد بن جوريون رئاسة الحكومة الإسرائيلية الأولى، في العام 1948، حتى أعلن إستراتيجية دولته في البحر الأحمر بقوله: "إن سيطرة إسرائيل على نقاط في البحر الأحمر، هي ذات أهمية قصوى، لأن هذه النقاط ستساعد إسرائيل على الفكاك من أي محاولات لمحاصرتها وتطويقها، كما ستشكل قاعدة انطلاق عسكري لمهاجمة أعدائنا في عقر دارهم، قبل أن يبادروا إلى مهاجمتنا".

ومنذ ذلك الحين، لم يفتر الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي عن السعي إلى الامتداد نحو البحر الأحمر، والانتشار فيه وحوله، قدر المستطاع، وخطوة خطوة، مستخدماً القوة المسلحة، كلّما أمكنه ذلك.

كان الوصول إلى السيطرة على البحر الأحمر، يتطلب تنفيذ الخطة الصهيونية على مراحل. ففي إطار الغزو الصهيوني لفلسطين، بدأت الخطة باستيطان النقب، منذ العام 1938. وفي العام 1949، احتلت القوات الإسرائيلية قرية أم رشراش العربية، على خليج العقبة، لتقِيم في مكانها ميناء إيلات. وفي العام 1956، احتلت سيناء وشرم الشيخ ومضيق ثيران، لتنطلق إلى البحر الأحمر، ومنه إلى إفريقيا وآسيا. وانسحبت إسرائيل من هذه المناطق في مارس 1957، لتحل محلها "قوات الطوارئ الدولية"، التي انسحبت أيضاً، بناء على طلب مصر في 23/5/1967. ثم عادت إسرائيل، في حرب 1967، فاحتلت المضيق وسيناء كلها. وبعد حرب 1973، ضمنت معاهدة السلام مع مصر (1979) لإسرائيل حق المرور والملاحة في قناة السويس ومضيق ثيران، واعتبرت المعاهدة البحر الأحمر بحراً مفتوحاً. كما ضمنت لها الولايات المتحدة الأمريكية أن يظل باب المندب في الجنوب مفتوحاً لملاحتها.

ويمكن القول إن اشتراك إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا في حرب 1956، ضد مصر، كان في أحد وجوهـه وأحد أسبابه، إكمالاً لحرب 1948. فقد هدفت إسرائيل من هذه الحرب، من بين أهداف رئيسية أخرى، إلى تحقيق إطلالتها على البحر الأحمر، وذلك بتوفير الظروف والعوامل اللازمة لإحياء ميناء إيلات، ذلك الميناء الذي كان، منذ إقامته في العام 1951 حتى حرب 1956، غير فاعل، بسبب إغلاق خليج العقبة، وتطبيق أحكام المقاطعة على العلاقات التجارية بإسرائيل، سواء في مضيق ثيران أو قناة السويس. يضاف إلى ذلك، أن مستقبل النقب، من حيث تطويره اقتصادياً، وإعماره وتوطين المهاجرين القادمين إلى إسرائيل فيه، كان مرهوناً بفتح تلك النافذة المغلقة في إيلات.

وهكذا، كان ربط إيلات بالبحر الأحمر وما وراءه، خطوة تكميلية لتأسيس إسرائيل. ومن هنا، كانت حماسة إسرائيل كبيرة للاشتراك مع بريطانيا وفرنسا في العدوان على مصر. وكان احتلال سيناء، خاصة مضيق ثيران وشرم الشيخ، أحد الأهداف الرئيسية لتلك الحرب، والوسيلة إلى تحقيق إستراتيجية إسرائيل في النفاذ إلى البحر الأحمر، والسعي إلى التحكم في مجراه وفي بعض الجُزر فيه، ومراقبة مداخله، والتحكم في مضيق ثيران بصورة خاصة، والانطلاق إلى أسواق إفريقيا وآسيا، والالتفاف على الوجود العربي وتأثيراته في النطاق الإفريقي، الذي يحيط بالدول العربية في إفريقيا.

وحينما أرادت مصر أن تعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل عدوان 1956، وطلبت سحب قوات الطوارئ الدولية، وأعلنت، يوم 23/5/1967، إغلاق خليج العقبة في وجْه السفن الإسرائيلية، ردت إسرائيل بالحرب، يوم 5/6/1967، فاحتلت سيناء المصرية، وما بقي من فلسطين (قطاع غزة والضفة الغربية)، ومنطقة الجولان السورية. وكان أحد أهداف هذه الحرب التغلغل في البحر الأحمر. وكان احتلال سيناء يشكل حزام الأمن وقاعدة الانطلاق لذلك التغلغل، تمهيداً للسيطرة على البحر.

وفي حرب 1973، تلقّت إسرائيل درساً جعلها تعدِّل إستراتيجيتها في البحر الأحمر. فبعد أن اطمأنت بأن احتلالها لشرم الشيخ ومضيق ثيران، في حرب 1967، قد فتح لها السبيل إلى السيطرة على البحر الأحمر، جاءت حرب 1973 لتثبت لإسرائيل خطأ فكرتها، حين أغلقت القوات البحرية المصرية باب المندب، وجعلت إسرائيل تعاني الاختناق. وكانت إسرائيل، قبل ذلك، قد أدركت أهمية باب المندب، بالنسبة إلى أمنها وملاحتها، فانطلقت، قبيل حرب 1967، تهدد بأنها لن تقف مكتوفة اليدين إزاء التهديدات اليمنية في شأن إغلاق باب المندب في وجْه الملاحة الإسرائيلية.

لقد منع إغلاق باب المندب إمدادات النفط من عبور مضيق ثيران إلى ميناء إيلات، فجفت أنابيب الضخ، وعجزت قدرة الآلة الحربية الإسرائيلية عن أن تستمر في القتال، إلاّ أياماً قليلة، قبل أن تدركها الولايات المتحدة الأمريكية بالنفط لسد العجز الخطير فيه.

كانت حرب 1973 المنعطف الذي تطور عنده مفهوم البحر الأحمر، في الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي. فقد اعترف قائد القوات البحرية الإسرائيلية، "أن حصار باب المندب، أظهر أن سيطرة إسرائيل على شرم الشيخ ومضيق ثيران، ليس فيها ضمان لتأمين حرية الملاحة الإسرائيلية". وانتهى إلى أن الحل يتمثل في تعزيز الوجود البحري الإسرائيلي في البحر الأحمر، من أجل ضمان المصالح الإسرائيلية، وضمان عدم تكرار ما حدث في حرب 1973.

ونظراً إلى خطر هذا العنصر الجديد، الذي دخل على الوضع الإستراتيجي للبحر الأحمر، كان أول ما سعت إليه إسرائيل، في إثر وقف إطلاق النار، رفع الحصار العربي عن باب المندب. وهذا ما تضمنه الاتفاق الأول لفصل القوات مع مصر (1974). كما حصلت على تعهد أمريكي بألاّ يتكرر حصار المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وأن يكون الأسطول الأمريكي السابع، المرابط في المحيط الهندي، هو الضامن لذلك. وفي العام 1982، أعلم وزير الخارجية الأمريكية وزير الدفاع الإسرائيلي، أن الولايات المتحدة الأمريكية عززت وجودها في البحر الأحمر، لحماية حرية الملاحة، ومنها الملاحة الإسرائيلية.

إضافة إلى هذه الترتيبات والضمانات، سلكت إسرائيل مسارين يعززان هدفها، أولهما: السعي إلى تدويل باب المندب ومجموعة الجُزر العربية، التي تتحكم فيه، وثانيهما: تعزيز علاقاتها بالدول الإفريقية في حوض البحر، أو القريبة منه، مثل إريتريا وإثيوبيا وكينيا، وذلك بإمدادها بالأسلحة والخبرات والمعدات الزراعية، مقابل استخدام إسرائيل موانئها وأراضيها، وإقامة قواعد عسكرية ومراكز مراقبة، خاصة في الجُزر الإريترية، مثل دهلك، وحالب، وفاطمة، وميناءي عَصَب ومصوّع. كل ذلك من أجل التدخل السريع ضد أي إجراءات عربية لفرض حصار بحري على إسرائيل في البحر الأحمر.

وهكذا، يمكن القول إن الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية، في مرحلة الحروب (1948-1985)، وفي مرحلة إقامة السلام، التي بدأت عمليـة التفاوض في شأنها في مؤتمر السلام للشرق الأوسط (مدريد 30/10/1991)، تتجسـد في ما يلي:

1. تأمين الملاحة البحرية بين إسرائيل وآسيا وإفريقيا وأوروبا، عبر حماية ميناء إيلات، وحق المرور في مضيق ثيران وباب المندب وقناة السويس، والتمركز العسكري في بعض جُزر البحر الأحمر، للرقابة والتمركز العسكري، كقاعدة للعمليات.

2. التعاون مع بعض الدول الإفريقية على تحقيق الوجود العسكري أو الفني، في بعض الموانئ والمواقع والجُزر في البحر الأحمر.

3. العمل لتدويل مضيق باب المندب، كممر دولي للملاحة.

4. الاستناد إلى الوجود الإسرائيلي في البحر الأحمر، من أجل ترسيخ علاقات إسرائيل الاقتصـادية والسياسية بالدول الإفريقية والآسيوية.

5. تعطيل أي مشروع للتضامن أو التعاون العربي في البحر الأحمر، أو لجعل البحر الأحمر "بحيرة عربية"، أو لنشر السيطرة العربية عليه، والسعي إلى طمس هويته العربية.

6. فرض وجود إسرائيل، كدولة إقليمية في البحر الأحمر.

7. ترسيخ انشطار الوطن العربي إلى قسمين منفصلين، آسيوي وإفريقي.

من أجل تحقيق بعض هذه الأهداف، تعاونت إسرائيل مع الدول غير العربية المطلة على البحر، ويأتي في مقدمها إثيوبيا، خاصة حينما كانت تطل على هذا البحر، قبل استقلال إريتريا في العام 1993. وقد بنت إسرائيل علاقتها بإثيوبيا على أساس المصالح المشتركة في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ومن المعروف أن لإثيوبيا، على مختلف مراحل التاريخ، القديم والحديث والمعاصر، مطامع تكاد تكون مستمرة في هاتين المنطقتين. وهو ما جعل العلاقات العربية ـ الإثيوبية معرّضة، في أغلب الأحيان، للتوتر.

قامت إثيوبيا، خاصة في عهد النظام الماركسي، الذي حكمها (1977ـ1991)، بدور مهم في الحرب الباردة وتنافس الإستراتيجيتين الأمريكية والسوفيتية في البحر الأحمر، مكملة بذلك الخط الذي كان الاتحاد السوفيتي يدعمه، بتعاونه مع جمهورية اليمن الديموقراطية (قبل وحدة شطرَي اليمن في 22/5/1990) وبعض دول شرقي إفريقيا. وعلى الرغم من فترة انقطاع العلاقات بين إسرائيل وإثيوبيا (1973ـ1989)، والنهج الماركسي لنظام الحكم في إثيوبيا، ومساعدات الاتحاد السوفيتي وكوبا له، أقدمت إسرائيل على تقديم العون العسكري إلى أديس أبابا في صراعها ضد الصومال في أوجادين. وقد هدفت إسرائيل من وراء ذلك إلى أمرين: أولهما، تيسير تهجير اليهود الأحباش "الفلاشا"، وعددهم حوالي 17 ألف يهودي، إلى إسرائيل. وثاني الأمرَيْن، الالتفاف على العون العربي لفصائل الثورة الإريترية، الهادفة إلى الاستقلال عن إثيوبيا.

ويمكن القول إن العلاقة الإسرائيلية ـ الإثيوبية أصبحت علاقة عريقة مؤسسية. استُهِلّت بإبرام إثيوبيا، بدلاً من إسرائيل، ونيابة عنها، عقداً مع تشيكوسلوفاكيا لشراء الأسلحة، في إثر الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى (1948)[1]. ثم تتابعت وقائع تلك العلاقـة، حتى يمكن القول إنها شملت مجالات عديدة، أبرزها المجال العسكري والأمني والاستخباراتي، بما في ذلك الوجود العسكري الإسرائيلي في الجُزر الإثيوبية، قبل استقلال إريتريا، في البحر الأحمر، وهي جُزر دهلك وفاطمة وحالب، وذلك في إثر انتصارها في حرب 1967.

وكان التركيز الإسرائيلي على إثيوبيا أكثر منه على ما سواها من الدول الإفريقية، لأن إثيوبيا هي المتكأ الأساسي للتصدي للفكرة، التي تدعو إلى جعل البحر الأحمر "بحيرة عربية"[2]، أو وضعه تحت السيطرة العربية، عدا أن إثيوبيا هي القاعدة التي ينطلق منها المتمردون إلى جنوبي السودان، وهي مقر منظمة الوحدة الإفريقية، إذ تستطيع إسرائيل، من أديس أبابا، أن توثق علاقاتها بمختلف الدول الإفريقية. يضاف إلى ذلك أن إثيوبيا تشكل سوقاً تجارية واسعة، وتستوعب مختلف المنتجات الإسرائيلية.

وثمة سبب آخر، يشد إسرائيل إلى إثيوبيا، وهو أن 84 من مياه النيل، التي تمر بمصر، تنبع من إثيوبيا. فإذا استطاعت إسرائيل أن تبلغ حد ممارسة الضغوط على أديس أبابا، لأسباب مختلفة، فإنها قد تؤثّر في مشروعات النيل، وتوزيع حصص المياه، خاصة أن لإسرائيل مطمعاً كبيراً، في أن تمد قناة من النيل بمصر إلى سيناء فالنقب.

وتتمتع إسرائيل، حالياً، بوجود عسكري مباشر في بعض الجُزر، المتحكمة في مدخل البحر الأحمر الجنوبي، حيث أقامت قاعدتين جويتين في جزيرتَي دهلك وحالب قرب باب المندب، وتولي المدربين الإسرائيليين (حوالي 150 مستشاراً عسكرياً) إعداد وتدريب الفرق السبع الجديدة للجيش الإثيوبي. وكانت إسرائيل تزود إثيوبيا بمعظم المعدات العسكرية، وورش الصيانة، وأنواع كثيرة من الأسلحة الثقيلة والخفيفة، الجماعية والفردية، والذخائر، ومنها القنابل العنقودية وقاذفات الصواريخ وقنابل النابالم، وغيرها. ولقد استمر هذا العون العسكري والأمني، وتنوع، وتعددت مجالاته وأشكاله، على الرغم من تعرض العلاقات الثنائية بين البلدين لبعض الأزمات.

وقد تجلّت الإستراتيجية الإسرائيلية نحو البحر الأحمر أبرز ما تكون، أهدافاً وأساليب، في قضية إريتريا. فقد كان أمراً جدّ مهم، بالنسبة إلى إسرائيل، أن تبقى إريتريا ولاية إثيوبية، حتى تواصل إسرائيل وضع يدها على الجُزر الإريترية في البحر الأحمر. وبذلت إسرائيل قصارى جهدها، لإحباط الثورة الإريترية. ولكن ما أن تغيرت العوامل الدولية وتلك العربية ـ الإسرائيلية والعوامل في القرن الإفريقي وإثيوبيا، حتى سارعت إسرائيل إلى دعم الحكومة المؤقتة الإريترية، التي تشكلت في العام 1991. فوصلت إلى العاصمة أسمرا، في الشهر الأخير من العام 1992 وبداية العام 1993، مجموعة من العسكريين الإسرائيليين، مؤلفة من 350 فرداً، معظمهم من يهود "الفلاشا". وتولوا حراسة النظام ومؤسسات الدولة الوليدة، والإعداد لمواجهة احتمالات قيام حركات من التيار العربي، للاستيلاء على السلطة. وقد تلت تلك الدفعة الأولى دفعات أخرى من العسكريين، من مختلف الاختصاصات، لتعزيز الوجود العسكري الإسرائيلي في إريتريا والجُزر الإريترية في البحر الأحمر.

وما أن استقلت إريتريا في العام 1993[3]، حتى أصبحت بؤرة للتركيز الإسرائيلي، لأهداف رئيسية ثلاثة:

1. أولها تحييد إريتريا عن النظام العربي الإفريقي، وإلغاء هويتها العربية.

2. وثانيها أن تكون إريتريا المتكأ، بدل إثيوبيا، لإلغاء الفكرة، التي تدعو إلى جعل البحر الأحمر "بحيرة عربية".

3. وثالثها أن يستمر الوجود العسكري والأمني الإسرائيلي، في بعض الجُزر الإريترية، كما كانت الحال مع إثيوبيا قبل ذلك.

ومن أجل أن تمد إسرائيل سيطرتها إلى البحر الأحمر، فهي تتذرع بأمنها، وبضرورة توفير العوامل اللازمة له، جاعلة من البحر الأحمر مجالها الحيوي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً. ولهذا مرت إستراتيجيتها في البحر الأحمر، حتى الآن، بثلاث مراحل، تندرج جميعها تحت ذريعة الأمن وعوامله:

1. ترسيخ موطئ قدم في خليج العقبة (1949 - 1967).

2. حرية الملاحة في مضيق ثيران، من خليج العقبة إلى وسط البحر الأحمر (1967-1973).

3. حرية الملاحة في البحر الأحمر كله، وبمنافذه الثلاثة: مضيق ثيران، وقناة السويس، وباب المندب(منذ 1974).

وقد كانت المراحل الثلاث المذكورة ذات صِلات مباشرة بمرحلة الحروب العربية ـ الإسرائيلية (1948 ـ 1985). وعلى هذا، يمكن القول، الآن، إن المرحلة الرابعة، وسِمتها الرئيسية سعي إسرائيل إلى التغلغل في البحر الأحمر، قد بدأت مع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل (1979)، ثم بين الأردن وإسرائيل (1994). وتتطلع إسرائيل إلى إنجاز إقامة السلام العربي ـ الإسرائيلي، من أجل أن تسير قدُماً في تحقيق هدفها.

أدى وصول إسرائيل إلى المرحلة الرابعة من إستراتيجيتها في البحر الأحمر، إلى حدوث ثلاثة متغيرات ذات طابع إستراتيجي:

1. أول هذه المتغيرات، أن إسرائيل أصبحت عضواً أصيلاً في حوض البحر الأحمر، لها ما للدول الأخرى المطلة على ساحله من حقوق ومصالح اقتصادية وقانونية ودبلوماسية، وعليها ما عليها من التزامات.

2. والمتغير الثاني، ارتباط الأمن الإسرائيلي بالبحر الأحمر، ويعني هذا أن لإسرائيل الحق في إيجاد عمق إستراتيجي لها في هذا البحر، على امتداد مجراه وتعدد مضايقه.

3. والمتغير الثالث، حق إسرائيل في الوجود العسكري في البحر، دفاعاً عن مصالحها وعمقها الإستراتيجي، خاصة إذا كان هذا الوجود مستنداً إلى عدم اعتراض الطرف الآخر.

ويتطلب تنفيذ المرحلة الرابعة من إستراتيجية إسرائيل في البحر الأحمر، أن تعمل لترسيخ المتغيرات الثلاثة، وتعزيز وجودها الاقتصادي والقانوني والدبلوماسي والسياسي والعسكري في وسط البحر، مرافئ وجُزراً ومضايق، وفي دول حوضه، وخاصة في الساحل والقرن الإفريقيَّيْن.

وتدعم إسرائيل توجهها هذا، بالاستفادة من الفراغ الناجم في شرقي إفريقيا عن زوال الاتحاد السوفيتي، كدولة عظمى. فبعد أن كان بعض الدول الإفريقية تستفيد من تنافس القوتين العظميين، سواء في دعم أنظمة الحكم أو في المساعدات العسكرية أو المعونات الاقتصادية، توقفت هذه العلاقات بسبب انتهاء الحرب الباردة ومظاهرها. وإذ نشأ فراغ عن ذلك، فقد أقدمت إسرائيل على محاولة إشغال ما تستطيع إشغاله، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية ومساعدتها.

وكانت إسرائيل، قبل ذلك، قد أقامت إستراتيجيتها في القرن الإفريقي، بصورة عامة، كسبيل إلى السيطرة على البحر الأحمر، على مضادّة السياسات العربية. ففي حين كانت إثيوبيا تصطدم مع الصومال في أوجادين، ومع الثورة الإريترية، الساعية إلى استقلال إريتريا عن الحكم الإثيوبي، كانت الدول العربية تساند الصومال في حربه لتحرير أوجادين، وتدعم الثورة الإريترية بالسلاح والمال والسند السياسي.

واقتنصت إسرائيل هذه المتناقضات العربية  الإفريقية، لتوظفها من أجل الوجود السياسي والعسكري على الحافة الغربية للبحر الأحمر. وكانت إثيوبيا، وإريتريا جزء منها، قبل استقلالها، في المقام الأول، وكينيا وأوغندا، في المقام الثاني، مسارح لعمليات التوظيف هذه.

وإذا كانت إسرائيل قد شقت طريقها إلى البحر الأحمر حتى منتهاه بباب المندب، من خلال موطئ قدم وضعته في إيلات، لا يزيد عرضه، على البحر، على 11 كم، فإنها لا تزال مقتنعة بأن حزام الأمن لموطئ القدم هذا، هو شبه جزيرة سيناء. وثمة أدبيات إسرائيلية كثيرة، صدرت بعد تنفيذ معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وانسحاب إسرائيل من سيناء، تتحدث عن سيناء ومنزلتها في الإستراتيجية الإسرائيلية. ولعل الوثيقة الصادرة عن رئاسة الأركان الإسرائيلية، في العام 1984، تلخص أسُس الدعوى الإسرائيلية، حينما تؤكد أن أهمية سيناء "تحتم على إسرائيل أن تكون شبه جزيرة سيناء ضمن حدود دولتها".

ثمة سبب آخر يشد إسرائيل إلى البحر الأحمر، هو استغلال البحر من أجل التأثير في منابع نهر النيل. ومن المعروف أن إسرائيل سعت، في العام 1979، إلى الحصول على كمية من مياه النيل، تجرها إلى النقب. وعلى الرغم من أن هذا الطلب وُئد منذ ولادته، فإن إسرائيل تطلع إلى أن "تصبح شريكاً رئيسياً في مشروعات نقل المياه بين بلدان المنطقة".

ومن نافلة القول الإشارة إلى أن نهر النيل، يشكل شريان الحياة في مصر، حتى إن الحياة لا تستقيم فيها، إذا ما اضطرب جريانه بأي شكل من أشكال الاضطراب. ولهذا، كان من الطبيعي أن يمتد حزام الأمن المائي الإستراتيجي لمصر إلى المنابع الرئيسية في حوض النيل، وأن يكون أي عمل يجري في هذا الحوض، ويؤدي إلى إحداث اضطراب في جريان النيل إلى مصر، أو إنقاص من حصة مصر التاريخية والقانونية من مياهه، عملاً يمس الأمن الوطني المصري مسّاً مباشراً ويعرضه للخطر. وتنطبق هذه الحقيقة نفسها على السودان أيضاً.

وقد حاولت إثيوبيا، في بداية السبعينيات، تشييد منشآت على النيل الأزرق، وهو ما دفع مصر إلى التهديد باستعمال القوة ضد المشروع. ثم عادت أديس أبابا، في العام 1981، وأعلنت أنها لن توقع أو تنضم إلى أي اتفاقية خاصة بحوض النيل، وأنها تعتزم تنفيذ 40 مشروعاً على مجرى النيل الأزرق. وفي هذا الإطار، أوفدت إسرائيل إلى إثيوبيا 400 خبير، في أوائل العام 1990.

ويتمثل التهديد الإسرائيلي للنيل، عبر استخدام إسرائيل البحر الأحمر ممراً إلى دول المنابع، في محاولاتها اختراق أمن الدولتين العربيتين، مصر والسودان، بمحاصرة مياه النيل في حوضه الأعلى، طبقاً لإستراتيجيتها الإفريقية، وخاصة مع دول الحوض الإفريقية، سعياً وراء إجبار مصر على قبول مشروعها بتزويد إسرائيل بقناة من مياه النيل. ومن أجل ذلك، خططت إسرائيل لمساعدة إثيوبيا على بناء مشروعات سدود على النيل الأزرق، تؤدي إلى إنقاص الصبيب (وهو كمية الماء التي تنصب من النهر) الذي يصل إلى السودان ومصر. كما خططت، في الوقت نفسه، لدعم حركات التمرد في جنوبي السودان، من أجل بث الاضطراب في حوض النيل. وقد عبرت عن هذا الخطر لجنة الشؤون العربية في مجلس الشعب المصري، حين قالت في تقرير أعدّته، إن إسرائيل "تحاول أن تخترق دفاعات مصر الجنوبية، وتحاصر منابع النيل الإستراتيجية في تهديد واضح المعالم لمصدر الحياة في مصر ".

وتشغل القيمة الاقتصادية للبحر الأحمر مكانة مهمة في إستراتيجية إسرائيل إزاء دول البحر الأحمر، نظراً إلى إطلالة المملكة العربية السعودية عليه، ومجاوَرته للخليج، فضلاً عن أهميته الاقتصاديـة في إطار التجارة العالمية، وخاصة النفط. وتشير التطلعات التجارية لإسرائيل، إلى أنها تعمل ليكون البحر الأحمر شريانها الحيوي لتصدير إنتاجها، ولاستيراد المواد الخام التي تحتاج إليها. ولا شك أن شرقي إفريقيا وجنوبيها وجنوبي آسيا، تأتي في المقام الأول، بالنسبة إلى تجارة إسرائيل المستقبلية عبر البحر الأحمر. ولهذا، فمن المنتظر أن يشهد عصر السلام في المنطقة نمواً كبيراً في الأسطول التجاري الإسرائيلي في البحر الأحمر، وفي تحركاته نحو سواحل آسيا وإفريقيا.

وتزداد أهمية البحر الأحمر، بالنسبة إلى إسرائيل، لأنه المعبر إلى دولة جنوب إفريقيا. وإذا كانت علاقات التعاون بين الدولتين، في مجال صنع السلاح النووي، قد انقطعت، فثمة مجالات جديدة للتعاون في إطار مثلث صناعي جديد، رؤوسه إسرائيل وروسيا الاتحادية وجنوب إفريقيا. ويتميز هذا المثلث بالبدء بالتعاون في مجال الصناعات الجوية ومجال التعاون العسكري والتكنولوجي. ومن المنتظر أن يشكل هذا المثلث قدرة استقطابية جاذبة، فتنضم إليه دول صناعية أخرى، كالأرجنتين وكوريا وتايوان، ما يضفي على هذا التجمع الجديد طابعاً عالمياً.

لقد بدأت دلائل تشكيل المثلث (روسيا ـ إسرائيل ـ جنوب إفريقيا) بمشروع تطـوير الطائـرة المقاتلة الروسـية "سوخوي ـ 37" لتكون المقاتلة الأبرز في أواخر القرن العشرين. وتشترك الجهات المختصة في الدول الثلاث بالتخطيط للمشروع وتنفيذه. وفي هذا الإطار، وعبر النقل في البحر الأحمر، ستتولى إسرائيل تعديل قسم كبير من أسلحة الجيش الهندي، السوفيتية الصنع، وبوجه خاص الطائرات والدبابات.

ولم تهمل الإستراتيجية الإسرائيلية قط الأهمية العسكرية للبحر الأحمر، إذ اعتبرته "مجال مبادرة إسرائيلية وقت الحرب"، وميداناً "لبسط قوة إسرائيل الضاربة إلى أبعد من حدودها الجغرافية".

وإذ زال خطر المد الشيوعي في الشرق الأوسط، وزال معه "الدور العالمي" لإسرائيل في إطار الحرب الباردة، هرعت إسرائيل إلى تأسيس دور جديد لنفسها تتولى أداءه، وتستعيد به منزلتها الرفيعة في منظومة "العالم الغربي" و "الحضارة الغربية". وقد وجدت في "التطرف الإسلامي" بغيتها، وخاصة أن هذه الذريعة ذات امتداد جغرافي، إذ إنها تشمل الدول العربية على حافتي البحر الأحمر، ويمتد صداها إلى الدائرة العالمية[4]، وتجد أرضها في حدود الاحتكاك العربي الإسلامي  الإفريقي المسيحي في إفريقيا، وخاصة في الحافة الغربية للبحر الأحمر.

وحين تصطنع إسرائيل عدواً جديداً، تلاحقه في أطراف البحر الأحمر، جهاراً حيناً، وخفية حيناً آخر، فإنها تتلاقى في ذلك مع أوروبا وأمريكا، وجميعها تصطنع العدو نفسه، وتفكر في أساليب مواجهته، حتى إن وزير الدفاع الأمريكي يخشى على إسرائيل من التطرف الإسلامي، لأن "نمو التطرف والعنف المرتبطين بالمتطرفين الدينيين، هو الذي يهدد إسرائيل والمصالح الغربية في المنطقة".

إن جوهر هذه المهمة الذرائعية الجديدة، التي تهرع إسرائيل إلى حمل عبئها، هو تمهيد السبيل أمام المنزلة التي تتطلع إسرائيل إلى إشغالها "كدولة صغيرة عظمى، ذات أهداف إقليمية كبرى"، قادرة على السيطرة على منطقة البحر الأحمر. وحين تسعى إسرائيل إلى بلوغ هذه المنزلة، تدرك مواقع نجاحها وفشلها. فهي تدرك أن الصهيونية وخططها استطاعت أن تحدث تغييرات جذرية في المنطقة. ولكنها تدرك، في الوقت نفسه، أن بعض تجاربها في التغيير قد فشلت، أو أنها لم تحقق أهدافها تماماً.

ثامناً: القرن الإفريقي

يطلق مسمى "القرن الإفريقي" على ذلك الرأس الناتئ من اليابسة، الناطح للبحر على شكل قرن، يشق الماء شطرين: الشمالي منه هو البحر الأحمر، والجنوبي منه هو المحيط الهندي. ويشمل القرن الإفريقي، من الناحية الجغرافية، إثيوبيا والصومال وجيبوتي. بيد أن بعض الجغرافيين، قد وسّع الرقعة التي يشملها هذا القرن، لتضم كينيا والسودان.

ومع بداية أعوام التسعينيات، شهدت منطقة القرن الإفريقي تطورات سريعة ومتلاحقة. فسقط نظام مانجستو العسكري في إثيوبيا، وانهار نظام سياد بري الشمولي في الصومال. وأعلن، في 17/5/1991، قيام "جمهورية أرض الصومال" في شمالي الصومال. وأعلن النظام الجديد في إثيوبيا حق تقرير المصير للشعب الإريتري. وتم توثيق ذلك في 2/8/1991، حينما وقّع كل من الرئيس الإثيوبي والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، وثيقة اعترفت فيها أديس أبابا رسمياً بحق تقرير المصير لإريتريا، على أن يتم ذلك من خلال استفتاء شعبي عام، يجري في العام 1993. كما اتفق على بقاء ميناء عَصَب منطقة حرة، وهو ما يضمن لإثيوبيا منفذاً إلى البحر الأحمر.

ومن أبرز الصراعات الممتدة في منطقة القرن الإفريقي، والمؤثرة تأثيراً مباشراً في أمن البحر الأحمر، تلك المتعلقة بالنزاع الصومالي ـ الإثيوبي، والحرب الأهلية في جنوب السودان.

1. النزاع الصومالي ـ الإثيوبي

يُعدّ النزاع الصومالي ـ الإثيوبي من أخطر مشكلات القرن الإفريقي، على وجه العموم. كما أنه يتّسم بخصوصية معينـة، تميّزه عما عـداه من الصراعات الأخرى التي شهدها هـذا الإقليم. وإذا كانت إثيوبيا تشكل دولة كبيرة في المنطقة، فإن الصومال تعرض للتقسيم بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإثيوبيا. ولا شك في أن تقسيم الشعب الصومالي بهذه الصورة، بين قوى استعمارية مختلفة، وحرمانه من أن يحقق وحدته القومية في دولة مستقلة، يمثل جوهر المشكلة الصومالية في القرن الإفريقي، التي أفضت إلى نشوب حروب أهلية داخل الصومال، ومع الجارة إثيوبيا. وقد أسهمت هذه الحروب في زيادة نشاطات القوى الخارجية في المنطقة وتفاعلاتها.

التزم الصومال بقضية الوطن الصومالي الكبير، وهو ما أدى إلى دخول الصومال وإثيوبيا في نزاعات حدودية مسلحة. فقد شنّ الصومال، الذي وقّع اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي للتعاون الاقتصادي والثقافي والفني (2/6/1961)، هجوماً مسلحاً، في العام 1961، ولكنه هزم عسكرياً وتلا ذلك ثلاث مواجهات عسكرية، مثلت حروباً في منطقة القرن الإفريقي، في الأعوام 1964، 1977ـ1978، 1982.

بيد أن سقوط النظام الإمبراطوري في إثيوبيا، العام 1974، أدى إلى تبدلات مهمة في أدوار الأطراف الخارجية في القرن الإفريقي. فقد بدأ السوفيت في تحسين علاقاتهم بالنظام العسكري الجديد في أديس أبابا. ومع انفراد مانجستو بالسلطة، العام 1977، انحاز الاتحاد السوفيتي إلى جانب إثيوبيا. وكانت ردة الفعل لدى الحكومة الصومالية متمثلة في طرد الخبراء السوفيت، العام 1977، من قاعدة بربرة البحرية، وحرمان الاتحاد السوفيتي من التسهيلات الأخرى.

وعلى صعيد منظمة الوحدة الإفريقية، يلاحظ أنها أيّدت، منذ قيامها، مبدأ عدم المساس بالحدود. وهو موقف يساند وجهة النظر الإثيوبية في شأن أوجادين، ويخالف السياسة الصومالية. وفي أواخر الثمانينيات، اضطر كل من نظامَي الحكم في الصومال وإثيوبيا، نتيجة للمشكلات الداخلية المعقدة والمتزايدة، إلى توقيع اتفاقية في العام 1988، أنهت حالة الحرب بين البلدين، وأعادت العلاقات الدبلوماسية بينهما.

أدى انتهاء الحرب الباردة، وغياب الاستقطاب الدولي، إلى فقدان إثيوبيا دورها، كقلعة للنفوذ السوفيتي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وكصاحبة أكبر جيش في إفريقيا السوداء. وكان سقوط النظام الماركسي في أديس أبابا، بعد ثلاثة أشهر من انتهاء حرب الخليج الثانية، إحدى النتائج المبكرة للعصر الجديد، الذي دشّنته هذه الحرب في العلاقات الدولية. وقد أدى ذلك كله إلى استقلال إريتريا، وخروج إثيوبيا من دائرة الدول المطلة على البحر الأحمر.

أمّا الصومال، فقد شهد حرباً أهلية، بعد انتهاء حكم الرئيس محمد سياد بري، في يناير 1991. وكان استمرار الحرب، وانهيار بنْية الدولة، وتعرض وحدة الصومال للخطر، مدعاة لتدخل الأمم المتحدة، بواسطة قوات متعددة الجنسيات، في الفترة من 1992 إلى 1994. وقد تألفت القوات من 37 ألف جندي، من 23 دولة. واشتركت الولايات المتحدة الأمريكية بـ 24883 جندياً، أي ما يعادل 65؟ من مجموع القوات. وكانت القوة الثانية، من حيث الحجم، من إيطاليا، التي اشتركت بـ 2500 جندي، وتليها فرنسا (2000 جندي).

وفي شهر مايو 1993، تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن قيادة القوات متعددة الجنسيات، ثم انسحبت من الصومال في مارس 1994، في إثر صدامات وصعوبات واجهتها القوة الأمريكية. وبدءاً من مايو 1993، حملت القـوة الدولية اسم "عمليـة الأمم المتحدة في الصومال" حتى انسحابها في العام 1994.

وبسبب الحرب الأهلية، انهارت مؤسسات الدولة، ونشطت الانقسامات القبلية. ولا تزال المساعي العربية والإفريقية تبذل من أجل الحفاظ على وحدة الصومال وسلامة شعبه واستقلاله.

2. الحرب الأهلية في السودان

ورث السودان، عند استقلاله في مطلع العام 1956، الحدود التي تم ترسيمها من قبل أطراف خارجية، سواء كانت أوروبية أو إفريقية. وقد شهد، بعد استقلاله، انقساماً حاداً في هويته القومية، التي يتنازعها اتجاهان رئيسيان: أولهما يتمسك بالهوية العربية الإسلامية، والآخر يتمسك بالهوية الإفريقية، إضافة إلى انقسامات على أسُس عرقية وثقافية ودينية وجغرافية. وهو ما شكّل تربة صالحة لصراع مرير، ومقدمة أساسية لحرب أهلية، بدأت مرحلتها الأولى العام 1955، والثانية العام 1983. وتمكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل رئيسية، أدّت إلى اندلاع الحرب الأهلية في السودان:

أ. وجود جو من الشك وعدم الثقة بين الحكومة المركزية والقيادات الجنوبية، المدنية والعسكرية.

ب. اكتشاف النفط بكميات كبيرة في منطقة "بنتيو"، في المنطقة الجنوبية.

ج. الاتفاق على تخطيط وتنفيذ "قناة جونجلي" مع مصر، وتكليف شركة فرنسية بالتنفيذ.

وفي سبتمبر 1983، ازدادت الأمور تعقيداً، مع صدور قرارات تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، واعتباره دولة إسلامية في نص الدستور. فقد أحدثت هذه القرارات ردود فعل عنيفة من جانب الجنوبيين بعامة، وتحالفت معهم قوى سياسية وعرقية من الغرب ومن الشرق.

وفي إطار الحرب الأهلية في السودان، قدمت إسرائيل الدعم إلى حركة انيانيا الانفصالية في الجنوب، حتى مكنتها من تكوين جيش مدرب، حسن التنظيم، قدِّر تعداده بنحو عشرين ألف مقاتل، العام 1972. وقد ازداد دور إسرائيل في السودان خلال عقد الستينيات، إذ قدمت الكثير من الدعم إلى الحركات الانفصالية، فعملت على مدها بالسلاح والمعدات والخبرات، بما في ذلك التدريب داخل إسرائيل نفسها. أمّا إثيوبيا، فقد مثّلت دوراً مهماً في دعم حركات المعارضة السودانية في الجنوب وتأييدها.

إضافة إلى ما سبق، فإن هناك قوى إقليمية ودولية أخرى، يمكن أن نشير من بينها، على وجه الخصوص، إلى "مجلس الكنائس العالمي"، وإلى بعض دول حوض النيل، التي تنظر إلى قضية الجنوب في السودان طبقاً لاعتبارات الأمن الوطني لتلك الدول.

وبينما يعاني السودان من جراء الحرب الأهلية في الجنوب ـ تلك الحرب التي استقطبت تدخلات من بعض القوى الكبرى وبعض دول الجوار الإفريقي، كإثيوبيا وإريتريا وأوغندا ـ بدأت علاقاته بمصر تسوء، خاصة إثر محاولة اغتيال الرئيس المصري (26/6/1995) في أديس أبابا، أثناء زيارته إليها لحضور مؤتمر القمة الإفريقي. وقد كانت تلك المحاولة سبباً لزيادة التوتر بين مصر والسودان، لأن المتهمين بالمحاولة جاؤوا من السودان. وقد دان مجلس الأمن في قراره الرقم 1044 (عام 1995) هذا العمل، وطلب من السودان أن يسلم مصر المتهمين لمحاكمتهم. ثم أكد مجلس الأمن قراره بقرار آخر رقم 1045، في العام نفسه. وأنذر السودان بقراره الرقم 1070 (عام 1996) بتطبيق عقوبة منع الطائرات السودانية من الطيران خارج البلاد.

تاسعاً: إريتريا

استقلت إريتريا عن الحبشة (في 24/4/1993) بعد نضال استمر ثلاثين عاماً. ونالت عضوية الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية. وأعلنت أنها لا ترغب في الانتساب إلى جامعة الدول العربية، علماً أنها لم تتلقَّ دعوة من أي جهة عربية إلى ذلك. وفي الوقت نفسه، بدأت إريتريا وإسرائيل توثقان علاقاتهما في مختلف المجالات، خاصة المجال العسكري، لأن إريتريا تريد أن تقوم بدور فاعل في البحر الأحمر، وبوجه خاص في الناحية الأمنية.

وفي إطار هذا التوجه، هاجمت قوات إريترية جزيرة حنيش الكبرى، يوم 15/12/1995، حيث كانت تقيم حامية عسكرية يمنية. وبعد معارك استمرت ثلاثة أيام، سيطرت القوات الإريترية على الجزيرة. وتدخلت فرنسا للوساطة بين الدولتين، بمساعدة قوتين إقليميتين، هما مصر وإثيوبيا. وقد أسفرت تلك الوساطة عن موافقة كل من اليمن وإريتريا على "إعلان المبادئ"، الذي وُقِّع في باريس، في 31/5/1996، وينص على تعهد الطرفين بما يلي:

1. العدول عن استعمال القوة.

2. قبول الحل السلمي، عبر التحكيم من قبل لجنة مؤلفة من خمسة قضاة دوليين.

3. احترام نتيجة التحكيم، بلا قيد أو شرط.

4 مراقبة عدم الإخلال بمضمون الاتفاق.

وفي 10/8/1996، أعلن اليمن أن إريتريا احتلت جزيرة حنيش الصغرى، مما يعرقل تطبيق التسوية السلمية. وادعت إريتريا أن قواتها كانت موجودة في هذه الجزيرة، قبل توقيع إعلان المبادئ في باريس. ولكن الجانب الفرنسي أكد أن الجزيرة كانت خالية عند توقيع التسوية السلمية. وتأكد له ذلك من طريق الصور، التي التقطها المراقبون الفرنسيون للجزيرة، بعد توقيع إعلان المبادئ بخمسة أيام. وقد انسحبت القوات الإريترية من حنيش الصغرى في 28/8/1996.

تواجه إريتريا مشكلة الهوية. فوجود أغلبية عربية مسلمة في إريتريا، لم يكن يعني أن الخيار الإريتري أضحى خياراً عربياً إسلامياً. كما أن هيمنة نخبة سياسية، مخالفة للتوجهات العربية والإسلامية، على السلطة في "أسمرا" لم يكن يعني، أيضاً، قدرة هذه النخبة على التوجه نهائياً بإريتريا، بعيداً عن عمقها القومي والديني.

وإذا وضعنا هذه المشكلة في سياق موازين القوى في منطقة البحر الأحمر، يمكن القول إن أخذ إريتريا المستقلة بالهوية العربية، يعني غلبة الطابع العربي على البحر الأحمر، وهي غلبة تبرز ـ بطبيعة الحال ـ مفهوم تحول البحر الأحمر إلى بحيرة عربية. فإضافة إريتريا إلى ست دول عربية أخرى (المملكة العربية السعودية، مصر، السودان، اليمن، الأردن، جيبوتي) يعني إحكام القبضة العربية على باب المندب. ولسيطرة العرب، أو غلبتهم، على البحر الأحمر، أهمية عظمى ونتائج كبيرة، في الجغرإستراتيجيا لمنطقة البحر الأحمر وما حولها، وكذلك لمصالح القوى العالمية الكبرى وإسرائيل.

وما يسترعي الانتباه في توجهات النظام الحاكم الإريتري وسياساته، هو سعيه السريع، في إثر الاستقلال، إلى تبنّي مواقف معادية للقضايا العربية، أو إثارة القلق والاضطراب في البحر الأحمر، على الرغم من أن إريتريا هي أكثر الدول غير العربية، بحكم عدم انتمائها إلى جامعة الدول العربية، التي يحمل مجتمعها سمات الثقافة العربية وخصائصها. يضاف إلى ذلك أن الثورة الإريترية، حظيت بدعم الدول العربية، سياسياً وعسكرياً ومادياً، طوال ثلاثين عاماً، حتى نال الشعب الإريتري استقلاله، في حين أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق، كانت تؤيد استمرار الاحتلال الإثيوبي لإريتريا. ولهذا، فمن الصعب الزعم أن النخبة الحاكمة، تمثل الشعب الإريتري تمثيلاً حقيقياً.

وعلى الرغم من تعدد دوائر الانتماء في إريتريا، يظل الانتماء العربي أهم مكونات الهوية الإريترية، بحكم الأصل العرقي لمعظم سكانها، واللغـة العربيـة التي يتعامل بها جانب كبير منهم، والدين الإسلامي الذي يعتنقونه (60 من الشعب الإريتري مسلمون)، وتاريخهم الذي يعدّ جزءاً من التاريخ العربي في منطقة القرن الإفريقي. وكان البرلمان الإريتري، في العام 1952، أقر أن اللغة العربية هي إحدى اللغتَيْن الرسميتَيْن في إريتريا. وعندما انطلقت الثورة في إريتريا، في العام 1962، أكد برنامج "جبهة التحرير الإريترية"، بوضوح، أن الثورة الإريترية جزء لا يتجزأ من ثورة التحرير العربية غير أن "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا"، التي شكلت أول حكومة بعد الاستقلال، رفضت الانضمام إلى جامعة الدول العربية.

ولإسرائيل والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، مصلحة في تعرية إريتريا من عروبتها، حتى لا تكون الدول المطلة على البحر الأحمر كلها دولاً عربية، بشكل قد يهدد مصالح إسرائيل والغرب في المستقبل. وفي ضوء ذلك تُفسر مواقف إسرائيل والغرب وتقديمهما العون إلى إريتريا قبل الاستقلال وبعده.

ولإريتريا مصلحة في التعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، نظراً إلى ما يوفره لها ذلك التعاون من  إمكانيات تنموية وقدرات عسكرية، تمكنها من مواجهة أي ضغوط عربية لدفعها إلى الانضمام إلى الحظيرة العربية. ويعني هذا أن هناك قدراً من الالتقاء في المصالح، بين إريتريا وإسرائيل، في مدخل البحر الأحمر، على نحو يعني إثارة مشكلات تهدد أمن البحر الأحمر والأمن القومي العربي، وذلك من خلال دفع إريتريا لتكون عامل تهديد وقلق للدول العربية المطلة على البحر الأحمر، خاصة في ظل النظام الحاكم في إريتريا، وتعاونه الوثيق مع إسرائيل. وتتجسّد مظاهر التهديد والقلق في عدة وقائع، نشير إلى نماذج منها في الآتي:

1. احتلال جزيرة حنيش الكبرى، اليمنية.

2. الاعتداء على جيبوتي، باستخدام القوة العسكرية في علاقتها بدولة عربية أخرى، حين أطلقت إريتريا مدافعها على الحدود الجيبوتية، مدة 40 دقيقة، يومَي 16 و 17/4/1996.

3. التدخل الإريتري السافر في شؤون السودان، ودعم الحركة الانفصالية في الجنوب، وتسليم السفارة السودانية في أسمرا للمعارضة السودانية. ويجاهر رئيس إريتريا بأن تعاون حكومته مع المعارضة السودانية غير محدود، وإذا احتاجت المعارضة إلى التدريب العسكري أو السلاح، فإن حكومته مستعدة لتقديم كل ما تقدر عليه.

4. توثيق العلاقة بإسرائيل، من خلال المصالح المشتركة.

5. معارضة التوجه العربي لحل مشكلة داخلية لدولة عربية إفريقية. ويتعلق الأمر بالصومال، حين توجّه مجلس جامعة الدول العربية، بالتعاون مع منظمة الوحدة الإفريقية ومنظمة الأمم المتحدة، نحو إيجاد حل للحرب الأهلية في الصومال، إلى جانب جهود تبذلها مصر. ولكن ذهبت إريتريا إلى ضرورة حل النزاع في إطار منظمة الوحدة الإفريقية، دون تدخل جهات أخرى، وعارضت الجهود العربية، والمسعى المصري خاصة.

وعلى الرغم من ذلك، مدّ بعض الدول العربية يد المساعدة إلى الدولة الإفريقية الجديدة. فقد أدت زيارات الرئيس أسياسي أفورقي إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت ومصر، إلى نتائج اقتصادية جيدة لبلاده. كما أن التعاون مع مصر، في مجالي الزراعة والثروة السمكية، آخذ في التطور.

ونظراً إلى مطامع إسرائيل في البحر الأحمر، كمجال حيوي لإستراتيجيتها ووجودها العسكري، وكممر لعلاقاتها الاقتصادية بإفريقيا وآسيا، وموضع لمدّ سيطرتها وترسيخ دورها الفاعل في البحر الأحمر، بغية مواجهة الدور العربي وإضعافه، وجدت إسرائيل في حكومة "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا"، بعد أن دعمتها عسكرياً واقتصادياً وأمنياً، وفي شخص رئيسها أسياسي أفورقي، الوسيلة المناسبة لترسيخ وجودها في موقع مهم في البحر الأحمر، خاصة أن إسرائيل، بوجودها في إريتريا، تستطيع أن تكون على تماسّ مع سواحل أو حدود خمس دول عربية (المملكة العربية السعودية، والسودان، واليمن، وجيبوتي، والصومال)، إضافة إلى تجاورها الحدودي مع خمس دول عربية أخرى، هي: مصر وسورية ولبنان والأردن وفلسطين.

وفي مقابل الدعم الذي تلقته حكومة "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا" من إسرائيل، والتوجه المعادي للعرب الذي تبنّاه زعيم الجبهة، أسياسي أفورقي، وطبق سياساته، لم تستطع الدول العربية أن تتنبأ بما يمكن أن تؤول إليه تطورات الوضع في إريتريا، خلال فترة الحكومة المؤقتة (1991ـ1993) ثم بدء الاستقلال، خاصة أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، كثّفتا جهودهما لتعزيز حكم الجبهة وزعيمها أفورقي، واستقطاب النظام الجديد في إطار مصالحهما. وهكذا، "تراجع الدعم العربي للفصائل العربية الإريترية، مما يوحي بأن الأنظمة العربية، كانت تعاني ضيق الأفق في تعاملها مع القضية"[5].

 



[1] جاءت هذه المعلومة في ورقة بالعبرية، قدمها الباحث الإسرائيلي أوري لوبراني، في ندوة `الموقف الإسرائيلي من الجماعات الإثنية والطائفية في العالم العربي

[2] في مارس 1990، صرح أحد مساعدي الرئيس الإثيوبي منجستو، أثناء زيارته إسرائيل `أن إسرائيل وإثيوبيا تشتركان في علاقة إستراتيجية طبيعية، من أجل الإبقاء على البحر الأحمر بحراً غير عربي

[3] وقّعت إريتريا وإثيوبيا اتفاقية في الشهر السادس من العام 1991، تضمنت جعل ميناء `عَصَب` الإريتري ميناء حراً، يسمح لإثيوبيا باستخدامه على أساس حرية التجارة

[4] حينما زار إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، واشنطن، في مارس 1993، بحث هذا الأمر مع الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون، من خلال "ظاهرة الإرهاب وعلاقتها بالتطرف الإسلامي". وفي الخطاب الذي ألقاه رابين أمام الكنيست، تحدث عن `النفوذ الأصولي` الذي يسود منطقة الشرق الأوسط، وأن هذا النفوذ بدأ يمتد إلى خارجها. ووجّه الدعوة إلى العالم كله ليساند إسرائيل في حربها ضد "الأصولية الإسلامية".

[5] الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، في محاضرة معهد قوات الدفاع الجوي، جدة، 2/4/1996.