إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



الفصل الأول

الفصل الأول

البلقان في العصر القديم والوسيط والحديث

تتميز شبه جزيرة البلقان بتنوع التركيبة العِرقية لعناصر سكانها، وتباين العقائد والمذاهب الدينية لشعوبها، وتعارض انتماءات مجتمعاتها وتطلعاتها، بل وتناقض مصالح طوائف الدولة الواحدة تناقضاً مثيراً، أسهم في إثارة قضية الهوية، وفي نمو الاتجاهات الانفصالية، فضلاً عن تشابك وتعقد علاقات دولها بالدول المجاورة والقوى السياسية.

ومنطقة البلقان من أكثر المناطق التي شهدت صراعات وحروباً ومذابح رهيبة، على مر تاريخها، حتى إنه اشتق من كثرة الصراعات الدموية، التي سادت ربوعها لفترات طويلة، كلمة "البلقنة" balkanization، التي استخدمها رجال السياسة، في العصر الحديث، للدلالة على الاتجاهات الانفصالية، والتوجهات التقسيمية، في أي أزمة إقليمية، يتعقد التعامل الدولي إزاءها كما تعقد دائماً، بالنسبة إلى مشكلات البلقان.

أولاً: الطبيعة الجغرافية لشبه جزيرة البلقان

البلقان، هو الاسم الذي يُطلق، حالياً، على شبه جزيرة كبيرة في جنوبي شرقي أوروبا. حدودها الشرقية: البحر الأسود، مضيقا البسفور والدردنيل، وبحر مرمرة، وبحر إيجه؛ والشمالية نهر الدانوب؛ والغربية البحر الأدرياتيكي؛ والجنوبية البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأيوني. وهي تضم أراضي ست دول، هي ألبانيا، ورومانيا، وبلغاريا، ويوغسلافيا، بأقسامها، واليونان، وتركيا (اُنظر شكل الطبيعة الجغرافية).

والبلقان، بهذا الموقع، كان معبَراً بين الشرق والغرب، ومدخلاً طبيعياً إلى القارة الأوروبية، من جهة الشرق. فعبْر البلقان عرفت العقائد الدينية، والهرطقات، والحضارة، طريقها إلى وسط أوروبا. وعلى أرضها تجاور المجتمع اليوناني والمجتمع الروماني، في إطار الكيان السياسي الواحد للإمبراطورية الرومانية القديمة. وعندما انقسمت تلك الإمبراطورية، في العصر الروماني الأخير، إلى قسمين، شرقي وغربي، كان خط التقسيم الرأسي، يعبُر أقاليم البلقان في شطرها الغربي. ومنذ أواخر القرن الحادي عشر، عبَرت الجيوش الصليبية أقاليم البلقان، في طريقها إلى الشرق الأدنى، الإسلامي، بزعم تحرير الأراضي المقدسة. وهكذا، فرضت طبيعة الموقع على شبه جزيرة البلقان، أن تتلقى التأثيرات الحضارية من الشرق والغرب، على حدٍّ سواء.

ويغلب على تضاريس البلقان المرتفعات ذات الارتفاع المتوسط (لا يصل إلى 3000م)، وهذه المرتفعات تكون 2/3 مساحته الكلية.

وتأخذ المرتفعات شكل ثلاثة نطاقات من الجبال، على الوجه التالي:

النطاق الأول: عبارة عن المرتفعات الغربية، وهي أكثر السلاسل الجبلية طولاً، إذ تمتد مسافة 1500كم، من الشمال الغربي في اتجاه الجنوب الشرقي. وتضم سلاسل جبال الآلب الدينارية، (Dinaric Alps)، التي تعبُر سلوفانيا ـ كرواتيا ـ الصرب ـ الجبل الأسود ومقدونيا. وسلسلة جبال بندوس (Pindus)، التي تعبُر ألبانيا إلى اليونان.

أمّا النطاق الثاني من المرتفعات، فهو جبال البلقان، الواقعة شمالي شرقي شبه الجزيرة. وهي امتداد لمرتفعات الكاربات (Carpath)، عبْر نهر الدانوب، وتأخذ شكل قوس، يمتد من الغرب إلى الشرق.

والنطاق الثالث من المرتفعات، هو جبال رودوب (Rhodope)، التي تمتد في هيئة قوس أصغر، جنوب جبال البلقان.

لقد ترتب على امتداد المرتفعات الغربية، من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وجود عدد قليل من الأنهار، في القسم الشمالي من شبه الجزيرة، تتجه غرباً، لتصب في البحر الأدرياتيكي، فالأنهار في شمالي البلقان، تجري في اتجاه الشرق، أو الشمال الشرقي، أو تجري مباشرة في اتجاه الشمال، لتصب في نهر الدانوب، مثل أنهار: درافا (Drava)، سافا (Sava)، البوسنة (Bosna)، درينا (Drina)، مورافا (Morava)، إسكور (Iskur).وعلى الرغم من أن هذه هي القاعدة الغالبة، فإن هناك عدداً قليلاً من الأنهار الصغيرة، التي يصب بعضها في البحر الأدرياتيكي والبحر الأيوني. ومع أن تلك الأنهار الصغيرة تكون ودياناً منحدرة، فإنها لا تبلغ حجم أو امتداد تلك، التي تكونها الأنهار التي تصب في نهر الدانوب.

أدى احتلال المرتفعات تلك النسبة الكبيرة، من مساحة شبه جزيرة البلقان، إلى أن تكون السهول، المرتفعة أو المنخفضة، على حدٍّ سواء، محدودة الحجم. وربما كان السهل الوحيد، الذي يمتد لمسافة كبيرة، هو سهل الدانوب، الذي تقطعه سلسلة جبال البلقان، وتقسمه إلى قسمين. أحدهما في الغرب، بين مجرى نهر الدانوب ومجرى رافده الرئيسي، نهر السافا، إلاّ أن القسم الأكبر منه، يقع شمال دولة الصرب الحالية، وشمال شرق كرواتيا. أمّا القسم الثاني، فيقع في تلك المنطقة الهضبية، الواقعة بين نهر الدانوب، قرب مصبه في البحر الأسود، وجبال البلقان، في طرفها الغربي. ويشتمل على منطقة دوبرجيا (Dobrogia)، التي تدخل، اليوم، في نطاق دولة رومانيا. وبناء على ذلك، يمكن القول إن المرتفعات تسود كل أقاليم سلوفينيا ـ البوسنة ـ الجبل الأسود ومقدونيا. بينما تغطي تلك المرتفعات معظم دولتَي الصرب وكرواتيا، باستثناء السهل الدانوبي شمالي الصرب وشمالي شرقي كرواتيا، فضلاً عن السهل الساحلي الضيق، المطل على البحر الأدرياتيكي، غربي كرواتيا.

ويتباين مناخ شبه جزيرة البلقان تبايناً كبيراً من مناخ البحر الأبيض المتوسط المعروف؛ فهو مناخ قارّي، وغالباً في إطار مسافات غير متباعدة. وبالنسبة إلى شمالي غربي البلقان، يمكن القول، بصفة عامة، إن امتداد المرتفعات الغربية، المعروفة بسلسلة جبال الألب الدينارية، من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، قد أدى إلى قِصر مناخ البحر الأبيض المتوسط على طول سواحل دولة كرواتيا. أمّا المناخ القارّي، فهو الغالب على المناطق في كرواتيا والجبل الأسود، فضلاً عن أقاليم البوسنة ومقدونيا والصرب.

وفي إطار هذه الصورة للتضاريس والمناخ، يمكن النظر إلى أنماط الحياة النباتية، وما تنتجه الأرض، في شمالي غربي البلقان، حيث يقابل المرتفعات، الممتدة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، قطاعات كبيرة من غابات شجر البلوط، التي تتخللها المروج وأراضي الأعشاب الدائمة، إضافة إلى الأراضي الصخرية غير الصالحة للزراعة. أمّا الأراضي الصالحة للزراعة، جنوب نهر السافا، فهي نادرة، وتتركز الأراضي الصالحة لزراعة الفواكه والعنب والزيتون، في وادي الدانوب.

وعلى الرغم من انتشار الغابات في معظم هذا النطاق الضخم من المرتفعات، فإن نسبة كبيرة من أخشابها ذات جودة محدودة، للاستغلال في صناعة السفن. أمّا المراعي، فإنها قابلة لاستغلال واسع كمراعٍ لقطعان الأغنام والماعز، في أشهر الصيف فقط. وعلى هذا، فإن الأرض الصالحة للزراعة قليلة، والأرض الزراعية الخصبة نادرة. وينطبق هذا على أقاليم البوسنة والجبل الأسود ومقدونيا، ومعظم أقاليم دولتَي كرواتيا والصرب. ولا بدّ من الأخذ في الحسبان، أن المنطقة الشمالية، من دولة الصرب، الواقعة بين نهرَي السافا والدانوب، إلى الشمال من بلجراد، كانت خارج حدود دولة الصرب، في العصور الوسطى، ولم تُضم إليها ضماً نهائياً، إلاّ بعد الحرب العالمية الثانية.

ثانياً: العناصر السكانية

كانت الجماعات المستقرة في شمالي البلقان، في العصر الروماني، تنتمي إلى عِرقَين: الإّليريون (Illyrians)، في الغرب، والتراقيون (Thracians)، في الشرق. وقد شيد الرومان، منذ فتحهم إقليم إلّيريا وساحل دالماشيا، عدداً من المستعمرات الرومانية، وسط تجمعات الإليرايين والدالماشيين. وهكذا، نمت المدن على ساحل البحر الأدرياتيكي، وأحياناً في أماكن تجمعات إليرية، حيث نشأت قبيلة أو مستعمرات يونانية، مثل سالونا (Salona)، سبالاتو (Spalato)، وراجوسا (Ragusa)، دبروفينك (Dubrovnik)، ديراخيوم (Dyrrachium) ، دورازو (Durazzo).كما نمت المدن، كذلك، في الداخل، مع امتداد وديان الأنهار، مثل: سيرميوم (Sirmium)، وسنجيدونوم (Singidunum)، وبلجراد (Belgrade) و نايسوس (Naissus)، ونيش (Nisch)، وسارديكا (Sardica)، وصوفيا (Sophia).

وفي القرن الرابع الميلادي، كان معظم سكان شمالي غربي البلقان، قد اكتسبوا عناصر الحضارة الرومانية، أي أن اللغة اللاتينية، أصبحت لغتهم العامة. وهكذا، إذا كانت اللغة اليونانية قد استمرت، في العصر الروماني، لغة سكان جنوبي البلقان، فإن سكان شماليه، وشماليه الغربي، تحديداً، كانوا يتكلمون اللاتينية. ولكن اللغة الإلّيرية استمرت، كذلك، في بعض المناطق الجبلية من شمالي ألبانيا (Albania)، وإقليم كوسوفو (Kosova)، المتاخم، (الذي يتمتع بالحكم الذاتي فيما تبقى من دولة ). ويؤكد ذلك استمرار اللغة الألبانية فيه، إلى يومنا هذا؛ واللغة الألبانية ترجع أصولها إلى اللغة الإلّيرية.

ومنذ العصر الروماني الأخير، كانت أقاليم شمالي البلقان، بصفة عامة، تشهد، بالفعل، تنوعاً عِرقياً كبيراً. فإن جيوباً عِرقية من القوط (Goths)، والباستارناي (Bastarnae)، (وهي عناصر تتكلم الكلتية)، والسرامطة (Sarmatians)، والسكيثيون (Scythians)، والألان (Alans)، وغيرها، (وربما كانوا جميعاً من أصول إيرانية)، وجدت وسط التراقيين والإلّيريين. وكانت هذه الأوضاع نتيجة طبيعية لسياسة الحكومة الرومانية، الخاصة بتوطين الجماعات المتبربرة، المهزومة أو اللاجئة، في تلك الأقاليم، إضافة إلى السماح لجماعات، من المحاربين والمدنيين الرومان، بالاستقرار فيها. ومن الصعب التقرير إلى أي مدى حافظت هذه الجيوب العرقية على لغاتها وعاداتها. ومع أن عدداً غير قليل، من العناصر المستقرة فيها، قد اندمج في الإلّيريين والتراقيين، في شمالي البلقان، عبر القرون، فإن هذه الجيوب العِرقية، أسهمت في تكوين الثقافة المشتركة للمنطقة، كما كان لها أثر كبير في إضعاف التقاليد القبلية القديمة.

وجدير بالذكر، أن الرومان شيدوا عدداً من الطرق المهمة، عبْر أقاليم البلقان، كانت، بصفة عامة، تتبع خطوط طرق قديمة. أهمها:

1. طريق بلجراد ـ القسطنطينية

وهذا الطريق يبدأ من جنوب شرق مدينة أكويليا (Aquileia)، ويمر عبْر إمونا (Emona) ليوبليانا (Ljubliana)، سيسكيا (Siscia)، سيزاك (Sisak)، سينجيدنوم (Singidunum)، بلجراد (Belgrade)، نايسوس (Naissus) نيش (Nich)، رمسيانا (Remesiana)، بلابالانكا (Bela Palanka)، سرديكا (Serdica)، صوفيا (Sofia)، فيليبوبولس (Philippopolis)، بلوفرديف (Plovdiv)، وهادريانوبولس (Hadrianopolis)، أدرنه (Adrianople)، إلى القسطنطينية (Constantinople).

2. الطريق العسكري (طريق إجناتيا)

وهذا الطريق يقطع شبه جزيرة البلقـان، من الغرب إلى الشرق. وكان يُعرف بطريق إجناتيا Via Egnatia وكان يبدأ من ميناء ديراخيوم (Dyrrachium)، دروازو (Durazzo)، على البحر الأدرياتيكي، في الغرب، ثم يتجه شرقاً، عبْر وسط ألبانيا (Albania)، ويدور حول بحيرة أوخريد (Ochrid)، من طرفها الشمالي، ويمر عبْر مدن ليخنس (Lychnis)، (أوخريد)، إدسا (Edessa)، إلى سالونيكا (Thessalonika)، ثم يتجه، عبْر الأرض المنخفضة، بين الجبال والبحر، من نايسوس (Naissus)، (نيش)، جنوباً، بحذاء وادي المورافا (Morava)، ويعبُر ممراً جبلياً، كي يصل إلى وادي فاردار (Vardar)، عند مدينة سكوبي Scupi (Skogje)، ويمضي الطريق للنهر، عبر مدينة ستوبي (Stobe)، حتى يصل إلى سالونيكا.

3. الطريق الموازي للضفة الجنوبية لنهر الدانوب

ويبدأ هذا الطريق من سينجيدونومSingidunum  (بلجراد) متجهاً إلى ديروستوروم Durostorum، ثم يمضي نحو مدينة توميس (Tomis)، على البحر الأسود. وقد ربطت عدة طرق فرعية، بين هذا الطريق والطريق الإستراتيجي الأول: طريق بلجراد ـ القسطنطينية.

4. الطريق الساحلي

يقع هذا الطريق على امتداد ساحل البحر الأسود. ويبدأ من مصب نهر الدانوب، ثم يتجه جنوباً، عبْر مدن أوديسوس (Odessus)، فارنا (Varna)، فرمبريا (Mesembria)، نسبور (Nasebur)، دفلتوس (Develtos) بالقرب من بورجاس (Burgaz)، سالميديسوس (Salmydessus)، كيكوي (Kiyakoy)، حتى يصل إلى القسطنطينية.

وقد حرص الرومان على تأمين هذه الطرق، بإنشاء شبكة من التحصينات والقلاع، على امتدادها، خاصة عندما تعبُر تلك الطرق المضايق الجبلية.