إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الأول

المبحث الأول

البلقان في العصر القديم

منذ غابر العصور (3 آلاف سنة ق.م) ، من العصر الحجري ، تناثر سكان على مساحات متباينة من قارة أوروبا، كالبلطيق، وإيطاليا، ومساحات من وسط أوروبا. وأقدم آثار البوسنة، وأهمها: أطلال بوتمير، الواقعة في سراييفو، والتي يرجع تاريخها إلى العصر الحجري، إبّان استيطان بعض الأقوام تلك المناطق. ثم دارت عجلة الحياة، وظهر في جزيرة كريت انتفاضة علمية، في حقبة، يقال لها "حضارة الإغريق القدامى"، من عام ألفين إلى عام 1400 ق.م. ووصل إشعاعها إلى منطقة البلطيق، وبلاد الشام، ومصر، ثم اضمحلت، بعد ذلك، وخبا إشعاعها. (اُنظر شكل انتشار حضارة كريت)

هذا عن جنوبي البلقان. أما غربيه، فقد كان يرزح تحت ظلمات الجهل والتخلف، بالنظر إلى ما رُصد، بعد ذلك، من حضارة (الأخينيين) ، القدامى، و(الدوريين) . الغازين، بعد ذلك، لهذه المناطق.

وقد سكن البوسنة، بعد ذلك، وما حولها، في القرن الثامن ق.م، القبائل الليريَّة. (اُنظر شكل قبائل الإلليريين في المنطقة). ولم يكن لها حظ من الحضارة، إذ كانت الهمجية طبعها، وكانت تعيش على قطع الطرق وأعمال القرصنة البحرية في الأدرياتيكي. وكانت تجمعاتها بأعداد متفاوتة، في أماكن متفرقة، ذات سيادة، منتشرة في مناطق غربي البلقان وشمالي إيطاليا. واستمرت على ذلك النهج الهمجي من الحياة، حتى هدد الرومان أراضيها من جهة الغرب، بدءاً من القرن الخامس ق.م، ووقعت في حوزتهم. وأحكم الرومان سيطرتهم على هذه الأراضي، مع فجر التاريخ الميلادي، وغدت الليريا مقاطعة رومانية، وحدث التمازج، الجنسي والثقافي، بينهما، بعد ذلك. (اُنظر شكل "الليريا" ضمن ممتلكات الإمبراطورية)

وكان الإمبراطور الروماني يدير شؤون دولته الواسعة، من مقره في روما. إلا أن روما، أمست عاجزة عن إدارة كل هذه الأراضي المترامية، وغير مستعدة للرد على هجوم قبائل "الهون" البرابرة، القادمين من وسط آسيا، الأمر الذي دفع الإمبراطور قسطنطين إلى نقل العاصمة، من روما إلى مدينة بيزنطة ، وكان ذلك في عام 330م، وسميت باسمه: القسطنطينية. وقد حدث أن انقسمت الإمبراطورية، عام 395م، إلى شرقية قسطنطينية، وغربية رومانية، لضعف القيادة والسيطرة على كل تلك البقعة الشاسعة من الأراضي. وعندما حدث ذلك، لحق شرقي البوسنة ووسطها بالقسم الشرقي، وانضم شماليها الغربي إلى القسم الغربي.

وعندما ضعف القسم الغربي، وتعرض لأعمال النهب البربري، التي مارستها قبائل القوط، المهاجرة من وسط آسيا، عام 410م،  ضد أراضى الإمبراطورية الغربية وجزء من الشرقية، وقعت بلاد البوسنة تحت سيطرة حكم القوط، الذين انقسموا إلى شرقيين وغربيين (اُنظر شكل البوسنة تحت سيطرة القوط). واستمرت الإمبراطورية الشرقية كذلك، إلى أن حكمها إمبراطور قوي، جوستنيان، الذي تمكن من غزو القوط الغربيين، وحرر إيطاليا، وكان ذلك في القرن السادس الميلادي. وبذلك، تكون بلاد البوسنة قد دخلت ضمن أراضيه، حتى توفي، بعد ذلك، عام 565م، وتفككت أجزاء الدولة من جديد، في منطقة غربي البلقان، إثر هبوط قبائل الآفارAVARS، والسلاف الصقالبة  SLAVS من الأراضي المجاورة لنهر الدانوب، من الشمال، في نهاية القرن السادس، لتتغير التشكيلة السكانية، بعد ذلك، تغيراً كبيراً.

ولقد انتشرت الديانة النصرانية، للمرة الأولى، بين المدن الساحلية على الأدرياتيكي، عبر بحارة روما، ومن معهم من الأسرى النصارى، في البداية، ومنها انتقلت إلى المرتفعات الداخلية، في القرن الثاني الميلادي. كما واكب ذلك زحف ديني، جهة الشمال أيضاً، بعد انقسام الإمبراطورية، ووقوع جزء من البوسنة ضمن القسم الغربي. وعندها، سادت النصرانية، وتلاشت الوثنية، بل انقرضت.

ومما يذكر عن هذه الفترة من تاريخ البوسنة، أن قبائل الليريين، قد بلغت، بخضوعها للرومان، قدراً لا بأس به من الحضارة، إذ تهذبت طباعهم بقدر، وهو ما يعكس بعض آثارهم، كمناجم البوسنة، وبناء الطرق بينها وبين المدن. جاء في دائرة المعارف الإسلامية ما نصه: "وكان في إليدزة ILIDZE، القريبة من سراييفو، حمام جميل. كما عثر في ستولاك STOLAC، بالهرسك، على أرصفة من الفسيفساء الجميلة".

أولاً: قدوم الصقالبة[1]

كان يعيش، منذ أقدم العصور، في منطقة السهول والغابات، الواقعة إلى الشمال الغربي من البحر الأسود، قبائل تنتمي إلى مجموعة الشعوب الهندية الأوروبية، و تسمى، عند العرب، "الصقالبة". وكان موطنهم يمتد من سواحل بحر البلطيق، في الشمال، إلى ضفاف الأنهار، التي تصب في البحر الأسود، مثل الدون والدنيبر والدنيسبر، صوب جبال الكربات وحوض الفستولا، في الجنوب. و كانت كثافتهم البشرية تتركز عند الملتقى البري الأوروأسيوى. ولقد ظلوا كذلك في أوائل القرون الميلادية، حتى أجبرهم زحف القبائل الجرمانية، المتدفقة من وسط آسيا، والمتجهة صوب غربي أوروبا، في القرن السادس الميلادي، على ترك مواطنهم، والانحدار عنها جهة منطقة البلقان، ليسكنوا بلاد الليريين والرومان، وليكوّنوا، بعد ذلك، الخصائص العِرقية لسكان بلاد البلقان. وكانوا، في الأصل، من الشعوب الزراعية المتخلفة ، وتجمعاتهم متناثرة، من دون تنظيم سياسي حضاري، مقارنة بالأمم الأخرى، مثل البيزنطيين أو القوط.

وقد كانت قِلة الزرع، وعدم ملائمة المكان، وكثرة العدد، مع هجرات البرابرة [2]، هي الأسباب التي حدت بالصقالبة على الهبوط صوب حدود الدولة البيزنطية، على نهر الدانوب، في الفترة ما بين القرن الثالث الميلادي ونهاية القرن الخامس الميلادي.

ويبدو أنهم عندما وصلوا إلى تلك المناطق، أحسوا، على ما هم عليه من همجية و بدائية، بالتقدم الحضاري، الذي كانت تشهده الإمبراطورية البيزنطية الموجودة إلى جوارهم ، فسال لعابهم، حتى إذا ما انشغل البيزنطيون بحربهم ضد الفرس، في الشرق، انتهز الصقالبة الفرصة السانحة، وانقضوا على ما جاورهم من أراضى الإمبراطورية البيزنطية، وأوسعوها نهباً و تخريباً. وكان ذلك قبل أن يعتلي جوستنيان[3] . العرش، في عهد سلفَيه أنسطاس الأول (491 ـ 518م)، ويسطين الأول (518 ـ 527م). وقد تحالفوا مع البلغار في غاراتهم المتواصلة على البلقان. ولم يكن في وسع جوستنيان، في بداية الأمر، أن يضع حدّاً لغارتهم، لانشغاله بحروب، في الغرب، ضد القوط، وفي الشرق، ضد الفرس، لاستعادة الأجزاء التي سلباها من الإمبراطورية. لذا، اكتفى بتشييد التحصينات في البلقان حول العاصمة، القسطنطينية، وإن لم يوجد لديه الجنود الكافون للدفاع عنها. لذلك، تمكن الصقالبة من اجتياح كل البلقان، حتى بلغوا سواحل الأدرياتيكي، غرباً، وساحل بحر إيجه، في الجنوب الشرقي، وخليج كورنت في أقصى الجنوب. إلا أنها كانت غارات للسلب و النهب، ثم يعودون محملين بالغنائم إلى المناطق التي استقروا فيها، وراء الدانوب.

وعندما آل حكم الإمبراطورية البيزنطية إلى هرقل، ومن بعده، في القرن السابع الميلادي، تدفقت جموع الصقالبة وحلفائهم، من البلغار والآفار، إلى شبه جزيرة البلقان. وتغيرت، بذلك، التركيبة السكانية، إذ ساد العنصر السلافي على غيره من العناصر، مثل الليرية والآفارية وحتى البلغارية نفسها. وكان الصقالبة يتميزون، لكونهم، في الأصل، شعوباً زراعية، بالميل إلى البقاء والاستقرار في الأراضي التي يغزونها.

ولخطر ما شكله الصقالبة من تهديد للدولة البيزنطية، إذ وصلت تهديداتهم إلى أسوار القسطنطينية، في عهد هرقل، ولكنه صدهم عنها عام 626م، فقد سلك حكام بيزنطة معهم مسلك التهجير الجماعي إلى آسيا الصغرى. وكان الهدف من ذلك، هو التخفيف من ضغط الصقالبة على منطقتَي مقدونيا وتراقيا، القريبتَين من العاصمة، القسطنطينية، والاستعانة بهم على تعمير المناطق المخربة، كذلك تجنيدهم في جيوش الدولة، للقتال ضد أعدائها في المشرق، إلى جانب استرقاقهم كعبيد، للخدمة في المزارع والبيوت، لذلك، كانوا يباعون في أسواق الرقيق. وعلى الرغم من محاولات البيزنطيين التقليل من خطر الزحف الصقلبي الجديد، إلا أن الصقالبة تمكنوا، بعد استقرارهم في المناطق التي استوطنوها، من الذوبان في الحضارة البيزنطية، وهضم متطلباتها، ثم تغلبوا عليها، بعد ذلك.

انقسم الصقالبة، بعد ذلك، إلى مجموعات:

1. مجموعة الصقالبة الشرقيين: ويضمون الروس، والأوكرانيين، والروس البيض (بيلا روسيا).

2. مجموعة الصقالبة الغربيين: ويضمون السلوفاك، والتشيك.

3. مجموعة صقالبة الجنوب: ويضمون الصرب، والكروات، والسلوفيين، والبلغار، والمقدونيين. وإلى هؤلاء ينتمي "البشانقة"، سكان البوسنة والهرسك.

لقد كانت كل هذه المجموعات شعباً كبيراً، في الأصل، إلا أن قدوم قبائل الهنجاريين ـ المجر ـ أدّى إلى عزل صقالبة الجنوب عن غيرهم من مجموعتَي الشرق والغرب. كما أدى اعتناق الصقالبة الشرقيين النصرانية البيزنطية، الأرثوذكسية، بحكم قربهم من أهلها، واعتناق الصقالبة الغربيين النصرانية اللاتينية، الكاثوليكية، إلى إيجاد تمايز تام بين المجموعتَين.

وكان من الطبيعي، إزاء تلك التطورات، أن تتفرق جموع الليريين، بعد هذا الزحف الصقلبي الكبير، ويتحولوا إلى شراذم، انتشرت في الجبال، جنوب غربي البلقان، ليكونوا أسلاف الألبانيين، اليوم. والذي اضطرهم إلى ذلك، هو قدوم قبائل كبيرة من الصقالبة الجنوبيين، عرفت بقبائل الصرب والكروات، فيما بين عامي 626 ـ 640م ، واستقرارهم في تلك المناطق، مع محاربة أهلها من اللاتين، والليريين. وفتحوا دلماسيا، بما فيها بلاد البوسنة والهرسك والجبل الأسود، ثم الاستقرار فيها بشكل نهائي. (اُنظر شكل هجرات الصقالبة ومراحلها).

وقد بدأ ظهور الصرب، كجماعات مدنية منظمة، في أواخر القرن الثالث الميلادي، في شكل إمارات متناثرة، يحكمها أمراء. وفي نهاية القرن التاسع الميلادي، وقع بعض مقاطعات صربيا القديمة، تحت سيطرة الدولة البيزنطية.

وهكذا تحول الصقالبة، من مهاجرين إلى ما وراء الدانوب، شمالاً، إلى ناهبين مجرمين مستغلين، ثم إلى مستوطنين مستقرين، بل طاردين محتلين، كما حدث في المناطق التي تعرف، الآن، بـ: صربيا والبوسنة والهرسك وكرواتيا.

أمّا القبائل، التي احتلت أكثر دلماسيا، وجزءاً من شمالي غربي البلقان، شمال البوسنة، فكانت تعرف باسم الكروات. وكان يتزعمهم "روبان" الأكبر، الذي أطلق على أتباعه لقب "الروبانية". في حين عُرفت القبائل، التي استقرت في الجبل الأسود وصربيا وما جاورها، بقبائل الصرب. وبين هاتَين الفئتَين الكبيرتَين، نشأت قبائل البوشناق الصقلبية، على أراضي البوسنة والهرسك، الآن، مع شراذم من السكان الأصليين، كالكلث، وبعض الليريين، والقوط. وعلى الرغم من ذلك، كان الجميع يعترفون، وقتها، بسلطان بيزنطة اعترافاً غير مباشر. إلاّ أن ما أحدث التمايز بشكل واضح بين قبائل الصرب والكروات والبوشناق، إنما هو عنصر الدين، إذ انفرد كل شعب بمذهب، إضافة إلى تنامي النزعات القبَلية، بعد ذلك، واختلاطها بنزعات التوسع والاستعمار.

هكذا، طغى العنصر السلافي الجنوبي على منطقتَي غربي البلقان ووسطه، ليستقر فيهما، ويكون أصلاً لسكان ما عرف بـ "يوغوسلافيا"، تلك الكلمة المكونة من مقطعَين "يوغ" أي الجنوب، و"سلاف" أي الصقالبة.

ثانيا: ديانات الصقالبة، قبل الإسلام

كان الصقالبة الأولون وثنيين، لا يعرفون شيئاً عن النصرانية. ولكن، عندما انتشروا في شرقي أوروبا ووسطها، وتفرقوا إلى شرقيين وغربيين وجنوبيين، وانقسم الجنوبيون، بدورهم، إلى صرب، وكروات، وبشانقة، وسلوفيين. اختلط الغزاة بأهالي الأرض، وحدث تمازج، عرقي وثقافي، نتج منه هضم الصقالبة لحضارة البيزنطيين. إلا أن الجانب الديني، ظل يمثل إشكالية بين الصقالبة الجنوبيين، بسبب انقسام النصارى بين أتباع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وأتباع الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. وما دار من جدل لاهوتي، شاعت فيه الفوارق، وتشعبت الاختلافات حول تفهم ما في هذه الديانة من مفارقات وضعية بشرية. فقد برزت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، بوصفها قوة سياسية كبرى، يرأسها البابا، في الإمبراطورية الرومانية، إبّان القرن الرابع الميلادي، بعد أن اعتنقت روما الكاثوليكية، باتخاذ قرار بذلك، في مجمع خلقيدونية الديني، العالمي، عام 451م. وظهر على الجانب الآخر، الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، التي أعلن أتباعها تشكيلهم في مجمع أفسس، بالأناضول، عام 431م. وهكذا تمايزت الكنيستان، فتمركزت الأولى في روما وما يدور في فلكها، وتمركزت الثانية في القسطنطينية وما والاها.

فلمّا قدم الصقالبة الوثنيون، وانقسموا الأقسام المتقدمة الثلاثة، بين أراضى الإمبراطورية، وخالطوا كنائسها، تأثروا بالمذاهب، بحسب أماكنها. فاعتنق الشرقيون منهم الأرثوذكسية، لوجودهم في فلكها. واعتنق الغربيون الكاثوليكية، لوقوعهم في أراضيها. أمّا الجنوبيون، فكانوا وسطاً بين ذلك، إذ اعتنق الصرب منهم الأرثوذكسية، ودان الكروات والسلوفيون بالكاثوليكية. وتسربت هذه الديانة في بعض أهالي البوسنة، التي لم تدن قبائلها بأي مذهب من ذلك. مما خلق جبهة ملائمة لحرب ضروس، اشتد أوارها بين الكروات والصرب، بدوافع توسعية، اصطبغت بألوان دينية مذهبية، ما أن تختفي حيناً، حتى تظهر مرة أخرى، أشد ضراوةً، وأكثر حقداً.

لذلك، فقد أدى تطور الوضع إلى بروز ثلاثة مجتمعات: صربي أرثوذكسي، وبوشناقي وثني، وكرواتي كاثوليكي. كما أدى التوسع الجشع بين طرفَيها، الصربي والكرواتي، إضافة إلى الاختلاف المذهبي بينهما، إلى تقوية جذور العداوة، وأوجدا الحافز إلى نشوب حرب طاحنة، كانت أراضي البوسنة ميدانها.

ومع استمرار جعل الكروات والصرب أراضي البوسنة ميداناً للحرب بينهما، يريدان التوسع وبسط النفوذ على حساب أهلها، فكر زعماء البوشناق في كيفية التخلص من هذه الورطة. فكان أن هداهم تفكيرهم إلى الموافقة على إخضاع منطقتهم، البوسنة، مؤقتاً، لسلطان ملك المجر، وكان هدفهم من ذلك، البعد عن كلٍّ من الصرب والكروات، والسعي إلى اكتساب اعتراف من جهة خارجية باستقلالهم، وتميزهم عن غيرهم من الجنسيات والديانات، المجاورة لهم، وكان ذلك عام 1096م.

إلاّ أنه بعد أن هدأت الأوضاع، وطوَّر أهل البوسنة أنفسهم، أعلنوا استقلالهم عن النفوذ المجري، الذي بدأ يضعف، وكان ذلك عام 1137م، ليدخلوا عهداً جديداً أطلق عليه: عهد البانات، محافظين على تقاليدهم القبَلية الأصلية، ولم يتأثروا في عقيدتهم بأي مِلة أخرى، سواء كانت أرثوذكسية أو كاثوليكية، بل بقوا وثنيين، في مجملهم، حتى دخلوا، بعد ذلك، في الإسلام.

وعندما أشرق فجر الإسلام على الكرة الأرضية، وبلغت دعوته آسيا الصغرى، بعد القرن السابع الميلادي، وسمع به أهالي تلك الأصقاع، من التجار الذين وفدوا على هذه المناطق، ورأوا في تعاليمه مخرجاً للكثير من الضلالات والخرافات المتناقضة، فتحدثوا بالإسلام، مما كان سبباً في تعرضهم للاضطهاد، ودفعهم إلى الهرب إلى بلاد مقدونيا، جنوبي البوسنة والهرسك، وعندهم أفكار أولية عن مبادئ الإسلام، وأبرزها التوحيد.

إلاّ أن أحد النصارى، واسمه بوجوميل Bogomil، أخذ بعض مبادئ الإسلام، وخلطها ببعض معتقداته، وخرج بمذهب جديد، ليس من الإسلام في شيء، إلا أنه لا يقول بالتثليث، وعصمة البابوات. ثم بَشَّر بمذهبه في تلك الأصقاع، حتى دخل بلاد البوشناق، من طريق الجنوب، في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي. فوجد قبولاً من أهلها، لما في دعوته من بعض التعاليم الصحيحة، المأخوذة عن الإسلام. ومن ثم نشأ ما أطلق عليه "الكنيسة البوجوميلية" أو "الكنيسة البشناوية". ومن أبرز تعاليمها رفض تقديس البشر، وعبادة الصليب، رفض أغلب الطقوس النصرانية، ولا سيما التعميد. كما ينكر أتباعها القول بأن عيسى u هو ابن الله، ويرفضون كذلك التثليث، وينتقدون التنظيم الكنسي، وتزيين الكنائس، ولا يعبدون الصور والتماثيل، ويعدونها من عبادة الأصنام. كما يشاركون المسلمين في كراهيتهم للنواقيس وشرب الخمر، ويعيبون حفلات الكنيسة وطقوسها. كما دخلت كلمات عربية إلى لغة البوجوميل البشانقة، منها تسميتهم زعيمهم الأكبر "الجد"، وهذا لفظ عربي، وما ذلك إلا لاختلاطهم بالتجار والدعاة المسلمين. ولقد بقيت آثارهم الحضارية قائمة إلى يومنا هذا، ومنها القبور الفخمة في "ستالاك Stalac" وغيرها من مدن البوسنة. ولقد كثر أتباعهم بعد ذلك، ودخل معهم أشراف البوسنة والهرسك وأمراؤهما، حتى إن زعيم البلاد، بانوس، تمذهب بمذهبهم.

وكان من الطبيعي أن يتعرض أصحاب هذا المذهب الجديد ـ البشانقة ـ للاضطهاد والعنف، من قِبل الكنيستَين، الكاثوليكية والأرثوذكسية، ولحروب صليبية، دعا إليها البابوات، لا سيما هنوريوس الثالث، عام 1221م، وجريجوري التاسع، عام 1238م، وإنوسنت الرابع، عام 1240م. وتلا ذلك تأسيس ديوان التفتيش، عام 1298م، ناهيك بما جرى، بعده، من تعذيب كنسي، مارسته الفئات الكاثوليكية، الحاكمة للشعب البوجوميلي، بدعم من البابوية. وتوالت الرسائل، وعقدت التحالفات بين الأطراف. لإيذاء تلك الطائفة، من ذلك رسالة البابا جون الثاني والعشرين، إلى ملك البوسنة، التي يقول فيها: "إلى ولدنا الحبيب الحسيب، أستفان، أمير البوسنة. لعلمنا بأنك ابن مخلص للكنيسة، فإننا نعهد إليك، أن تستأصل شأفة الخوارج في ملكك، وأن تبذل العون والمساعدة لقاضينا فابيان، ذلك لأن جمهوراً عظيماً من الخوارج، تجمعوا من نواحٍ كثيرةٍ متعددةٍ، وتدفقوا جميعاً إلى إمارة البوسنة، مطمئنين إلى أنهم سيبرزون هناك خطاياهم الفاحشة، ويعيشون في أمن ودعة". هذه واحدة من الرسائل، وغيرها كثير، وهي تعكس طبيعة الحرب العقائدية، التي تعرض لها أهالي البوسنة، من طائفة البوجوميل، ولكنها لم تصرفهم عن عقيدتهم، فقد استمروا مستمسكين بها، حتى بداية الفتح العثماني، الذي جاءهم، من الشرق، بالإسلام.

ثالثاً: علاقة الصقالبة بالعرب

كان الصقالبة قد التقوا العرب، منذ أن تم تهجيرهم إلى آسيا الوسطى، وإدخالهم ضمن جيوش الدولة البيزنطية، ليحاربوا جيوش المسلمين، خلال القرنَين، السابع والثامن، الميلاديين. إلا أن بعض المؤرخين يؤكدون، أن معرفة العرب بالصقالبة، في الشام، تعود إلى ما قبل عهد النبي r ولكنها قويت إبّان فتوح المسلمين في الشام، بعد ذلك.

وتتضح هذه الصلة من خلال عدة أحداث، أبرزها:

1. تحالُف الغساسنة، العرب، مع الإمارات البيزنطية، في الشام، ما كان يعرف بولاية عرابيا Arabia البيزنطية، ودخول كثير منهم في النصرانية، وزيارتهم القسطنطينية، واطلاعهم على أحوال الإمبراطورية من الداخل، مما لا يستبعد معه التقاؤهم الصقالبة، الذين عمّت شهرتهم الآفاق، آنذاك، كغزاة مهاجرين إلى البلقان، أو حتى إلى الإمارات البيزنطية، في آسيا الصغرى، بعد تهجير أعداد كبيرة منهم، إبّان القرن السابع الميلادي.

2. التقاء المسلمين الصقالبة، أثناء القتال، في عهد الخلافة الراشدة، ضد البيزنطيين، في معركتَي أجنادين واليرموك، وأسْر الكثير من الصقالبة. ومن الأسرى من أسلم، بعد ذلك، وحُرِّر، وعاد إلى قومه.

3. هروب مجموعة من مقاتلي الصقالبة، وانضمامهم إلى قوات المسلمين، التي كانت تخرج، أيام الدولة الأموية، مرتين في العام، إحداهما في الصيف، وهو ما كان يعرف بـ "الصوائف"، والأخرى في الشتاء، "الشواتي"، فيما بعد عام 664م.

4. هروب مجموعة، تقدر بعشرين ألفاً، من جيش جوستنيان الثاني، إبان اشتعال الحروب بين الأمويين والبيزنطيين، وانضمامهم إلى العرب، عام 692م. ثم رحيلهم إلى الشام، واستقرارهم بها، واندماجهم في العرب، ديناً وجنساً ولغةً.

ولما تعرف الصقالبة بالعرب، دخلوا في حياتهم وأدبهم. فقد ورد ذكرهم على ألسنة بعض الأدباء والشعراء الأمويين، كما في قصيدة الأخطل، يمدح بشر بن مروان:

"عوادل عوجاً عن أناسٍ كأنما                 ترى فيهم جمع الصقالبة الصهب" (أي حمر الوجوه) .

وهكذا، يتأكد وجود الصقالبة في الشام منذ القِدم، والتقاؤهم العرب، فغدا كلٌّ على إحاطة بعادات الآخر وتقاليده. وكان من بعض الصقالبة الأسرى مَن خدم في بيت الولاية لأكثر من والٍ، لا سيما في الشام. ومنهم من طاب لهم المقام في بلاد العرب، فبقوا فيها. وهناك من الباحثين من يعزو نسب قبيلة "الجبالية"، المقيمة بجبل موسى، حول دير سانت كاترين، في سيناء إلى الصقالبة، ويقول إنهم قدِموا بأمر من القائد البيزنطي جوستنيان، مع أُسَرهم، لحراسة الدير، حتى إذا ما فتح المسلمون مصر، أسلموا، وعاشوا مع العرب وتعلموا لغتهم. ومن ثم، فلا غرابة إذا انتشر الإسلام في ربوع البلقان، بعد ذلك، عند عودة هؤلاء الصقالبة إلى بلادهم مسلمين، داعين إلى دين الله الواحد.



[1] أخذ العرب هذه التسمية عن البيزنطيين، اللذين سموهم "أسكلابوي"، عندما هددوا أراضيهم، ثم حرفت إلى "صقالبة" ثم سماهم الغرب " السلاف" "Slaves"

[2] البرابر: لفظ أوروبي معناه المتوحشون، يطلق على قبائل الهون والوندال والقوط، وربما الصقالبة والآفار أيضاً

[3] هو الإمبراطور القسطنطيني، الذي أعاد للإمبراطورية بعض أراضيها المسلوبة، من القوط