إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الثاني

المبحث الثاني

البلقان في العصر الوسيط

أولاً: دخول الإسلام إلى البلقان

تشير المصادر التاريخية إلى حدوث التقاء بين العرب، خاصة الغساسنة، والدولة البيزنطية، خصوصاً الصقالبة، مما كوّن في أذهانهم خلفية عن بلاد العرب وأخبارهم، ودينهم، الإسلام. فلما خرج جنود المسلمين لفتح الشام، والتقوا جنود الصقالبة، ومنهم مسلمون، في جيوش البيزنطيين، عند اليرموك، وأسروهم، تعمقت الصلة، إذ أضحى هؤلاء عبيداً للمسلمين، وأسلم منهم من لم يكن مسلماً من قبْل، وأُعتق مَن أعتق. وقد تعمقت هذه الصلة في عهد الدولة الأموية، إذ هرب من جيش (جوستنيان) عشرون ألف صقلبي، ليلحقوا بصفوف المسلمين، مؤازرين ومعاونين. وقد أسلم الكثيرون منهم، بعد ذلك. وكان منهم من استقر في الشام، ومنهم من خرج مع جيوش المسلمين، يرشدونهم إلى عناصر الضعف عند البيزنطيين، حتى تمكن المسلمون، في إحدى غزواتهم الصيفية، من اختراق الأراضي البيزنطية، ومحاصرة القسطنطينية حصاراً محكماً، بقيادة جنادة بن أبي أمية الأزدي، سنة 54هـ ـ674م، ما فكَّه عنها إلا النار الإغريقية[1]، التي كانت وسيلة الدفاع البيزنطية الرادعة. ويعتقد أن من هؤلاء الصقالبة أقواماً، عادوا إلى مواطنهم في البلقان وآسيا الصغرى، للتجارة والزيارة، مما ساعد على نشر الدين الجديد بلُغتهم. وهو ما يفسر لنا دخول الإسلام المبكر إلى وسط بلاد بلغاريا، وخروج المذهب البوجوميلي، بعد ذلك، متأثراً بتعاليم الإسلام أيضاً.

ثانياً: انتقال الإسلام إلى البلقان، عبر البحر الأبيض المتوسط

ومما ساعد على دخول الإسلام إلى بلاد البلقان، سيطرة المسلمين على البحر الأبيض المتوسط، كقوة منتصرة، بعد معركة ذات السواري[2]. (34هـ/654م). في عهد الخليفة عثمان  yفكانت من الدلائل التي تؤكد أن هذا البحر سيكون بحراً إسلامياً. وقد حدث ذلك، بالفعل، في أواخر العهد الأموي، بعد سلسلة من الفتوح الإسلامية، في شمالي أفريقيا، في عهد معاوية، بعد سنة 50هـ ـ670م، وانتهت بفتح المسلمين بلاد المغرب، وطنجة، والأندلس. ووصلت جيوش المسلمين إلى سهول وسط فرنسا، حتى نهر الراين خلال خلافة عبدالملك بن مروان (65 ـ 86 هـ / 685 ـ 705م)، وابنه الوليد (86 ـ 96/705 ـ 715م)، فغدت الأراضي الإسلامية شاملة كل تلك المساحة. (اُنظر شكل سير الفتوح البحرية)

وزاد اهتمام الأمويين بالبحر الأبيض المتوسط، وتمثل في صناعة السفن (كما في إنشائهم لدار الصناعة، في تونس وغيرها)، وبناء الموانئ (كميناءَي قرطاجنة وتونس)، وإنشاء الرباطات على امتداد السواحل، وتحصين المدن الساحلية، وإعداد الأساطيل. إلى غير ذلك من الإجراءات، التي فرضت سيطرة الدولة الإسلامية على سواحل البحر الأبيض المتوسط ومياهه، في القطاعات الشرقية والجنوبية منه، وجزء كبير من شماله، بعد فتح الأندلس، التي عمّها الرخاء، وغمرها الاستقرار، فانصرف الولاة فيها إلى بناء الموانئ وتشييد الأساطيل، فدبت الحركة في البحر الآمن، وكثرت تنقلات المسلمين بين بلدان حوض هذا البحر، بغرض التجارة والسياحة.

وقد ساعد ذلك على قيام مجموعات من المجاهدين، وقفت نفسها على الغزو في البحر الأبيض المتوسط، وفتح الجزر المهمة فيه، والاستيلاء عليها، والإغارة على سواحل إيطاليا وصقلية وبلاد غربي البلقان وجنوبيه، ليصل أمر الإسلام إلى تلك البقاع في وقت مبكر، قبل الفتح العثماني. ولم تكن حركة السفن الإسلامية، في عهد الدولة الأموية، بين موانئ البحر الأبيض المتوسط للغزو فقط، بل كانت للتجارة والسياحة، ومراقبة أحوال السفن والموانئ المعادية، تحسباً لملاقاتها في المستقبل. لذلك، يمكن القول، إن الدولة الأموية كانت دولة بحرية. 

أمّا الدولة العباسية، فإنها، أثناء قوّتها، ولا سيما في عهد هارون الرشيد، اهتمت بالبحر الأبيض المتوسط، وأقامت قائداً كبيراً خاصاً، بمصر والشام، هو حُميد بن معيوف عام 190هـ/806م. كما أنشأت الموانئ، ودُور الصناعة المتطورة، وبثت الأساطيل في أرجاء المتوسط. وفي ذلك، يقول البلاذري عن هارون الرشيد: "وأقام من الصناعة ما لم يُقم قبْله. وقسَّم الأموال في الثغور والسواحل. إلاّ أنه عندما جعل العباسيون عاصمة الخلافة في بغداد، التي بناها أبو جعفر المنصور، بدلاً من الشام، بعدوا، بذلك، عن البحر الأبيض المتوسط، مما انعكس على نشاطهم، في أيام الضعف.

غير أنه نشأت، بعد ذلك، دول بحرية مسلمة، اهتمت بالبحر الأبيض المتوسط، وأَوْلته عناية كبيرة، مثل الدولة الطولونية (254هـ ـ 868م). وهكذا أصبح البحر الأبيض المتوسط بحراً إسلامياً، تمخر عبابه سفن التجار، الأندلسيين والمصريين والشاميين، وغيرهم. وهو ما أسهم في مدّ أفق الإسلام إلى الموانئ الأوروبية الجنوبية، في البلقان خاصة، وسائر أنحاء أوروبا عامة.

ثالثاً: دور التجار والدُّعاة في نقْل الإسلام إلى البلقان

كان من الطبيعي أن ينتقل الإسلام إلى بلدان البلقان، مع تزايد النشاط التجاري بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، وما واكب ذلك من اهتمام بصناعة السفن، الخاصة والعامة. وقد برع في ذلك الأندلسيون، الذين اتَّجَروا في الزيتون والأخشاب وغيرهما من منتجات بلادهم، في مصر والشام والمغرب والبلقان وإيطاليا، كذلك في بلاد جنوبي البلقان، لما رأى أهلوها من التسامح والصدق والأمانة، التي كانت سمات طبائع المسلمين وأخلاقهم. هذا إلى جانب تجار البر، الذين دخلوا إلى بلاد بلغاريا وغيرها من بلدان البلقان.

وفي ذلك، يقول ياقوت الحموي: "إن تجار المسلمين، كانوا يقصدون بلاد الصقالبة بأنواع التجارات". هذا إضافة إلى التجار البلقانيين الصقالبة، الذين قدِموا إلى بلاد الشام للغرض نفسه. وكل هذه الأمور زادت معرفة الأهالي الصقالبة، على وجه الخصوص، بالإسلام. إذ لم يقتصر الأمر بالتجار المسلمين هنالك على البيع والشراء، بل تعداهما إلى المكوث للراحة، والاختلاط بالأهالي، الذين أَوْلَوهم الثقة والرعاية، والإعجاب والاستحسان، واستتبع ذلك الاطلاع على سماحة الإسلام، واعتناقه من قِبل أهالي هذه البلدان، بوساطة وسيلة التجارة، المستمرة، عبر العصور، في نقْل المعتقدات والمعارف والعلوم بين الشعوب.

وقد واكب ذلك أسفار الدُّعاة، الذين كانوا متفرغين، في الأصل، للدعوة إلى الإسلام، أو العاملين لها، إلى جانب التجارة. فقد أدت جهود نفر من هؤلاء الدُّعاة إلى إسلام ثلاثين قرية، في وسط بلاد المجر (هنجاريا). وكان هؤلاء الدُّعاة من البلغاريين، الذين سبق لهم الدخول في الإسلام. وتوجد روايات للرحالة المسلم، أبي حامد الغرناطي (565هـ/1169م)، الذي زار المجر، وتولى مشيخة الإسلام فيها، تتحدث عن المسلمين في تلك البلاد، وتذكر أنه زار "بشغرديا"، سنة 545هـ/1150م، وزوَّج ابنه بإحدى بنات أعيان المسلمين فيها.

ولقد أورد ياقوت الحموي وصفاً لاجتماعه، عام 626هـ/1228م، بنفر من أولئك المجريين المسلمين، في مدينة حلب، في الشام، قال فيه : "وجدت في مدينة حلب طائفة كثيرة، يقال لهم الباشغردية، شُقْر الوجوه والشعور جداً. يتفقهون على مذهب أبى حنيفة y. فسألت رجلاً منهم، استعقلته، عن بلادهم وحالهم، فقال : أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية، في مملكة أمة من الفرنج، يقال لهم الهنكر (أي الهنجاريون-المجريون). ونحن مسلمون رعية. لملكهم، في طرف بلاده، نحو ثلاثين قرية، كل واحدة تكاد أن تكون بُليدة (تصغير بلدة). ولساننا لسان الإفرنج، وزيّنا زيّهم، ونخدم معهم في الجندية. فسألته عن سبب إسلامهم، مع كونهم وسط بلاد الكفر، فقال: سمعت جماعة من أسلافنا، يتحدثون أنه قدِم إلى بلادنا، منذ دهر طويل سبعة نفرٍ من المسلمين من بلاد البلغار، وسكنوا بيننا، وتلطفوا في تعريفنا ما نحن عليه من الضلال، وأرشدونا إلى الصواب من دين الله، والحمد لله، فأسلمنا جميعاً، وشرح الله صدرنا للإيمان. ونحن نقدم إلى هذه البلاد، ونتفقّه في الدين، فإذا رجعنا إلى بلادنا، أكرمنا أهلها، وولّونا أمور دينهم" وهكذا، أصبح هذا المجتمع الهنجاري مركز إشعاع لنور الإسلام، في قلب الممالك البلقانية، بفضل جهود الدعاة، الذين أفاد التاريخ، أنهم لم يتجاوزوا السبعة من مسلمي البلغار.

ولقد تعرضت هذه الفئة المسلمة، في بلاد المجر، لإجراءات تعسفية، في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، ولا سيما في الفترة من 1310 ـ 1342م، بأمر من الملك شارل روبرت المجري، الذي أجبرهم على اعتناق النصرانية الكاثوليكية، أو الرحيل عن البلاد، منبوذين، فاختاروا الرحيل. وبحثوا عن الأماكن الملائمة لإقامتهم، مع الاحتفاظ بدينهم، فوجدت أعداد منهم بغيتها في بلاد البوسنة والهرسك. وبذلك، تقلص وجودهم في المجر، بعد طول بقاء، إذ لم يبقَ فيها، إلاّ من كتم إيمانه.

ومن آثار الدعاة، كذلك، ما ذُكر عن رجل، اسمه "صاري سلتوف"، طاف ببلاد الصقالبة والبلغار. ونُسبت إليه روايات، تقول إنه أسلم على يديه ملك "دبروجة" [3]. وأربعون ألفاً من أهلها، وأن له الفضل في إسلام الكثير من أهل البلقان. كما أن هناك تكايا للصوفية، في بعض مناطق يوغسلافيا (السابقة)، منسوبة إليه. وقد كانت تنقلاته، في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي.

رابعاً: الفتح الإسلامي لجزيرتَي كريت وصقلية، في البحر الأبيض المتوسط

أدركت الدولة العباسية أهمية فتح جزر البحر الأبيض المتوسط المهمة وضرورته، مثل كريت (أقريطش)، فحاولت ذلك، ولكنها فشلت. حتى جاءت مجموعة من "الربضيين"[4]، بقيادة أبي حفص البلوطي، عام 212هـ/827م، وأخذت في الاستيلاء على الجزيرة، حصناً حصناً، حتى تم لها ذلك. ثم أعلن الربضيون ولاءهم للخليفة العباسي، فأصبحت الجزيرة ولاية تابعة لمصر العباسية. وتأمن، بذلك، وسط البحر، ونشطت التجارة، واستفاد المسلمون من موارد الجزيرة النادرة، وأمست، مع الأيام، أكبر قاعدة إسلامية لغزو بلاد الروم وجزرها، جنوبي البلقان.

واتحد أهل الجزيرة مع قوات أمير البحر، ليو الطرابلسي، وهو يوناني الأصل، أسلم، ونذر حياته للجهاد، وأصبح من كبار أمراء البحر المسلمين، واضطلعوا معه بأعمال عسكرية كبيرة، على سواحل بلاد الروم، تمثلت في فتح سالونيك[5]. جنوبي البلقان، وأسْر اثنين وعشرين ألف مقاتل، عام 292هـ/904م، ناهيك من فتح الكثير من الجزر المجاورة، وما أحدثه ذلك من إطلاع أولئك القوم على تعاليم الإسلام وأخلاق أهله.

أمّا جزيرة صقلية الإيطالية، فقد فشلت محاولات الاستيلاء عليها[6]، حتى قامت دولة الأغالبة، عام 184هـ، وكانت دولة قوية فتيَّة، إذ أتاها قائد أسطول صقلية متمرداً على حاكمه الصقلي، لأن هذا أراد سجنه وتعذيبه، بأمر من الإمبراطور الأكبر، لأسباب خاصة. فانتهز الأغالبة الفرصة السانحة'[7]، وسيَّر حاكمهم، زيادةالله بن إبراهيم بن الأغلب، جيشاً، بقيادة القاضي الإمام أسد بن الفرات، عام 212هـ، فحاربوا النصارى، وانتصروا عليهم. وتقدموا نحو مدينة سرتوسة، فحاصروها، ومات أثناء ذلك، القائد ابن الفرات، إلاّ أن الحصار تواصل، حتى فتحت الجزيرة كلها. وقد أرسل زيادةالله حاكماً قديراً للجزيرة، يسمى أبا الأغلب إبراهيم بن عبدالله، الذي نظم أمورها، وسار بالفتوح حتى دخل جنوبي إيطاليا، وتملك مدينة نابولي وغيرها. وعلى هدْيه، سار الحكام من بعده، حتى باتت الجزيرة وممتلكاتها من بلاد الروم، مركزاً للإسلام، في قلب هذه المنطقة من أوروبا، لقرنَين كاملَين من الزمان.

خامساً: بعثة المقتدر إلى بلاد الصقالبة

أسفرت جهود المسلمين في نشر الدين الإسلامي، في أوروبا، عن دخول الإسلام إلى بلاد البلغار الصقالبة، ووسط البلقان، في وقت مبكر، يرجع إلى عام 291هــ/903م. وهو ما قاله ابن رسته في كلامه على هذا العام، إذ ذكر أن أكثر مناطق البلغار، قد دخلت في الإسلام، وإذ يوجد فيها مساجد ومكاتب دائمة ومؤذنون، وملابسهم تشبه ملابس المسلمين، وكذا مقابرهم. وقد أرسل ملكهم، ألمس بن شلكي بلطور، رسالة إلى الخليفة العباسي، أبي الفضل جعفر بن المعتضد، الملقب بـ "المقتدر بالله" (295هـ/320هـ)، يسأله فيها أن يبعث إليه من يفقّهه في الدين، ويبني له مسجداً، وينصب له منبراً، ليقيم عليه الدعوة في جميع بلدانه، ويُسوِّره بحصن ضد هجمات اليهود المعتدين. 

وإذ كانت الدولة الإسلامية، آنذاك، قوية، مرهوبة الجانب، فقد سمع الخليفة استغاثة المسلمين هناك، فأمر بتشكيل وفد وسفارة إلى بلاد الصقالبة، من ثلاثة آلاف عامل وعالم ومهندس وطبيب، على رأسهم سوش الرسي(رئيس الرحلة)، وتكين التركي(مترجم)، وأحمد بن فضلان(فقيه الرحلة ومفتيها وقاضيها). كانت بداية البعثة طيبة، ولكنها تعرضت، بعد ذلك، لأحداث مهولة، منها اختطاف قبائل "الفايكنج" المتوحشة، التي كانت تسكن اسكندنافية، ابن فضلان. وقد ذكر المخطوف نفسه كل ذلك في تقريره، الذي رفعه إلى الخليفة، فقال: "ورحلنا من مدينة السلام لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة 309هـ ـ 291م. فلما كنا من ملك الصقالبة، وجَّه لاستقبالنا الملوك الأربعة، الذين تحت يده، وإخوته وأولاده. فلما صرنا منه على فرسخين، تلقانا هو بنفسه. ولما رآنا، خرَّ ساجداً شاكراً لله. فأقمنا إلى يوم الأربعاء في القباب التي ضُربت لنا، حتى اجتمع ملوك أرضه وخواصه، ليسمعوا قراءة الكتاب. فأخرجت كتاب الخليفة، فقرأته، وهو قائم على قدميه. ثم قرأت كتاب الوزير حامد بن عباس، وهو قائم أيضاً". ثم أفاض ابن فضلان في شرح صور الكرم والضيافة، التي لاقتها البعثة. وذكر عجائب تلك البلاد، فقال: "سألني الملك عن اسم مولاي أمير المؤمنين. فقلت: جعفر. فقال: أيجوز أن أتسمى باسمه؟ قلت: نعم. قال جعلت اسمي جعفراً، واسم أبي عبدالله. وتقدم إلى الخطيب بذلك، فكان يخطب: اللهم أصلح عبدك جعفر بن عبدالله، أمير البلغار المؤمنين".

وإضافة إلى وثيقة ابن فضلان، ثمة صورة لمسجد في مدينة كوستنديل في منطقة مقدونيا برن، في بلغاريا، كتب على جدرانه كلمات بأحرف عربية، ذيلت بتاريخ بنائه، الحاصل عام 1071م. وهو ما يدل على أن بعثة المقتدر، قد حققت أهدافها. فقد أثمرت في تهيئة أذهان البلغار، وإعطاء شعبهم ومَن في جوارهم، صورة عن الإسلام ومبادئه و أركانه و أخلاق أهله و معاملتهم. كذلك، أدت إلى إسلام ثلاثين مدينة مجرية.

سادساً: الفتوحات الإسلامية في أوروبا

لم يقتصر وجود العرب المسلمين على البقاء في صقلية وكريت، وبعض المدن الساحلية البلقانية، مثل سالونيك وما حولها من الجزر، بل تعداه إلى الاستقرار الكامل في تلك المدن، وما يتطلبه ذلك من بناء الحصون، وكسب ود المحيطين من الأهالي. وقد هيّأ لهذا الاستقرار استمرار وصول الإمدادات، وتحالف المسلمين مع الأهالي، وحصافتهم في استغلال النزاعات الإقطاعية، القائمة بين النصارى، وفي جوارهم، في تأييد أحدهم على الآخر، حتى أصبح لهم مركزهم في جنوبي البلقان، عند سالونيك، منذ عام 292هـ/904م، وفي مدينة نابولي الإيطالية، التي افتتحوها وما حولها، انطلاقاً من صقلية. وفي فرنسا، حصّن العرب الفراكسنيتيون (نسبة إلى غابة فراكسنيت التي استوطنوها) مراكزهم، خلال القرن العاشر الميلادي، والاستيلاء على ممرات الجبال، جنوبي أوروبا، بمعاونة الإمدادات، الصقلية والأندلسية، والوصول إلى جبال الألب الشمالية، ودخول سويسرا، مما أسهم في معرفة الأهالي هناك بالدين الإسلامي. وكان عبدالرحمن الناصر، الأموي، حاكم الأندلس، قد احتفظ بسفراء لكثير من الدول، منهم سفير "أوتو" ملك الصقالبة، عام 344هـ/945م. إضافة إلى جهود الأندلسيين في تثبيت مواقعهم و ثغورهم الشمالية، وإحكام سيطرتهم على طرق التجارة البحرية، التي كفلت لهم، بمجموعها، وجوداً طويلاً في القارة الأوروبية، استمر ثمانية قرون.

وقد أثمر كل هذه الجهود، الحربية والسلمية، من قبل المسلين، و ما تمخضت به من التصاق، حضاري وثقافي وخبرات مكتسبة، أن عرف الأوروبيون الإسلام، كما عرفوا تمدين المسلمين ورُقيّهم، حتى كان من الأوروبيين من ينطق العربية، ويحفظ أشعارها، ويفخر بذلك، على أساس أنها لغة عالمية. وهي جهود بدأت في الشرق، إبّان الحروب الإسلامية ـ البيزنطية، حينما ركزت الدولة الأموية في القوة البحرية، واستولت على الجزر الحاكمة في البحر الأبيض المتوسط. إلا أن العباسيين لم يستغلوا هذا التوجه البحري، الذي تميز به الأمويون، فأهملوه عندما نقلوا مقر الخلافة إلى بغداد. ففتر اهتمامهم بالبحر والبيزنطيين. وفي المقابل، برز اهتمامهم بالفرس. وهو ما استغله البيزنطيون، فتطاولوا على بعض المدن الإسلامية، مثل الإسكندرية وحلب وغيرهما من المدن التي نهبوها. حتى انبرت لهم الدويلات، فجاهدت دويلة الحمدانيين الروم، وانتصرت عليهم غير مرة، ومن بعدها دويلة السلاجقة، ثم الدولة الفاطمية، التي كان لها نشاط بحري، امتد إلى المتاجرة مع شواطئ دلماسيا، على الأدرياتيكي. ناهيك بما فعله الأندلسيون من نشاط، في البلاد التي جاورتهم، الأمر الذي أعاد الروح الإسلامية، إلى حدّ كبير، بعد ذلك، إلى هذه المناطق.

هكذا، عرفت أوروبا، وشرقيها على وجه الخصوص، ولا سيما البلقان، الإسلام، واتصلت بأهله، منذ وقت مبكر، ربما يرجع إلى عهد الخلافة الراشدة. ثم التحمت معه، بعد ذلك، مباشرة، من خلال التجارة والدعوة، وزيارات الوفود، والسفارات المتبادلة، إلى جانب المعارك الساخنة والغزوات، وما يترتب عليها من هجرات وأسرى، من الطرفين. وهو ما يفسر أموراً كثيرة، منها وجود مجتمعات مسلمة في وسط بلاد، يدين نظامها بغير الإسلام، مثل بلغاريا وما حدث من مليكها، وبعثة المقتدر، والباشغردية في بلاد المجر، الذين أسلموا بجهود أولئك الدعاة البلغاريين السبعة، كما يفسر شيوع المذهب البوجوميلي، المتأثر بتعاليم الإسلام، في البوسنة والهرسك، وأمان التجارة بين المدن، وخلوّ البحر الأبيض المتوسط من القراصنة، إلى حدّ بعيد.

وعلى الرغم من أن نجم الإسلام المبكر، قد أفل، في تلك البلاد، إلاّ أن الآراء مجمعة على أن نور الإسلام، كان ولا يزال مشعاً في قلوب أهله من أبناء تلك البلدان، سواء في البوسنة أو ألبانيا أو المجر أو بلغاريا وما يجاورها من بلدان، وألهبت جذوته وفود الباشغردية، الهاربة من ضغط ملك المجر. وحتى بعد المصائب التي نزلت بالأمة الإسلامية كسقوط غرناطة، وتفتت الدولة العباسية، وصولاً إلى هجمة التتار، التي زادت الطين بِلَّة، إلى أن أدرك الله ـ تعالى ـ المسلمين بالنصر في عين جالوت، على يد الجيش المصري، في 15 رمضان 658هـ، ثم جددت الدولة العثمانية الفتوح الإسلامية في أوروبا، على نطاق أوسع.

سابعاً: دولة البوشناق

استقرت القبائل الصقلبية البوشناقية، المنغلقة على نفسها، في أراضي البوسنة، بزعامات محلية. وكانت وثنية، في البداية، لم تتأثر بمذهب الكروات الكاثوليكي، ولا بمذهب الصرب الأرثوذكسي. إلا أنها اعتنقت المذهب البوجوميلي، بعد أن وقعت على أرضها حرب ضروس، بين الصرب والكروات، تستهدف التوسع على أُسس دينية. وكان حظ أهل البوسنة والهرسك، من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر، الميلاديين، كحظ جيرانهم من الكروات والصرب. (اُنظر شكل البوسنة في القرن العاشر). فقد اعترفوا بسلطة إمبراطور بيزنطة، بشكل غير مباشر، ولكن الإدارة الداخلية، كانت بيد الزعماء المحليين، طوال تلك الفترة، إلى أن زحف عليهم النفوذ المجري الطامع، من جهة الغرب، فشملهم، بعد أن سيطر على الكروات. وامتد إلى الساحل الدلماسي، إبّان حكم الملك كولومان المجري (1096م ـ 1116م)، وكذلك الملك بيلة الثاني، عام 1137م. وكان البشانقة في حاجة إليه، لضمان اعتراف خارجي بهم، ككيان مستقل، متميز عن الصرب والكروات، كليهما. وظلوا يحكمون أنفسهم من الداخل، حتى إذا ما آنسوا في أنفسهم القوة على النهوض، أعلنوا استقلالهم عن المجر، في أواخر عام 1137م، إيذاناً بعهد جديد، كانت مراحله على النحو التالي:

1. الحكم الموحد للبوسنة (1137م ـ 1251م)

توحدت، في هذه الفترة، أطراف البوسنة، تحت سلطة واحدة متمكنة، تعاقب عليها أربعة بانات (حكام)، أشهرهم البان كولين، الذي تسلم السلطة عام 1180م، وحاول النهوض بمستوى البلاد، والمضي قُدماً في سبيل الرخاء والازدهار. وكان ذلك في الوقت نفسه، الذي بدأ فيه المذهب البوجوميلي يتسرب في البلاد، من ناحية الجنوب. وهو مذهب، لم يكتفِ بمخالفة الكنيستَين السائدتَين حوله، ورفض أكثر معتقداتهما، بل رماهما بالشرك. وفقد عمّ انتشاره في الدولة الوليدة، إذ إن تعاليمه تلامس الفطرة، وتوافق العقل، فكثُر أتباعه من سكان منطقة الألب الدينارية، مما هيّأ لقيام الكنيسة البوجوميلية البوشناقية، التي قُوبلت بالرفض والمحاربة، من قِبل جيرانها، الذين كان لهم تأثيرهم في البشانقة المجاورين لهم. فكان منهم من اعتنق الكاثوليكية، لقربه من بلاد الكروات، وظل متمسكاً بها، بعد ذلك. وحينما ضعف حكم البانات، انقسمت البلاد إلى حزبَين: حزب الكاثوليك، الذي عيَّن برجزدة حاكماً للبلاد. والحزب البوجوميلي الوطني، ذي الأكثرية، الذي عيَّن نينوسلاف حاكماً له. وكان هذا الأخير قائداً ماهراً، بارعاً، سار بالبلاد، فترة طويلة، مكافحاً مؤامرات البابوات وملوك المجر، ضارباً أعداءه بعضهم ببعض. وقد مهَّد الانقسام لدخول البلاد، بعد وفاة نينوسلاف، مرحلة الضعف والتزعزع والانقسام، ابتداء من عام 1251م. (اُنظر شكل البوسنة أثناء حكم البان"الدوق" كولين)

2. فترة الانقسام، تحت حكم البانات (1251 ـ 1314م)

ضعفت هيبة البوسنة، إثر وفاة نينوسلاف، وتهددت أراضيها، إذ أهدى ملك المجر قطعة من أراضى غربي (صربيا الحديثة) إلى الدوق الروسي، رُستلاف، مع أجزاء من شمالي البوسنة. في الوقت نفسه، الذي أعجب فيه بعض قبائل الكروات ملك المجر، في نصرتها له ضد التتار، فأقطعها مناطق عدة، في جنوبي البوسنة. واستقلت مناطق وسط البوسنة بنفسها، فصارت البلاد مفككة الأوصال. أمّا الهرسك، في الجنوب، فكانت لا تزال تحت نظامها الإقطاعي، الذي تتحكم فيه الأسر الكبيرة.

3. عهد القطورمانيين (1314 ـ 1377م)

ظهر في البوسنة، عام 1314م، أُسرة، قُـدِّر لها أن تحكم البلاد فترة من الزمن، هي أسرة "قطورمان" المنحدرة من برجزدة، المذكور آنفاً. إذ استقرت الأوضاع، بحكم أستفان قطرومانوفيتش للبلاد مدة ثلاثين عاماً، إلى حين وفاته، عام 1353م. وكان على المذهب البوجوميلي، وإن كانت المصادر التاريخية تشير إلى أن زوجته، وبعض معاونيه، كانوا على المذهب الكاثوليكي. ولكنه بلغ من الدهاء مستوى، أمِن معه مكر المجر، بالاعتراف بحمايتها له، في الظاهر، بينما كان يكيد لها الدسائس، في الباطن. وسيطر على أطراف الدولة، وأبقاها قوية إلى حين وفاته. فخلفه ابن أخيه تورتكو في حكم البلاد، التي بدأت تتفكك، فعالج الأمور بحكمة ورويِّة، حتى قوَّى أساس حكمه، ووحَّد البلاد، ثم نادى بنفسه ملكاً عاماً عليها، عام 1377م. (اُنظر شكل  البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو)

4. مملكة البوسنة

ما أن أعلن تورتكو نفسه ملكاً، حتى توَّجته الكنيسة الكاثوليكية، مستبشرة بعهده. كما أن ملك المجر، اضطر إلى السكوت عن ذلك، على مضض. فشرع تورتكو يؤسس مملكة البوسنة، التي لم يُقدَّر لها أن تحيا سليمة من الفتن، إلا فترة وجيزة. إذ حارب تورتكو مع الصرب، ووقف إلى جوارهم في وجْه فلول العثمانيين، وانهزم معهم غير مرة، ولا سيما في موقعة كوسوفو، عام 1389م.

وتساعد على تضعضع حكمه القوى، ثورة قبائل البوجوميل الشعبية، المغلوبة على أمرها، واضطراب الأحوال في الجنوب. إذ اندلعت ثورة الكروات، في دلماسيا، بعد عام 1391م. ثم كانت وفاة تورتكو نفسه، فخلفه أخوه، ومن بعده أبناؤه في حكم البلاد، التي استشرى تفككها، ولا سيما في الجنوب، حيث أعلن أستفان فوكس، عام 1448م، نفسه دوقاً على مناطق سان سافا، في جنوبي دولة البوشناق، بل أجبرها على الاعتراف به، فعُرفت بلاده، من ذلك التاريخ، باسم بلاد الهرسك. في حين كان العثمانيون يندفعون نحو البلقان، لتقاتل الصرب، ثم تدخل البوسنة، بعد ذلك، على النحو الذي سنوضحه.

5. ماذا نخلص من ذلك؟

هكذا، يتضح أن دولة البوشناق، كانت دولة مستقلة. وأن أراضيها خاضعة لها، وحدها، ليس للكروات، ولا الصرب، أي نصيب فيها، وذلك منذ ما يزيد على ثلاثمائة عام. مما يفند مزاعم كل من الطرفين، الآن في أحقيتهم، تلك الأراضي، ويوضح لنا، من ثم، أن جمهورية البوسنة والهرسك الحالية، إنما هي حقيقة ضاربة في أعماق التاريخ. وكانت البوسنة تملك ساحلاً واسعاً من إقليم دلماسيا على البحر الأدرياتيكي، استولى على معظمه قبائل الكروات، فيما بعد، وأبقت للبوسنيين ساحلاً ضيقاً، يصل الآن، إلى عشرين كيلومتراً فقط، جنوبي الهرسك. كما يلاحظ أن القبائل البوشناقية، منذ سكنت تلك المناطق الجبلية الوعرة، فجر هبوط صقالبة الجنوب، وهي في مرحلة دفاع عن النفس من هجمات الصرب والكروات، التي اتسمت بطابع التوسع، في البداية. ثم تجمعت القبائل البوشناقية لتدافع عن دِينها الفريد، الذي رمته الكنيستان، الكاثوليكية والأرثوذكسية، بالهرطقة، ولتواجه هجمات الصرب الأرثوذكس، والكروات الكاثوليك، التي اتسمت بطابع النزاع الديني.

إن وجود عنصر متميز، هو العنصر البوشناقي، واعتناقه مذهباً خاصاً، واستقلاله عن الكنيستَين، وسيطرته على الطائفة البوشناقية، مع عدم الرضوخ التام لملوك الكاثوليك، الذين تزعموا البوسنة، وقيام زعامات وطنية مناوئة فيها، كلها حقائق تكذب مزاعم الصرب والكروات في أحقيتهم في هذه الأرض، وتشهد بانفراد المجتمع البوسني: جنساً وديناً، وتثبت أحقية هذا الشعب في أرضه المستقلة منذ البداية. ويزداد هذا البرهان سطوعاً، إذا عرفنا أن استقلال الشعب البوشناقي، جنساً وديناً، إنما هو أقدم وأعرق من قُدوم الأتراك الفاتحين، بعد ذلك، واستيطانهم تلك الأراضي، ونشرهم الإسلام، بشكل عام، في تلك الربوع. ذلك حتى لا يتشبث أعداء الإسلام، وأعداء البوسنة، بقولهم أن الإسلام في أوروبا منحصر في الجنس التركي أو الألباني وحده.

ثامناً: تفكك الممالك البيزنطية

عندما شعر البلغار والصرب، وغيرهما من القوميات، المتأججة بنزعات الاستقلال والوطنية، بعلامات الشيخوخة تدب في جسد الإمبراطورية البيزنطية، الرابض على الفئات المختلفة من الشعوب البلقانية، وما أن تأججت عواطفهم بكراهية هذه الإمبراطورية المريضة، حتى انتفضوا، الواحد إثر الآخر، فتقطعت أطراف الإمبراطورية، التي كانت في الماضي عظيمة، وولدت ممالك صغيرة، بعد القرن الحادي عشر الميلادي، كمملكة البلغار، ومملكة الصرب، ومملكة البوشناق، ومملكة كرواتيا.

أما البلغار، وهم سلاف الأصل، فقد استعانوا على استقلالهم، بشعوب "الفلاخ" وغيرهم من قبائل ما وراء الدانوب، فاختلطوا بهم اختلاطاً كبيراً. كما أن البابوية رعتهم، آملة تحقيق الوحدة الكنسية معهم. فضعفت سيادة العنصر السلافي، واضطربت الأوضاع اضطراباً جعل الإسلام ينحسر عن هذه البلاد، حتى بقي في قلوب من تمسكوا به فقط. وحاول البلغار توسيع مملكتهم، ولا سيما في عهد الملك سيمون، الذي زحف بجيوشه، فهدد بلاد الكروات، بعد زعزعته لقبائل الصرب. ولكن الظروف لم تتح له إتمام ذلك، فقد عاجلته المنية، وتفرقت بلاده.

وبالنسبة إلى الصرب، فهو شعب رَعَوي، ريفي، زراعي، تبنّى أعيانه الملك القيصري، اتقاء لشر البلغار. وراودت بعضهم أحلام السيطرة والتوسع، شرقاً، حتى القسطنطينية، وغرباً، حتى الأدرياتيكي ودلماسيا، مروراً بالبوجوميليين البوشناق. وطالما سعوا إلى تحقيق ذلك، وبخاصة في عهد ملكهم القوي أستفان دوشان (1322 ـ 1355م). وقد استمر خضوع الصرب لنفوذ البلغار حوالي خمسة قرون. وفي القرن الرابع عشر الميلادي، تمكنوا من التمرد، واستقلوا عن بلغاريا. وفي النصف الثاني من القرن الرابع عشر، بلغت الصرب ذروة قوّتها، إذ تمكن زعيمها أستفان دوشان من غزو كلٍّ من مقدونيا وألبانيا وأيبريا، وتم تتويجه، عام 1346م، إمبراطوراً على كلٍّ من الصرب واليونان. إلا أن هذه الإمبراطورية سرعان ما تفككت وانهارت، بعد موته، بسبب تنازع خلفائه. ثم دخلت صربيا الوسطى تحت سيطرة العثمانيين، عقب هزيمة الصرب في معركة كوسوفو، عام 1389م.

وفي القرن التالي مباشرة، استكمل العثمانيون سيطرتهم على كل مقاطعات الصرب، إذ كان معظم منطقة البلقان من نصيب الإمبراطورية العثمانية، حينما اقتسمتها القوى العظمى، في النظام الأوروبي القديم (ما قبل الرأسمالي). وقد حاول الصرب مقاومة الحكم العثماني، عدة مرات، ولكنهم فشلوا في ذلك، وهرب الكثيرون من المتمردين إلى المجر والنمسا وروسيا. واستمرت هذه المحاولات، التي استهدفت استقلال الصرب، خاصة في أوائل القرن التاسع عشر. وأدى تمرد شعوب البلقان على الحكم العثماني، عندما ضعفت الإمبراطورية العثمانية، وحصول هذه الشعوب على مساندة الدول الأوروبية الكبرى، مثل بريطانيا، إلى قيام دولتَي الصرب والجبل الأسود، ثم أصبحت بلاد الصرب النواة، التي تبلور حولها ما يعرف بدولة يوغسلافيا الحديثة، وذلك بعد تحرير جميع الصرب، الذين يعيشون خارج حدود صربيا الصغرى، بمن فيهم الصرب المسلمون، المقيمون بالبوسنة، والكروات السلوفينيون كذلك، الذين جرى ضمهم في سياق التوسع النمساوي ـ المجري. أمّا الكروات فقد تبنتهم الكنيسة الغربية، منذ البداية، بشتى الوسائل، من تبشير ومساعدة، وربما محاربة كذلك، حتى تشكلت جبهة ثقافية غربية، هادفة، غرضها فصل كرواتيا ودلماسيا عن الكيان البيزنطي الشرقي. وتعاقب عليهم الأمراء المحليون، والإقطاعيون الإفرنج، حتى تزعمهم أحد الكروات الدلماسيين، توميسلاف، عام 312هـ/925م. فجلب الإقطاعيين إلى مملكة كروات بانونيا، ونجح في تنظيم الدفاعات المحلية، اتقاء لزحف الإمبراطور البلغاري، سيمون، إلى أن قامت مملكة الصرب في الوسط، ففصلت الكروات عن البلغار. وبذلك، ازدهرت مملكة كرواتيا، طيلة القرن الحادي عشر الميلادي، حتى نشبت حرب أهلية، اغتيل، على إثرها، الملك زفونومير[8]، الذي تولى الملك، عام 1089م، لتخضع كرواتيا للمجر، منذ ذلك الحين، ولمدة ثمانية قرون. إلا أن الشعب الكرواتي، ظل محافظاً على تقاليده وأعرافه، مدبّراً لأموره الداخلية، بمجلس محلي، رافعاً علَمه الخاص. وكان بديهياً، أن تسود الديانة الكاثوليكية، وأن ينهال المبشرون بها على شعوب البوشناق، في الشرق، ويؤثروا في الحكم فيها.

وبالعودة إلى البوشناق، فقد تربع على سدة الحكم فيهم الملوك الكاثوليك، بدعم من البابوات. بينما كانت الزعامة الأصلية لأتباع المذهب البوجوميلي مكتوفة الأيدي. وقد عانت قبائل البوجوميل الاضطهاد والاستعباد والاستغلال، وغدت تجارة الرقيق البوجوميلي سائدة في غربي البلقان، في سوق ناشطة، إبّان هذه الفترة. وإزاء ذلك، كان لا بدّ أن يتطلع البوشناق إلى الحرية، وتزداد كراهيتهم للتسلط النصراني الحاقد، وهو ما يفسر مساعدتهم العثمانيين على فتح تلك البلاد، فيما بعد. وقد صادف أن حكمهم بعض الملوك ذوي القوة، مثل الملك تورتكو، الذي أعلن نفسه ملكاً على البوسنة، سنة 1377م، فأدخل في طاعته أصحاب الإقطاع في الهرسك، كما دان له أمراء دلماسيا وبعض قبائل كرواتيا بالولاء، وذلك بعد أن وسَّع ملكه، حتى تغلغل في بلاد الكروات، ثم تحالف مع الصرب، في حربهم ضد العثمانيين، وانهزم معهم في معركة كوسوفو الشهيرة، سنة 1389م.

هكذا، واتت الرياح العثمانيين، كي يخضعوا الممالك البلقانية، من طريق محاربة بعضها بعضاً، أو استغلال عداواتها وطموحاتها. كما كان بديهياً، مع تفكك دول البلقان، وانحسار السيطرة البيزنطية، أن تظهر في الأفق تباشير الإمبراطورية العثمانية الفتيّة، متطلعة إلى فتح تلك البقاع، ونشر الإسلام فيها.



[1] النار الإغريقية: طريقة دفاعية قديمة، استخدمها الإغريق في الدفاع عن حصونهم. تعتمد على مزج خليط من القار والكبريت وسائل آخر سريع الاشتعال، يُعتقدُ أنه `الكيروسين` أو النفط الخام. ينفثونه من أنابيب طويلة، فيشتعل في الهواء، ويشعل أشرعة السفن المحيطة، وخيام القوات التي تحاصر الحصون

[2] معركة ذات السواري: جرت في البحر الأبيض المتوسط، على مقربة من الإسكندرية، بين المسلمين، بقيادة عبدالله بن سعد، وبين الروم، بقيادة ملكهم `قسطنطين`. انتصر فيها المسلمون بمائتى سفينة، مقابل ثمانمائة سفينة للروم، وغنموا الكثير منها، فثبتوا بها أسطولهم في مصر، من وقتها (سنة 34هـ/654م). وقد سميت المعركة بذلك لكثرة السفن المشاركة فيها

[3] مدينة تقع في روما ، حالياً

[4] الربضيون: فريق من سكان الربض القرطبي في الأندلس. ثاروا على حكم الأمير الأندلسي، الحكم بن هشام، سنة 202هـ ـ 818 م. فأُجْلُوا عن البلاد، فساروا في البحر ثلاث فرق. اتجهت الأولى إلى وسط بلاد الأندلس، والثانية إلى شمال المغرب عند الأدارسة، والثالثة إلى الإسكندرية، فاحتلتها، إلا أنهم حوصروا بواسطة المصريين، واستسلموا، سنة 512هـ ـ 827 م، لعبدالله بن طاهر، الذي اتفق معهم على أن يعطيهم سفناً، يبحرون بها من مصر إلى أي مكان شاءوا، فساروا إلى جزيرة كريت، عازمين على فتحها، وهو ما تم، بعد ذلك

[5] مدينة يونانية على شاطئ بحر إيجه الشمالي

[6] مثل المحاولة التي تمّت في عهد موسى بن نصير، سنة 82هـ / 706م، وحبيب ابن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع، 66هـ / 740م، ثم ولده عبدالرحمن بن حبيب الفهري، سنة 124هـ / 756م

[7] قامت دولة الأغالبة في بلاد المغرب، على يد إبراهيم بن الأغلب، ثم أبنائه، من سنة 184هـ. إلى سنة 296هـ، وأعطت ولاءها للعباسيين. وحافظت على حدودهم مقابل الأدارسة. واستقلت عنهم، فعلياً، حتى غزاهم الفاطميون وقضوا على حكمهم سنة 296هـ

[8] هو آخر ملوك كرواتيا المستقلين، حكم عام 1089م ـ 482هـ. ولكن الصراع أدى إلى اغتياله بسرعة، لتخضع كرواتيا بعد ذلك للمجر. ويذكر أنه أسهم في تمويل الحملة الصليبية الأولى ضد السلاجقة المسلمين