إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



الحرب ضـد النمســا

المبحث الرابع

الحرب ضد النمسا والحروب البلقانية

أولاً: الحرب ضد النمسا

بقيت النمسا بعيدة عن الصراع، حتى طمع ملكها، فرديناند، أخو شارلكان، في أن يضم بلاد المجر إلى ملكه. فوجّه جيشاً، حارب ملك المجر، زابولي، وانتصر عليه. فآذن الملك المهزوم السلطان العثماني بما حدث. فقاد سليمان القانوني جيشاً، قوامه 250 ألف جندي و 300 مدفع، وسار حتى وصل إلى موهاج، عام 936هـ/1529م. فانضم إليه زابولي، وسار معه إلى بودا، عاصمة المجر، فهرب منها ملك النمسا، فرديناند، إلى عاصمة بلاده، فيينا، فطاردته القوات العثمانية. وفتحت، في طريقها، القلاع التي كانت تحتلها القوات النمساوية، في مناطق الحدود بين المجر والنمسا، وفي كرواتيا، ودلماسيا، ومنها "باي جاو" و"بانيالوكا" و"صوتول" و"أباروج" و"بصاتس" و"جريبين" و"أدرانا" و"لكيس". حاصرت القوات العثمانية فيينا، وقصفتها بالمدافع. وأمكن فتح عدد من الثغرات في أسوارها. ولكن، لم يتمكن العثمانيون من اقتحامها (1531م)، فقرر السلطان العثماني رفع الحصار، والعودة إلى عاصمته، وعاد زابولي إلى عاصمته المجرية، بودا. وكان حصار العثمانيين فيينا يعني، إستراتيجياً، عزل أوروبا الشرقية عن أوروبا الغربية (اُنظر ملحق أهم الحروب العثمانية على جبهتَي الغرب والشمال)

حاول ملك النمسا، بعد انسحاب الجيوش العثمانية، إعادة احتلال المجر، والاستيلاء على بودا. ولكنه اصطدم بمقاومة الحاميات العثمانية، التي قادها زابولي بمهارة. وسارع السلطان العثماني إلى قيادة جيش لفتح فيينا. ولكن المعلومات، التي توافرت للسلطان عن القوات الضخمة، التي حشدها شارلكان، للدفاع عن فيينا، واقتراب فصل الشتاء، حملا السلطان القانوني على عدم التعرض لعاصمة النمسا. واكتفى بإزالة الخطر، الذي كان يتهدد بلاد المجر، في معارك، انهزم فيها النمساويون، في "فوكوفار" و"فيرتيتسو"، وهرب، خلالها، قادتُهم. وواصلت القوات العثمانية تطهير أراضي المجر من النمساويين، حتى عام 1547م. ويبدو أن ملك النمسا، اقتنع بعجزه عن محاربة العثمانيين، فقرر عقد صلح مع الدولة العثمانية، والاعتراف لها بضم المجر، والتنازل عن مدينتَي كورون وغران، الواقعتَين إلى الشرق من فيينا. فوُقعت معاهدة الصلح في 22 يونيه 1533م.

أصبحت الدولة العثمانية، بذلك، تشكل مركز الثقل في أوروبا، خاصة بعد المعارك البحرية الناجحة، التي وقعت بين الأسطول العثماني، بقيادة أمير البحر خيرالدين باشا، الذي اشتهر في التاريخ بـ "بارباروسا" أي "ذي اللحية الحمراء"، وبين الأسطول الألماني، في مياه البحر الأبيض المتوسط، حيث حاصر الأسطول العثماني جزيرة مالطة، التي كان يحتلها فرسان القديس يوحنا، بعد أن انسحبوا من جزيرة رودس، وكانوا يعرقلون طريق الحجاج. ودمَّر العثمانيون ثلاث قلاع في ميناء مالطة، أهمها قلعة "سانت آلمو". ومن مظاهر قوة الدولة العثمانية في أوروبا، آنذاك، تحالفها مع فرنسا، ضد شارلكان، إمبراطور الغرب وملك أسبانيا (1536م). وكان هدف السلطان العثماني من ذلك، هو الرد على الفظائع، التي ارتكبها الإمبراطور ضد مسلمي الأندلس، بعد إخراجهم من غرناطة، عام 897هـ/1491م. بينما كان هدف ملك فرنسا، فرنسوا الأول، هو الانتصار بالقوات العثمانية وأساطيلها على عدوّه شارلكان. والمهم في هذا الأمر، أن المهادنة (أو الصلح) مع النمسا وفرنسا، أسفرت عن الاستقرار في بلاد الصرب وبلغاريا وألبانيا والبوسنة ورومانيا. وأصبح في استطاعة أهالي هذه البلاد، التعرف بالإسلام والمسلمين، من خلال التعامل معهم على أساس الشريعة الإسلامية، حتى لو كان الحكم والإدارة في أيدي ملوك وأمراء غير مسلمين.

لم يكن هذا الاستقرار ثابتاً، إذ بقيت عوامل التحريض ضد المسلمين متوافرة. ففي عام 1540م، توفي ملك المجر زابولي، وترك ابناً صغيراً، لم يتجاوز عمره شهراً واحداً. فطمع ملك النمسا في انتزاع المجر. فسار بجيشه إلى مدينة "بيست"، المقابلة لمدينة بودا، على نهر الدانوب، وحاصرها، واستولى عليها، كما استولى على عدد من القلاع القريبة. فانبرى السلطان العثماني لقيادة جيشه، مرة أخرى، قاصداً بلاد المجر. وما أن علم النمساويون بذلك، حتى رفعوا الحصار عن بودا. وعندما دخلها سليمان القانوني، أعلن تحويل المجر إلى ولاية عثمانية، وحوَّل كبرى كنائسها إلى مسجد جامع. واستقبل، أثناء وجوده في بودا، وفداً نمساوياً، جاء لعقد الصلح مع الدولة العثمانية. فاشترط السلطان انسحاب قوات النمسا من كل القلاع والأراضي المجرية، التي احتلتها، فامتنع النمساويون عن قبول ذلك. وبقيت حالة الحرب قائمة. ووقعت اشتباكات ومعارك كثيرة، كان النصر فيها حليفاً للمسلمين. وأخيراً، عقد عام 1547م، هدنة لمدة خمس سنوات، وجُددت بعدها لمدة ثماني سنوات. ولكن الاشتباكات على الحدود، بقيت مستمرة ومتناوبة بين الجانبين، خاصة بعد أن توفي السلطان سليمان القانوني، في 7 سبتمبر 1566م، وكان، آنذاك، يحاصر قلعة "سيكيتوار". فخلفه ابنه، سليم الثاني. وتواصلت المعارك بين العثمانيين والنمساويين، حتى عام 1593م، سقطت، خلالها، عدة قلاع، داخل النمسا نفسها.

ولقد أفادت الدولة العثمانية من قدرتها على إقامة التوازنات على الساحة الأوروبية (مثل وضع الحماية العثمانية على بولونيا، عام 1575م)، لتكون إحدى القوى المضادّة للنمسا وأسبانيا، إذا سعت فيينا إلى تنظيم التحالفات، وتوجيه الحرب ضد الدولة العثمانية، خاصة بعد أن وجّه البابا نداءه إلى الدول الأوروبية، عام 1594م، لإقامة تحالف ضد المسلمين. وفي عام 1595م، اجتاحت قوات النمسا بلاد المجر، للمرة الثالثة، وهزمت واليها، الذي هرب من بودا. كما نفت والى البوسنة، حسن باشا، فتوجّه الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، سـنان بـاشـا، على رأس جيش، استعاد القلاع والمدن، التي احتلها النمساويون. فما كان من ملك النمسا، رودولف الثاني، إلا أن نظم تحالفاً ضد العثمانيين، ضم ألمانيا ورومانيا وترانسلفانيا. وجمع أمير روما 4 آلاف مسلم، و قطع رقابهم جميعاً، وهي المجزرة التي وصفها المؤرخ النمساوي الشهير، هامر، بأنها "الواقعة الوحشية". فقاد سنان باشا جيشاً، اقتحم بوخارست، عاصمة رومانيا وأخضعها، وقضى على الكثيرين من أعضاء التحالف. وفي العام التالي (1596م)، قاد السلطان بنفسه الجيش العثماني، وفتح عدداً من القلاع، ودمر جيوش المجر والنمسا تدميراً تاماً، على أرض سهل "كرزت"، القريب من سهل "موهاج"، وعُدَّت هذه المعركة من المعارك الحاسمة ضد التحالف الأوروبي. ثم استمرت الحرب سجالاً، من دون حسم، وكان ميدانها أرض المجر، التي كان أهلها يفضّلون حماية المسلمين لهم على حماية النمساويين، الذين كانوا يسترقّونهم ويسيئون معاملتهم. وهو ما دفع المجريين إلى انتخاب الأمير "بوسكاي" ملكاً عليهم، عام 1605م. ووافقت الدولة العثمانية على حمايته، وأرسلت جيشاً لدعمه ضد النمسا، مما حمل النمسا على إبرام صلح مع المجر (لقاء إعادة إقليم ترانسلفانيا إلى ألمانيا) إضافة إلى شروط أخرى، ووافقت الدولة العثمانية على هـذا الصلح، الذي حُددت مدته بعشرين عاماً.

ثانياً: بداية ضعف العثمانيين، والتحالف الأوروبي ضدهم

في عام 1648م، انتهت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، بين الدول الكاثوليكية والبروتستانتية. وتحالفت الدول الأوروبية كلها في مواجَهة الدولة العثمانية. وتوحدت كلمتها على ضرورة القضاء عليها. وبرز، آنذاك، ما عرف بـ "المسألة الشرقية". واتفق كلٌّ من بريطانيا وفرنسا وروسيا على البدء باستعادة شبه جزيرة البلقان، خاصة أن هذه المنطقة، تدخل في نطاق الهيمنة الروسية على العِرق السلافي، الذي تَعُدّ روسيا نفسها الدولة الأم، بالنسبة إليه. إضافة إلى الأهداف الإستراتيجية، المتمثلة في رغبة روسيا في بسط سيطرتها على مضيقَي الدردنيل والبوسفور الواصلَين بين البحر الأسود والمياه الدافئة، في البحر الأبيض المتوسط.

بلغت الإمبراطورية العثمانية أوج قوّتها في عهد السلطان سليمان القانوني. وبموته، بدأ الضعف يدب فييها، إضافة إلى أسباب أخرى، توسّع المؤرخ بول كولز في ذكرها، في كتابه "العثمانيون في أوروبا". فكثُرت صراعاتها مع النمسا وروسيا ودولة البندقية، للسيطرة على شبه جزيرة البلقان وشبه جزيرة القرم. وجرت، في الفترة من 1645 إلى 1669م، عدة معارك بحرية، بين البنادقة والعثمانيين، انتهت بالسيطرة العثمانية على جزيرة كريت. وفي عام 1663م، اضطر الصدر الأعظم، كوبريلي أحمد باشا، إلى قيادة الجيش العثماني بنفسه، من أجْل إيقاف استفزازات النمسا، وإحباط أعمالها العدوانية. فعبَر نهر الدانوب، واتجه نحو قلعة نوهزل، الواقعة شرق فيينا، الشهيرة بقوّتها ومنعتها، حتى إنه لم يمكن أحداً، من قبْل احتلالها. إلاّ أن العثمانيين اقتحموها، بعد ستة أسابيع على حصارها. وانتشر خبر هذا الانتصار في كل أرجاء أوروبا. وكان إمبراطور النمسا، ليوبولد الأول، الأشد تأثراً به، خاصة بعد أن علم أن العثمانيين، اجتاحوا إقليمَي مورافيا وسيليزيا. فأسرع إلى طلب المساعدة من البابا، إسكندر السابع، ومن ملك فرنسا، لويس الرابع عشر، الذي وافق على إرسال ستة آلاف من جنوده، إضافة إلى أربعة وعشرين ألفاً من حلفائه الألمان. وانضم الجيش النمساوي إلى هذه القوات، واصطدم بالعثمانيين، عام 1664م، في معركة عنيفة، عرفت في التاريخ بمعركة "سان جوتار"، نسبة إلى كنيسة قريبة من ميدان المعركة. وبعد عشرة أيام من الاقتتال والمفاوضات، أمكن التوصل إلى صلح، تضمن موافقة الدولة العثمانية على سحب قواتها من ترانسلفانيا، وتعيين "أبافي" حاكماً عليها، تحت سيادة الدولة العثمانية، وتقسيم بلاد المجر بين الدولتَين تقسيماً، يكون للنمسا، بموجبه، ثلاث ولايات، وأربع للدولة العثمانية، مع بقاء حصنَي "نوفيجراد" و"نوهزل" تابعَين للدولة العثمانية.

واللافت أن زعماء الولايات المجرية، التابعة للنمسا، التمسوا حماية الدولة العثمانية، بسبب اضطهاد إمبراطور النمسا الكاثوليكي للبروتستانت، إذ كان يأمر بقتل كل من يُظهر ميلاً إلى البروتستانتية. فسار الجيش العثماني نحو النمسا. وبعد عدد من الاشتباكات، وصل العثمانيون إلى فيينا، وحاصروها، عام 1683م. واستمر الحصار شهرَين، استطاع العثمانيون خلالهما الاستيلاء على كافة القلاع الأمامية، وأمكنهم تدمير أسوارها بالمدافع وألغام البارود. إلاّ أن البابا حرّض ملكَي بولونيا وبافاريا، اللذين قادا جيشيهما، وأسرعا إلى نجدة عاصمة النمسا، التي كادت تسقط في يد العثمانيين. فاضطرت القوات العثمانية إلى رفع الحصار، بعد معركة ضارية، والعودة إلى قواعدها.

عملت النمسا، بعد ذلك، على تنظيم ما أطلق عليه اسم "التحالف المقدس"، الذي ضم بولونيا والبندقية وروسيا، علاوة على قوات البابا، المتمثلة في رهبان مالطة، المعروفة بقوات "الإسبتارية". وكان ذلك بداية التحولات الحاسمة في الصراع على أرض أوروبا. وإذا كانت الدولة العثمانية قد ضمنت الأمن والاستقرار، لما أصبح يعرف باسم "أوروبا الوسطى" أو "بلاد البلقان"، بفضل مواجهتها الدول الأوروبية المتاخمة لتلك البلاد، فوق أراضيها. فإن عاملاً جديداً قد ألقى بثقله، آنذاك، في ميزان الصراع السياسي ـ الديني، المسلح، وهو تعاظم قوة الإمبراطورية الروسية.

كانت روسيا قد شرعت تتوسع، وفق سياسة منهجية، توسعاً تدريجياً على حساب الدول المجاورة لها: السويد وبولونيا والدولة العثمانية. وبرزت هذه السياسة التوسعية واضحة، منذ أيام بطرس الأكبر (1672 ـ 1725م)، الذي تحالف مع النمسا لإضعاف الدولة العثمانية، واستنزاف قدراتها، عبْر الحروب على جبهتَين متباعدتَين، إحداهما جبهة روسيا، والأخرى جبهة النمسا وأوروبا الوسطى. وتنفيذاً لهذه السياسة، طرحت روسيا شعار: "تحرير الإخوة السلاف"، وشعار: "حماية الأرثوذكسية"، استثارة لشعوب البلقان، وتحريضاً لها على الدولة العثمانية الإسلامية. وكانت نقطة البداية هي إخضاع المسلمين في آسيا الوسطى (تتار القرم)، والوصول إلى "المياه الدافئة".

قاد القيصر جيشه، عام 1695م، فحاصر مدينة آزاق. ولكنه اضطر إلى رفع الحصار عنها، بسبب مقاومة حاميتها. وفي العام نفسه، كانت قوات النمسا، بقيادة أوجين دي سافوا، تخوض حرباً ضارية ضد بلاد المجر، واستطاعت اجتياح البوسنة والهرسك. وأفاد بطرس الأكبر من انشغال الجيوش العثمانية بحرب النمسا، فعاد لمهاجمة مدينة آزاق، واستولى عليها. وقد واكب ذلك هزائم أخرى مُنِيَ بها العثمانيون في شبه جزيرة المورة، أمام البنادقة. اضطرتهم إلى القبول بوساطة الفرنسيين، من أجْل توقيع معاهدة صلح، عام 1699م، عُرفت بمعاهدة "كارلوفيتش"، وهي مدينة كرواتية، تقع على نهر الدانوب، إلى الجنوب الغربي من زغرب، بين كلٍّ من الدولة العثمانية والنمسا وروسيا والبندقية وبولونيا. تخلت، بموجبها، الدولة العثمانية عن بلاد المجر كلها، كذلك إقليم ترانسلفانيا، للنمسا. كما تنازلت لروسيا عن مدينة آزاق. وأعادت لبولونيا مدينة "كامتيك" وإقليمي "بودوليا" و"أوكرايينا". وعقدت الدولة العثمانية مع النمسا هدنة لمدة خمسة وعشرين عاماً.

وعَدَّ المؤرخون معاهدة كارلوفيتش نقطة البداية، لما أصبح يعرف باسم "المسألة الشرقية"، أو مسألة "الرجل المريض"، إشارة إلى الضعف الذي انتاب الدولة العثمانية، وتلخصت في تمزيق هذه الدولة، واقتسام أقاليمها وبلادها بين الدول الأوروبية. ولكن الوصول إلى هذا الهدف، كان يتطلب وقتاً طويلاً، إذ بقي للدولة العثمانية، من جيوشها وقوّتها العسكرية، ما يكفل لها المحافظة على وجودها. وهو ما انعكس في هزيمة القوات الروسية، تحت قيادة بطرس الأكبر، عندما عاد لمهاجمة الدولة العثمانية، فاصطدم بجيش عثماني، ضم 200 ألف مقاتل، استطاع تطويق القيصر وجيشه، مما اضطر قيصر روسيا إلى دفع فدية كبيرة، وتوقيع معاهدة "فلكزن"، عام 1711م، تعهد، بموجبها، بالجلاء عن مدينة "آزاق"، وعدم التدخل في شؤون القوقاز.

وفي عام 1716م، تجددت الحرب بين الدولة العثمانية والنمسا، عندما قاد الأمير أوجين الجيش النمساوي، لاجتياح بلاد الصرب، فاصطدم بالقوات العثمانية، في معركة "بترواردين"، في شمالي بلاد الصرب، وأمكنه الانتصار فيها. ثم استولى على مدينتَي طمشوار وبلجراد، إضافة إلى قسم كبير من بلاد الصرب. وانتهت هذه المرحلة من الحرب بمعاهدة "بساروفيتش"، وهي مدينة تقع إلى الجنوب من بلجراد. وقد نصت على تنازل الدولة العثمانية للنمسا عن كلٍّ من طمشوار وبلجراد، وما احتلته من أراضى الصرب. كما أفادت روسيا من هذه المعاهدة بتعديل معاهدتها السابقة مع الدولة العثمانية، تعديلاً تسمح الدولة العثمانية للروس، بموجبه، بزيارة بيت المقدس وغيره من الأماكن والأديرة المقدسة عند الأرثوذكس، من دون دفع ضرائب أو رسوم، خلال مدة إقامتهم ببلاد المسلمين (بما في ذلك رسوم جوازات السفر).

وفي عام 1736م، تجددت الحرب بين روسيا والنمسا، من جهة، والدولة العثمانية، من جهة أخرى. وذلك عندما حاولتا خداعها، بطلب الصلح، في البداية، ولكنهما شنتا، في 12 يوليه، حرباً مفاجئة. فوجهت النمسا ثلاثة جيوش كبيرة، في اتجاه البوسنة والصرب ورومانيا، بينما هاجمت روسيا بلاد القرم، واحتلت مدينة آزاق. ولكن والي البوسنة، آنذاك، حكيم أوغلو، تصدى بجيشه للقوات النمساوية، وأمكنه إيقاف تقدمها، ثم انتصر عليها، وأنقذ قلعة "نيش" من يديها، وفك الحصار عن بانيالوكا، ودمر جيوش النمسا بمساعدة العثمانيين، من رومانيا. عند ذلك طلبت النمسا وساطة فرنسا، للصلح، فأمكن التوصل إلى معاهدة بلجراد، عام 1739م، التي فرضت انسحاب قوات النمسا من بلجراد وبلاد الصرب ورومانيا، وتدمير قلاع مدينة آزاق، التي احتلتها القوات الروسية. ومن الملاحظ، في هذه الفترة، أن كرواتيا كانت قد انضمت إلى النمسا، طالبة حمايتها من العثمانيين، فكانت كرواتيا، بالنسبة إلى النمسا، هي خط المواجهة وخط الصد أمام العثمانيين. ومن الأسباب، التي أدت إلى تراجع النمساويين عن بلجراد، أن هددت بروسيا بغزو النمسا.

حاولت روسيا إشعال نار الثورة في اليونان، ووعدت اليونانيين بدعم الثورة، تحت شعار حماية الأرثوذكس، وأرسلت سفنها إلى بلاد اليونان. إلا أن الدولة العثمانية، تمكنت من إخماد الفتنة، عام 1770م. فاستمرت روسيا في التحريض، وأرسلت عملاءها إلى بلاد اليونان ورومانيا، لإثارة النصارى ضد العثمانيين. وفي عام 1787م، جالت قيصرة روسيا، كاترينا الثانية، في البلاد الجنوبية وبلاد القرم، ونظمت احتفالات، رفعت شعار: "الطريق إلى بيزنطة". وكان واضحاً أن هذه الإمبراطورة، تعدّ لشن حملة صليبية جديدة ضد العثمانيين. وما لبثت نيتها أن اتضحت، عندما عقدت اتفاقاً سرياً مع جوزيف الثاني، إمبراطور النمسا، لتطبيق الخطة، التي عُرفت باسم "المشروع اليوناني"، المتعلق بتقسيم الدولة العثمانية، والذي نص على إقامة دولة أرثوذكسية مستقلة، مكونة من رومانيا بإقليمَيها، "الفلاخ" و"البغدان". كما تقتطع روسيا الساحل الواقع بين قلعة "أوزو" ونهرَي بوج والدنيبر. وفي المقابل، تحصل النمسا على أرض دلماسيا التابعة للبندقية، إضافة إلى الصرب والبوسنة والهرسك. وكتعويض للبندقية، منحها الاتفاق شبه جزيرة المورة وجزيرتَي كريت وقبرص. كما نص الاتفاق على أنه في حالة الاستيلاء على إستانبول، بعد انهيار الدولة العثمانية، فإنه سيعاد إقامة الدولة البيزنطية مستقلة، وعلى رأسها حفيد كاترينا الثانية، قسطنطين.

بدأ تنفيذ المخطط عندما وجهت روسيا لائحة من الطلبات التعجيزية، والمثيرة، رفضتها الدولة العثمانية. فأعلنت روسيا الحرب عليها. واستولت القوات الروسية على مدينة "أوزو". بينما حاولت القوات النمساوية الاستيلاء على بلجراد. ولكن القوات العثمانية، نجحت في هزيمة القوات النمساوية. وأعادت القيادة الروسية ـ النمساوية المشتركة تنظيم قواتها، وهاجمت مدينة بندر عباس، واستولت عليها، عام 1789م. كذلك احتلت رومانيا، وبسارابيا، وبلاد الصرب، بما فيها بلجراد. ولكن النمسا اضطرت إلى الجلاء عن المناطق التي احتلتها، خشية تحالف الدولة العثمانية مع الثورة الفرنسية، التي تفجرت في ذلك العام، (بموجب معاهدة زشتوي) 1791م. فتابعت روسيا الحرب، وحدها، وتمكن القائد الروسي "سوفوروف"، من الاستيلاء على مدينة إسماعيل، التي ارتكبت فيها القوات الروسية من الأعمال الوحشية، من قتل وسبى وفتك ونهب، شملت النساء والشيوخ والأطفال، ما لا يمكن وصفه. إلا أن بروسيا وإنجلترا وهولندا، توسطت لدى الطرفين المتحاربين، لإبرام معاهدة صلح، بهدف توجيه كل الجهود الأوروبية ضد الثورة الفرنسية. فأبرمت معاهدة "ياش"، عام 1792م، التي نصت على استيلاء روسيا على القرم بصورة نهائية، إضافة إلى بسارابيا والبلاد الواقعة بين نهَري بوج ودنيسبر، ويكون نهر دنيسبر هو خط الحدود الفاصل بين الدولتَين، الروسية والعثمانية.

لم تكن روسيا القيصرية صادقة، لا في طرحها لشعار: "تحرير الإخوة السلاف من حكم العثمانيين المسلمين"، وكانت تقصد بالسلاف الصرب وأهالي البوسنة والهرسك ورومانيا، ولا في شعار: "حماية الأرثوذكسية" الذي تمثل في دعمها لليونان والبلغار وسواهما من شعوب البلقان. فقد كان هدف روسيا الواضح، هو تدمير الدولة العثمانية، والاستيلاء على بلادها. وقد ظهر ذلك واضحاً في تحريض روسيا للصرب على الثورة، عام 1805، ضد الدولة العثمانية. فارتكبت الحركة القومية الصربية مذابح وحشية ضد المسلمين. ولكن والي البوسنة، أبا بكر باشا، قضى على هذا التمرد، بإعدام القائمين عليه. كما شمل التحريض الروسي سكان الجبل الأسود، كذلك، ووقعت هناك مذبحة كبيرة للمسلمين، واحتل الصرب قلعة "سمندرة"، ثم بعد ذلك بلجراد، واتركبوا فيها، كذلك، مذبحة كبيرة للمسلمين. وكان التدخل الروسي سافراً، إذ أرسلت روسيا قواتها إلى هناك، وإلى رومانيا، من دون إعلان حرب. ودعمتها إنجلترا بإرسال أسطولها لتهديد الدولة العثمانية. غير أن القوات العثمانية، تمكنت من تحصين دفاعاتها في البوسفور والدردنيل، مما أرغم البحرية الإنجليزية على الانسحاب. كما وجّه العثمانيون جيوشهم نحو بلاد الصرب، لمقاومة الروس، الذين نجحوا، عام 1809م، في احتلال مدن إسماعيل، وسيلسترة، و روستجق، ونيقوبوليس. واستمرت الحرب سجالاً دونما حسم، حتى عام 1812، حين اضطرت روسيا إلى عقد معاهدة بوخارست، التي تضمنت الاعتراف ببقاء ولايتَي "الأفلاخ"، و"البغدان" رومانيا الآن، تحت حكم العثمانيين، ورجوع الصرب إلى الدولة العثمانية. واحتفظت روسيا لنفسها بإقليم بسارابيا، وأحد مصبات نهر الدانوب.

لذلك، رأى الصرب أن روسيا قد خانتهم، وغدرت بهم في هذه المعاهدة، بعد كل ما قدموه من تضحيات، وبذلوه من أموال، فاستمروا في مقاومتهم. واستطاعت القوات العثمانية القضاء على ثورة الصرب. وهرب قادتُها إلى النمسا والمجر، باستثناء ميلوش أوبرينوفيتش، الذي تظاهر بالخضوع للدولة العثمانية، ثم غدر بها، وعاد لإعلان الثورة، عام 1815. وبعد قتال استمر سنتين، اضطر إلى الخضوع للدولة العثمانية، التي وافقت على منح الصرب استقلالاً ذاتياً، في 29 أغسطس 1831، مع البقاء تحت الرعاية العثمانية، وتشكيل مجلس من اثني عشر عضواً، ينتخبهم المواطنون، وهؤلاء ينتخبون، بدورهم، الحاكم العام. وتم تعيين (مرعشلي باشا) والياً على الصرب، وأعطيت له تعليمات مشددة بمعاملة الصرب بالرفق واللين. كما عين أوبرينوفيتش رئيساً لمجلس النواب.(اُنظر خريطة أوروبا عام 1815)

وإذا كان سلاح روسيا في تفجير الدولة العثمانية من الداخل وتمزيقها، هو "حماية الأرثوذكسية والإخوة السلاف"، فقد كان سلاح "القومية الأوروبية"، هو سلاح الغرب لتحقيق الهدف نفسه. إذ انتظمت في الولايات العثمانية تنظيمات سرية، وجمعيات إرهابية، كانت مراكزها في موسكو وفيينا، لتصدير المؤامرات إلى داخل الدولة العثمانية. كما تشكلت في اليونان جمعية "هيبتري"، التي أشهرت الحرب الصليبية ضد الحكم الإسلامي في اليونان، عام 1822م. واستطاعت الدولة العثمانية، بالتعاون مع القوات المصرية، بقيادة إبراهيم باشا، القضاء على الثورة، عندما تدخلت الدول العظمى، إنجلترا وفرنسا وروسيا، فأرسلت أساطيلها لتدمير الأسطولَين، العثماني والمصري، في مياه نافارين، عام 1827. وانطلقت الدول العظمى لاقتطاع الدولة العثمانية من أطرافها. فشرعت فرنسا تحتل المغرب العربي، بدءاً بالجزائر، عام 1830. فيما حصلت اليونان، عام 1822، على الحكم الذاتي. وفي عام 1844، بدأت الصرب تسعى إلى ضم البوسنة والهرسك وكوسوفو، وإخلائها من المسلمين والكاثوليك . في الوقت عينه، تابعت روسيا حروبها ضد الدولة العثمانية، على أرض أوروبا، وكانت بلدان البلقان مسرحها. وقد تخلل هذه الحروب إبرام عدة معاهدات، زادت من ضعف الدولة العثمانية، وأدت إلى خروجها، بعد ذلك، من البلقان. ومن أمثلة ذلك معاهدة مضيقَي الدردنيل والبوسفور، التي فرضتها الدول الأوروبية (بريطانيا وروسيا والنمسا وألمانيا) على الدولة العثمانية، لكفالة حرية الملاحة الدولية في هذَين المضيقَين. وبمقتضى هذه المعاهدة، التي وُقِّعت في يونيه 1844، صارت بريطانيا حامية لأمن تركيا. وكان قائد الأسطول التركي أدميرال بريطاني.

وفي عام 1850، نشبت حرب القرم، التي دامت خمس سنوات، بين بريطانيا وفرنسا وسردينيا، كحلفاء للدولة العثمانية، وبين روسيا. ثم انضمت النمسا إلى الحلفاء، عام 1855. وقد أدى ذلك إلى عقد معاهدة باريس، في 3 مارس 1856، التي تم بموجبها تحييد البحر الأسود، ونالت جميع بلاد الصرب استقلالها، تحت سيادة الباب العالي، وأعطت للدولة العثمانية الحق في وضع حامية في ست قلاع، بما فيها قلعة مدينة بلجراد، عاصمة الصرب. واشترطت هذه المعاهدة شرطاً غريباً، هو ألاّ يسكن المسلمون خارج هذه الحصون.وترجع غرابة هذا الشرط،إلى أنه لم يكن أبداً من مطالب الصربيين.

ثالثاً: العلاقات السياسية بين الدول الكبرى (1871 ـ 1891)، وأثرها في البلقان

1. نتائج الحرب السبعينية، وسياسة بسمارك

يعَدّ عام 1870 ختاماً لعدة حركات سياسية، نتج منها تكوين الإمبراطورية الألمانية والمملكة الإيطالية، والجمهورية الثالثة الفرنسية، والمملكة الثنائية (النمسا والمجر). ثم تلا ذلك نيف وأربعون عاماً، وقع خلالها أحداث، مهدت للحرب العالمية الأولى، نتيجة لحب التوسع والاستعمار.

وكان أهم ما حدث خلال تلك الفترة، تأسيس الجمهورية الفرنسية، وتدعيم الإمبراطورية الألمانية، وتكوين التحالف، الثلاثي والثنائي، والمسألة الشرقية.

وقد قبلت حكومة الدفاع الوطني الفرنسية، الشروط القاسية، التي فرضتها ألمانيا على فرنسا في معاهدة فرنكفورت، عام 1871، وعقد الصلح، وفقدت فرنسا الألزاس واللورين، ووافقت على أن تدفع تعويضاً، قدره مائتا مليون جنيه. (اُنظر خريطة أوروبا عام 1871).

وظل ذلك الخوف من تكوين جبهة أوروبية ضد الإمبراطورية الألمانية، يساور بسمارك حتى هداه تفكيره إلى تأليف حلف دفاعي، يضم بعض أعداء الإمبراطورية الألمانية القدامى. واستطاع، بدهائه، أن يحقق تلك الخطوة مع النمسا وروسيا.

2. "عصبة الأباطرة الثلاثة" (ألمانيا ـ روسيا ـ النمسا)

وفي عام 1872، تقابل الأباطرة الثلاثة في برلين، وتوصلوا إلى اتفاق شفهي فيما بينهم. وقد أطلق على هذا التفاهم، أو هذا الوفاق، اسم "عصبة الأباطرة الثلاثة". والواقع أن هذا التفاهم، لم يعقبه توقيع معاهدة بين الدول الثلاث. ولكن الدول الثلاث الكبرى، روسيا وألمانيا والنمسا، اتفقت جميعها على "الإبقاء على الحدود الراهنة لأوروبا، والعمل على تسوية المشكلات، الناجمة عن المسألة الشرقية، والمعاونة على إخماد الحركات الثورية في أوروبا".

3. المسألة الشرقية، وأزمة البلقان

درج السياسيون على تسمية البلقان "برميل البارود"، لأن بلاده كانت، منذ القرن التاسع عشر، مثار الحروب. فقد كان يسكنه شعوب مختلفة الأجناس والعادات والتقاليد، متنافرة الشعور والأهواء والميول. وتقاسم النفوذ في تلك المنطقة دولتان كبيرتان، هما الدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية. فقد استطاع الأتراك العثمانيون، منذ القرن الخامس عشر، أي منذ سقوط القسطنطينية في أيديهم، أن يندفعوا بفتوحاتهم نحو البلقان، وظلوا مسيطرين على معظم بلاده، حتى نهاية القرن الثامن عشر، حينما بدأت الإمبراطورية العثمانية تضعف وتهنِ. وعندئذٍ، سنحت الفرصة لروسيا والنمسا، أن تحقّقَا أطماعهما في تلك البلاد. وأدركت شعوب البلقان، أن في استطاعتها أن تحقق أمانيها القومية. فتمكن المجريون، عام 1804، من الاستقلال الذاتي، بعد ثورة عنيفة. ثم استقل اليونانيون استقلالاً تاماً، بعد ثورتهم الكبرى، وتدخّل الدول لمصلحتهم، عام 1832. واضطرت تركيا إلى إعطاء صربيا استقلالاً ذاتياً، عام 1830، بشرط دفع الجزية إلى السلطان، وكان الصربيون هم أول من ثار من البلقانيين ضد الأتراك، وإن كان اليونانيون قد سبقوهم إلى الحصول على استقلالهم التام. إلا أن الصربيين لم يذعنوا إلى الأبد، بل تابعوا جهادهم حتى جلا الأتراك عن بلادهم عام 1867.

كانت ولايتا البوسنة والهرسك تابعتَين للسلطان. وكان سكانهما يكرهون حكم الأتراك، ويتطلعون إلى الانضمام إلى صربيا، بعد أن نالت استقلالها.

وقد برز، خلال تلك الثورات وغيرها، على الدولة العثمانية، مشكلة، سمِّيت في التاريخ باسم "المسألة الشرقية"، اشتركت في حوادثها الدول الأوروبية الكبرى، فأصبحت قضية أوروبية معقدة، استحال على الساسة حلها حلاً، يرضي جميع الأطماع. فروسيا وفرنسا تتنافسان في حماية رعايا الدولة المسيحيين، إذ ادعت الأولى حق حماية الأرثوذكس، وزعمت الثانية حق حماية الكاثوليك. وتطلعت النمسا إلى التوسع في البلقان.

ووقفت بريطانيا متربصة بالأطماع الروسية في الأملاك العثمانية. وحاولت النمسا الاتجاه نحو البلقان. وأخذت بريطانيا تعمل على أن تمنع الإجهاز على الدولة العثمانية، "الرجل المريض".

ثم عادت المسألة الشرقية للظهور، عام 1875. فقد قامت ثورة في الهرسك (هرز جوفينا)، بسبب قسوة الحكام العثمانيين في جباية الضرائب، على الرغم من نقص المحصول في ذلك العام. وانضم إلى الثوار متطوعون من الصرب والجبل الأسود وبلغاريا، لمعاونتهم على العدو المشترك، الدولة العثمانية، ولتحقيق وحدتهم، التي تتزعمها صربيا.

وفي صيف 1875، أعلنت صربيا والجبل الأسود الحرب على إستانبول. وعندئذ، تنبه كل من روسيا والنمسا إلى مصالحها وأطماعها في البلقان، وحاول كل منهما أن تستفيد من الموقف المرتبك في تلك البلاد.

أما روسيا، فقد كانت سياستها ذات وجهين: أولهما، سياستها الرسمية، في التفاهم مع النمسا على توحيد سياستهما في البلقان. وثانيهما، وجود عاطفة قوية نحو الجامعة السلافية، تستمد قوّتها من العاطفة الدينية الأرثوذكسية، التي تتخذ موسكو لها مركزاً.

ولكن النمسا، على الرغم من رغبتها في تحطيم الدولة العثمانية، كانت تخشى أن يثور السلاف الخاضعون لها، تشبهاً بالسلاف الخاضعين للعثمانيين. فاتفق رئيس وزرائها، أندراسي، مع دزرائيلي، رئيس الوزارة البريطانية، على توجيه مذكرة إلى إستانبول، يفرضان فيها على السلطان عدة مطالب، تختص بمعاملة رعاياه المسيحيين. ومع أن السلطان قد قبِل المذكرة، ووعد بتحقيق ما جاء فيها، غير أن الثوار رفضوا أن يعتمدوا على وعد السلطان.

وامتدت الثورة إلى بلغاريا. فتشدد العثمانيون في إخمادها، مما أثار السخط عليهم في أوروبا. ولما أرسلت الدول الأوروبية مذكرة جديدة، تلحّ في وجوب تنفيذ الإصلاح، لم تعبأ بها الدولة العثمانية، وردت عليها رداً جافاً، لأنها كانت تعتقد أن الدول الأوروبية تشجع الثوار، وتمدهم بالعون والتأييد.

4. الحرب الروسية ـ التركية

وفي 23 أبريل عام 1877،أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، وانضمت إليها رومانيا وصربيا والجبل الأسود وبلغاريا. بينما لم يكن للعثمانيين، في ذلك الوقت، حليف قوي، تستطيع أن تعتمد على تأييده. وكانت روسيا قد ضمنت حياد النمسا في تلك الحرب، بعد أن وعدتها بأن توافق على ضم البوسنة إلى النمسا في التسوية القادمة.

ولم يكد ينتهي العام، حتى كانت القوات الروسية تتقدم، منتصرة، نحو القسطنطينية. وعندئذٍ، تحركت الحكومة البريطانية، وكان على رأسها دزرائيلي، للعمل على منع روسيا من الوصول إلى العاصمة العثمانية. وكان على استعداد للحرب حتى يمنع الكارثة، التي تقف بريطانيا دائماً دون حدوثها. ووصلت قطع من الأسطول البريطاني إلى الدردنيل، لمنع أي تقدم روسي.

كذلك، أظهرت النمسا قلقها من احتمال نجاح البلقانيين ضد الدولة العثمانية، وانتقال العدوى إلى ممتلكاتها. وفي الوقت نفسه، كانت ترى أن أي تقدم روسي نحو إستانبول قد يعطي روسيا فرصة السيطرة على مدخل نهر الدانوب، وهو النهر الذي يربط بين الممتلكات النمساوية. وبذلك، ظهر الخلاف بين السياستَين، الروسية والنمساوية، في البلقان.

وهكذا، تبيّن لقيصر روسيا صعوبة تحقيق مآربه. واضطر إلى إبرام الصلح مع العثمانيين، في معاهدة سان ستيفانو[1]. (في 3 مارس عام 1878) (اُنظر شكل البلقان 1800 – 1913). ولم تكن معاهدة الند للند، بل معاهدة بين قوي وضعيف، أملى الروس شروطها، وهم يكظمون غيظهم من محاولة التدخل البريطاني المسلح، واحتمال انضمام النمسا إلى جانب بريطانيا فيه. ونصت المعاهدة على استقلال رومانيا والصرب والجبل الأسود استقلالاً تاماً. وتنازلت الدولة العثمانية لروسيا عن بعض المناطق في القوقاز. وكان أهم النتائج، التي ترتبت على عقد تلك المعاهدة، منْح بلغاريا حدوداً أوسع. فقد مهدت الصحافة، التي تنطق باسم الجامعة السلافية لتحويل أنظار البلقانيين إلى الزعامة البلغارية الجديدة. وأصبحت بلغاريا، بموجب معاهدة سان ستيفانو، تمتد من البحر الأسود إلى الساحل الطويل، الواقع على بحر إيجه، وهي محاولة شاءت بها روسيا أن تنشئ دولة كبرى، تتمتع بالحكم الذاتي، وتستمد العون والتأييد من الحكومة الروسية، ومن طريقها يتغلغل النفوذ الروسي في البلقان.

5. موقف إنجلترا

لم تكد الحكومة البريطانية تعلم بنبأ تلك المعاهدة، حتى ثارت ثائرتها، وقررت التدخل لإجبار القيصر على أن يعرض معاهدة سان ستيفانو على مؤتمر، يمثل الدول الكبرى، للنظر في شروطها، وإجراء تعديلها.

6. مؤتمر برلين 1878

ورأى بسمارك، مستشار ألمانيا، أن يتوسط في الأمر. واقترح عقد المؤتمر في برلين. وقبلت روسيا أن تعرض شروط المعاهدة على المؤتمر، لأنها شعرت، حينذاك، بعزلتها. وعقد المؤتمر، في 13 يونيه 1878، في برلين، واستمر 31 يوماً، إذ انتهت أعماله في 13 يوليه. وقد حضره مندوبون عن بريطانيا وألمانيا والنمسا والمجر وفرنسا وإيطاليا وبوهيميا وروسيا والدولة العثمانية.

وفي هذا المؤتمر، اتفقت سياسة ألمانيا مع سياسة كل من النمسا وبريطانيا. وأيد بسمارك جميع المشروعات الإنجليزية، التي كانت ترمي إلى تضييق الخناق على روسيا.

وقد قرر المؤتمرون الآتي:

أ. توضع البوسنة والهرسك تحت حماية النمسا وإدارتها. أما بلغاريا، التي امتدت حدودها، بموجب معاهدة سان ستيفانو، طبقاً للسياسة الروسية، فقد انكمشت إلى مساحة أكثر ملاءمة واعتدالاً.

ب. تحصل روسيا على مقاطعة بسارابيا.

ج. تحصل إنجلترا على قبرص، مما يحد من أطماع الروس.

ومع ذلك، فلا نستطيع أن نقول إن مؤتمر برلين قد انتهى إلى إيجاد تسوية دائمة للمسألة الشرقية، إذ إن الولايات البلقانية نفسها، لم ترضَ عن تلك التسوية. فرومانيا، التي ساعدت روسيا على حربها ضد العثمانيين، قد فوجئت بتقرير ضم بسارابيا إلى حليفتها روسيا. وساء بلغاريا، أن يتبدد الحلم الذي حققته في سان ستيفانو. وغضبت صربيا كل الغضب، لانتقال البوسنة والهرسك من يد العثمانيين الضعيفة إلى قبضة النمسا القوية، إذ إن ذلك الحل يضعف أملها في ضمهما، عندما تسمح الظروف.

ومع أن دولة النمسا والمجر، استطاعت أن تكسب أرضاً جديدة، البوسنة والهرسك، من دون أن تدخل الحرب، فإن ذلك الكسب، كان، في الواقع، عبئاً جديداً على عاتقها، إذ إن بسط السيادة النمساوية على ولايتَين سلافيتَين، يزيد من نسبة عدد الجنسيات الأجنبية المختلفة في المملكة الثنائية (النمسا والمجر). وذلك، يضعف بناءها، كما اتضح فيما بعد، ويزيد أعباءها. وقد كان الإمبراطور فرنسيس جوزيف نفسه يرى هذا الرأي.

وخرجت روسيا، وقد حزّ في نفسها أن ألمانيا غدرت بها وبمصالحها في البلقان، ووافقت على إلغاء شروط معاهدة سان ستيفانو، التي أملتها روسيا بعد انتصارها على الأتراك. أما إيطاليا، فعادت من المؤتمر بخفّي حنين. (اًنظر شكل البلقان 1800 ـ 1913).

7. ضم البوسنة والهرسك

ظل ساسَة النمسا ينتظرون سنوح الفرصة، لكي يضموا هاتَين الولايتَين نهائياً. وقد سنحت تلك الفرصة، عام 1908، حينما قامت الثورة على حكومة السلطان عبدالحميد، وتكونت، سراً، في الدولة العثمانية جمعية، سمّت نفسها "جمعية الاتحاد والترقي". وكان من أهدافها إنقاذ إستانبول من الخضوع الشائن للدول الغربية، وتكوين دولة عثمانية عصرية، تقوم على أسُس متينة، من القوة والنظام. وكان مركز هذه الجمعية في جنيف (عام 1891)، ثم انتقلت إلى باريس، وأخيراً، استقرت في سالونيك، عام 1908. وتكونت جمعية "تركيا الفتاة"، التي أعلنت ضرورة تنفيذ الدستور التركي، الصادر عام 1876، وقررت الثورة على الحكم المستبد القائم، واستعدّت للزحف على العاصمة.

وقد عزمت جمعية "تركيا الفتاة" أن تشرك جميع الولايات، التي كانت تابعة للدولة العثمانية في البلقان، في ثورتها على السلطان. فأرسلت تطلب من شعب البوسنة والهرسك، أن يرسل مندوبين للاجتماع بأعضاء الجمعية، وقصدها من ذلك إثبات الرعوية العثمانية للبوسنة والهرسك، وانضواء الولايتَين إلى الإمبراطورية العثمانية. إلا أن حكومة النمسا والمجر، قابلت تلك الحركة بضربة حاسمة، إذ أعلنت، في 6 أكتوبر 1908، ضم البوسنة والهرسك، رسمياً، إلى النمسا. وفي الوقت نفسه، حرضت حكومة النمسا بلغاريا على إعلان استقلالها عن السيادة العثمانية.

وقد اعتقد (ألوا فون أهرنتال Alois Von Aehrentha)، مستشار النمسا، أنه سدد تلك الضربة بمهارة وفي الوقت الملائم، فإن روسيا الطامعة في البلقان، كانت لا تستطيع معارضتها، حينئذٍ، لأنها جاءت في عقب هزيمتها أمام اليابان، عام 1905، وخروجها من تلك الحرب ضعيفة الجانب، لا تستطيع أن تخاطر بعداوة النمسا. أضف إلى ذلك، أن وزير خارجية روسيا، (ألكسندر إزفلسكي Isvolski)، كان قد وافق، في 16 سبتمبر 1908، على أن تتخذ النمسا تلك الخطوة في البلقان، نظير اعتراف النمسا بحق روسيا في مرور سفنها الحربية في مضيقَي البسفور الدردنيل. إلاّ أن ذلك الاتفاق لم توافق عليه الحكومة الروسية، ولم يجد إزفلسكي حرجاً من أن يدعي أنه قد خدع. أضف إلى ذلك، أن الإنجليز، على الرغم من أنهم وسّعوا الوفاق الودي مع فرنسا، حتى أصبح تحالفاً ثلاثياً، يشمل روسيا أيضاً، قد عارضوا فتح المضيقين لمرور السفن الروسية فيهما. لقد كان إزفلسكي يعلم أن ذلك سوف يثير الشقاق في معسكر الوفاق، ويدق إسفيناً في الصداقة الروسية ـ الإنجليزية.

أثارت خطوة النمسا في البلقان الجزع في العواصم الأوروبية. ففي برلين، كان حلفاؤها الألمان، يخشون أن تؤدي أطماع النمسا إلى حرب في البلقان، لا تستحق بذل الدماء. إلا أنهم كانوا يعتقدون أن من واجبهم أن يقفوا إلى جانب حليفتهم، مهْما كان الأمر، إذ لم يكن للألمان حليف يعتمدون عليه غير النمسا. ثم إن النمسا كانت تفكر في مشروعات للتوسع، قد تفيد منها ألمانيا. فقد كانت فيينا تفكر في مد خط حديدي من سراييفو إلى سالونيك على بحر إيجه، وتلك فكرة استعمارية تفتح طريقاً بين صربيا ومنتينجرو (الجبل الأسود)، مما يدعم نفوذ النمسا في البلقان، ويمنع تأسيس وحدة سلافية، قد تؤدي إلى تكوين دولة من الشعوب السلافية، يتعارض وجودها مع أغراض النمسا الاستعمارية. أضف أن إقامة الخط الحديدي تؤدي إلى إيجاد منفذ للتجارة النمساوية، وهكذا، تتعارض مصلحة كل من روسيا والنمسا. إذاً، كان البلقان، عام 1908، موطناً لصراع سياسي بين معظم الدول الأوروبية، حتى توقع الكثيرون أن أول شرارة للحرب، سوف تنطلق منه.

وقد مرت أزمة عام 1908، من دون إراقة دماء. واكتفت الدول، التي يهمها الأمر، بالاحتجاج على أطماع فيينا. وازداد التوتر بين روسيا والنمسا، وهما دولتان متشابهتان في التأخر، من الناحية الاقتصادية، وفي شعورهما بالحاجة إلى منافذ تجارية إلى المياه الدافئة.

وقد أثار ضم النمسا البوسنة والهرسك غضب الصربيين، الذين رأوا نحو مليون من بني جنسهم، تضمهم النمسا، في الوقت الذي كانوا يؤملون ضم البوسنة والهرسك إلى صربيا، لإقامة الوحدة اليوغسلافية المنشودة. على أن صربيا، لم تكن، في ذلك الوقت، تستطيع أن تمنع الكارثة. فهي لا تستطيع الاستنجاد بروسيا، التي تدّعي زعامة السلاف، لأن الأخيرة كانت تعاني هزيمتها في الحرب اليابانية. كذلك، أعلنت إنجلترا أنها لا تفكر في احتمال نشوب حرب عامة، من أجل المسألة البلقانية.

وكانت ألمانيا، في الوقت نفسه، قد أعلنت أنها تؤيد حليفتها النمسا، وأنها لن تتأخر عن معاونتها عسكرياً، في حالة الحرب. ولم يستطع الصربيون أن يواصلوا معارضتهم، أمام ما سمعوه من عزم النمسا على تنفيذ قرارها بكل ما في وسعها من قوة، حتى اشتهر الأرشيدوق فرانز فرديناند Frans Ferdinand، ولي عهد النمسا، وكونرا دفون هوتزندورف Hotzendorf، قائد القوات النمساوية، بأنهما يفضلان الإسراع في مهاجمة صربيا، "ومحوها من الخريطة الأوروبية".

سكتت صربيا على مضض، ولكن روح القومية ازدادت اشتعالاً، ونشأت الجمعيات السرية للعمل على تحقيق مشروع صربيا الكبرى. واستحكم العداء بين الصربيين والنمساويين. وعزمت النمسا على التخلص من صربيا، عندما تسنح الفرصة، ونشط سفيرها في بلجراد، عاصمة صربيا، لجمع الوثائق، التي تبرر القيام بالهجوم. ولكن لم يتم العدوان في ذلك العام، ولعل ذلك مرده إلى ما تبيّن من أن ألمانيا، على الرغم من تصريحها بتأييد حليفتها، عادت وأظهرت أنها لا تتحمس لدخول الحرب من أجْل مسألة صربيا.

رابعاُ: الحروب البلقانية (1912 ـ 1913)

أثار ضم النمسا البوسنة والهرسك الشعور القومي في بلاد البلقان. وتبيّن البلقانيون مدى ضعف العثمانيين، بعد حرب طرابلس[2]، ورأوا أن ساعة الخلاص من الحكم العثماني، قد حانت، وعلى الأخص أنهم كانوا يطمعون في أن تعاونهم روسيا، بعد أن توترت العلاقات بينها وبين النمسا، وتضاربت مصالحهما في البلقان. وفي الوقت عينه، قد تتخير روسيا تلك الفترة، التي ضعفت فيها إستانبول، لكي تسوِّي مسألة المضايق في مصلحتها، فيقع النزاع بين الدولتَين.

وفي مارس عام 1912، شجع الروس كلاًّ من صربيا وبلغاريا على توقيع معاهدة، تضمن تعاونهما المشترك، في حالة اعتداء أي دولة أوروبية كبرى على حدودهما. وجاء في إحدى مواد تلك المعاهدة: "يتعهد الطرفان موقّعا المعاهدة، أن يؤيد أحدهما الآخر بكل قوّته، في حالة محاولة إحدى الدول الكبرى ضم أو احتلال أي حدود من بلاد البلقان، الواقعة، حالياً، تحت الحكم العثماني". في مادة سرية أخرى، ملحقة بتلك المعاهدة، أعلن الطرفان أنه "في حالة حدوث أي اضطرابات داخلية في الدولة العثمانية، مما يعرض المصالح القومية، أو الوطنية، للدولتَين المتعاقدتَين، أو إحداهما، للخطر، أو في حالة قيام مصاعب داخلية أو خارجية في الدولة العثمانية، مما يعرض الحالة الراهنة في شبه جزيرة البلقان للخطر، يجب على الدولتَين المتعاقدتَين أن تسارعا إلى تبادل الآراء، لاتخاذ الخطوات العاجلة لمنع الخطر".

واللافت أن المعاهدة السرية، التي اشترك ممثلو روسيا في عاصمتَي صربيا وبلغاريا في مفاوضاتها، كانت موجهة ضد دولة النمسا والمجر، حتى لا تتكرر مأساة ضم البوسنة والهرسك. وضد تركيا، إذ يُفهم من ذلك الاتفاق، أن كلتا الدولتَين تريد نصيباً في ميراث الإمبراطورية العثمانية المنحلة. وقد عقدت معاهدة مشابهة بين بلغاريا واليونان، وكانت موجهة ضد الدولة العثمانية.

وبعد المعاهدات البلقانية، أصبح الموقف ينذر الحرب، حتى إن روسيا نفسها، التي عاونت على المعاهدات البلقانية، بدأت تنزعج من توتر الموقف في البلقان. ولم يطُل انتظار الحرب، بعد ذلك، إذ أعلن كل من بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود، الحرب على إستانبول (8 أكتوبر 1912)، لطردها من أملاكها الأوروبية في البلقان. واستطاع المتحالفون البلقانيون أن يحرزوا انتصارات خاطفة سريعة، وأنزلوا الهزائم المتعاقبة بالجيش العثماني. واقترب بعض الفِرق البلغارية من إستانبول، واحتل اليونانيون سالونيك، واكتسح الصربيون أعالي وادي نهر الفارادار، واستولوا على أسكوب Uskub، العاصمة القديمة لصربيا، وموناستيرMonastair، مفتاح مقدونيا الوسطى، والجزء الشمالي من ألبانيا حتى ساحل الأدرياتيكي. وهكذا، استطاعت دول الجامعة البلقانية Balkan League، التي أرسلت إلى ميادين القتال أكثر من ستمائة ألف مقاتل، أن تنتزع معظم أراضي العثمانيين في أوروبا.

لم ترحّب الدول الأوروبية الكبرى بتلك الانتصارات البلقانية على إستانبول. بل إن روسيا، كانت وَجِلة من نتائج ذلك الاتحاد البلقاني. ولكن النمسا، كانت أشد الدول انزعاجاً من اطِّراد نمو صربيا، التي تضخمت مساحتها، وتضاعف عدد سكانها، حتى ازداد من مليونين إلى ما يقرب من أربعة ملايين ونصف. وأصبح من الواضح، أن صربيا سوف توجه اهتمامها، بعد ذلك، نحو تصحيح وضعها مع النمسا.

أمام ذلك الخطر، الذي يهدد السلام في البلقان، رأت الدول الكبرى أن تتكاتف للوصول إلى حل يطمئن به الجميع. فعقد في لندن مؤتمر، على مستوى السفراء، في ديسمبر 1912، تحت رئاسة السير إدوارد جراي، لإقرار الحدود الجديدة، في ضوء الانتصارات البلغارية على تركيا.

وكانت النقطة الشائكة في المؤتمر، هي مستقبل الساحل الشمالي للبحر الأدرياتيكي، بما في ذلك ميناء دورازو Durazzo، إذ ليس من السهل على الصربيين أن ينتزع منهم ذلك الميناء، بعد أن استولوا عليه بالقوة، ولا سيما أنه يعطيهم باباً ينفذون منه إلى البحر. وكانت النمسا تعارض كل المعارضة أن يظل ذلك الميناء في حوزة الصرب، لأن سياستها كانت تتجه إلى إنشاء دولة ألبانيا، وتقويتها حتى توزان قواها قوى الصرب.

أما ألمانيا، فلم تكن على استعداد لأن تقحم نفسها في حرب من أجْل تلك المشكلة. وقد قال قيصرها: "لست أعتقد أن هناك خطراً على كيان النمسا، أو على مركزها، من وجود ميناء لصربيا على البحر الأدرياتيكي". ولذلك، قرر القيصر ألا يؤيد النمسا في أي حركة عسكرية ضد صربيا. ويُؤْثَر عنه أنه قال في هذه المناسبة: "لن أحمل على باريس أو موسكو من أجل خاطر ألبانيا ودورازو". وهكذا، احتفظت ألمانيا لنفسها، مؤقتاً، بالاستقلال في سياستها الخارجية، وأخرت قيام الحرب فترة من الوقت.

وعلى الرغم من أن روسيا كانت مسرورة بانتصار حلفائها السلاف، في الحرب البلقانية الأولى، إلا أنها كانت تخشى أن تقع إستنابول في قبضة إحدى دول البلقان المنتصرة، فيتبدد، بذلك، حلمها القديم في استيلائها عليها. وقد عرف عن فرناند، ملك بلغاريا، أنه كان يطمع في أن يتوَّج، يوماً ما، في كنيسة سانت صوفيا (مسجد آيا صوفيا الحالي). وفي الوقت نفسه، كانت سياسة سازونوف Sazonov، وزير خارجية روسيا، تتجه إلى تقوية ولايات البلقان ضد النمسا. ولكنه كان يفضل أن تظل إستانبول والمضايق تحت الحكم العثماني، ريثما تسنح الفرصة لروسيا للاستيلاء عليها.

وقد قدم سازونوف، في ديسمبر 1913، مذكرة إلى القيصر، ذكر له فيها: "أن روسيا لا ترغب في الحرب، ولا في ضم أي حدود جديدة. ولكنها لا تستطيع أن تسمح بسقوط المضايق أو إستنابول في أيدي دولة أخرى. ولو كانت إحدى دول البلقان الصغرى، مثل بلغاريا". وأضاف إلى ذلك قوله: "إن تأمين المضايق لمصلحة روسيا، هو في حكم الواقع الآن، فالدولة العثمانية ليست بالدولة القوية غاية القوة، ولا بالضعيفة غاية الضعف. وهي لا تستطيع، إذاً، أن تكون خطراً علينا، ولكنها في الوقت نفسه، مضطرة إلى أن تقف من روسيا موقف الحذر، لأنها أقوى منها. إن ضعف الإمبراطورية العثمانية، وعدم قدرتها على التطور مع الحضارة، هو في مصلحتنا. إنه خلق بين الشعوب المسيحية الخاضعة لها شعوراً بالولاء نحو روسيا الأرثوذكسية، مما يقوّي مركزنا الدولي في أوروبا الشرقية". (اُنظر خريطة شبه جزيرة البلقان).

خامساً: حرب بلقانية ثانية (1912 ـ 1913)

كان تأسيس ألبانيا، كدولة ألحّت في إنشائها النمسا وإيطاليا، ضربة موجهة إلى صربيا، لأن ألبانيا كانت ضمن الدائرة، التي فكرت صربيا في ضمها إلى صربيا الكبرى. وعندما ضاع هذا الأمل، وجهت أنظارها نحو الحدود البلغارية الشرقية، واحتلت رقعة واسعة منها، فأثار ذلك بلغاريا، فهاجم جيشها القوات الصربية، دون إنذار، فكان ذلك إيذاناً بقيام حرب بلقانية ثانية، اشترك فيها الصربيون واليونانيون ضد البلغار. وانتهزت رومانيا الفرصة، فهاجمت بلغاريا من الخلف، وانتزعت لنفسها منطقة دبروجه Dobrudja، جنوب مصب الدانوب. ودخلت إستانبول تلك الحرب، واستردت أدرنة من البلغار. والواقع، أن بلغاريا هزمت هزائم منكرة في كل مكان، وانتهت الحرب بمعاهدة بوخارست، عام 1913. واستطاعت صربيا واليونان أن يضم كل منهما جانباً من الأراضي الأوروبية للدولة العثمانية. ورضيت بلغاريا بصلح حرمها نصف أملاكها.

وكانت الحروب البلقانية إيذاناً للنمسا بفشل سياستها في البلقان. إذ أسفرت عن ازدياد قوة صربيا، حتى أصبحت الدولة الأولى في البلقان، وإضعاف الدولة العثمانية التي كان حلفاؤها الألمان، يعلقون أملاً كبيراً على صداقتها. ولم يبقَ أمام النمسا إلا أن تأخذ برأي العسكريين، الذين كانوا ينادون، في ذلك الوقت، بضرورة البطش بصربيا، قبل أن يستفحل أمرها. إلا أن ساسَتها كانوا لا يرتبطون برأي قوادهم العسكريين، بقدر ارتباطهم بسياسة حليفتهم الكبرى، ألمانيا.



[1] بلدة تقع على بحر مرمرة. وقد بدأت مفاوضات (سان ستفانو) يوم 24 فبراير عام 1878. وبعد عدة مداولات قدم رئيس الوفد الروسي الجنرال إجناتوف، مشروع معاهدة وطلب التصديق عليه فوراً

[2] كانت نتيجة الحرب الإيطالية التركية إنهزام الجيش التركي وتنازلت تركيا عن طرابلس بموجب معاهدة لوزان، أكتوبر عام 1912