إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الخامس

المبحث الخامس

ظهور يوغسلافيا (دولة قومية جديدة)

أولاً: ظهور يوغسلافيا (دولة قومية جديدة)

انتهت الحرب العالمية الأولى، في نوفمبر 1918، بتوقيع معاهدة فرساي. وكان من أبرز ما أسفرت عنه انهيار الإمبراطورية العثمانية تماماً، وتقسيم الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية إلى النمسا والمجر، كذلك استقلال كل من اليونان وبلغاريا وألبانيا ورومانيا. وهو ما ترتب عليه انتعاش الحلم الصربي بإقامة دولة الصرب الكبرى. وبدعم من بريطانيا وفرنسا، أُسست المملكة الصربية ـ الكرواتية، وهي المملكة التي ضمت صربيا والجبل الأسود وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك (والتي سُمِّيت، بعد ذلك، يوغسلافيا). وقد رحلت القوات النمساوية ـ المجرية مع قيام هذه المملكة، ونودي بـ "بطرس الأول" الصربي، ملكاً عليها، عام 1918. واكب ذلك بروز الولايات المتحدة الأمريكية على المسرح الدولي، كقوة عالمية عظمى، وتشكيل عصبة الأمم، كهيئة دولية لحل المشاكل بين الدول.

أمّا على جانب الإمبراطورية العثمانية، التي أفل نجمها، بالفعل، فقد حلت القومية التركية (الطورانية) محل القومية العثمانية، وذلك على الرغم من استمرار وجود السلطان محمد السادس وحيدالدين، (1918 ـ 1922). وسطع نجم مصطفي كمال (أتاتورك) ، وصار له السيطرة الفعلية على البلاد. لذلك أصدر، على الرغم من وجود السلطان، دستور 1920، الذي غيَّر فيه اسم البلاد، ليصير "تركيا"، ونقل العاصمة من استانبول إلى أنقرة. ثم تولى أتاتورك رئاسة المجلس التنفيذي والقوات غير النظامية، التي أخمدت الثورة الأخيرة للقوات العثمانية، وهزمت القوات اليونانية، التي هاجمت تركيا ووصلت إلى أنقرة. عند ذلك، بدأ اعتراف الدول الأوروبية بحكومة أتاتورك يتوالى، وهي التي عقدت عدة معاهدات صلح مع الاتحاد السوفيتي، عام 1922، انتهت بمعاهدة لوزان، في 24 يوليه 1923.

ثم قام كمال أتاتورك بإنقاذ الوطن الأصلي للأتراك، وأراد انتزاع عداء أوروبا وإزالة مخاوفها، فأدار ظهر دولته التركية الحديثة لماضي العثمانيين الإسلامي، واستبدل بالحروف التركية العربية الحروف اللاتينية، وفصل الدين عن الدولة، وقرر النمط الأوروبي كهوية رسمية للمجتمع الجديد، وختم صفحات كتاب الخلافة العثمانية بعزل سلطانها السابع والثلاثين، عبدالمجيد (الثاني) بن عبدالعزيز، في ربيع الأول 1341هـ (1922م). ثم نفاه في 22 رجب 1342هـ، الموافق 28 فبراير 1924م، إلى جزيرة مالطة. وبعد نفيه أعلن إلغاء الخلافة رسمياً، وصدر أول دستور جمهوري في أبريل 1924.

وفي البلقان، وعلى الرغم من أن إعلان تأسيس المملكة الصربية ـ الكرواتية، قد أقر أنها مملكة دستورية برلمانية، تساوي بين القوميات الثلاث، وتضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية، فإن تطبيق هذا على أرض الواقع، كان مختلفاً، إذ كانت الغلبة والسيادة للصربيين، ثم للكروات، والإغفال التام لمجمل الحقوق والتطلعات القومية لباقي الأقليات، داخل كيان المملكة، مع مصادرة أوقاف المسلمين وأملاكهم، وإجبارهم على الهجرة إلى خارج البلاد، واستيطان نصارى من الخارج أراضيهم. ولم يكن أمام المسلمين، الذين هاجروا من البوسنة خيار آخر، بعد المذابح وحملات الاضطهاد والتنكيل، التي تعرضوا لها من قِبل الحكومة الصربية الجديدة، بعد الحرب. وقد حاول مسلمو البوسنة، في هذه الفترة، أن يشكلوا كياناً سياسياً، يدافع عن حقوقهم، في مواجهة هذه الحملات، وهو ما تمثل في تأسيس "الحزب الإسلامي اليوغوسلافي"، عام 1919، بزعامة الدكتور محمد سباهو، الذي ترأس عدة حكومات يوجوسلافية بين الحربين.

وبعد تتويج الملك ألكسندر الأول ملكاً على مملكة الصرب والكروات، عام 1921[1]، وعندما بلغت هذه المملكة ذروتها، سرعان ما بدأت معركة تصفية الحسابات القديمة، وبرزت التناقضات بين قوميات المملكة إلى السطح من جديد. وبالنسبة إلى المسلمين، تمثلت هذه المعركة في قيام الصرب والكروات بإغلاق المساجد والمدارس والتكايا، وكتاتيب تحفيظ القرآن، وهدمها أو تحويلها إلى متاحف أو مخازن للخمور أو حظائر للخنازير، ومنع المسلمين من استخدامها في المحافظة على دينهم وآداء شعائره، وهو ما كان يشكل الحد الأدنى في سياسة تعامل الصرب والكروات، آنذاك، مع المسلمين في البوسنة والهرسك. ناهيك، من منع المسلمين من الوصول إلى المناصب الحساسة في إدارات الدولة والجيش وأجهزة الأمن، والقطاعَين، الاقتصادي والتعليمي. كذلك التضييق على أبنائهم في دخول المدارس أو الالتحاق بالجامعات. وقد ذكر رئيس منظمة حقوق الإنسان في جمهورية البوسنة والهرسك، محمد فيليبوفيتش، أن المسلمين في البوسنة والهرسك سُلبوا، بدءاً من عام 1912، جميع أراضيهم الزراعية، عملاً بنصيحة ستويان بروتيتش: "لا تقتلوا المسلمين، ولا تطردوهم. ولكن اعملوا على إفقارهم وإضعافهم فيموتوا، أو يضطروا إلى الهجرة من تلقاء أنفسهم". أما الحد الأقصى من الممارسات التعسفية، التي مارسها الصرب والكروات ضد المسلمين، فقد تمثل في قتل عشرات الألوف منهم، في مذابح جماعية. ويمكن التعرض، في هذا الصدد، لحادثتَين بشعتَين، ذكرتهما المصادر التاريخية:

1. الحادثة الأولى، ذكرها المؤرخ الكرواتي المشهور، برانكوهورفات، في كتابه "مسألة كوسوفو"، وتتلخص "بأن ملك الصرب، في الفترة ما بين الحربَين العالميتَين، مر، في طريقه من كوسوفو إلى مقدونيا، بحشد من المسلمين تحت رقابة الجنود الصرب. فسأل مساعديه: من هؤلاء؟ فأجابوه: مسلمون. فقال: لا فائدة للمملكة منهم، ويجب أن يبادوا جميعاً، ولكن دون أن نخسر ثمن الذخيرة والرصاص. اقتلوهم بالخشب على جوانب الطرقات. ونُفذت أوامره، من الفور".

2. الحادثة الثانية، هي حادثة "نوجا" المشهورة ، التي وقعت في سبتمبر 1941، حين كان الرجال المسلمون يخوضون الحرب، في أتون الحرب العالمية الثانية، فاستغل الصرب غيابهم، وجمعوا الأطفال والنساء والشيوخ من بعض المدن، واقتادوهم إلى سهل "نوجا"، وأطلقوا عليهم النار حتى أبادوهم جميعاً، ثم قذفوا بهم في نهر "درينا". وكرروا المذبحة، في شهر ديسمبر من العام نفسه. وكانت درجة الحرارة تنقص عن عشرين درجة تحت الصفر. "ومارسوا مع المسلمين أشد أنواع العنف والتعذيب، ففتكوا بالأطفال، وبقروا بطون الحوامل، وعاملوهم بوحشية ما عرف التاريخ لها مثيلاً، حتى مذابح التتار الشهيرة. ثم قذفوا بهم إلى النهر المتجمد، فتحولوا إلى هياكل ثلجية، تصبغها دماء المسلمين الأبرياء. وكان عدد الضحايا أكثر من 130 ألف مسلم ومسلمة". ولم تنسَ ذاكرة التاريخ قصة هذه المأساة، فأقام عليهم إخوانهم المسلمون، في عام 1990، صلاة الغائب للمرة الأولى، حيث جرى احتفال مهيب، حضره الألوف من المسلمين. وكان أغرب ما حدث، هو ما تعرض له هؤلاء المشاركون في هذا المأتم الأليم، على امتداد الطريق الموصل إلى موقع المذبحة، على أيدي الصربيين، الذين كانوا ينشدون أغانيهم القديمة المتوارثة: "تعالوا نذبح أبناء الأتراك".

وإذا كانت حكومة الملك ألكسندر الأول، قد نفذت مذبحة قريتَي "شاهوفيتش" و"باخينوبوليه"[2]، اللتَين ذُبح فيهما أكثر من ألف مسلم، وهاجر باقي سكانهما، بعد أن دُمِّرت بيوتهم، فإن المذابح التي امتدت، بعد ذلك، تسببت بإحراق 27 قرية مسلمة في البوسنة، وقتل عشرات الألوف من النساء والأطفال والشيوخ، مما أدى إلى هروب 3 آلاف مسلم من البوسنة، فراراً من هذه المذابح، والتي كـانت تجري طبقاً لسياسة إرهابية مخططة، تستهدف ترحيل أكبر عدد من المسلمين إلى تركيـا، ولا سيما إلى صحراء الأناضول. والنتيجة أن أصبح نصيب المسلمين في شمال البوسنة، يشكل 30% فقط في الثلاثينات بعد أن كان 39% في عام 1929. وقد أدت دكتاتورية حكومة الصرب إلى القضاء على ما كان يُعرف بـ "الحركة الإسلامية اليوغوسلافية"، التي كانت تحظى بـ 24 مقعداً في البرلمان، وتناضل من أجل الاعتراف بالكيان، الإقليمي والثقافي، لشعب البوسنة. وفي عام 1931، فَقَدَ الشعب المسلم في البوسنة الجزء الضئيل الممنوح له من الإدارة الذاتية. وعشية الحرب العالمية الثانية، رفض الصرب والكروات الاعتراف بالهوية الإسلامية لسكان البوسنة والهرسك.

ولم تكن معركة تصفية الحسابات مقتصرة فقط على ما كان يرتكبه الصرب والكروات، من جرائم في حق المسلمين، ولكنها كانت تجرى، كذلك، بين الصرب والكروات أنفسهم. إذ كان الكروات يهاجمون القرى الصربية، ويقومون بحرق أهلها وذبحهم، والتمثيل بجثثهم. وكانوا، وهم يفعلون ذلك، يرتدون الثياب التركية، ويتنادون بأسماء إسلامية، حتى تُنسب هذه الأفعال إلى المسلمين، فيتعرضون لثأر الصربيين وانتقامهم.

ولقد تزايدت الحركات المناهضة للصرب، بين صفوف الكروات والبوسنيين، واتخذ هذا العداء منحىً عنيفاً، في كثير من الأحيان، وصل إلى حدّ إطلاق الرصاص على النواب الكروات، في إحدى جلسات البرلمان، عام 1928. بعدها، فرض الملك ألكسندر الأول دكتاتورية مباشرة على الكروات، وأطلق، عام 1929، اسم يوغسلافيا Yugoslavia، على مملكة الصرب والكروات والسلوفيين. وهو الأمر الذي رفع من حدّة العداء والتناقض بينهم، وأدى إلى اغتيال الملك ألكسندر الأول، في مرسيليا، عام 1934، وخلفه بيار الثاني وريث ألكسندر، إلاّ أنه كان ما يزال قاصراً، فحَكَم خاله، الوصي عليه، الأمير بول. وفي العام نفسه، أنشيء الحلف البلقاني، الذي ضم يوغسلافيا واليونان ورومانيا وتركيا، بهدف التصدي لبلغاريا، التي تدعمها ألمانيا. وقد عقدت يوجوسلافيا معاهدة مع تركيا لتهجير مسلمي يوجوسلافيا إليها لقاء تعويضات مالية. لم تنفذ المعاهدة لإصرار المسلمين على عدم ترك أراضيهم.

واستمرت الاضطرابات حتى عام 1939، حين أُعيد تنظيم المملكة وترسيم الحدود. وحصل الكروات، بمقتضى ذلك، على أراضٍ جديدة، على حساب مسلمي البوسنة. وإزاء هذه التطورات، لم يكن أمام المسلمين في مملكة الصرب والكروات، إلا خيارات محددة: (اُنظر خريطة ترسيم الكروات لحدود دويلتهم)

1. الهجرة إلى خارج البلاد. وهذا ما كانت تشجعه وتنظمه حكومة بلجراد، كما فعلت عام 1938، عندما اتفقت مع حكومة أنقرة، على نقل نصف مليون من المسلمين الألبان في إقليم كوسوفو، إلى تركيا، على أساس أنهم من أصول تركية. إلا أن انفجار الحرب العالمية الثانية، واجتياح القوات، الإيطالية والألمانية، ليوغسلافيا، قد أوقف تنفيذ هذه العملية. ولكن ما لبثت حكومة تيتو، بعد انتهاء الحرب، أن دفعت الأمور في هذا الاتجاه.

2. الصمود والجهاد. والتعرض، في المقابل، للمصير الحتمي والمعروف، وهو الاعتقال والتعذيب الوحشي في السجون والمعتقلات، ثم القتل.

3. الارتداد عن الإسلام. وقد وقعت شريحة من المسلمين في هذا المأزق، عندما اعتنقت النصرانية ديناً، والمذهب الشيوعي نهجاً.

4. الاحتفاظ بالإسلام، ديناً وعقيدةً، وانتماءً حياً في القلوب، وسراً لا يُجهر به إلا في الحدود المسموح بها. وهو الخيار الذي أخذ به معظم مسلمي البوسنة والهرسك، آنذاك. وهو ما ظهر واضحاً، بعد أكثر من نصف قرن، عندما عصفت رياح الحرية، فعادت الكتاتيب والمدارس والمساجد لتكتظ بمئات المؤمنين.

وخلال الفترة بين الحربَين العالميتَين، الأولى والثانية، انشغلت الدول الأوروبية بهموم كثيرة، أبرزها محاولة استيعاب مستعمراتها فيما وراء البحار، ومواجَهة بروز الشيوعية في روسيا وانتشارها خارجها. كذلك الأزمة الاقتصادية العالمية، التي أشعلها الرأسماليون اليهود، أصحاب المصارف، أمثال روتشيلد روكفلر، في الفترة من عام 1929 حتى عام 1935، وجَنوا من ورائها أرباحاً ضخمة، كانت من أسباب نشوب الحرب العالمية الثانية. وهو ما تمثل في ردود فعل ألمانيا حيال القيود الشديدة التي فرضها عليها دول الحلفاء، من خلال معاهدة فرساي. إذ بدأ الحزب النازي، برئاسة هتلر، في الظهور والسيطرة على ألمانيا. في الوقت نفسه، الذي ظهر فيه الحزب الفاشي، برئاسة موسوليني، وانتشرت الفاشية في إيطاليا، واعتنقها، كذلك، كلٌّ من أسبانيا واليونان وبلغاريا. فضلاً عن سيطرة المؤسسة العسكرية اليابانية على السلطة في اليابان. وبذلك، تأسست قوة المحور. التي تضم ألمانيا وإيطاليا واليابان، في مواجهة الحلفاء (بريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي).

وبانسحاب ألمانيا واليابان من عصبة الأمم، وسعي هتلر إلى وحدة الدول والمناطق الناطقة بالألمانية، تصدّع النظام الأوروبي. الأمر الذي أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، بين المحور والحلفاء. وكانت تركيا على الحياد. ومع اجتياح هتلر المنطقة، عام 1941، حصل الكروات، الذين تربطهم صلة وعلاقات بالألمان، على دعم كبير من النازيين، وتشكلت منظمة "الأوستاش" الكرواتية النازية، التي مارست أبشع أنواع القتل والإرهاب ضد الصرب، حلفاء إنجلترا وفرنسا، والذين شكلوا، بدورهم، منظمة فاشية صربية، هي "الجيتنك". وبين هاتَين المنظمتَين الإرهابيتَين، اللتَين تبادلتا شن أفظع وأبشع حروب الإبادة والتطهير العِرقي، كانت البوسنة، الخاضعة للحكم النازي، ضحية الاثنتين معاً. فقد استولى الصربيون والكروات على أراضى مسلمي البوسنة، وكانت فترة الحرب عصيبة جداً، اتسمت بمذابح المسلمين سواء من جانب الصرب أو الكروات، ولا سيما حادثة "نوجا"، عام 1941. وهو ما دفعهم، في المقابل، إلى تشكيل "منظمة الشباب المسلم"، لحماية أنفسهم من اعتداءات الصرب والكروات، مثلما شكلوا في الماضي، في ظل الاحتلال النمساوي "المنظمة القومية الإسلامية"، التي خاضت كفاحاً مسلحاً ضد الاحتلال النمساوي.

وخلال الحرب العالمية الثانية، تمكن تيتو، أول رئيس لجمهورية يوغسلافيا، بعد الحرب العالمية الثانية، من تشكيل حركة "الأنصار" الشيوعية، التي خاضت الحرب، كمنظمة مقاومة ضد الألمان، لتحرير البلاد من النازية والفاشية. وشُكلت حركات مقاومة مماثلة في ألبانيا واليونان. وقد التفّ حول تيتو أبناء الأقليات، الضائعون بين الصرب والكروات، ولا سيما البوسنيين، الذين كانوا دعامة أساسية لقواته أثناء الحرب، يجذبهم شعاره: المساواة بين جميع الشعوب والأقليات. فقدموا إليه كل ما كانت المقاومة اليوغوسلافية تحتاج إليه، من المساعدات والدعم، البشرى والمادي. هذا في الوقت الذي كانت فيه القوات النظامية الملكية الموجودة في يوغسلافيا، قد اختارت التعاون مع المحتلين، الألمان النازيين، والإيطاليين الفاشيين، الذين كانوا يدركون أنه يمكن إضعاف أعدائهم، من خلال إذكاء النزعة العِرقية. ولذلك، أنشأت سلطات الاحتلال النازي دولة كرواتية عميلة لها. كما اقتُسمت مقاطعة سلوفينيا بين كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا.

وفي مارس 1941، أعلنت الحكومة اليوجوسلافية الملكية انضمامها إلى الحلف الثلاثي الألماني ـ الإيطالي ـ الياباني، مخالفة بذلك رغبة مواطنيها. فانتفضت بلجراد وأجبرت الملك ووزراءه على الهرب من البلاد. وفي غضون ذلك، غزت الجيوش الألمانية يوجوسلافيا، مما أضطر حكومة الرايخ تأجيل موعد غزوها للاتحاد السوفيتي. ونظم اليوجوسلاف مقاومة وطنية في الجبال. وقد قادت هذه المقاومة حركتان متنافستان، واحدة بقيادة درازا مياجلو فيك، وأخرى بزعامة جوزيف بروزتيتو. وتمكنت هاتان الحركتان، بعد أربع سنوات من النضال العسكري، من إعادة الاستقلال لوطنهما.

وخلال الحرب، حاولت منظمة "الأوستاش" الكرواتية النازية، بزعامة أنتي بافيليك، الحصول على الدعم من السكان المسلمين، ونعتتهم، في محاولة لاجتذابهم، بأنهم "أنقى زهرة في الأمة الكرواتية". وكانت السلطات الكرواتية العميلة، تسعى، في الوقت نفسه، إلى إجبار المسلمين على اعتناق الكاثوليكية، لاستيعابهم تماماً في الدولة الكرواتية. أما حركة "الجيتنك" الصربية، بقيادة درازاميها جلوفيليتش، فكانت تنادى بقيام دولة الصرب الكبرى، ذات العرقية الصربية الخالصة، وذلك بالقضاء على الوجود الإسلامي في البوسنة والهرسك. ويشير أكثر الإحصائيات دقة، إلى أن عدد المسلمين، الذين قتلوا وشُرِّدوا على أيدي حركة "الجيتنك" الصربية، لا يقلّ عن 50 ألف مسلم، ناهيك من تشريد 350 ألف مسلم آخرين.

ومما يدل على أن نسبة كبيرة من عناصر المقاومة اليوغوسلافية، كانت من المسلمين، أن نواة المقاومة، التي ترأسها تيتو ، تأسست في مدينة "بيهاق"، في 4 نوفمبر 1942، وهي منطقة ذات أغلبية مسلمة. لذلك، ساعد الحزب الشيوعي، الذي رأسه تيتو، المسلمين على الإفلات من خطر الإبادة على أيدي الصرب والكروات. وكان بين كتائب المقاومة اليوغسلافية، كتائب أطلقت على نفسها "الكتائب الإسلامية". وفي عام 1943، أثناء الحرب، وخلال الاجتماع الذي عقد لتأسيس جمهورية البوسنة والهرسك، اعتُرف بالمسلمين، كشعب متميز قائم بذاته. وصدر قرار نص على أن جمهورية البوسنة والهرسك، ليست صربية، ولا كرواتية، ولا إسلامية، وإنما صربية كرواتية إسلامية معاً.

انتهت الحرب العالمية الثانية، عام 1945، بهزيمة دول المحور، بعد أن انتحر هتلر، عقب اجتياح قوات الحلفاء ألمانيا، واقتحامهم عاصمتها برلين. كذلك استسلام اليابان بعد قصف الولايات المتحدة الأمريكية هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية. إلى جانب سقوط الفاشية في إيطاليا، وإعدام زعيمها موسوليني. وأفرزت نهاية الحرب العديد من النتائج، التي كان أبرزها تقسيم أوروبا إلى مجموعة دول شيوعية، في شرقيها، تدور في فلك الاتحاد السوفيتي. ومجموعة دول أوروبا الغربية، بل تقسيم ألمانيا عينها إلى دولتَين، إحداهما شرقية، والأخرى غربية. كذلك قسمت كوريا إلى قسمَين، شيوعي في الشمال، ورأسمالي في الجنوب. وانضمام الصين إلى المعسكر الشيوعي، عدا جزيرة فورموزا، التي دخلت تحت مظلة الحماية الأمريكية. ناهيك من سقوط عصبة الأمم، وقيام هيئة الأمم المتحدة مكانها، كمنظمة دولية تختص بحل المشاكل العالمية. ولقد ضمت مجموعة دول أوروبا الشيوعية يوغسلافيا وألبانيا إلى جانب رومانيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر وبلغاريا وبولندا، التي شكلت مع الاتحاد السوفيتي "الكوميكون" و"حلف وارسو". وبدأ عصر القوّتَين العظميَين، وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، والذي عُرف بعصر الحرب الباردة، التي تخللها بعض المواجهات الساخنة، في دول خارج حدود قطبيها.

وقد دفعت شعوب يوغسلافيا ثمناً غالياً، بل مخيفاً، إبّان الاحتلال النازي. تمثل ذلك في مليون وسبعمائة ألف قتيل، يمثلون 11% من مجموع سكانها. مات عدد كبير منهم، من جراء التعذيب في معسكرات الاعتقال النازية والفاشية، على أرض يوغسلافيا، أي ثلاثة أضعاف الذين ماتوا في يوغسلافيا، أثناء الحرب العالمية الأولى. إضافة إلى تدمير 850 ألف منزل. وكانت يوغسلافيا نتيجة لأعمال المقاومة الشرسة، التي أبدتها منظمات المقاومة، تشكل شوكة مؤلمة في حلق هتلر. وكان من أبرز نتائج المقاومة، التي قادها تيتو، أثناء الحرب، أنها خفَّفت، إلى حدّ ما، من حدة الصراعات، الدينية والطائفية والعِرقية، التي كانت سائدة بين أبناء القوميات المختلفة في يوغسلافيا. لذلك، عندما انتهت الحرب، وفي مؤتمر يالطا، الذي اقتسمت فيه الدول الكبرى المنتصرة مناطق السيطرة والنفوذ في العالم ـ رفض تيتو تقسيم يوغسلافيا بين الاتحاد السوفيتي والدول الغربية، وهدَّد باستئناف المقاومة. فتخلّى المؤتمرون في يالطا[3] عن هذه الفكرة. وبدأ، منذئذٍ، غضب وسخط ستالين، زعيم الاتحاد السوفيتي، أثناء الحرب وبعدها، على تيتو، خاصة بعد أن انتهج نهجاً استقلالياً، تمثل في إسهامه في تشكيل كتلة عدم الانحياز، في الستينيات، مع مصر والهند[4].

واستلم الشيوعيون، بقيادة تيتو، السلطة رسمياً في نوفمبر 1945. وكانت يوجوسلافيا، في السنوات الثلاث الأولى، أقرب بلدان أوروبا الشرقية إلى الاتحاد السوفيتي. لكنها، في عام 1948، قطعت كل علاقاتها مع السوفيت لأسباب سياسية وعقائدية، فتحملت من جراء ذلك حصاراً اقتصادياً فرضته عليها جميع بلدان أوروبا الشرقية وكاد يودي بوجودها نفسه. ومع ذلك، تمكنت الحكومة اليوجوسلافية من تخطي كل هذه المصاعب وتدعيم استقلالها.

وفي نوفمبر 1952، اتهم المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اليوجوسلافي ستالين برغبته جعل الأحزاب الشيوعية "وكالات وأدوات لسياسته التوسعية". وفي هذا المؤتمر غير الحزب اسمه ليصبح "رابطة الشيوعيين"، ولم يعد يعتبر نفسه الحزب "القائد" بل الحزب "الموجه" عاملاً بالدرجة الأولى "عن طريق الإقناع" داعياً إلى فصل أجهزة الحزب عن الدولة والسلطة (وهذه من أهم الميزات التي تميزه عن الأحزاب الشيوعية الحاكمة في باقي البلدان). وجاء دستور 1963، مع احتفاظه ببعض أحكام دستور 1946، ليطور من المفاهيم اليوجوسلافية حول المجتمع الاشتراكي، فيضمن الملكية الخاصة والحقوق الفردية، ويوسع، خاصة، من صلاحيات الجمهورية الاتحادية.

ينتمي المارشال جوزيف بروز تيتو إلى إقليم كرواتيا، وهو شيوعي المذهب. تعلم الشيوعية واعتنقها في أحد سجون روسيا، أثناء الحرب العالمية الأولى. إذ انضم هناك إلى جماعات البلاشفة، واشترك معهم في الحرب الأهلية، حتى عام 1923، فأصبح جندياً في الحرس الأحمر، ثم عميلاً للاستخبارات الروسية الدولية. وعندما عاد إلى وطنه، كرواتيا، أسس حزباً شيوعياً، لم تعترف به حكومة مملكة الصرب وكرواتيا. فسُجن، من عام 1928 إلى عام 1934. ولم يغادره إلاّ إلى موسكو، منفياً مرة أخرى، ومنها إلى باريس. وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية، واحتل الألمان يوغسلافيا، قاد تيتو حركة المقاومة، ابتداءً من يونيه 1941، ونجح في أن يجمع حوله كل العناصر ذات العرقيات والطوائف والاتجاهات والميول المختلفة، ويصهرها، إلى حدّ ما، في بوتقة واحدة، ذات هدف محدد، وتحرّك في اتجاه واحد، مضادّ للاحتلال النازي. وقد ساعده على ذلك انحياز الأمير بول، حاكم يوغسلافيا، إلى جانب النازيين المحتلين، مما أثار سخط الشعوب اليوغسلافية على النظام الملكي الحاكم، آنذاك.

ولقد تميزت الجمهورية اليوغسلافية، من البداية، عن باقي دول أوروبا الشرقية، بعدم مشاركة الجيش السوفيتي الأحمر في تحريرها أو دخولها، إلاّ بعد أن تقابل تيتو وستالين، واشترط عليه تيتو عدم تدخّل الجيش الأحمر في إدارة الشؤون الداخلية، وترك البلاد متى انتفت الضرورة العسكرية. هكذا، برز الدور الاستقلالي للحزب الشيوعي اليوغوسلافي عن الحزب الشيوعي السوفيتي، على عكس باقي الأحزاب الشيوعية، التي كانت تحكم بلدان أوروبا الشرقية، بتوجيه من موسكو. وقد وصل الخلاف بين تيتو وستالين إلى حدّ طرد يوغسلافيا من منظمة الكومنترن، التي كانت تضم الدول الشيوعية، خاصة عندما اقترح تيتو توسيع دائرة "سلاف الجنوب"، إذ شعر ستالين أن تيتو يزاحم النفوذ السوفيتي في الكتلة الشيوعية، وعلى هذا الأساس، تميزت يوغسلافيا بقدر من الاستقلالية، جعلها، إلى حدّ ما، تحظى برضى الغرب، ومغازلته، فيما بعد، لكونها خارج نفوذ الاتحاد السوفيتي، ولا سيما بعد تشكيل مجموعة دول عدم الانحياز. وفي عام 1963، استبدال اسم "الجمهورية اليوغسلافية الاتحادية الشعبية" باسم "الجمهورية اليوغوسلافية الاتحادية الاشتراكية". والتي تكونت من ست جمهوريات، هي: صربيا، كرواتيا، البوسنة والهرسك، مقدونيا، سلوفينيا، الجبل الأسود. وقد أضيف إلى هذا الاتحاد إقليم كوسوفو، ذو الأغلبية الألبانية المسلمة (90%) ، وعاصمته "بريستينا"، وإقليم فويفودينا، ذو الأغلبية المجرية، وعاصمته "نوفي ساد"، وهي زوائد نتجت من تقسيم المنطقة إلى دول، عقب الحربَين العالميتَين، الأولى والثانية. ومنح هذان الإقليمان حق الحكم الذاتي، وفقاً للدستور الاتحادي، الذي صيغ بعناية ودقة، ليجمع هذا الخليط من الأجناس، الذي يضم ست أمم وعشر قوميات وأعراق وأجناس أخرى.

ولقد عبّر تيتو عن حجم التناقضات، التي تضمها الجمهورية اليوغسلافية، في مقولة مشهورة له : "إن يوغسلافيا عبارة عن حروف مختلفة، مكتوبة بـ "السيربالية واللاتينية"، وثلاثة أديان: الأرثوذكسية والكاثوليكية والإسلام، وأربع أمم: الصرب والكروات والسلافيين والمقدونيين، وخمس لغات: السلوفينية، والصربوكرواتية، والمونتلنجزية، والمقدونية، والألبانية، وست جمهوريات: سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الأسود والصرب ومقدونيا، وأخيراً حزب واحد، يجمع كل هؤلاء"! وكان تيتو يسعى إلى صهر كل هذه التناقضات، العِرقية والدينية، في بوتقة هذا الحزب الشيوعي الواحد، وذلك من خلال أتّباع النموذج السوفيتي، الستاليني، الذي كان يبدو، آنذاك، ناجحاً في صهر القوميات والأديان في بوتقة الحزب الشيوعي السوفيتي. وكان يعتمد في ذلك، على نجاحه في بناء جيش يوغوسلافي موحد، ضم عناصر من كل هذه التناقضات، وصهرها تحت سقفه.

ومن بداية تأسيس تلك الجمهوريات وتجميعها، كان تيتو يدرك جيداً عمق وطبيعة المشاكل، التي ستواجهه داخل هذا الكيان. أولها، الصراعات، القومية والعِرقية، والكراهية الدفين، من جراء الصراعات السابقة. وثانيها، التفاوت، الاقتصادي والحضاري والثقافي، بين هذه الجمهوريات. وثالثها، رغبة الصرب التوسعية والعدائية نحو البوسنة، إذ كان ينظر الصرب إلى شعبها بوصفهم خونة، دخلوا في دين الأتراك! وربما لهذا السبب، حرص تيتو على إنشاء جمهورية البوسنة والهرسك وتجميعها، بعد أن كانت مقسمة بين الصرب والكروات، ليحدّ من الرغبات التوسعية لكلٍّ منهما، ويقطع الطريق أمامها، لتكون هذه الجمهورية منطقة عازلة وفاصلة بين الصرب والكروات. وهو السبب نفسه كذلك، الذي دفعه إلى تأسيس جمهورية مقدونيا، والاعتراف بلغتها، كلغة رسمية للدولة، لقطع الطريق أمام الصرب ودول أخرى، مثل اليونان، لها مطالب تاريخية في هذا الإقليم.

ومن هذا المنطلق، نص الدستور الفيدرالي في يوغسلافيا، على السماح لشعوب هذه الدولة الاتحادية أن تتعامل بلغتها بحرّية، من دون ممارسة أي تفرقة من جراء ذلك. ولكن مع إرساء الشعور، في الوقت نفسه، بأن الجميع متساوون داخل مجتمع اشتراكي رهن التكوين. ولقد حاول تيتو تذويب القوميات العِرقية، من خلال إجراء تنقلات جماهيرية، على نطاق واسع، تارة بالإغراء، وتارة بالقهر، في بعض المناطق، وذلك من أجْل تمييع التفوق السكاني لعِرقية معينة، تسكن في مناطق بذاتها. وهو الأسلوب الذي حاول ستالين، وغيره من قادة الدول الشيوعية، أن يقضوا من خلاله، على النعرات، العِرقية والدينية، لدى الشعوب المختلفة، الواقعة في نطاق سيطرتهم. ولكن شعوب الاتحاد اليوغوسلافي، صبرت على ذلك، على كره ومضض منها، طوال فترة حكم تيتو، الذي استطاع، بفضل شخصيته القيادية الطاغية، والجامعة، وحنكته، ومهارته السياسية، وقدرته على الإمساك بكل الخيوط ومفاتيح الضغط وصمامات الكبح، أن يضبط الوضع العام داخل بلاده.

وقد عرفت إعادة توطين السكان في يوغسلافيا، بـ "الهندسة الاجتماعية" داخل الجمهوريات. فقام بنقل عمال من صربيا، وأحياناً من كرواتيا، للعمل في المصانع، التي أقامها في البوسنة والهرسك، تحت شعار أن أهل البوسنة مزارعون، وهو الأمر الذي ترتب عليه وجود أقليات صربية كبيرة، وكرواتية، داخل البوسنة. كذلك، اهتم تيتو بإقامة الصناعات الحديثة، في كرواتيا وسلوفينيا، دون بقية المناطق الأخرى، مما أدى إلى ظهور نتائج سيئة، تمثلت في وجود تفاوت، اقتصادي واجتماعي، بين الجمهوريات، أدى إلى شعور سائر الجمهوريات بالغبن، بسبب انخفاض مستوى الدخل القومي فيها، قياساً بارتفاعه في جمهوريتَي كرواتيا وسلوفينيا. وقد انعكس ذلك على مشروع "التسيير الذاتي"، الذي تمثلت ملامحه في أنه مع الاحتفاظ بالصفة الاشتراكية، فقد أعطى تيتو قدراً لا بأس به من الاستقلالية للوحدات الإنتاجية، بهدف إضفاء سلطة أكبر في إدارة الإنتاج على العمال، المالكين الاسميين لهذه الوحدات، بدلاً من الدولة. ولم يكن هذا المشروع سيئاً. ولكنه في ظل الفيدرالية، تضمن تناقضاً، ساعد على بروز الصراع بين القوميات المكوِّنة للاتحاد اليوغوسلافي. إذ دعَّمت الفيدرالية التحالفات المحلية، ذات المصالح والروابط العرقية، وأوجدت حالة من عدم التوازن في التنمية بين الأقاليم. ومن ثم، ضاعف المشروع الفوارق، الاقتصادية والاجتماعية، الموجودة فعلاً بين القوميات المختلفة، وكان، في الأساس، على حساب مسلمي البوسنة. وقد ترتب على كل ذلك، أن فشلت عملية الانصهار والتوحيد القومي داخل يوغسلافيا، نتيجة إتّباع هذه السياسية. وقد أدى هذا الفشل إلى تخلّف يوغسلافيا اقتصادياً، وفشلها في تحقيق التنمية الرأسمالية، على غرار أوروبا الغربية. وكان حصيلة كل ذلك تأخير تكوين يوغسلافيا، كأمة سلافية واحدة، بينما نجح الشعب الألماني، على الرغم من تنوع انتماءاته الدينية.

ومن ثم، يُعَدّ تيتو هو الرجل الوحيد، الذي استطاع تجميع شعوب هذه المنطقة، المتصارعة، والمتنافرة، في دولة عصرية متماسكة. إذ إنه كان يعرف، تماماً، حقيقة ما يجرى فوق السطح وتحته، وما يعتمل في نفوس هذه الشعوب من رغبات مكبوتة نحو الاستقلال، خاصة ما كان يحلم به الصرب، من إنشاء دولة الصرب الكبرى، مستغلين في ذلك الدور الذي اضطلعوا به في التكوين التاريخي للإطار الجغرافي، الذي يسمح بإنشاء المشـروع الشيوعـي العالمي. لذلك، كان المبدأ الذي تعامل به تيتو، هو: "أنه لكي تكون يوغسلافيا قوية، لا بدّ أن تكون صربيا ضعيفة". وذلك إدراكاً منه أن موازنة هذا الدور، الذي أدته صربيا تاريخياً، وهي الطامعة في السيطرة على سائر الجمهوريات، لا يمكن تحقيقه ـ أي التوازن ـ إلا من خلال اعتماد الصيغة الفيدرالية في الحكم، مع التمتع بالحكم الذاتي، وصيانة الحقوق، الثقافية والقومية، من دون التوسع في تأكيدها.

لذلك، عندما حاولت زوجة تيتو، جوفانكا، وهي صربية الأصل، في أواخر أيامه، أن تشارك في شبه مؤامرة، من وراء ظهر زوجها، تستهدف إحلال أصدقائها الصربيين في المراكز المهمة، والكبرى، خاصة في الجيش، محل أبناء القوميات الأخرى، وهو ما رآه تيتو أمراً خطيراً، في بلد يرقد على بركان ست قوميات، تختلف عرقياً وطائفياً، يكاد ينفجر بين لحظة وأخرى، وإذ كانت جوفانكا تشعل، من دون أن تدري، فتيل حرب أهلية، تصطرع فيها أحقاد القوميات المترقبة وتطلعاتها ـ فقد أمر تيتو بنفيها بعيداً، حتى مات. وهو ما يفسر سلوك الصرب، بعد وفاة تيتو؛ إذ مزقوا صوره في الميادين العامة، بل ارتفعت من بينهم أصوات تطالب برفع رفاته من بلجراد، الواقعة في قلب جمهورية الصرب.

وعلى الرغم من محاولات تيتو صهر القوميات في بوتقة واحدة، إلا أن المسلمين قد عانوا كثيراً في فترة الحكم الشيوعي، ومنذ تحرر يوغسلافيا بعد الحرب العالمية الثانية. إذ أُغلق معظم المساجد، وحُوِّل بعضها إلى متاحف. وصودرت أراضي المسلمين، وأعطيت للفلاحين الأرثوذكس. كما مُنعت المصاحف والكتب الدينية من التداول في المكتبات. وأُلغيت مادة الدين من المدارس الإسلامية. ناهيك من اغتيال العديد من علماء المسلمين. بل إن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوغوسلافي، أصدرت وثيقة، سجلت فيها أن الإسلام ظاهرة خطيرة، ينبغي مكافحتها. فضلاً عن سجن علي عزت بيجوفيتش، الرئيس البوسني نفسه، لا لذنب اقترفه بل لأنه ألف كتاباً عن الإسلام! وعلى أثر ذلك، تعرض مسلمو البوسنة والهرسك للعديد من حملات الاضطهاد والعدوان، من جانب الصرب والشيوعيين على السواء.

وعندما بدأ تيتو، عام 1963، يسعى إلى الانفتاح على العالم الخارجي، محاولاً كسر العزلة التي فرضها عليه الاتحاد السوفيتي في شرقي أوروبا، وهي أحد أسباب مشاركته في إنشاء حركة عدم الانحياز، وراغباً في إقامة علاقات قوية بدول العالم الإسلامي، بدأ يثير فكرة ضرورة أخذ آمال مسلمي البوسنة والهرسك وطموحاتهم في الحسبان، وتأكيد هويتهم، في إطار يوغسلافيا الموحدة. لذلك، بدأ الشيوعيون في البوسنة يثيرون فكرتَين: الأولى، تنادي بإنشاء أمة بوسنية، كانعكاس لخصوصية الهوية، التي ترسخت عبر تاريخ اتحاد البوسنة، وجغرافية المكان. أمّا الفكرة الأخرى، فهي تنادي بالارتقاء بمستوى المسلمين إلى مرتبة شعب. وهذه الفكرة الأخيرة، هي التي أقرتها اللجنة المركزية للتحالف الشيوعي للبوسنة والهرسك، في فبراير 1968. وقد أيّد تيتو هذا التوجه، عندما دعا إلى ترْك أهل البوسنة والهرسك، يعبرون عن أنفسهم كما يشاؤون، فسكت أعضاء الحزب السوفيتي في بلجراد، مؤقتاً، أمام صوت تيتو القوي.

بعد أن نجح المسلمون في مطالبتهم بالاعتراف بوطنهم البوسنة والهرسك، كولاية قائمة بذاتها، بعد أن كانت مقسمة، في الحربَين العالميتَن، الأولى والثانية، بين دولتَي صربيا وكرواتيا، وبعد أن اعترفت الدولة اليوغوسلافية، بأن البوسنة والهرسك ولاية قائمة بذاتها، اتخذت الحكومة اليوغوسلافية، عام 1973، قراراً، تعترف فيه بالمسلمين، كقومية خاصة. وهو كما يقول علي الكتاني، أكبر حدث في تاريخ الإسلام في أوروبا، في القرن العشرين، لأنه ينشئ ولاية إسلامية، هي ولاية البوسنة والهرسك، في وسط أوروبا، وهي أكبر ولايات يوغسلافيا الست مساحة. (اُنظر خريطة البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا)

وصدر، بعد ذلك، دستور 1974، الذي نص، صراحة، على حقوق شعب البوسنة، وأنها يتمتع بالحقوق التي تتمتع بها سائر الجمهوريات. وكانت حكومة تيتو قد أعادت، عام 1972، بعض المساجد والمدارس للمسلمين، منها مدرسة سراييفو، التي كانت الدولة قد حولتها إلى كلية للرياضيات، كذلك مدرسة الغازي الأمير خورشيد، التي أنشئت في سراييفو، منذ 450 سنة، ويدرس فيها 300 طالب مسلم العلوم الدينية. وعلى الرغم من أن السلطات، لم تسمح للمسلمين ببناء أي مسجد، إلا أنهم بنوا، بجهودهم الذاتية، ثلاثين مسجداً جديداً، على نفقتهم، ومن دون إذن رسمي، ولكن عدد المساجد، ظل دون ما كان عليه عام 1945، عندما بدأ الحكم الشيوعي في يوغسلافيا. وفي عام 1974، شرع المسلمون يبنون جامعة إسلامية في مدينة سراييفو، لتخريج علماء الدين، وقد أسهم الملك فيصل ـ يرحمه الله ـ ملك المملكة العربية السعودية، في بنائها، بربع مليون دولار، كذلك عدد آخر من الدول الإسلامية، بنسب مختلفة.

وإذا كان الصرب ينكرون، اليوم، الهوية الإسلامية لشعب البوسنة، ويزعمون أن الأمة الإسلامية في يوغسلافيا بدعة من فعل الشيوعيين، وأن وضع المسلمين لم يرتقِ إلاّ بوساطة تيتو، حين جعل لهم جنسية معترفاً بها، وجعلهم أمة لها كيان ـ فالحقيقة، أن الشعب المسلم في البوسنة والهرسك قديم، يسبق وجوده الفتح العثماني، حتى إن الدولة اليوغوسلافية اعترفت بذلك، عام 1971، عندما أقرت بنتائج عملية الإحصاء، التي أجريت للسكان (اُنظر جدول إحصاء عام 1971، عن مسلمي البوسنة والهرسك) وهو ما انعكس في دستور 1974، الذي أعطى السلافيين، الناطقين باللغتَين، الصربية والكرواتية، وذوي العقيدة الإسلامية، صفة شعب من الشعوب المكوِّنة ليوغسلافيا. وهكذا، يمكن تأكيد أن الهوية الإسلامية، والقومية الخاصة، لشعب البوسنة والهرسك، ليستا وليدتَي الفتح العثماني في القرن التاسع عشر، بل تسبقان ذلك بسبعة قرون، على الأقل. ومن ثم، فإن شعور الانتماء عند هذا الشعب إلى قوميته وديانته، هو شعور أصيل، ومتوارث، عبر قرون طويلة. يؤكد ذلك أن محاولات إلغاء هوية شعب البوسنة والهرسك، واستيعابه ضمن شعوب الصرب وكرواتيا والمجر والنمسا، بمختلف وسائل الضغط، التي مُورست ضده، لم تفلح في إلغاء هويته الإسلامية أو تهميشها. وقد كان من الممكن أن يزول المسلمون، وتزول البوسنة، في مواجَهة هذه المحاولات، إلا أنهم راحوا يؤكدون هذه الهوية، من خلال قيامهم بحركات سياسية، والانتظام في مؤسسات ثقافية ودينية، حفظت عليهم ثقافتهم وديانتهم.

وقد انعكس ذلك في المعالم الإسلامية الضخمة، التي لا تزال تحتفظ بها مدن البوسنة والهرسك (اُنظر خريطة أهم مدن البوسنة والهرسك)، منها 1500 مسجد من أروع نماذج الحضارة الإسلامية، ويقع الكثير منها في سراييفو العاصمة، أبرزها مسجد "الباي"، الذي أقيم عام 1530م، وهو أكبر مساجد البلقان، بل من أعظم مساجد أوروبا. كذلك مسجد علاء الدين باشا، ومسجد أمين بك، وهما يعكسان روائع فن المعمار الإسلامي القديم. أما عن المكتبات الإسلامية المهمة، فمنها الكثير في مدن البوسنة، أبرزها مكتبة سراييفو التي تضم أكثر من 5 آلاف مخطوطة إسلامية ثمينة، تمثل ذاكرة شعب البوسنة. كذلك مكتبة خسرو بك. وقد أنشئ في يوغسلافيا، إبّان حكم تيتو، اتحاد إسلامي، رأسه كبير علماء الإسلام فيها. وكان له فروع في عواصم أربع جمهوريات، هي: سراييفو، سكوبيا عاصمة مقدونيا، تيتوجراد عاصمة الجبل الأسود، وبريستينا عاصمة كوسوفو. وكانت مهمة هذه المجالس تنظيم شؤون المسلمين ومتابعة أحوالهم، والعمل كحلقة اتصال بينهم وبين السلطات. وقد نجحت هذه المجالس في إنشاء مدارس عليا، لتدريس العلوم الإسلامية، في المدن الكبرى.

وكان اثنان من علماء المسلمين، قد أسَّسا، في الخمسينيات، حركة، أسمياها "حركة الشبان المسلمين"، وأعلناها حركة خيرية إنسانية دينية، ليس لها علاقة بالسياسة. وهذان العالمان هما الشيخ محمد خانجيج والشيخ قاسم دويراجا، وهما من خريجي كلية الشريعة في الأزهر، في مصر. وقد اضطلعت هذه الحركة بدور تنويري في البلاد، فأسهمت رفع مستوى الثقافة الإسلامية بين المسلمين.

ولم يقف الإسلام، رغم ضغوط الحكم الشيوعي، عند حدود البوسنة والهرسك، بل أخذ يمتد إلى مدن أخرى، في صربيا وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا وكوسوفو، وذلك بسبب هجرات الشبان المسلمين إلى المراكز الصناعية في مدن يوغسلافيا، طلباً للعمل والكسب. وقد تبع ذلك انتقال علماء الدين في البوسنة والهرسك إلى حيث توجد تجمعات المسلمين المهاجرين، في سائر مدن يوغسلافيا. فأقاموا مراكز إسلامية في هذه المدن، وظهرت المساجد والمدارس الدينية في مدن، مثل بولا، ربيكا، أوسبيك، وسيساك وغيرها. وقد تطور زحف هؤلاء الشباب المسلمين، عندما هاجروا إلى بعض البلدان المحيطة بيوغسلافيا، بل البعيدة عنها كذلك، مثل ألمانيا الغربية، قبْل توحدها مع ألمانيا الشرقية، والنمسا، وأستراليا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية. فقد اهتم زعماء المسلمين في البوسنة والهرسك بهؤلاء المهاجرين في كل مكان ذهبوا إليه، وحرصوا على إبقاء الصلة بينهم وبين الوطن الأم، ليظلوا دائماً محافظين على دينهم، بل إن بعض هؤلاء المهاجرين البوسنيين، تحولوا دعاة إلى الإسلام في البلدان التي هاجروا إليها.

ويسجل تاريخ البوسنة والهرسك، أن الموجودين، حالياً، من المسلمين فيها، هم ذرية السكان الأصليين لهذه البلاد، منذ قرون عديدة، بل ذرية النبلاء والطبقات الحاكمة والمثقفة، الذين رفضوا الهجرة من بلدهم، رغم الضغوط الشديدة التي تعرضوا لها. وكان فرهاد باشا صقولوفتش، هو أول الباشاوات الذين حكموا هذا الإقليم، عقب انضمامه إلى الدولة العثمانية. ولما كان أول انتشار للإسلام في البوسنة والهرسك، قد حصل، بين طبقة النبلاء والحكام والمثقفين فيها، فقد ساعد ذلك على انتشاره، بعد ذلك، بين طبقات عامة الشعب، مما عزز تمسكهم بالأرض ودفاعهم عنها جهد طاقتهم.

وعلى الرغم من أنه لم يكن للمسلمين أي دور سياسي بارز، أو نفوذ، أيام الحكم الشيوعي ليوغسلافيا (1945 ـ 1990)، فإن من أمكنه منهم الوصول إلى مراكز قيادية، أيام حكم تيتو، كانوا يحرصون أشد الحرص على تجنّب الاضطلاع بواجب الدفاع عن المسلمين وحقوقهم، بل إن بعضهم كان يتعمد ظلم إخوانه والمبالغة في ذلك، لإرضاء سادته، وتأكيد عدم وجود أي ميول دينية لديه. إلا أنه ما أن ظهرت التوجهات الاستقلالية، عام 1990م، عقب سقوط الحكم الشيوعي، حتى تشكلت، من الفور، أحزاب، سياسية ودينية، في البوسنة ومقدونيا وكوسوفو، وتباينت برامج هذه الأحزاب من حيث مضمونها، القومي والديني. ولكنها كانت تصب، في النهاية، في مجرى التيار الإسلامي. وهو ما يدل على أن النشاط، السياسي والديني، في البوسنة والهرسك، كان يجري ويتجدد، ولكن تحت الأرض، فما أن أُتيحت له فرصة الظهور، حتى برز نشطاؤه، جاهزين ومستعدين لتولي مسؤولياتهم، السياسية والدينية.

ثانياً: يوغسلافيا قبل تفككها

جمهورية البوسنة والهرسك هي إحدى جمهوريات يوغسلافيا الاتحادية السابقة، قبل تفككها عام 1989. أمّا يوغسلافيا، فقد ظهرت، كاسم دولة، ضمن التقسيم السياسي لأوروبا، عام 1929، بعد أن حصلت على استقلالها عام 1918. فهي تقع في وسط أوروبا، وإنْ كانت تُعَدّ ضمن دول أوروبا الشرقية.  يحدها من الشرق رومانيا وبلغاريا، ومن الشمال المجر والنمسا، وفي الجنوب، يقع إقليم مقدونيا المستقل واليونان وألبانيا. وفي الغرب، يوجد بحر الأدرياتيكي، بجزره العديدة المتناثرة، والذي يفصل يوغسلافيا عن إيطاليا. وكان شاطئ الأدرياتيكي، الممتد من أقصى الشمال إلى الجنوب، يسمى شاطئ دلماسيا. (اُنظر خريطة موقع يوغسلافيا الاتحادية).

وإلى جانب الموقع الإستراتيجي الممتاز، الذي تحتله يوغسلافيا، في وسط أوروبا، ويجعلها دولة فاصلة بين بلدان أوروبا، الشرقية والغربية، وقريبة من البحر الأبيض المتوسط، الذي يفصل أوروبا عن أفريقيا، وذلك من خلال سواحلها الطويلة على الأدرياتيكي، فإنها تتمتع بتضاريس غنية، تشمل جبال الألب الدينارية، وسهول نهر سافا ونهر مورافا وفروع الدانوب ونهر فارادار.وأبرز موانئها على الأدرياتيكي سبلت وربيكا.

تبلغ مساحتها 25580 كم2، وكان عدد سكانها، وقت استقلالها، 20 مليون نسمة، ويَصلون اليوم إلى 25 مليون نسمة. عاصمتها الاتحادية بلجراد، في الجزء الشمالي منها، عند ملتقى أنهار سافا، ومورافا، وفروع نهر الدانوب، ونهر يتزا القادم من المجر.

أمّا ثرواتها الطبيعية، فهي تختزن العديد من الثروات، المعدنية والنفطية، إضافة إلى إمكانات زراعية وثروة حيوانية واسعة. كما طورت يوغسلافيا، في زمن وحدتها، قدرات صناعية كثيرة، ومتنوعة. وحققت نهضة عمرانية كبيرة، في أنحاء كثيرة منها. وبفضل الطاقات البشرية المتعلمة، والإمكانات الطبيعية الواسعة، أمكن إقامة مزارع خصبة، ومراع واسعة، وغابات شاسعة، ومناطق سياحية عديدة. ومن المحاصيل المهمة، القمح والقطن والطباق (الدخان) والزيتون والفاكهة. ومن المعادن، الحديد والبوكسيت والرصاص والكروم. ومن الصناعات المهمة، الحديد والصلب، والأسلحة والمعدات الحربية المتطورة، والنسيج والجلد والألومينيوم والسجائر والأخشاب والورق والسكر والسجاد. إلى جانب الصناعات الميكانيكية والإلكترونية والبتروكيماوية.

أمّا الأديان، التي كانت ولا تزال سائدة في يوغسلافيا، فهي: الإسلام، والأرثوذكسية الشرقية، والكاثوليكية الرومانية. وكانت يوغسلافيا، إبّان الحكم الشيوعي السابق، الذي كان يرأسه جوزيف بروز تيتو، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وفاته، عام 1989، تتكون من ست جمهوريات، هي: صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، مقدونيا، الجبل الأسود (مونتي نيجرو). وكانت صربيا تضم منطقتَين تتمتعان بالحكم الذاتي، هما: كوسوفو، التي تسكنها أغلبية ألبانية مسلمة، وفوفودينا التي تسكنها أغلبية مجرية.

وبعد زوال الحكم الشيوعي، انفرط عقد الاتحاد اليوغوسلافي، واستقلت كرواتيا وسلوفينيا، في 25 يونيه 1991، ثم تبعتهما البوسنة والهرسك، بعد استفتاء عام، جرى في 3 مارس 1992(اُنظر ملحق معلومات جغرافية عن منطقة البلقان)

1. صربيا  SERBIE

مملكة قديمة في أوروبا الوسطى، تقع على الضفة اليمنى لنهر الدانوب، مساحتها 864 86 كم2، عاصمتها بلجراد، ويبلغ عدد سكانها، من دون إقليمي كوسوفو وفوفودينا، 754 8 ملايين نسمة. وهي كبرى القوميات والجمهوريات، إذ تمثل 42% من مساحة يوغسلافيا. وينتمي شعبها إلى العرق السلافي، ويدين بالأرثوذكسية. ويشارك جمهورية صربيا في الدين والعرق، مشاركة كلية أو جزئية، جمهورية الجبل الأسود، وصرب فوفودينا، وصرب البوسنة، وصرب مقدونيا. ويتحدث سكانها اللغة الصربية ـ الكرواتية.

2. كرواتيا CROATES

يسكن الكروات المناطق الشمالية من يوغسلافيا. وكانوا، منذ القِدم، يكوّنون مع الصرب مجموعة واحدة. إلا أنهم انقسموا، طائفياً، عن الصرب الأرثوذكس، مكونين طائفة الكروات الكاثوليك. وهم يقطنون في الأجزاء العليا من وادي نهر دراف ونهر السافا، التي عرفت، بعد ذلك، بجمهورية كرواتيا، ضمن الاتحاد اليوغوسلافي السابق. وعدد سكانها نحو 5.667 ملايين نسمة، منهم أقلية صربية، قوامها 600 ألف نسمة، تشكل 12% من السكان، وهم يتركزون في إقليم كرايينا، في الجنوب الغربي، وسلوفينيا قرب الحدود مع جمهورية صربيا، وهي التي قاومت الاتجاه الاستقلالي لكرواتيا. وتبلغ مساحة كرواتيا 62 ألف كم2، تشكل المناطق الصربية، ومعظمها ريفي، ما بين 25 و30% من مساحة كرواتيا. وعاصمتها زغرب. وتُعَدّ كرواتيا من أكثر جمهوريات يوغسلافيا السابقة نمواً وتقدماً، صناعياً واقتصادياً.

3. البوسنة والهرسك  BOSNIE ET HERZEGOVINE

إقليم قديم، مساحته 52 ألف كم2. عاصمتها سراييفو. تقع في وسط الاتحاد اليوغوسلافي السابق، يقطن فيها حوالي 5.429 ملايين نسمة، معظمهم مسلمون، ولغتهم الرسمية هي الصربوكرواتية. وللمسلمين لهجات عامية، فيها خليط من الكلمات، العربية والتركية. أما الكتابة، فهي إما بالحروف اللاتينية، أو اليونانية القديمة. إلاّ أن للمسلمين مطابع خاصة، تكتب باللغة العربية، وتيسر لهم طباعة الكتب الدينية.

وتقع جمهورية البوسنة والهرسك في جنوبي شرقي أوروبا، عند الشمال الغربي لشبه جزيرة البلقان. ويتركب اسمها من جزءين: البوسنة، وهو اسم نهر معروف، يجرى في المنطقة، هو نهر السافا الذي استقرت على ضفتيه، في القرن السابع الميلادي، قبائل عُدّت السلافيين، وضمتهم إمارة خاصة بهم. والجزء الثاني، الهرسك، وهو اسم لمنطقة في جنوبي البلاد. وأكبر مدن الهرسك موستار، الواقعة على نهر نرتوا.

وتمتد أراضي البوسنة والهرسك من الشاطئ الأدرياتيكي إلى سهول نهر السافا، في الشمال. وتُعَدّ البوسنة منطقة عازلة، جغرافياً، بين جمهوريتَي صربيا في الشرق، وكرواتيا في الغرب. ويقع في الجنوب الغربي منها جمهورية الجبل الأسود. ويفصل البوسنة عن بحر الأدرياتيكي، من الشمال الغربي، منطقة دلماسيا، التي كانت بوسنية، فأصبحت، اليوم، كرواتية.

وتقع في شمالي البوسنة مرتفعات تغطيها الغابات، كما تخترقها سهول خصبة، تتخللها فروع نهر السافا. أمّا في الجنوب، فتقع هضاب يصل ارتفاعها إلى ألفَي متر، ويقطعها سهل نرتوا، الذي يشكل معبراً إلى البحر الأدرياتيكي، كما كان ميناء دوبروفينيك، الموجود، حالياً، جنوبي غربي كرواتيا، تابعاً للبوسنة.

والمناخ السائد في البوسنة والهرسك، هو مناخ البحر الأبيض المتوسط، قرب الأدرياتيكي وما حوله. أما في الداخل، فيغلب أن يكون الجو حاراً. وأبرز محاصيلها القمح والذرة. وفي المرتفعات، يمارس السكان الرعي وقطع الأخشاب. وتختزن أراضي البوسنة نوعيات كثيرة من المعادن، أبرزها الحديد والفضة والرصاص والفحم والأملاح. وعلى رأس الصناعات الموجودة في هذا الإقليم، الحديد والصلب والتعدين والنسيج والورق والأخشاب والمواد الغذائية، خاصة الألبان واللحوم.

إضافة إلى وقوع البوسنة والهرسك بين أكبر قوميتَين في الاتحاد اليوغوسلافي السابق، الصرب والكروات، ومع الاختلافات، العرقية والدينية والحضارية، بين هذه القوميات الثلاث، وعلى الرغم من عدم تمتع البوسنة والهرسك بسواحل على البحر الأدرياتيكي، إلا أنها كانت تمثل القلب في الدولة الاتحادية، بما يجعلها ذات أهمية حيوية لكلٍّ من صربيا وكرواتيا، ويزيدها أهمية ما تتمتع به من ثروات طبيعية. لذلك، لم تخرج البوسنة والهرسك، على مدى تاريخها، خارج المطامح الصربية، فهي جزء مكين من حلم "صربيا الكبرى"، التي يلتف حولها كل الصرب في البلقان. وعلى الجانب الآخر، تطمع كرواتيا في معظم إقليم البوسنة والهرسك، إن لم يكن الإقليم كله، في إطار "كرواتيا الكبرى". وبذلك، تصبح البوسنة مجالاً للنفوذ، وساحة للصراع بين أكبر قوميتَين، الذي يزيده استعاراً الوضع الديموجرافي المعقد للإقليم؛ إذ تنتشر الجماعات، الصربية والكرواتية، في كافة أراضي البوسنة، بما لا تخلو معه مدينة أو قرية في الإقليم من عناصر، صربية وكرواتية. ويزداد التركز الصربي في نقاط التماسّ بين صربيا والبوسنة، في الشرق، وكذلك وضع الكروات في البوسنة مع كرواتيا، في الغرب، بل إن الصرب، في الحدود الشمالية من البوسنة، يعيشون على مقربة من إخوانهم الصرب، الذين يعيشون في كرواتيا. وتمثل بلدة باكراك، التابعة لمدينة كنين، عاصمة كرايينا شاهداً على ذلك، حيث شهد هذا الإقليم صراعاً عنيفاً بين الصرب المقيمين به والسلطات الكرواتية.

لذلك، يرى كلٌّ من صربيا وكرواتيا، في إقليم البوسنة والهرسك، دعماً لمركزها ونفوذها، على مقربة من البحر الأدرياتيكي الإستراتيجي، إذ يمثل إقليم البوسنة أهمية حيوية لكلٍّ منهما، ودعماً لهيبتها الدولية، ولا سيما أن صربيا معزولة عن البحر الأدرياتيكي، وإنْ كانت حليفتها، الجبل الأسود، توفر لها شريطاً ساحلياً صغيراً. كما أن استيلاء أي من الصرب أو الكروات، على البوسنة، يعزز مطالب كلٍّ منهما القومية بأراضي الأخرى، خاصة مطالب صربيا في كرواتيا، وهي كثيرة، تشمل، إلى جانب إقليم كرايينا، ذي الأغلبية الصربية، سلوفينيا الشرقية، ومنطقتَي بارانيا وسريم. وقد حاولت صربيا إبرام صفقة مع كرواتيا، إذ عرضت عليها التنازل عن الأقاليم الكرواتية، ذات الأغلبية الصربية، مقابل سماح كرواتيا لصربيا بتمرير مطالبها في البوسنة والهرسك، إلا أن هذه الصفقة لم تنجز.

4. الجبل الأسود MONTE NEGRO

يبلغ عدد سكانها 800 ألف نسمة، يشكل المسلمون منهم 23.3% عاصمتها تيتوجراد. ويدين سكان هذه المنطقة بالأرثوذكسية. وتشارك صربيا، بدرجات مختلفة، في التأثر بالثقافة والحضارة البيزنطيتَين. وهي مملكة قديمة، استقلت عام 1910، ثم انضمت إلى الصرب، عام 1919. وتبلغ مساحتها 14 ألف كم2.

5. سلوفينيا SLOVENIES

إقليم قديم، تبلغ مساحته 16.929 كم2. عاصمتها جوبليجانا. تقع في الشمال الغربي من يوغسلافيا السابقة. ويبلغ عدد سكانها مليونين ومئة وخمسة عشر ألف نسمة. يُعَدّ شعبها أكثر التصاقاً بالإمبراطوريتَين، الرومانية والجرمانية. يدين سكانها بالكاثوليكية. واللغة السلوفينية أصلية فيها. وهي جمهورية صغيرة، لها حدود مع النمسا وإيطاليا والمجر. وتسعى إلى توثيق علاقاتها وروابطها بدول غربي أوروبا. وتُعَدّ أكثر جمهوريات يوغسلافيا السابقة تماسكاً وانسجاماً في نسيجها الاجتماعي والقومي.

6. إقليم فوفودينـا VOIVODINE

يقع في الشمال، على الحدود مع المجر، في شمال نهر الدانوب، عاصمته نوفيساد. يبلغ عدد سكانه مليونين ومئة وواحداً وخمسين ألف نسمة، أغلبيتهم مجرية، ويشكل الصرب ثلثهم، وكان يتمتع، في زمن تيتو، بالحكم الذاتي، إلاّ أن الصرب، بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي، فرضوا سيطرتهم عليه، وضموه إلى صربيا.



[1] استمر الملك ألكسندر الأول ملكاً حتى عام 1934

[2] وقد ادعت حكومة الملك ألكسندر الأول أن المسلمين هم الذين قتلوا بوشكو بوشكوفيتش. وهو محافظ سابق على مقربة من مدينة كولاشين، في 7 نوفمبر 1924م، الموافق 1353هـ. لذلك نفذت الحكومة هذه المذابح

[3] مؤتمر يالطا Yalta Conference ، عُقد خلال الفترة من 4 إلى 11 فبراير 1945، وحضره جوزيف ستالين وفرانكلين روزفلت وونستون تشرشل. وفيه اتفق على تأسيس إدارة حليفة لألمانيا المهزومة، تكون قيادتها في برلين (على أن تُدعى فرنسا إلى الانضمام إليها). وأن يستولي الاتحاد السوفيتي على شرقي بولندا، ويكون طليق اليدين في أوروبا الشرقية. كما اتفق على إعداد ميثاق الأمم المتحدة، وعلى عقد محاكمات لمجرمي الحرب. وقد أبقيت معظم مداولات المؤتمر ومقرراته سرية، في ذلك الوقت

[4] مجموعة عدم الانحياز Nonalignment Countries . ويُعَدّ مؤتمر بريوني، الذي عُقد في 18 يوليه 1965، بدعوة من الرئيس اليوغسلافي، تيتو، هو نقطة البداية لهذه المجموعة، التي أعلنت رسمياً أن سياستها الخا رجية، هي سياسة عدم الانحياز إلى الكتلتين الكبيرتَين (الغربية الرأسمالية، والشرقية الشيوعية) في السياسة الدولية