إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



أولاً: الأسباب الداخلية لتفجّر الصراع

المبحث السادس

أسباب الصراع وإعلان استقلال البوسنة

أولاً: الأسباب التي أدت إلى تفجر الصراع

الأسباب الداخلية لتفجّر الصراع

1. العوامل الداخلية، من الناحية السياسية

يُعَدّ غياب تيتو، بما كان يشكله من قوة وقدرة ومهارة في ضبط الأوضاع الداخلية، والحدّ من تناقضاتها، وقدرته على إيجاد نظام، أيديولوجي وسياسي، خاص بهذه المنطقة (وهو ما انعكس في نظامَي التسيير الذاتي، واللامركزية)، التي كان يعرف ظروفها جيداً ـ عاملاً مهماً ومؤثّراً في تفجير الأوضاع. خاصة أنه كان الطرف الوحيد، القادر على إمساك خيوط المعادلة اليوغسلافية جيداً في يده، وتلك عملية بقدر ما ساعدته على ضبط الأمور، كانت سبباً في تفجيرها، بعد رحيله. فقد ترك فراغاً لم يستطع أحد، بعده، أن يشغله، مما أصاب النظام السياسي القائم بالعجز والارتباك، وفقدان القدرة على التحرك، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية والتغيرات الدولية، التي أعقبت وفاته. وكان تيتو قد أقر، من خلال الدستور الذي وضعه، تكوين مجلس رئاسي، يضم ممثلين عن الجمهوريات الست والإقليمَين، اللذين يتمتعان بالحكم الذاتي، يتداول رئاسته هؤلاء الممثلون واشترط أن تكون قرارات المجلس بالإجماع، مقدّراً أن هذه الصيغة، هي التي ستحقق التوازن بين القوميات، وتمنع سيطرة قومية على أخرى، خاصة الصربية. . وعقب وفاته، في يناير 1980، استمرت آلية القيادة الجماعية تعمل بشكل طبيعي، في ظل التماسك، الذي يحدث، عادة، عقب رحيل القـادة التاريخيين، لا سيما حين تواجهها أزمة سريعة، كالتي حدثت في مارس 1981، حين تمرد ألبان كوسوفو، الذين يشكلون أغلبية هذا الإقليم، الذي كان يتمتع بقدر من الحكم الذاتي، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، التي كانت تعانيها البلاد عامة، وكوسوفو خاصة.

في تلك الأزمة، عبّر ألبان كوسوفو عن رغبتهم في الانفصال، بل دعا بعضهم إلى ضم ألبان الجبل الأسود إلى جمهوريتهم المنشودة، التي يرغبون في ضمها إلى جمهورية ألبانيا الأمّ. وكانت هذه أولى إرهاصات تفكك يوغسلافيا، وأول مِحنة يواجهها المجلس الرئاسي، قُمعت بعنف. والأرجح أن هذه الأزمة، أدت إلى تماسك المجلس، وتأجيل انفجار تناقضاته، إلى أن تفجرت وحدثت أول أزمة دستورية، عندما رفضت صربيا والجبل الأسود انتقال الرئاسة إلى الممثل الكرواتي، وفشل المجلس في الوصول إلى الإجماع، بعد أن رحل تيتو، القادر على تحقيقه.

مع تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، وارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض قِيمة العملة، وتفاوت نِسب الدخول، نتيجة للتفاوت الاقتصادي بين الجمهوريات ـ وجدت النعرات القومية المتطرفة وقودها، الذي تتغذى به، وازداد الأمر تعقيداً، بعد أن بدأت عصبة الشيوعيين نفسها السير في هذا الاتجاه القومي، بحثاً عن حلفاء، واستثماراً لتلك النزعة، التي زاد لهيبها المثقفون الصرب. فسرعان ما بدأت القيادات الصربية تستخدم النعرة القومية المتعصبة، كأيديولوجية بديلة، تملأ بها الفراغ الناتج من انهيار الأيديولوجية الشيوعية، ونجحت في إحياء المشاعر القومية الصربية. وقد انعكس ذلك، بوضوح، في الوثيقة التي أقرتها أكاديمية العلوم والفنون الصربية، حول الأوضاع القائمة في يوغسلافيا، وموقف الصرب فيها. وهي الوثيقة التي صدق عليها وتبنّاها ميلوسيفيتش، رئيس صربيا، منذ سبع سنوات. وقد انتقدت هذه الوثيقة تيتو "الكرواتي" وشعاره القائل: "كلما كانت صربيا ضعيفة ازدادت يوغسلافيا قوة". ورأت أن نظام حكم تيتو، قد أدى إلى تقدم كبير في كرواتيا وسلوفينيا، على حساب الأجزاء الأخرى، وخاصة الصرب، التي تعمّد إضعافها.

وقد أدت هذه الوثيقة الصربية إلى تغذية وبروز روح عدائية، متعصبة، وعنصرية، داخل الصرب تجاه الجمهوريات الأخرى. ومن ثم، تزايدت المخاوف داخل هذه الجمهوريات من الصرب، خاصة أن الوثيقة تحدثت عن أوضاع الصربيين في كرواتيا والبوسنة. وكرد فعل لهذا، بدأت روح الاستقلال تنمو وتتزايد داخل الجمهوريات، خوفاً من أن يجتاحها المدّ الصربي المتطرف. ومما زاد الخوف من الهيمنة الصربية القادمة، أنه في الوقت الذي بدأت تتصاعد فيه روح الاستقلال، داخل بعض الجمهوريات، مع تصاعد المطالبة بالتعددية الحزبية، خاصة بعد انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية، وفي معقلها الاتحاد السوفيتي، وظهور علامات تفككه ـ ألغت القيادة الصربية الاستقلال الذاتي، الذي كان يتمتع به إقليما كوسوفو وفوفودينا، بموجب دستور 1974؛ وهو إجراء يمكن وصفه بأنه أقرب إلى "بالون" اختبار لسائر الجمهوريات. وفي ظل هذا الوضع، كان من الطبيعي أن تتصاعد المشاعر القومية المماثلة، بين القوميات الأخرى، دفاعاً عن النفس، مما دفع الكروات والسلوفنيين والمسلمين إلى اختيار طريق الاستقلال، كإجراء وقائي، في مواجهة الهيمنة الصربية المتنامية. في الوقت عينه، أعلنت صربيا تحويل الحزب الشيوعي الصربي، إلى الحزب الاشتراكي الصربي. وبدأت عملية تشكيل الأحزاب في الجمهوريات، حتى وصل عددها إلى 250 حزباً. وفي البوسنة، أُعلن، في مايو 1990، قيام "حزب العمل الديموقراطي"، برئاسة علي عزت بيجوفيتش. أما في كرواتيا، فقد خاض معركة الانتخابات نحو ثلاثين حزباً، إلا أن جبهة المعارضة القوية، التفّت حول فرانكو توديمان، وهو كاتب مؤرخ، سبق أن حُكم عليه بالسجن، عهد تيتو، لأنه ألَّف كتاباً عن الجاسوسية. وقد أيده الكرواتيون،لإصراره على معارضة الهيمنة الصربية، التي انطلقت من عقالها، عقب رحيل تيتو مباشرة، تستهدف إقامة دولة الصرب الكبرى، خاصة أن جمهورية صربيا، أعلنت، صراحة، أنها سوف تضم إلى أراضيها كل المناطق التي تعيش فيها أغلبية صربية، سواء كانت في كرواتيا أو في البوسنة والهرسك أو غيرهما.

ولكن القيادات الجديدة /القديمة، المتنافسة، والتي تشكل بقايا الطبقة الحاكمة السابقة في يوغسلافيا، لم تجد وسيلة لاكتساب الشرعية، إلا أن تستخدم النعرة القومية. وبدأت سلوفينيا وكرواتيا يسعيان إلى التخلص من الفيدرالية، التي فرضت عليهما دعم الجزء الجنوبي، المتمثل في صربيا. وبالطبع، رفض الصرب ذلك، وتزعمت صربيا والجبل الأسود، اللذان يعتبران نفسهما ورثة يوغسلافيا القديمة، الدعوة إلى بقاء الصيغة الفيدرالية، وأيدهما في ذلك الجيش الاتحادي، الذي تسيطر عليه حكومة بلجراد.

كان الإصرار الصربي على بقاء الصيغة الفيدرالية كما هي، في ظل تصاعد القومية الصربية، وزعامتها للاتحاد، يعني وقوع سائر القوميات تحت هيمنتها، ومن ثم، تحقيق حلم "صربيا الكبرى". لذلك، وفي مواجَهة الصيغة الفيدرالية، التي أصرت عليها صربيا، طرحت كرواتيا وسلوفينيا صيغة الكونفيدرالية، التي يترتب عليها تفكك الفيدرالية القديمة. ثم طورت سلوفينيا الاقتراح إلى تكوين كيانَين، يضم كلٌّ منهما، طوعاً، الدول الراغبة في الفيدرالية، والآخر يضم الدول الراغبة في الكونفيدرالية، على ألاّ تُعدَّل الحدود الخاصة بكل جمهورية. وهذا يعني فتح الطريق أمامها إلى الاستقلال عن صربيا. أما البوسنة، فقد طرحت حلاً وسطاً، يقضي باستقلال الجمهوريات الست، في ظل اتحاد كونفيدرالي، مع الاعتراف بحدود كل كيان وخصوصيته، وسيادته على أرضه، وأن يكون لكل جمهورية حقها في رسم سياستها الخارجية، وإقامة تمثيل دبلوماسي خاص بها، مع قيام سوق مشتركة بين الجمهوريات. وبالطبع، كان المشروع البوسني هو الأقرب جداً إلى مصالحها. فالاستمرار في الكونفيدرالية بهذه الشروط، يعني الحفاظ على كيانها كدولة. أما الصيغتان السابقتان فأحلاهما مُرَّة، لأنها إن نجت من صربيا، سقطت في براثن كرواتيا.

ومع عدم الوصول إلى حل يرضى جميع الأطراف، بدأت معركة الاستفتاءات حول الاستقلال. ولأن سلوفينيا، ليس لديها أقلية صربية ذات وزن، فقد شرعت تتخذ أول خطوة عملية في اتجاه الاستقلال والانفصال، حين أوقفت العمل بالقوانين الاتحادية، وأعطت الأولوية لقوانينها المحلية، بما يعنيه ذلك من إقامة مؤسساتها الخاصة. وتبعها في هذا الاتجاه كرواتيا. فجاء دور المؤسسة العسكرية الصربية، والجيش الفيدرالي، خاصة في ظل عجز مجلس الرئاسة، الشاغر فيه منصب الرئيس، عن تجاوز الأزمة. وعلى ما يبدو، كان الهدف من إبقاء منصب رئاسة المجلس شاغراً، هو ألاّ يصبح ممثل الكروات في المجلس، والذي كان دوره قد آن ليكون رئيساً له، قائداً عاماً للجيش، بحكم الدستور. ومن ثم، فقد أتاح إبقاء منصب رئاسة المجلس شاغراً، الفرصة لكي تكون المؤسسة العسكرية، والجيش في حرية تامة، وهو ما حدث بالفعل، خصوصاً أن الجيش كان يتمتع بميزات خاصة، أدرك أنه سيفقِده إياها الانفصال والتفكك. فبدأت المواجَهة الدامية، أولاً، في سلوفينيا. وكان قد سبقها، عام 1990، عمليات تحرش، لجأ إليها الصرب في سلوفينيا. بدأت بتكوين جماعات مسلحة من الصرب المتعصبين، اتجهت في قوافل، بالسيارات، إلى لوبليانا، عاصمة سلوفينيا، حيث هاجمت الأهالي، واعتدت على محلاتهم ومنازلهم، وذلك في ظل حملة دعائية، وجهتها أجهزة الإعلام الصربية ضد سلوفينيا. اتهمت فيها أهلها بالهمجية وعدم التحضر. كما قطعت الصرب علاقاتها التجارية بسلوفينا، وألغت أكثر من 500 عقد، تجاري وصناعي، وتحفظت كذلك على 225 مليون دولار، كانت لديها لحساب منتجين سلوفينيين. فردّت سلطات سلوفينيا بالتوقف عن دفع 48 مليون دولار، كديون مستحقة للصرب، الأمر الذي دفع بلجراد إلى إقحام الجيش الاتحادي في معارك داخل سلوفينيا. إلاّ أن القتال توقف، بضغط من الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا. ولكنه اندلع بين الجيش الاتحادي وصرب كرواتيا، من جانب، والجيش الكرواتي، من جانب آخر. ودام قرابة نصف عام، سقط خلاله حوالي عشرة آلاف كرواتي، بسبب وجود أقلية صربية كبيرة في كرواتيا، تسكن منطقة كرايينا، يقدر عددها بحوالي 600 ألف نسمة، يشكلون 12% من السكان، شاركوا الجيش الاتحادي في المعارك ضد الكروات. ولقد أدى التدخل الأوروبي، كذلك، إلى انسحاب الجيش الاتحادي من كرواتيا، وتوقف القتال في سلوفينيا وكرواتيا، في منتصف 1991. وإذا كان الجيش الاتحادي قد انسحب من سلوفينيا وكرواتيا تحت الضغط الأوروبي، فإن الوضع كان مختلفاً، بالنسبة إلى البوسنة، التي كان نصيبها من أعمال العنف، التي مارسها هذا الجيش أفظع وأشد عشرات المرات مما نال سلوفينيا وكرواتيا، ذلك لأن صربيا لاحظت عدم اهتمام الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا) بالبوسنة، عكس اهتمامه السابق بكرواتيا وسلوفينيا.

2. العوامل الاقتصادية الداخلية

في ظل الفيدرالية والإدارة الذاتية، التي تمنح الجمهوريات والأقاليم نوعاً ما من الاستقلالية، وهو المشروع الذي تبنّاه تيتو ـ تضاعفت الفوارق بين الجمهوريات، حين تغلبت المصالح المحلية. وهو أمر كان من الممكن التغلب عليه، لولا ازداد التسيب داخل أجهزة الرقابة، عقب وفاة تيتو. وشهدت يوغسلافيا انفتاحاً أكبر على آليات السوق، ومن ثم، التعرض للمنافسة الدولية. وصفَّق الغربيون بشدة لهذه التطورات، وجاءت النتيجة المتوقعة: تزايد الفوارق في التنمية الإقليمية، وتراجع حجم الصادرات اليوغسلافية إلى الأسواق العالمية، بسبب عدم قدرة المنتجات اليوغسلافية على منافسة مثيلتها في الأسواق العالمية، وتزايد المنافسة بين الجمهوريات اليوغسلافية، لمواجَهة هذا الوضع. وقد أكد هذا الأمر جوزيه مينسينجر، أستاذ الاقتصاد، ونائب رئيس الوزراء، في سلوفينيا، إذ أرجع الكساد الاقتصادي إلى انهيار الأسواق الداخلية في يوغسلافيا، الذي بدأ مع سقوط الموازنة الاتحادية، ومقاطعة الصرب للبضائع، السلوفينية والكرواتية، حتى قبْل الانفصال السياسي. وأمست السوق اليوغسلافية الموحدة غير موجودة، بدءاً من عام 1990.

فسلوفينيا، مثلاً، بعدد سكانها البالغ مليونَي نسمة، الذين يشكلون 8 % من سكان الاتحاد اليوغسلافي ـ كانت توفر أكثر من 20% من مجمل الدخل القومي ليوغسلافيا، وثلث مجموع الصادرات إلى أوروبا والغرب. وعلى الرغم من ذلك، كان عليها أن تعطي الاتحاد الفيدرالي اليوغسلافي معظم العائد المحقق لها، من دون أن تراقب أو تشارك في أوجُه إنفاقه، وهو عائد ضخم، يشكل 27% من ميزانية الحكومة الفيدرالية.

وطبقاً للبيانات، التي أوردها نائب رئيس وزراء سلوفينيا، فإن الإنتاج الصناعي، عام 1992، بلغ في سلوفينيا 70%، وفي الصرب 55%، وفي كرواتيا 50%، مما كان عليه الإنتاج الصناعي في عام 1990. وعن الصادرات، فقد أمكن سلوفينيا أن تبقى، عام 1992، على المستوى نفسه، في عام 1990، في حين بلغ معدل التناقص في كرواتيا 25%. أما في صربيا، فقد بلغ التناقص 50%.

وقد ساعدت هذه الفوارق، وهذا التباين في المستويات الاقتصادية بين جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق، على تفاقم الأزمة، وازدياد الشعور بعدم المساواة، كذلك التعجيل بشن الحرب الاقتصادية بين هذه الجمهوريات، إضافة إلى إعلاء شأن النزعات القومية. وكانت الجمهوريات ذات المستوى الاقتصادي الأعلى، مثل سلوفينيا وكرواتيا، أكثر الجمهوريات رغبة وتطلعاً إلى الاستقلال، واستعداداً لذلك.

ولقد تبنّت الحكومة الاتحادية برنامجاً إصلاحياً طموحاً، خلال النصف الأول من عام 1990، في محاولة للتغلب على هذه الفوارق، ولتعديل المسار المتدهور للاقتصاد اليوغسلافي. وقد نجحت، بالفعل، في تخفيض معدلات التضخم إلى درجة ملحوظة، تمهيداً للانتقال إلى اقتصاديات السوق. إلا أن المناخ السياسي الحار، وبداية عملية إنشاء الأحزاب المتعددة، التي فُضلت برامجها الذاتية على التشريعات الفيدرالية، إلى جانب تصاعد النزعات القومية ـ كل ذلك مثَّل تحدياً لبرنامج الإصلاح الاقتصادي. لذلك، فشلت حكومة ماركوفيتش الاتحادية في حماية خططها الإصلاحية.

لذلك، فقدت يوغسلافيا المكاسب الاقتصادية، التي كان قد حققها برنامج الإصلاح، في النصف الأول من عام 1990، إذ فاقت معدلات التضخم نسبة 100%، وانخفض الناتج الصناعي بنسبة 20%. كذلك، انخفض احتياطي الدولة من العملة الحرة، من عشرة مليارات دولار، في سبتمبر 1990، إلى 4.5 مليارات دولار فقط، في أغسطس 1991. واضطرت الحكومة، إزاء هذا الوضع الاقتصادي المتدهور، إلى إجراء تخفيضَين متتاليَين في قِيمة الدينار اليوغسلافي. كما بدأت الجمهوريات المتنازعة تشن حرباً اقتصادية ضد بعضها بعضاً، من طريق فرض رسوم جمركية وما شابه ذلك. مما انعكس، سلباً، على السوق اليوغسلافية، التي بدأت تعاني نقصاً في كثير من السلع والخدمات، وأدى إلى تفوّق اقتصادي في بعض الجمهوريات على حساب الأخرى، في حين قلّ الناتج الصناعي في صربيا إلى 16%. وتزايدت فيها معدلات البطالة والشركات الخاسرة، إذ وصلت إلى 2400 شركة على حافة الإفلاس.

ثانياً: بداية الصراع

نتيجة لوجود أطراف داخلية، ترغب في توسيع حدودها، وفرض هيمنتها، وحل أزمتها الاقتصادية، مثل صربيا، وأطراف أخرى، تسعى إلى التخفيف من الأعباء المفروضة عليها لمصلحة الآخرين، مثل سلوفينيا وكرواتيا، وأطراف خارجية لها مصلحة في حدوث ذلك ـ تفجرت الأوضاع تفجيراً دموياً حادّاً، واستدعى بعض الأطراف أسوأ ما في ذاكرة التاريخ من أحداث، واستخدموا النزعة، الدينية والعرقية، أسوأ استخدام، لإلهاب مشاعر الناس، بعد أن أصبحت تمثل هوية قومية. وكانت الصرب ثم كرواتيا، أسوأ مثالَين على ذلك. بينما كانت البوسنة، هي الضحية بين الأطراف المتصارعة، لكونها تمثل مجالاً حيوياً مهماً لكلٍّ من صربيا وكرواتيا، إذ تقع بينهما، وتُعَدّ النواة المركزية لتحقيق أي حلم توسعي، يحقق "صربيا الكبرى" أو "كرواتيا الكبرى". يضاف إلى ذلك أن البوسنة، هي النموذج المصغر، والمجسم للحالة الفسيفسائية، التي يتسم بها المجتمع اليوغسلافي، إذ يوجد فيها أكبر أقلية صربية، خارج حدود صربيا، وأقلية كرواتية كذلك، مع وجود حدود مشتركة بين الأقلية الصربية الموجودة في البوسنة، والأقلية الصربية الموجودة في كرواتيا، وهي منطقة كرايينا، التي شهدت صراعاً عنيفاً بين الصرب والسلطات الكرواتية، حين أعلن هذا الإقليم استقلاله، ودعا إلى الاتحاد مع صربيا. وكان رفض كلٍّ من صربيا وكرواتيا للمشروع الذي اقترحته البوسنة، يرجع إلى أن كلاً منهما، كانت قد أعدت عدتها لاستقطاع جزء من البوسنة، وضمه إليها. ففي الوقت الذي كان فيه الرئيسان، الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش والكرواتي توديمان، يتبادلان الشتائم في العلن، كانا يتناقشان، في هدوء، حول كيفية تقسيم البوسنة في ما بينهما.

وقد استمر الصراع الدموي بين الصرب والكروات حتى منتصف 1991. إذ أغمضت الولايات المتحدة الأمريكية عينيها عمّا يحدث في جمهورية يوغسلافيا الاتحادية، طوال عام. وكذلك تشاغلت أوروبا بأمورها ومشكلاتها الداخلية، بدعوى أن شعوب يوغسلافيا المتناحرة، سوف تثوب، حتماً، إلى رشدها.

ويرى كثيرون أن 21 يونيه 1991، هو اليوم الذي بدأ فيه دخول الغرب على خط الأزمة اليوغسلافية. ففي هذا اليوم، حضر جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكية، آنذاك، إلى بلجراد. وقال إن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين، يعتقدون أن يوغسلافيا، ينبغي أن تبقى دولة واحدة. وقد رحَّب رئيس وزراء يوغسلافيا، آنذاك، آنتي ماركوفيتش، بتصريح بيكر، وقال له:"إنك تعرف الوقت الملائم للخطوة الملائمة". وكان ذلك قبل اشتعال لهيب الحرب بخمسة أيام. وبحلول شهر يوليه 1991، كانت الحرب قد اشتعلت بين الصرب والكروات، وبدأ الانقسام يدب في أوصال يوغسلافيا.

وحقيقة الأمر، أن تفكك أوصال الاتحاد اليوغسلافي، لم يأتِ فجأة. فقد كانت إرهاصاته واضحة منذ وفاة تيتو. وقد تنبأت به وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في تقرير لها، صدر في نوفمبر 1990، وتم تسريبه في الصحف. توقعت فيه الوكالة انهيار يوغسلافيا، واشتعال حرب أهلية، في غضون 18 شهراً. إلا أن صانعي القرار السياسي في عواصم الغرب، لم يُلقوا بالاً إلى مثل هذه التحذيرات، فقد كانوا مشغولين بالوحدة الألمانية، والأزمة السوفيتية، والغزو العراقي للكويت. وعندما لفتت الأزمة انتباههم، كشفت عن قصور رؤيتهم، حول تطور الأحداث في منطقة البلقان وخطرها على الأمن الأوروبي بشكل خاص، والأمن العالمي بشكل عام، ولا سيما أن هذه المنطقة كانت سبباً في تفجُّر حربَين عالميتَين. فقد نزع قادة الغرب وسياسيوه، في تفكيرهم، إلى تقدير أن يوغسلافيا ما زالت هي دولة تيتو، التي تشكل حاجزاً بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية. وقليلون هم الذين أدركوا، أنه مع نهاية الحرب الباردة، بين الشرق والغرب، فإن الأساس المنطقي لكون يوغسلافيا حاجزاً بين الشرق والغرب، قد انتهى. لذلك، فقد كان القادة الغربيون مشدودين، أكثر من اليوغسلاف أنفسهم، إلى استمرار الوحدة اليوغسلافية، في حين أن أصحاب الأمر أنفسهم، كانوا قد عزموا على الانفصال.

وعندما بدأ الانهيار في الدولة اليوغسلافية يصبح حقيقة واقعة، لم يكن هدف الدول الغربية مقاومته، بل إدارته وترويضه، والتأكيد، إعلامياً، أنه ما من جمهورية جديدة ناشئة، ستنال قبولاً من المجتمع الدولي، ما لم تعامل الأقليات العِرقية فيها على نحو عادل. وعندما أطلق قادة الغرب هذه التصريحات، كانوا هم أول مَن يدرك أنها نوع من الوهم، يبيعونه لتلك الأقليات، التي كانت وقوداً لهذه الحرب.

وعندما اشتد أوار الحرب، في صيف 1991، وأدركت المجموعة الأوروبية، متأخرة، خطر استمرار المعارك، الدائرة في جمهوريتَي سلوفينيا وكرواتيا، بادرت، مع الأمم المتحدة، إلى وقفها. فبدأت رحلات مكوكية لعدد من وزراء خارجية دول المجموعة الأوروبية، إلى كل من بلجراد وزغرب، حصلوا، خلالها، على توقيعات زعماء الصرب والكروات وموافقتهم على اتفاقيات لوقف إطلاق النار. وكانوا يعودون إلى بلادهم، في كل مرة، معلنين أن السلام أصبح في متناول الأيدي، لكن حقيقة الأمر كانت خلاف ذلك. فقد كان جنرالات الصرب والكروات المتطرفون، وزعماء الميليشيات، الذين يريدون أن يكون لهم نفوذ على الساحة، ينتهكون هذه الاتفاقيات، بعد دقائق من توقيعها. إلاّ أن نجاحاً للجهود الأوروبية، تحقق في وقف المعارك في سلوفينيا، وذلك بسبب تهديد ألمانيا بالدخول في الحرب إلى جانب لوبليانا.

وعندما توقف القتال في سلوفينيا، وهدأ، نسبياً، في كرواتيا، في منتصف 1991، بدأت المخاوف تتجه إلى جمهورية البوسنة والهرسك، خشية امتداد الصراع إلى هذه الجمهورية، بسبب الانقسام العِرقي الحادّ فيها، الناجم عن وجود ثلاث قوميات (ينظر إلى الدين هناك على أنه قومية)، وهم المسلمون، ويشكلون 44% من عدد سكان البوسنة، البالغ تعدادهم 4.3 ملايين نسمة، ثم الصرب، ويشكلون 39% من السكان، وأخيراً الكروات، ويشكلون 17%. (اُنظر شكل الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك).

وقد تسارع انزلاق البوسنة نحو الحرب الأهلية تسارعاً مهماً، بعد أن اعترفت مجموعة الدول الأوروبية باستقلال كرواتيا، في 25 يناير 1992. وينظر إلى هذه الخطوة على أنها من صنع وزير خارجية ألمانيا، آنذاك، هانز ديتريش جينشر. فقد أضفي هذا الاعتراف نوعاً من الاحترام على كرواتيا، على الرغم من عدم تعهدها بمعاملة الأقليات، المسلمة والصربية، فيها معاملة حسنة. وكان من الواضح أن المقاتلين الصرب في كرواتيا، تدعمهم الميليشيات الصربية والجيش الاتحادي، عازمون على التهام الكثير من أراضي كرواتيا. إلاّ أن التدخل الأوروبي، خاصة من قِبل ألمانيا، حال دون ذلك، ودفع جمهورية كرواتيا الجديدة إلى التوصل إلى اتفاق مع الأقلية الصربية، الموجودة في أراضيها. كذلك، أدى الضغط الأوروبي إلى انسحاب الجيش الاتحادي من سلوفينيا.

وكان التخوف تجاه ما يمكن أن يحدث في البوسنة، ناتجاً من احتمالات توظيف الدين، كعنصر من عناصر الصراع، سواء بين المسلمين والنصارى، أو بين الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك، وهو ما حدث بالفعل. وقد زاد من هذه المخاوف التداخلات الموجودة بين المسلمين والصرب والكروات، في عدة مناطق. فإلى جانب وجود مناطق خاصة بكل قومية، تسكنها الأغلبية التي تمثلها، فإن هناك مناطق أخرى ويتداخل فيها السكان المسلمون مع الصرب والكروات. ناهيك بما تحمله كل قومية من ميراث تاريخي من العداء للقوميتَين الأخريَين، إذ يتهم الصرب الكروات بالتعاون مع النازيين، أثناء الحرب العالمية الثانية، خاصة أن للكروات سجلاً دموياً وحشياً في هذه الحرب. بينما ينظران كلاهما إلى المسلمين، في البوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا، على أساس أنهم بقايا الإمبراطورية العثمانية.

وكان من الواضح أنه إذا ما نشب الصراع المسلح في البوسنة والهرسك، فإن كلاًّ من الأقلية الصربية والكرواتية في هذه الجمهورية، ستحصل على الدعم، العسكري والمادي، من الجمهورية الأم، التي تعدها امتداداً، جغرافياً وقومياً لها، داخل أراضي البوسنة. في حين يبقى مسلمو البوسنة دون دعم خارجي، لافتقارهم إلى التواصل الجغرافي مع أقرب دولتَين إسلاميتَين إليهم، وهما تركيا وألبانيا. حتى مع افتراض تواصل جغرافي، فإن تركيا ستتجنب ـ لكونها عضواً في حلف شمال الأطلسي ـ دعم مسلمي البوسنة، بسبب المحاذير الدولية المفروضة عليها في هذا الشأن، وتشعّب مصالحها مع دول المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً أنها كانت تسعى إلى قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي، كما ترغب في تحييد أوروبا في نزاعها مع اليونان، وفي ما يتعلق بمشلكة قبرص. ومن ثم، فقد كان من المعتقد أن الصراع العِرقي المسلح، إذا ما نشب في البوسنة، فإنه سيكون، بالقطع، على حساب المسلمين فيها، خاصة مع غيبة التدخل، الأوروبي والأمريكي.

ولم تكن هذه الروح العدائية ضد المسلمين، من جانب الصرب والكروات، تقابلها من جانب المسلمين أي بوادر عدائية، بل على العكس، كان هناك تواؤم ومودة بين سكان البوسنة والهرسك جميعهم، على الرغم من تباين الأديان والأيديولوجيات والأعراق واختلافها. حتى إنهم تصاهروا وتشاركوا في الاحتفالات والأعياد، الدينية والقومية، وتسامحوا إلى درجة أن النصارى، كانوا لا يربون الخنازير، احتراماً لشعور المسلمين.

ثالثاً: إعلان استقلال البوسنة

عندما أعلن كلٌّ من كرواتيا وسلوفينيا استقلالها، عام 1991، واعترفت الدول الغربية بهما، أصبح موقف البوسنة حرجاً. فهي لا تستطيع أن تبقى جزءاً من يوغسلافيا الجديدة، التي تمثّل، في حقيقتها، صربيا والجبل الأسود، تحت زعامة الصرب، الذين جاهروا برغبتهم في التوسع على حساب أراضي البوسنة. لذلك، أعلنت قيادة البوسنة، أنه لن يمكنها الاستمرار في اتحاد، لا يضم كرواتيا وسلوفينيا. ولذلك، أعلنت، في 26 فبراير 1991، إجراء استفتاء، لمعرفة رأى سكان البوسنة والهرسك في استمرار الارتباط بيوغسلافيا القديمة، أو الاستقلال، كالجمهوريتَين الأخريَين، اللتَين استقلتا عن الاتحاد. خاصة أنه مع استقلال كلٍّ من سلوفينيا وكرواتيا، بقي الكروات والمسلمون في البوسنة على جزء من بقية الدولة اليوغسلافية، التي يسيطر عليها ميلوسيفيتش، رئيس صربيا.

رفض كل من ميلوسيفيتش، رئيس صربيا، وكارادازيتش، الذي أعلن نفسه زعيماً لصرب البوسنة، مبدأ الاستفتاء العام، الذي أعلنته حكومة البوسنة، وسعيا إلى إلغائه بكافة الوسائل، بما في ذلك استخدام المتفجرات، إذ طالب صرب البوسنة ببقاء البوسنة ضمن يوغسلافيا الجديدة، وإلا فإنهم سيعلنون استقلالهم، والانضمام إلى صربيا. ولكن البوسنة، أجرت الاستفتاء، وكان على سكانها، ولا سيما المسلمين والكروات، أن يواجهوا خيارَين، لا ثالث لهما: إما الانفصال، أو قبول مواطنة من الدرجة الثانية، في دولة صربيا. فجاءت نتيجة الاستفتاء توضح موافقة 70% من السكان على الاستقلال. وقد اعترف باستقلال البوسنة والهرسك كل دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والدول الإسلامية، وأصبحت عضواً في الأمم المتحدة. (اُنظر خريطة تفكك يوغسلافيا).

وقد أنشأ المسلمون حزباً، وحرصوا على ألاّ يكون شعاره دينياً، حتى لا يثير الصرب والكروات. وأسموه "حزب الجبهة الديموقراطية"، برئاسة علي عزت بيجوفيتش. كما تألف في البوسنة حزبان آخران. أحدهما، يمثل الصرب الأرثوذكس في البوسنة. والآخر، يمثل الكروات الكاثوليك فيها. وأسفرت الانتخابات، عام 1991، حصول حزب المسلمين على 37% من الأصوات، وحزب الصرب الأرثوذكسي على 31%، وحزب الكروات الكاثوليك على 17%. ونجح الأحزاب الثلاثة في إقامة تحالف بينها، لتشكيل الحكومة، التي اختير علي عزت بيجوفيتش، زعيم المسلمين، رئيساً لها، وتشكل مجلس للرئاسة، يضم ممثلين عن الأحزاب الثلاثة.

ومن سلبيات هذه المرحلة، بالنسبة إلى مسلمي البوسنة، والتي كان لها تأثير في نتائج الانتخابات، وما بعدها من حرب أهلية ـ أن من بين مسلمي البوسنة، يوجد 700 ألف زواج مختلط، وهو ما يعني أن ثلث المسلمين متزوجون بصرب وكروات ، وأكثر تلك الأسر تصدعت، بفعل الشروخ النفسية التي سببتها الحرب. ومن ناحية أخرى، لوحظ أن الصرب والكروات، منحوا أصواتهم لحزبَيهم، بينما منحت نسبة غير قليلة من المسلمين، أصواتها للأحزاب اليسارية القائمة. فكانت النتيجة أن خسر المسلمون مقاعد البرلمان، في مناطق عديدة، يتمتعون فيها بأغلبية كبيرة، وهو الأمر الذي وضع البلديات في أيدي الصرب والكروات، وكان له آثار مأساوية، عندما نشبت الحرب، بعد ذلك.

ولكن هذا التحول السلمي للسلطة في جمهورية البوسنة والهرسك، التي أصبح يرأسها رئيس مسلم، لم يكن ليرضى عنه كلٌّ من رئيس صربيا ميلوسيفيتش، وزعيم صرب البوسنة، كارادازيتش، وكلاهما يستهدف إقامة دولة "الصرب الكبرى" على حساب شعب البوسنة والهرسك وأراضيه. وهما يرفضان، ومعهما كرواتيا، مبدأ إقامة دولة مسلمة، تفصلهم عن صربيا، وطنهم الأم. فانفجر الصراع المسلح، أولاً، بين الصرب، من ناحية، والكروات والمسلمين من ناحية أخرى. وتدخّل الجيش الاتحادي إلى جانب الصرب، لتمكينهم من الاستيلاء على أكبر مساحة من أراضي البوسنة. وعندما انسحب هذا الجيش الاتحادي من البوسنة، نتيجة لبعض الضغوط الخارجية، فقد جاء انسحابه شكلياً، إذ ترك، خلْفه، 80 ألف مقاتل صربي من قواته، بحجة أنهم من صرب البوسنة.

ولقد ارتكب الصرب، في قتالهم داخل أراضي البوسنة، وضد أهلها المسلمين، أبشع المذابح الجماعية، ودمروا حوالي 56 مدينة وقرية في البوسنة تدميراً شبه كامل، بعد أن امتدت المعارك إلى جميع مدن البوسنة، بما فيها العاصمة سراييفو، وأصبح مجال الحرب الأهلية يشكل مثلثاً، أبعاده الصرب، كرواتيا، البوسنة والهرسك. وعندما بدأ صرب البوسنة يستولون على أراضي المسلمين، تنكر الكروات لحلفائهم، بل تحالفوا مع الصرب ضدهم، وجعلوا هدفهم الرئيسي من الحرب، خلق دولة لهم في البوسنة، تشكل امتداداً لجمهورية كرواتيا.

وإذا كانت جمهوريتا سلوفينيا وكرواتيا، قد وجدتا التأييد والمؤزارة، من قبل المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، فإن الغرب، بعد أن شجع مسلمي البوسنة على إقامة دولة مستقلة، ذات عرقيات متعددة، لم يفعل شيئاً لمساندتهم. فقد أحجمت الدول الغربية عن سماع صوتهم، ولم تقدَّم إليهم شيئاً، سوى بعض أعمال الإغاثة الإنسانية.

وفي الوقت الذي كان كلٌّ من صرب البوسنة وكرواتها، يحصلون على حاجتهم من السلاح والمعدات الحربية والذخائر، من الدولة الأم، صربيا وكرواتيا، نجد أن المجتمع الدولي فرض حظراً على تصدير السلاح إلى البوسنة، بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 713، في 25 سبتمبر 1991، وهو القرار الذي لم ينفذ فعلياً، إلا على مسلمي البوسنة فقط، إذ استمرت عمليات نقل السلاح والذخائر من صربيا وكرواتيا، براً، وجواً، إلى الميليشيات التابعة لهما، بينما منع الحصار المضروب على مسلمي البوسنة أي إمدادات سلاح أو ذخائر لهم من الخارج. أما العقوبات، التجارية والمالية والجوية، التي فرضها مجلس الأمن على صربيا، بموجب القرار رقم 757 ، في 30 مايو 1992، فلم يكن لها أدنى فاعلية أو تأثير، إذ أمكن الصرب الالتفاف عليها بوسائل مختلفة.

ويلاحظ أن البوسنيين، خلال هذه المرحلة، عندما طرحوا مشروعهم حول اتحاد كونفيدرالي، يضم الجمهوريات الأربع، ويحافظ على الكيان اليوغسلافي، لم يكن لديهم، في البداية، رغبة في الاستقلال والانفصال بشكل كامل. ولكن، كان كل ما يسعون إليه أن يحققوا درجة أعلى من الحكم الذاتي والسيادة لدولة البوسنة والهرسك على أراضيها، بحدودها القائمة، دون تجزئة أو انفصال، ناهيك من عدم وجود مطامع توسعية لهم في الأقاليم الأخرى. وقد ترتب على هذا الموقف، أنهم لم يعِدوا أنفسهم جيداً لمرحلة الاستقلال والدفاع عنه، عندما دفعتهم تطورات الموقف إلى ذلك، وأعلنوا استقلال البوسنة على الرغم من معارضة الصرب والكروات، المحيطين بالبوسنة من الخارج، وفي داخلها، في حين كان الصرب والكروات قد شرعوا، منذ مدة طويلة، يتحسّبون ويستعدون لهذه المرحلة، بتخزين السلاح، وتشكيل الميليشيات. إضافة إلى خطأ آخر، وقع فيه البوسنيون، يتمثل في رهانهم، بقدر مبالغ فيه، على الموقف الدولي، والشرعية الدولية، والنظام العالمي الجديد ... إلخ. إذ تصوروا أن ذلك كافٍ للدفاع عن دولتهم، ما دامت قد نالت الاعتراف الدولي، وأصبحت عضواً في الأمم المتحدة، كدولة ذات سيادة، بحدودها التي حددها دستور يوغسلافيا السابقة، عام 1974. وهو رهان خاسر، دفعت البوسنة ثمنه غالياً، لأنها لم تدرك أن للغرب رُؤىً ومصالح أخرى مختلفة، وأن آليات النظام الدولي الجديد، تعيد رسم الخريطة العالمية بطريقتها.

ولقد ترتب على كل هذه العوامل، أن كان الصراع بين البوسنة، من جهة، وصربيا وكرواتيا، من جهة أخرى، غير متكافئ، خاصة في ما يتعلق بالميزان العسكري، الذي كان يميل بشدة في غير مصلحة البوسنة. إذ كان الجيش الاتحادي، وميليشيات الصرب والكروات، والجيش الكرواتي، بكل ما يملكونه من قوة بشرية، وسلاح وعتاد وذخائر، في كفة، والبوسنيون المسلمون، بأسلحتهم وذخائرهم المحدودة، في كفة أخرى. ناهيك بما كانت تتمتع به صربيا وكرواتيا من محاور انتقال، برية وبحرية وجوية، تخدمها موانئ ومطارات وطرق تحرك، توفِّر للميليشيات التابعة لهما داخل البوسنة، إمدادات لا تنقطع من حاجات القتال. بينما كان الحصار مضروباً حول مسلمي البوسنة، براً وبحراً وجواً. وبينما كانت الإمدادات العسكرية والمتطوعون الروس، يتدفقون إلى صرب البوسنة، وإمدادات السلاح والذخائر من ألمانيا، تتدفق إلى كرواتيا، لم تجد البوسنة دولة واحدة في أوروبا، تمد إليها يد المساعدة، أثناء الحصار الذي ضُرب عليها، سواء من قبل صربيا وكرواتيا أو من قبل المجتمع الدولي، نتيجة قرارات مجلس الأمن.