إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث السابع

المبحث السابع

أوضاع المسلمين عشية انفجار الصراع

لقد كان الاتحاد اليوغسلافي يضم المسلمين، في كيان دولة واحدة. غير أن أوضاع المسلمين في هذا الكيان، لم تكن واحدة، ولا موحدة. فبقيت أمورهم الحياتية متباينة ومختلفة، ما بين منطقة وأخرى، وما بين إقليم وآخر، تبايناً واختلافاً، يصعب معهما تصنيفهم مجموعة واحدة.

أولاُ: عدد المسلمين

ليس هناك إحصاءات رسمية، تحدد عدد المسلمين في يوغسلافيا. والشائع أن عددهم يراوح ما بين ستة وسبعة ملايين. ذلك أن السلطات الحكومية، تتعمد الانتقاص من عدد المسلمين، وتتجنب ذكر عددهم الحقيقي. فعلى سبيل المثال، لا تحصي هذه السلطات الألبان المسلمين، الذين يعيشون في يوغسلافيا، وعددهم يزيد على المليونين ونصف المليون، في طائفة المسلمين، وإنما تحصيهم في طائفة الألبان. أي أنها تصنفهم عِرقياً، بهدف إبقاء العدد الرسمي للمسلمين قليلاً. ولكن جريدة "رسالة الجهاد" التي تصدر في يوغسلافيا، نشرت، في عددها الصادر في أكتوبر 1991، معلومات تؤكد أن العدد الحقيقي للمسلمين في يوغسلافيا هو ثمانية ملايين ونصف مليون مسلم، وذلك استناداً إلى ما نشرته المصادر الرسمية للجمهوريات اليوغسلافية، كلٌّ على حِدَة، وبمعزل عن المركز الاتحادي للإحصاء. فإذا كانت هذه المعلومة صحيحة؛ وهي صحيحة على الأغلب، فإن ذلك يبرز حقيقة مهمة، وهي أن الإسلام يحتل المرتبة الأولى بين الديانات الأخرى، إذ يبلغ عدد الأرثوذكس سبعة ملايين وثمانمائة ألف نسمة، وعدد الكاثوليك سبعة ملايين ومائتي ألف نسمة. بينما لا يتجاوز عدد أتباع الديانات الأخرى مليوناً وثلاثمائة ألف نسمة. ولقد كان من المتوقع أن يزيد عدد المسلمين هناك على ما هو عليه اليوم، لولا أعمال الإبادة الجماعية، وممارسات التهجير القسري، التي مورست ضدهم في البلقان.

ثانياً: الأصول العِرقية والانتشار الجغرافي

تتنوع أصول المسلمين في جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق، مثلها كمثل أوضاع المسلمين في سائر دول العالم. فهناك من ينّحدر من أصول كرواتية وصربية، مثل البوسنيين، ومنهم الألبان، الذين يعيش معظمهم في كوسوفو ومقدونيا، ومنهم أيضاً الأتراك، ولو أنهم لا يشكلون إلاّ نسبة قليلة. لذلك، نجد المسلمين، يتوزعون على كل الأقاليم، وليس لهم ما للكرواتيين، مثلاً، من مناطق يشكلون فيها الأكثرية المطلقة. وحتى في البوسنة والهرسك، فإن نسبة المسلمين تزيد على الخمسين في المائة، ولو أن الأرقام الرسمية للإحصاءات تنتقص من هذه النسبة. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التوزيع الجغرافي، لم يتشكل مصادفة، وإنما حدث وفقاً لمنهج مدروس ومخطط، دأب في تطبيقه نظام تيتو، طوال فترة حكمه، بهدف وضع المسلمين في موقف الضعف، جغرافياً وبشرياً. ففي كرواتيا وسلوفينيا، لا يتجاوز عدد المسلمين 300 ألف نسمة. وفي مقدونيا، يزيد عددهم على المليون، وفقاً لإحصاء المشيخة الإسلامية المقدونية. وهم من أصول شتى، ألبانية وتركية ومقدونية وبوسنية. ولكن نسبة الألبانيين فيهم، تزيد على ثمانين في المائة. وفي الجبل الأسود، يُقدر عدد المسلمين بمائة ألف مسلم تقريباً. وفي صربيا، يوجد 600 ألف مسلم. أما في البوسنة، فإن المسلمين يشكلون أغلبية سكانها، إذ يُقدر عددهم بمليونين تقريباً (1.909.018 مليون). (اُنظر جدول سكان يوغسلافيا وعدد المسلمين فيها)

ثالثاً: الحالة السياسية والاقتصادية

تتباين أوضاع المسلمين في الجمهوريات اليوغسلافية تبايناً كبيراً. فبالنسبة إلى الحياة السياسية، لم يكن لهم دور ذو مغزى، إبّان فترة حكم تيتو. ومَن شغل منهم منصباً سياسياً، لا بدّ أنه أعلن انتماءه إلى العقيدة الشيوعية، مذهباً. ولكن، ما أن وقعت التغيرات، عام 1990، حتى تشكلت أحزاب سياسية ـ دينية، سواء في البوسنة أو مقدونيا أو كوسوفو. وتباينت مضامين برامجها، ولكنها، تصب، في مجرى التيار الإسلامي. وقد أمكن هذه الأحزاب في مقدونيا، مثلاً، أن تحمل بعض أعضائها إلى البرلمان. أما في البوسنة والهرسك، فقد فاز حزب العمل الديموقراطي، الذي أوصل رئيسه، علي عزت بيجوفيتش، إلى منصب رئاسة الجمهورية.

وعلى الرغم من كل المحاولات، التي بذلها قادة البوسنة لتأكيد انتمائهم إلى أوروبا، على الأقل جغرافياً، فإن هويتهم الإسلامية، شكلت عائقاً أمام قبول أوروبا لهم، لم تتفهم مطالبهم العادلة وأوضاعهم الصعبة. وقد انعكس هذا الموقف في مسارعة ألمانيا وهولندا وإيطاليا والمجر والنمسا، إلى دعم جهوريتَي كرواتيا وسلوفينيا، بينما دعَّمت روسيا واليونان وبلغاريا الصرب. وبسرعة، عملت المجموعة الأوروبية على وقف الاقتتال بين صربيا وكرواتيا وسلوفينيا، كلٌّ على حِدَة. بينما بقي مسلمو البوسنة محرومين من كل دعم خارجي، ولم يهتم أي من دول الغرب بإيقاف المذابح، التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك، على أيدي الصرب والكروات، طوال أربع سنوات.

ولقد بذل المسلمون كل جهد مستطاع، من أجل تجنّب الحرب، التي اندلعت بين الصرب والكروات، منذ منتصف 1991 وحتى مطلع 1992. وكانوا يرغبون في زوال النظام الدكتاتوري الشيوعي، ولكنهم كانوا يطمعون، في الوقت نفسه، بالإبقاء على وحدة بلاد البلقان، في إطار تنظيم ديموقراطي جديد. ولكن تعصب الصرب، من جهة، وعنصرية الكروات، من جهة ثانية، وتوافر التحريض الخارجي، مـن جهة ثالثة، قد جعلت الحرب هي الخيار الوحيد المتاح أمام الطرفين المتصارعين، والتي كان لا بدّ لها أن تطاول المسلمين بلهيبها. وقد أجمعت القيادات الإسلامية على أن تفكك اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية، ليس في مصلحتها، إذ إن تفكك هذا الاتحاد، سيجعل من المسلمين أقليات متفرقة، وممزقة، وخاضعة للسياسات الجديدة لكل جمهورية، بمعزل عن الجمهوريات الأخرى. ومن ثم، فلن يكون لهم كيان واحد يمثلهم، على نحو ما كان عليه وضعهم في ظل السلطات الاتحادية. وهو ما عبَّر عنه وزير خارجية البوسنة والهرسك، الدكتور حارث سيلاديتش، بقوله: "إن انفصال الجمهوريات، سيلحق ضرراً كبيراً بالمسلمين، الذين يحاولون استرداد حقوقهم، بعد أكثر من أربعين عاماً من الحكم الشيوعي". وهو ما أكده، كذلك، رئيس مشيخة البوسنة، الشيخ صالح، بقوله:" نحن نقبل أي تغيير، سواء في صورة اتحادية، أو شبه اتحادية ـ كونفيدرالية ـ لأن من مصلحتنا بقاء الاتحاد اليوغسلافي".

أما بالنسبة إلى الجانب الاقتصادي من حياة المسلمين، فإن أوضاعهم الاقتصادية تتباين، كذلك، تبايناً كبيراً؛ فبينما تعيش أقوام منهم في حالة فقر مدقع، وبؤس شديد، كمسلمي كوسوفو والجبل الأسود، فثمة أقوام أخرى تعيش في مستوى قريب من المتوسط، كمسلمي كرواتيا وسلوفينيا، وهما الجمهوريتان اللتان سبقتا سواهما إلى إعلان الاستقلال، وكانتا دائماً من أفضل الجمهوريات اليوغسلافية، اقتصادياً. ولكن، وبشكل عام، يبقى المستوى الاقتصادي للمسلمين، كما هو الحال بالنسبة إلى مستوى الحرية السياسية، أدنى كثيراً مما عليه غيرهم، من القوميات والطوائف الأخرى.

1. المسلمون في كرواتيا وسلوفينيا

يُعَدّ الوضع الاقتصادي لمسلمي كرواتيا وسلوفينيا، أفضل من أوضاع إخوانهم المسلمين، في الجمهوريات الأخرى. ويرجع سبب ذلك إلى أن هاتَين الجمهوريتَين، قد أفادتا، إلى حدّ كبير، من دعم تيتو لهما، وإقامة مشاريع التنمية فيهما؛ مما جعلهما في وضع أفضل من أوضاع سائر الجمهوريات. ويتمتع المسلمون فيهما بهامش أكبر من الحرية، ولا سيما بعد أن تحالف الكروات والمسلمون في مواجهة العدوان الصربي على كرواتيا. إلا أن مسلمي كرواتيا، قد عانوا ويلات الحرب بين كرواتيا وصربيا، وهاجر عدد كبير منهم إلى جمهورية البوسنة والهرسك، حيث تعرضوا لظروف حياتية قاسية.

2. المسلمون في مقدونيا

على الرغم من الثقل العددي للمسلمين في مقدونيا (حوالي مليون)، ومعظمهم من الألبان، فإنهم يعيشون على هامش المجتمع؛ فهم محرومون من الوظائف الحكومية، أو العمل في مناصب مهمة، في أي جهاز إداري. أمّا على الصعيد الثقافي، فيقول عضو لجنة حقوق الإنسان، في مقدونيا، ممدوح إيديني: "ليس للمسلمين الألبان أي حقوق، كإصدار جريدة، أو بث إذاعي أو تليفزيوني، بلغتهم، ويمنع التعليم باللغة الألبانية، حتى في المناطق ذات الأغلبية الألبانية المطلقة … وإن من بين 2300 طالب مسلم ألباني في مقدونيا، ممن أكملوا دراستهم الإعدادية، يحق لمجموعة من 110 طلاب فقط، إكمال دراستهم في المدارس الثانوية، بلغتهم الأم، الألبانية؛ إذ حددت ذلك السلطات المقدونية".

وقد دفعتهم هذه الأحوال السيئة إلى اللجوء إلى الهجرة، كحل لأزمتهم الاقتصادية، لذلك قلَّما توجد عائلة لا يعمل أحد أفرادها في الخارج. وبعد التغيرات التي حدثت عام 1991، سارع المسلمون في مقدونيا إلى تنظيم أحزابهم، ومن أشهرها "حزب المستقبل"، الذي يتزعمه المحامي نفزات خليلي، الذي أوضح برنامجه في قوله: "ومن ضمن أهدافنا، السعي إلى استرداد الأوقاف الإسلامية؛ وهي غنية جداً. وإصلاح البرنامج التعليمي، بما يمكننا من تدريس الدين في المدارس الحكومية".

وقد خاض هذا الحزب الانتخابات النيابية، وفاز بإرسال 23 من أعضائه إلى مجلس النواب المقدوني (البرلمان)، الذي يبلغ عدد أعضائه 250 عضواً. وقد أوضح خليلي السبب في ِقلة هذا العدد، مقارنة بالعدد الكبير للمسلمين في مقدونيا، بقوله: "كان هناك تلاعب من قِبل السلطات، التي وضعت قانوناً للانتخابات، لا يتيح لنا تمثيل أنفسنا، وفقاً لقوتنا العددية.

فقد وزِّعت الدوائر الانتخابية بطريقة جائرة، بالنسبة إلينا. ففي المناطق ذات الكثافة السكانية المسلمة، كانت تكتفي بتمثيل واحد أو اثنين. وفي المناطق ذات الكثافة السكانية الضئيلة لغير المسلمين، كان يمثلهم عدد أكبر". ولهذا، قاطع المسلمون الاستقتاء في موضوع استقلال مقدونيا عن يوغسلافيا، الذي حددت السلطات المقدونية يوم 8 سبتمبر 1991 موعداً له. وأعلن قادتهم السبب، في قولهم: "لقد تقدمنا إلى الحكومة المقدونية بعدد من الطلبات، هي شروط للمشاركة في هذا الاستفتاء. وكان على رأسها تصنيفاً، نحن الألبان في مقدونيا، مواطنين من الدرجة الأولى، مثل القوميات الأخرى. وضرورة اعتماد اللغة الألبانية لغة رسمية في المناطق، التي يزيد فيها عدد الألبان على خمسين في المائة، أسوة بالقومية المقدونية. ولكنها تجاهلت مطالبنا تجاهلاً تاماً".

وقد تصاعد التوتر، عندما أعلنت القيادات الشعبية للمسلمين الألبان، في مقدونيا، إجراء استفتاء في شأن رغبة المسلمين الألبان في الاستقلال بالمنطقة التي يعيشون فيها، والتي تبدأ من مدينة كومانو، على بعد أربعين كيلومتراً من العاصمة سكوبيا، وحتى الحدود الألبانية؛ وهي المنطقة التي تُعَدّ، في الأصل، أرضاً ألبانية. وقد أحبطت السلطات المقدونية هذا الاستفتاء، واعتقلت عناصر القيادات الداعية إليه. وتوجد أخطار عديدة لانتقال الحرب الأهلية، الدائرة في البلقان، إلى مقدونيا، التي يتنازع فيها اليونان وصربيا وألبانيا وبلغاريا.

وإذا كان المسلمون، الألبانيو الأصل، يشكلون 40% من سكانها، فإن الباقين هم من اليونان والسلاف. وهي تركيبة سكانية غير متجانسة، توحي بإمكانية وقوع صراع داخلي، وبتدخل عسكري من الدول المجاورة لها، لحماية الأقليات التابعة لها. ويزيد الوضع تأزماً، أن وجودها، ككيان سياسي، ليس بالوجود الراسخ في المنطقة، إلى جانب ما تعانيه من ضعف اقتصادي وعسكري، حاد.

ومن ثم، فأطماع الدول المحيطة بها في التوسع على حساب وحدة أراضيها، لا حصر لها. وأكثر الدول البلقانية طمعاً في أراضي مقدونيا، هي اليونان المجاورة لها في الجنوب، حيث نسبة كبيرة من السكان غير المسلمين هم من اليونانيين، ناهيك بأن اسم "مقدونيا" نفسه مشتق من اليونانية. يلي اليونان، طمعاً، صربيا، بزعم أن مقدونيا كانت إحدى الجمهوريات، التي كانت ضمن الاتحاد اليوغسلافي السابق. وإذ أن صربيا هي الوريث الأكبر لهذا الاتحاد، بعد تفككه، فإنها أحق بالسيطرة على مقدونيا. فضلاً عن تذرعها بأن نسبة من سكانها، هم من السلافيين. وإلى جانب اليونان وصربيا، هناك بلغاريا، المجاورة لمقدونيا من الغرب، وتُعَدّ من أكثر دول البلقان إعلاناً لأطماعها في أراضي مقدونيا، زاعمة أنها جزء من أراضي بلغاريا. ويساعدها على التمادي في هذا الادعاء، أن لغة المقدونيين، هي تحصيف للغة البلغارية.

 ثم تأتي ألبانيا، بعد ذلك، في قائمة دول البلقان الطامعة في مقدونيا، وهي التي تجاورها من الشرق، وذلك لوجود أقلية ألبانية كبيرة في مقدونيا تعيش على الحدود مع ألبانيا. وبينما تشير التقارير إلى أن هذه الأقلية يبلغ تعدادها 425 ألف ألباني، فإن الألبان يصرون على أنها تبلغ المليون نسمة. ولأن العقيدة القومية الألبانية الراسخة، ترى أن الحدود الطبيعية لألبانيا هي تلك الحدود التي تضم كل الألبان في البلقان، ومنهم سكان كوسوفو وألبان مقدونيا، فإن الرغبة الألبانية في اقتطاع جزء من مقدونيا، حية في الأذهان، وإن أخمدها، مؤقتاً، الضعف العسكري الحالي لألبانيا.

لذلك، لم يكن غريباً، أن اليونان وصربيا، المجاورتين لمقدونيا، من الجنوب والشمال، تراقبان الأطماع البلغارية والألبانية بتوجس، ذلك لأن مصالحهما، تقتضي التدخل الفوري، لمنع تقسيم تلك الدولة بين جارتَيهما، إذا ما أحستا ببدء وضع هذه الأطماع موضع التنفيذ. لذلك، فإن موقف صربيا واليونان المشترك، وهما الحليفان الأرثوذكسيان، تاريخياً، في المنطقة، يرتكز على حاجة البلدين إلى وجود طريق بري مفتوح بينهما، يسمح لليونان بالمرور إلى وسط أوروبا، ويضيف إلى الصرب، في الوقت نفسه، عمقاً (أرثوذكسياً) إستراتيجياً، نحو الجنوب، في منطقة، تؤدي فيها الطائفية والعِرقية دوراً لا يستهان به. ولأن بلغاريا وألبانيا دولتان لهما علاقات وثيقة بتركيا، والتي تعَد خصماً رئيسياً لكلٍّ من اليونان وصربيا، فإن السماح لهما بتقسيم مقدونيا بينهما، يعَد ضرراً إستراتيجياً بالغاً في المنظور اليوناني ـ الصربي، لا بدّ أن يواجه بالقوة. وتتردد، بكثرة، أخبار عن تنسيق سياسي ـ عسكري، بين اليونان وصربيا، لتبنّي مخطط مشترك لتقسيم مقدونيا بينهما، من خلال تدخّل عسكري مشترك، ومسبق، قبْل أن تسارع إليه بلغاريا وألبانيا. وقد عقدت اجتماعات عديدة، على مستوى عالٍ، بين مسؤولين، يونانيين وصربيين، لبحث إمكانية التدخل العسكري المشترك في مقدونيا، في إطار السيناريوهات المحتملة.

لذلك، لم يكن غريباً، في إطار إدراك الولايات المتحدة الأمريكية لأخطار حدوث مواجهة بين دول هذه المنطقة، أن تبادر واشنطن إلى إرسال 300 جندي أمريكي إلى عاصمة مقدونيا، سكوبيا، للعمل تحت إشراف الأمم المتحدة، كمراقبين للأوضاع في الإقليم، خاصة بعد أن حذرت اليونان، أنها سوف ترسل قواتها إلى إقليم مقدونيا، كي توقف أي تدفق للاجئين المسلمين، إذا ما امتدت الحرب الأهلية إلى كوسوفو. كما أوضحت الإدارة الأمريكية، أنها ربما ترسل أعداداً إضافية أخرى من الجنود الأمريكيين إلى المنطقة، لضمان عدم انتشار الحرب في مقدونيا وكوسوفو، وحتى لا تمتد إلى ألبانيا ودول أخرى مجاورة في البلقان.

كما حركت الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك، بعض قطع الأسطول السادس، إلى المياه الإقليمية الألبانية. وكان هذا التحرك الأمريكي، السابق لتطور الأوضاع في هذه المنطقة، تحسباً من الولايات المتحدة لأمريكية لاشتعال الحرب فيها، وتحسباً من تصاعد الأحداث، الذي ربما لا يعطي المجتمع الدولي وقتاً لممارسة الدبلوماسية الهادئة، على النحو الذي جرى في البوسنة، إذ قد تمتد نيران الحرب إلى باقي بلدان البلقان بسرعة تفوق ما يمكن توقعه. غير أن القوة التي أرسلتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى مقدونيا، لا تكاد تكفي حتى لمراقبة الحدود الطويلة، الممتدة بين مقدونيا وكلٍّ من كوسوفو وألبانيا، ناهيك من الصعوبة البالغة للتدخل لفض اشتباك مسلح، قد يقع في أي وقت، بين العرقيات المختلفة، المتربصة بعضها ببعض، ولا سيما أن الصرب لم يعترفوا بمقدونيا، كدولة مستقلة.

3. المسلمون في جمهورية صربيا والجبل الأسود

يعيش المسلمون في صربيا والجبل الأسود أوضاعاً بائسة، على الصعيد السياسي، فهُم، على الرغم من كونهم يشكلون أقلية كبيرة، إلا أنهم محرومون من أي نشاط سياسي، ويحتلون المرتبة الدنيا في مستوى الدخل الاقتصادي، وفي المستوى الاجتماعي. ناهيك من كونهم عرضة، باستمرار، للعدوان، من قبل الصرب. كما تعرض مسجدهم الوحيد في بلجراد للعدوان عدة مرات، حتى مفتي العاصمة الصربية، الشيخ حمدي يوسف، تعرض، بدوره، للاعتداء. وأكثر ما يخشاه المسلمون في صربيا والجبل الأسود، هو التعرض من جديد لمذابح جماعية، كتلك التي بقيت ذكرياتها ماثلة أمام أبصارهم، حينما ارتكب الصربيون أبشع أنواع المذابح ضدهم، في فترة ما بين الحربَين العالميتَين، الأولى والثانية، ولا سيما أنهم يفتقرون إلى أي دعم، خارجي أو داخلي، بحكم موقعهم، كأقلية صغيرة وسط محيط صربي، لا يخفي حقده على الإسلام والمسلمين، وتقوده مجموعة من العنصريين المتطرفين.

أما بالنسبة إلى مسلمي منطقة "السنجق"، الذي كان جزءاً من البوسنة والهرسك، حتى توقيع معاهدة برلين، عام 1878، حينما احتلت النمسا والمجر البوسنة والهرسك، واقتسمت صربيا والجبل الأسود منطقة "السنجق"، الذي يكتسب أهميته بسبب موقعه ذي الأهمية الجيو ـ إستراتيجية، بالنظر إلى كونه يشكل حلقة الوصل بين المسلمين في البوسنة والهرسك وإخوانهم في كوسوفو وألبانيا ـ فقد تعرض المسلمون فيه لشتى ضروب العدوان والاضطهاد، ومختلف أنواع التعذيب والاعتقال والإرهاب. لذلك، طالب المسلمون في هذا الإقليم (السنجق) بالاستقلال عن جمهوريتَي الصرب والجبل الأسود. وقد شارك زعيم حزب العمال الديموقراطي في السنجق، سليمان أوجليانين، في مباحثات السلام، التي عقدت في لاهاي، برعاية الأمم المتحدة، وأعلن :"إننا نطالب بأن يكون السنجق منطقة لها حكمها الذاتي. ويحق لها، بعد ذلك، أن تختار إلى من تنضم. ولا بدّ من أن تعود السلطة في السنجق إلى أيدي أصحابها المسلمين، الذين انتزعت منهم كل المراكز الحساسة في بلادهم". ويستشهد سليمان أوجليانين بتصريح لزعيم حزب التجديد الصربي، في 9 سبتمبر 1990، للبرهان على نيات الصربيين تجاههم، قال فيه: "أما أنتم، أيها المسلمون في السنجق، فسوف نمهد لكم الطريق للرحيل إلى مكة والمدينة وإيران وتركيا، ولا يمكنكم أن تعيشوا هنا، فهي ليست أرضاً إسلامية".

4. المسلمون في كوسوفو

يعَد إقليم كوسوفو أحد إقليمَين يخضعان، حالياً، لجمهورية صربيا. والإقليم الآخر هو فوفودينا ذو الأغلبية المجرية. وكان هذان الإقليمان، قبل تفكك الاتحاد اليوغسلافي، يتمتعان بالحكم الذاتي، طبقاً للدستور اليوغسلافي، عام 1974. وعلى الرغم من أن المسلمين في كوسوفو، يشكلون أغلبية تصل نسبتها إلى 90%، والباقي أقلية صربية، إلا أن هذه الأقلية تملك السلطة والسيطرة على جميع مظاهر الحياة العامة في هذا الإقليم، خاصة في مجالَي الأمن والقضاء. ولا يملك المسلمون أي حقوق سياسية. ناهيك من تدهور مستواهم، الاقتصادي والاجتماعي، قياساً بما تتمتع به الأقلية الصربية من حقوق سياسية كاملة، وامتيازات اقتصادية، جعلتاها تعيش في مستوى اجتماعي مرتفع. وكان الرئيس الصربي، ميلوسيفيتش، قد ألغى الحكم الذاتي، الذي يتمتع به هذا الإقليم، عام 1989، وحل البرلمان المحلى، وضم الإقليم إلى صربيا.

وقد دعم ميلوسيفيتش هذه الخطوة بأن أرسل حوالي 30 ألف جندي صربي و25 ألف من رجال الشرطة إلى هذا الإقليم، معززين بأعداد من الدبابات والعربات المدرعة والطائرات العمودية. وبعد أن أقاموا نقاط تفتيش عسكرية، في المدن والقرى وتقاطعات الطرق المهمة، وفي مزارع المسلمين الألبان، بدأوا في اضطهاد المسلمين، لإجبارهم على الهجرة من الإقليم. وقد نجح الصرب في ذلك، إذ هاجر، بالفعل، حوالي 5 آلاف مسلم من كوسوفو إلى ألبانيا ومقدونيا، وحل محلهم 7 آلاف صربي، قدِموا من أقاليم مختلفة في صربيا. كما فصل 120 ألف مسلم من وظائفهم، إلى جانب تعرض أكثر من 100 ألف مسلم للاعتقال، من دون تحقيق، ناهيك من إغلاق الجامعات والمدارس في وجْه الطلاب المسلمين.

وعلى الرغم من الأسباب العديدة، التي كان من المكن أن تدفع مسلمي كوسوفو إلى الثورة على السلطات الصربية، إلا أنهم، مارسوا سياسة ضبط النفس، حتى يُفوِّتوا على الصربيين، أن يفعلوا بهم ما فعلوه بمسلمي البوسنة والهرسك، خاصة بعد أن رفضت هذه السلطات الاعتراف بنتائج الانتخابات، التي أجراها المسلمون في كوسوفو، وجاءت بـ "إبراهيم روجوفا" رئيساً لهم. وهو ما دفع المسلمين إلى طلب وضع الإقليم تحت الإشراف الدولي، من أجْل تجنب احتمالات نشوب صراع مسلح واسع. وكان روجوفا قد حذَّر السلطات الصربية من أنه إذا نشبت ثورة المسلمين في كوسوفو، فإنها، من المؤكد، ستؤدي إلى تورط دول مجاورة في الصراع، مثل ألبانيا وتركيا واليونان وبلغاريا ورومانيا.

وفي وسط أجواء التوتر هذه، بدأت مجموعات من المسلمين المتشددين، في كوسوفو، تدعو إلى انتفاضة مسلحة، رداً على أعمال القمع الصربية. وقد اندمج كل الحركات الوطنية المعادية للصرب في حركة واحدة، هي "الحركة القومية لتحرير كوسوفو"، التي رأت أن المقاومة، بشقَّيها السلبي والإيجابي، هي الحل الوحيد، الذي لا بديل منه لانتزاع الحقوق، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، للأغلبية المسلمة، التي تطالب بالحرية والمساواة. وقد بدأ السلاح ينتشر في أيدي المسلمين، في المدن والقرى والمزارع، استعداداً للدفاع عن النفس، خوفاً من تكرار ما حدث لمسلمي البوسنة. وأكد قادة هذه الحركة، أنه إذا ما امتدت الحرب إلى كوسوفو، فإنهم لن يكرروا الأخطاء، التي وقع فيها مسلمو البوسنة، حين التزموا بالدفاع فقط عن أنفسهم، بل سينقلون الحرب إلى قلب صربيا نفسها. كما ناشدوا تركيا وألبانيا أن تمدّا لهم يد المساعدة، السياسية والعسكرية والاقتصادية. وقد استجاب الرئيس التركي الراحل، تورجوت أوزال، لهذه الدعوة، حين قام بزيارة ألبانيا، ودعا في خطابه أمام البرلمان الألباني، إلى التعاون بين البلدَين، من أجل حرية كوسوفو واستقلالها.

وفي المقابل، أعلن قادة الصرب تمسكهم بالسيطرة على الإقليم بجميع أراضيه، ورفضهم أي نقاش حول انفصاله. وإضافة إلى ما نشروه من قوات صربية داخل الإقليم، فقد عززوا قواتهم على الحدود مع ألبانيا، وأقاموا عدداً من بطاريات الصواريخ، أرض ـ جو، أرض ـ أرض، وأجروا مناورات تدريبية واسعة لعدد كبير من القوات، بالقرب من الحدود الصربية ـ الألبانية. وقد هدد كل من ألبانيا وتركيا بالتدخل، إذا ما انتقلت الحرب من البوسنة إلى كوسوفو. كما طالبت ألبانيا الأمم المتحدة بإجراء استفتاء لتقرير مصير هذا الإقليم، الذي تعده تيرانا امتداداً طبيعياً لأراضيها.

5. المسلمون في البوسنة والهـرسك

كانت البوسنة والهرسك، منذ الأيام الأولى للفتح العثماني، القاعدة الأولى لنشر الإسلام في أوروبا. فأصبحت، بذلك، مركزاً للعلم والثقافة والإشعاع الحضاري الإسلامي، وهو ما تزال آثاره باقية حتى اليوم. ولقد كان لذلك انعكاسه على ما حققه المسلمون من نجاح كبير في التعايش مع القوميات الأخرى، بفضل تسامحهم ومحبتهم للسلام. وأمكنهم، في عامَي 1989 و1990، تحقيق إنجازات كبيرة، في مجال العمل السياسي في جمهوريتهم، التي تداعت جدران الشيوعية من حولها. ولقد بذل مسلمو البوسنة جهوداً مضنية، من أجْل المحافظة على تراثهم الإسلامي، وإصرارهم على التمسك بدينهم وعقيدتهم، للوصول إلى المرحلة الحاسمة، التي يمكن بها تجنّب، أو تجاوز، القيود، التي فرضها الغرب، في محاولة منه لمنع استقلال الجمهورية بشتى الطرق. فبعد أن أعلنت جميع الجمهوريات اليوغسلافية، باستثناء البوسنة والهرسك، استقلالها، لم يكن أمام البوسنة والهرسك خيار آخر، سوى أن تحذو حذوها جميعاً في ذلك، فأعلنت، بدورها، استقلالها، في 15 يناير 1992.

وعلى الرغم من اعتراف الدول الأوروبية باستقلال صربيا وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا، فور إعلانه، إلا أن البوسنة، عندما أعلنت استقلالها، واجهت من الدول الأوروبية عراقيل عديدة، من أجْل الاعتراف باستقلالها؛ تمثل أبرزها في ضرورة الحصول على 51% من مجموع الذين يحق لهم التصويت من القوميات كلها، على قرار انفصال البوسنة والهرسك واستقلالها. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو، للوهلة الأولى، شرطاً سهلاً، لكون المسلمين يشكلون الأغلبية السكانية، عددياً، إلا أن هناك قيداً مفروضاً، في هذا الخصوص، يتمثل في نسبة الذين يحق لهم التصويت، طبقاً للقانون الاتحادي. فالمسلمون، الذين يشكلون حوالي 45% من سكان جمهورية البوسنة، ليس لديهم إلا 40% ممن يحق لهم التصويت.

ومقابل ذلك، فالصرب، الذين يشكلون نسبة 31% فقط من عدد السكان، لديهم أكثر من 55% ممن يحق لهم التصويت. ولقد اقترنت عملية إعلان الاستقلال في البوسنة بخوف المسلمين من مواجهة الصرب، بجيشهم الاتحادي وميليشياتهم، التي كانت قد تشكلت داخل البوسنة، قبل إعلان استقلالها، بدعم من صربيا. ولقد زاد من ثقل هذه المخاوف ذلك الاقتتال العنيف، الذي استمر أشهراً بين الكروات والصربيين على حدودهما الشمالية، مما أعاد إلى الذاكرة قصة مذابح المسلمين على يد الصرب، في الحرب العالمية الثانية، والتي راح ضحيتها أكثر من 120 ألف مسلم. فضلاً عن أن كل القوميات تمكنت من الحصول على الأسلحة والاستعداد للحرب، في ما حُرم مسلمو البوسنة والهرسك من معظم وسائل الدفاع.

ولقد حاولت حكومة البوسنة والهرسك التحرر من تلك المخاوف، واستباق الأحداث؛ للحصول على الاعتراف الدولي باستقلالها. وأفضل تعبير عن سياسة البوسنة، في هذه المرحلة، ذلك البيان الذي ألقاه وزير خارجيتها حارث سيلاديتش، في مكة المكرمة، عند زيارته المملكة العربية السعودية، في 13 فبراير 1992، والذي قال فيه: "لقد نجحنا، حتى الآن ـ ولله الحمد ـ في إبعاد شبح الحرب وشرها عن جمهورية البوسنة والهرسك، على الرغم من استمرار الحرب بين الكروات والصرب، على أرض كرواتيا. ولقد أعلنت جمهورية البوسنة والهرسك حيادها في هذه الحرب. وإننا نواجِه بعض الصعوبات، وننتظر الاستفتاء، للحصول على الاعتراف الدولي بالاستقلال الكامل لهذه الجمهورية. وهناك بعض الدول، مثل بلغاريا وتركيا، قد اعترفت، رسمياً، بجمهورية البوسنة والهرسك. ونأمل، بعد الاستفتاء، الذي سيُجرى في أول مارس، الحصول على اعتراف الدول، العربية والإسلامية، إضافة إلى دول أوروبية غربية والولايات المتحدة الأمريكية. ولقد طلبنا الاعتراف من دول العالم، رسمياً، ومن كل دولة على حدَة. إن الحرب بين الكروات والصرب، التي مضى عليها ستة أشهر، قد توقفت بفضل الوساطة الأوروبية، وبجهود الأمم المتحدة. ومن حُسن الحظ، أن اتفاقية وقف إطلاق النار، قد وُقِّعت في عاصمة البوسنة والهرسك، سراييفو. ونأمل وصول قوات حفظ السلام من الأمم المتحدة، بأسرع وقت ممكن.

إن سياسة البوسنة والهرسك تقوم على أساس حل كل الخلافات بالطرق السلمية. إن نسبة المسلمين في البوسنة والهرسك تبلغ 44%، وأمّا في الصرب، فتبلغ 31%، وفي كرواتيا 18%. وحدود البوسنة والهرسك معروفة ومحددة، ومعترف بها عالمياً. وإذا كان هناك نسبة معينة، لا تريد استقلال البوسنة والهرسك، فالمفروض أن يرتفع صوت الأكثرية، ولا ريب أن هذه الأكثرية تؤيد الاستقلال. إن للشعب الصربي أحزابه السياسية، وهناك حزب من هذه الأحزاب، هو "الحزب الديموقراطي الصربي"، يأخذ منهجاً متطرفاً، ويطالب بالانضمام إلى صربيا. ونحن نعارض، طبعاً، مثل ذلك الانضمام، ونؤيد الاستقلال. إننا نريد السلام، وحُسن الجوار والتعايش، كما عشنا مئات السنين، ولا نريد التطرف. والمهم هو التعايش، في جمهورية البوسنة والهرسك؛ وهذا مهم جداً في هذه الجمهورية، لأنه لا يوجد أقليات، ولا يوجد شيء اسمه أقلية، فالجميع يتمتعون بالمساواة في الدستور، وأمام القانون، وكلنا سواء. ويجب علينا ألا نفرق في النظام والقانون ما بيننا، وكذلك ما بين الشعوب. ولقد أصبحنا بذلك نموذجاً للتعايش السلمي، نعيش بسلام، منذ العهد التركي وحتى الآن. أما مشكلة الصرب، فإنهم أخذوا طريق القوة والحرب، ويريدون أن يحلوا مشاكلهم بالقوة. وعالم اليوم لا يعترف بالقوة، فعصر القوة قد انتهي إلى الأبد ـ إن شاء الله ـ ونأمل أن يكون هذا هو عصر التحضر والسلام والرقي، وليس عصر القوة والدبابات والجنود".

إن ما جاء على لسان وزير خارجية البوسنة والهرسك، وما عبّر عنه شيوخ المسلمين البوسنيين، آنذاك، من أمنيات وطموحات، سيبقى وثيقة تاريخية، تعكس حقيقة سياسة البوسنة والهرسك، خلال هذه الفترة، التي أعلنت فيها استقلالها، وقبل أن تندلع الحرب على أرضها. لأنه في هذا الوقت من بداية عام 1992، الذي كانت فيه البوسنة تأمل تعايشاً سلمياً مع الصرب، كان الصربيون، وقد فرغوا من قتال الكرواتيين، يعِدون العدة لفتح جبهة الحرب الثانية ضد المسلمين، هذه المرة، وعلى أرض البوسنة والهرسك نفسها. وهذا ما عبَّر عنه نائب الرئيس اليوغسلافي، برانكو كوسيسنتيش، في 16 فبراير 1992، عندما قال: "إنني لن أسمح بسحب الجيش الاتحادي اليوغسلافي من جمهورية البوسنة والهرسك، ما دمت عضواً في مجلس الرئاسة. إنني لن أوقع قراراً بسحب الجيش اليوغسلافي من البوسنة والهرسك أبداً. ويجب أن يعرف ذلك كل من يتصور أن السيناريو، الذي حدث في كرواتيا وسلوفينيا، يمكن أن يتكرر في البوسنة والهرسك".

ومن الواضح أن السبب في عدم انسحاب الجيش الاتحادي اليوغسلافي من البوسنة والهرسك، كما انسحب من كرواتيا وسلوفينيا وسواهما، أن زغرب ولوبليانا تمتلكان قدرة قتالية كافية، إضافة إلى أنهما تحظيان برعاية أوروبا ودعمها (خاصة ألمانيا). بينما حق البوسنة والهرسك، هو أعزل من السلاح، ومحروماً من الدعم. لذلك، صدقت جميع التوقعات، حول تحرك صرب البوسنة والهرسك في اتجاه حكومة صربيا، واستجابتهم لنداء التطرف والعنف المضادّ للمسلمين.

وهو ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية، نقلاً عن وكالة الأنباء الصربية، التي ذكرت: "وجّه الصربيون في البوسنة والهرسك، تهديداً بأنهم سيشكلون إقليماً، له حكمه الذاتي، إذا ما استقلت البوسنة والهرسك عن يوغسلافيا. وأن الصرب في منطقة بانيالوكا، في شمالي البوسنة، قد صوتوا في البرلمان، في 25 فبراير 1992، في مصلحة الاستقلال والانضمام إلى يوغسلافيا السابقة، إذا ما انفصلت البوسنة والهرسك". وقد جاء هذا الإجراء من جانب الصرب في منطقة بانيالوكا، بعد نداء من كروات البوسنة والهرسك ومسلميها، بمطالبة الجيش اليوغسلافي الاتحادي بالانسحاب. وهو ما عبَّر عنه عضو البوسنة في الاتحاد الديموقراطي الكرواتي، ميرولاسيتش، الذي قال: "إذا أصبحت يوغسلافيا غير موجودة، فلا يمكن، منطقياً، أن يبقى هناك جيش يوغسلافي". وهو نفسه ما أكده رئيس وزراء البوسنة والهرسك، محمود شهابيتش، بقوله: "يجب على الجيش اليوغسلافي الانسحاب من البوسنة والهرسك، عند إعلان نتائج الاستفتاء في الاستقلال. وإذا لم يفعل ذلك، فسنعتبره قوة احتلال". وقد أجمع المسلمون والكروات على طلب انسحاب الجيش اليوغسلافي الاتحادي، لأن مهمته باتت محصوة في حماية الصربيين فقط.

رابعاً: الوعي الديني

في ضوء اختلاف أحوال المسلمين، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بين الجمهوريات في الاتحاد اليوغسلافي السابق، كان هناك اختلاف، كذلك، في الوعي الديني بين المسلمين في هذه الجمهوريات. ففي مقدونيا، على سبيل المثال، يوجد التزام إسلامي عام، تقريباً، حيث يحرص المسلمون، ومعظمهم من الألبان، على التمسك بفرائض الإسلام. في حين يغلب على المسلمين في كوسوفو، الطابع القومي العنصري. أما في البوسنة والهرسك، فثمة وعي إسلامي متقدم، بفضل نخبة من المثقفين المسلمين. لهذا، كان المسلمون في هذا الإقليم هم أول من عمل على تأسيس حزب سياسي، عقب تفكك الاتحاد اليوغسلافي، عام 1990.

وقد ساعد على زيادة الوعي الديني بين مسلمي البوسنة، وجود كلية ومدرسة إسلاميتَين في العاصمة سيراييفو. كذلك ما عرف عن المسلمين البوسنيين من حب للعلوم والثقافة الدينية، وقد توارثوا ذلك من أيام السلطان محمد الفاتح، عندما أوفد المسلمون، آنذاك، أبناءهم إلى مراكز العلم في الدولة العثمانية. كما تشكلت في البوسنة حركة نسائية، تمثلت في "اتحاد النساء المسلمات"، الذي كان له دور مهم أثناء الحرب، في معالجة النواحي الإنسانية: مثل إيواء المهاجرين والنازحين من مناطق القتال، وعلاج المرضى والمصابين، والمتضررين من مشاكل البطالة ... إلخ. ويمثل المسلمون في كل جمهورية "رئيس المشيخة الإسلامية". ويضم هؤلاء الرؤساء "مجلس العلماء"، كان يترأسه، عام 1991، الشيخ "يعقوب سليموسكي"، الذي كان رئيس "مجلس المسلمين"، في كافة أنحاء البلقان وأوروبا الشرقية، كذلك. وتُعَدُّ هذه المشيخات هي المرجع الرسمي، الذي يمثل المسلمين هناك. ويقابله نسق الشباب المنتظمين في حركات إسلامية، ذات طابع سياسي، ومعظمهم ممّن تعلموا علوم الدين واللغة العربية، في أقطار العالم الإسلامي. واحتكوا بإخوانهم الشباب في هذه البلاد، ممّن ينتمون إلى حركات إسلامية سياسية، بعضها يتبنّى العنف منهجاً للعمل الإسلامي. وكان لهذا الاحتكاك تأثيره في تبنّي بعض شباب مسلمي البوسنة لمبادئ هذه الحركات الإسلامية السياسية. وقد ترتب على ذلك، أن اتهم هؤلاء الشباب جيل الشيوخ بأنهم امتداد للنظام الشيوعي، الذي عيّنهم في وظائفهم، أو بارك وجودهم، في أفضل الحالات، وأنهم، من ثم، لا يمثلون النبض الحقيقي للمسلمين في يوغسلافيا. ومقابل ذلك، اتهم الشيوخ جيل الشباب بأنهم يفتقرون إلى العلم الشرعي، الذي يؤهلهم لقيادة المسلمين، وأنهم يمارسون الإسلام السياسي للوصول إلى السلطة باسم الدين، أو السيطرة على "المشيخة الإسلامية".

وعلى الرغم من الحالة الصعبة، التي كان المسلمون يَحْيَونها، أثناء الحرب، والظروف القاسية، التي كابدوها، فإن الحياة الدينية ازدادت قوة. إذ عرف المسلمون حقيقة دينهم وأهمية تمسكهم به، وضرورة توحُّد صفوفهم وكلمتهم. ولم يكن المسلمون، في وقت من الأوقات، متضامنين، ومتحدين، كما كانوا أثناء الحرب. ويرجع الفضل في ذلك إلى القيادة والإدارة الإسلاميتَين، ورجالهما الذين جاهدوا، ولا يزالون، من أجْل تحقيق أهدافهم بكل ما أُوتُوا من قوة وعزيمة. وعلى الرغم من انهيار القدرة الاقتصادية للمسلمين، ومعهم غالبية الجمعيات الإسلامية، إلا أنه أمكن بذل جهود ضخمة للحؤول دون توقف الدراسة والعمل في المعاهد والمدارس الدينية، وكذلك في الكلية الإسلامية. بل افتتح، أثناء الحرب، مدارس ومعاهد جديدة، وكان التعليم الديني يجري في جميع الأماكن المتاحة، من دون قيود.

خامساً: الوضع العسكري، عشية تفجّر الصراع في البوسنة

كان من الواضح، حتى قبْل أن تبدأ الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة، أن قوات جمهورية صربيا، المدعومة من قبل الجيش الاتحادي اليوغسلافي، الذي تسيطر عليه الحكومة المركزية في بلجراد، قد أَعدَّت نفسها جيداً لهذه الحرب، في مواجَهة القوات الكرواتية، أولاً، ثم مسلمي البوسنة، بعد ذلك. فقد أعادت تجميع قواتها وتمركزها في البوسنة، في خمس فِرق مُدَعَّـمة، وموزعة في أنحاء البوسنة، على النحو التالي:

1. في شمالي غربي البوسنة، توجد فرقة مكونة من 3 ألوية آلية، ولواء مشاة، ولواء قوات خاصة، و4 أفواج مدفعية، وفوجَيْ مهندسين عسكريين، و3 وحدات حرس حدود، و 6 كتائب مستقلة. وكانت قيادة هذه الفرقة متمركزة في منطقة بيلينا.

2. في غربي البوسنة، توجد فرقتان. إحداهما في منطقة بانيالوكا. وتتكون من لواء مدرع، ولواءَين آليَّين، و3 ألوية دفاع إقليمي، و5 أفواج مدفعية، وفوجَيْ مهندسين عسكريين، وكتيبتَيْ مشاة مستقلتَين. أما الفرقة الثانية، فقد تمركزت في منطقة ديرفار. وتتكون من لواء مدرع، ولواء آلي، ولواء صاعقة، ولواءَيْ دفاع إقليمي، و4 أفواج مدفعية، وفوج مهندسين عسكريين، وكتيبتَيْ مشاة مستقلتَين. إضافة إلى مجموعة عمليات "كينين"، في منطقة "بوسانسكو جروفو". وتتكون من لواء آلي، ولواء مشاة، ولواءَيْ قوات خاصة، و3 أفواج مدفعية، وفوج مهندسين عسكريين، وكتيبتَين مستقلتَين.

3. في شرقي البوسنة ووسطها، يوجد ثلاث فرق. أولاها في منطقة "بالي". وتتكون من لواء مدرع، و3 ألوية آلية، ولواءَيْ مدفعية، ولواءَيْ مشاة جبليين، وفوجَيْ قوات خاصة، وفوج مهندسين عسكريين. والفرقة الثانية في منطقة "نفسجين". وتتكون من 4 ألوية آلية، ولواءَيْ مدفعية، ولواءَيْ مشاة جبليين، وفوج قوات خاصة، وفوج مهندسين عسكريين. أمّا الفرقة الثالثة في منطقة "بيليكا"، في الهرسك، فكانت تتكون من 3 ألوية آلية، ولواء مشاة، ولواءَيْ مدفعية، ولواءَيْ مشاه جبليين، ولواء محمول، وفوج قوات خاصة، ووحدات دعم أخرى.

4. أما القوات الجوية والدفاع الجوي، فقد خصصت القيادة العامة للجيش الاتحادي، في بلجراد، لدعم قواتها في البوسنة والهرسك، حوالي 50 طائرة مقاتلة، و20 طائرة عمودية مسلحة واقتحام، وعدد من بطاريات صواريخ أرض ـ جو، سام 2، 3، 6.

وعندما بدأت الضغوط الدولية تُمارس ضد الحكومة الاتحادية، في بلجراد، لسحب قواتها المتمركزة في البوسنة والهرسك، ادّعت أن القوات الموجودة في البوسنة، هي، أصلاً، صربية من أبناء صرب البوسنة. في حين أن 20% فقط من هذه القوات، كانت من صرب البوسنة، والباقي يتبع الجيش الاتحادي. لذلك، سحبت بلجراد حوالي 14 ألف جندي فقط من البوسنة، وفي مقابلهم، وضعت 80 ألف جندي من الجيش الاتحادي تحت قيادة صرب البوسنة، التي كان يسيطر عليها كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة. كما عمدت حكومة بلجراد، كذلك، إلى إحالة أعداد كبيرة من قادة الجيش الاتحادي وضباطه إلى التقاعد، ثم ألحقتهم بجيش صرب البوسنة، ليقودوا الميليشيات الصربية.

ويقدر حجم قوات صربيا بحوالي 150 ألف جندي نظامي، إلى جانب احتياطي يقدر بحوالي نصف مليون جندي. وتمتلك قرابة ألف دبابة، و1500 عربة مدرعة، و1400 مدفع هاوتزر، و200 راجمة صواريخ متعددة المواسير، و6500 هاون، ولواءَيْ صواريخ أرض ـ أرض، (سكود ـ ب)، ولواء صواريخ تكتيكية أرض ـ أرض (لونا)، و300 صاروخ أرض ـ جو قصير المدى (محمول على الكتف)، و250 منصة صواريخ أرض ـ جو، و400 مدفع مضادّ للطائرات. يدعم هذه القوة البرية حجم من القوات الجوية، يقدر بحوالي 500 طائرة قتال، و250 طائرة عمودية، هجومية ونقل. أمّا حجم القوات البحرية، فيقدر بحوالي 5 غواصات، و4 فرقاطات صواريخ، و50 زورق دورية مسلحاً، وخفر سواحل، و15 سفينة رص وإزالة ألغام، و35 سفينة إبرار بحري، و5 سفن مساعدة، للإمداد والإصلاح. ويوجد من هذه القوات تحت التصرف المباشر لقائد صرب البوسنة، 130 ألف جندي عامل واحتياطي، و300 دبابة، و200 عربة مدرعة، و600 مدفع.

وقد كانت مراكز القيادة والسيطرة، السياسية والعسكرية، للقوات الصربية، داخل البوسنة، في المناطق الآتية: بانيالوكا، حيث القيادة السياسية لكارادازيتش وقيادة منطقة غربي البوسنة، وسيلستا، وفيها قيادة منطقة شمالي غربي البوسنة، وبالي، وبها قيادة شرق البوسنة، وبيليكا، وفيها قيادة منطقة الهرسك.

وبذلك، فإن القوات الصربية، التي تقاتل في البوسنة ضد المسلمين، هي خليط، يضم قوات نظامية من الجيش الاتحادي، الذي يعمل تحت قيادة جمهورية صربيا، إضافة إلى ميليشيات، عسكرية وشبه عسكرية، من الصربيين المتعصبين، والخارجين على القانون وقطاع الطرق، الذين تشكلت منهم ميليشيات "النسور البيض" و"الشينيك"، التي يقدَّر عددها بنحو 67 ألف فرد، وهم متخصصون في ممارسة عمليات التطهير العِرقي. هذا إلى جانب حوالي 25 ألف متطوع، من الروس والرومانيين واليونانيين والإسرائيليين.

إلا أن هذا التجمع الضخم للقوات الصربية، كان يعاني نقاط ضعف كثيرة، على الصعيد النوعي. أبرزها افتقادها الانضباط العسكري، بالنظر إلى التكوين الغريب، والشاذ، للميليشيات الصربية، التي يتألف معظمها من مجرمين وقطاع طرق ومرتزقة أجانب، يصعب السيطرة عليهم. إضافة إلى انخفاض مستوى المهارة القتالية. أمّا قوات الجيش الاتحادي، التي كانت تقاتل في البوسنة، فقد كانت تعانى التفكك التنظيمي، بالنظر إلى التبعيات، العِرقية والطائفية، العديدة، الموجودة داخل صفوفه، إلى جانب نقص كبير في تخصصات مهنية مهمة، كانت موجودة في السابق، ثم بعد انفصال الجمهوريات واستقلالها، انضم المتخصصون من أبناء كل جمهورية إلى جيشها الجديد. ناهيك من عدم الاهتمام بتحديث الجيش الاتحادي، أسلحةً ومعداتٍ، التي كانت قد تقادمت، إذ كانت تنتمي إلى جيل الستينيات (مثل الدبابات (ت ـ 55)، والمقاتلات (ميج ـ 21)، وأنظمة الدفاع الجوي سام 2، وسام 3).

وقد أدى النقص في الوقود، بسبب قيود استيراده من الخارج، بعد قرارات مجلس الأمن، إلى ضعف التدريب. كما أن عملية تسييس الجيش، التي أعقبت انفصال الجمهوريات، قد أدت إلى إضعاف قيادته وضباطه، مما أثر، سلباً، في نظام القيادة والسيطرة فيه، والقدرة على التخطيط العملياتي، وإدارة تحركات وعمليات قتالية واسعة في مسرح العمليات، واتّباع أساليب قتال متخلفة، على المستويين التعبوي والتكتيكي.

لذلك، لم يكن غريباً أن تتسم أعمال الجيش الاتحادي القتالية بالفوضى أكثر من اتسامها بالقتال المنظم، وكانت أشبه بتكتيكات الحرب الأهلية، وقتال الشوارع، التي تتسم بالوحشية والدموية، وتنسجم مع سياسة التطهير العرقي. وقد أدى تنازع أعمال القيادة وإصدار الأوامر والتعليمات، وتضاربها بين القيادات، السياسية والعسكرية، التابعة لجهات صربية متعددة، في بلجراد وبانيالوكا، إلى عدم تنفيذ الوحدات في الميدان أوامر القيادة السياسية في بلجراد، خاصة في ما يتعلق بأوامر وقف إطلاق النار المتعددة، التي صدرت بموجب قرارات دولية، ولكن لم تجد طريقها إلى التنفيذ.

واستطراداً، فإن القوات الصربية، فشلت في تحقيق أهدافها ومهامها الإستراتيجية، المتمثلة في بسط السيطرة الكاملة على أراضي البوسنة، على الرغم من تفوّقها العسكري الكاسح على القوات المسلمة. بل أمكن القوات المسلمة محدودة القوة، أن تلحق الهزيمة بالوحدات الصربية المسلحة، في الحالات القليلة، التي أتيح للمسلمين أن يدخلوا، خلالها، في قتال متكافئ ضد الصرب. وهو ما برز وتأكد في القتال، الذي دار في وسط البوسنة، التي استعصت مدنها وقراها على القوات الصربية. كذلك في مدن جورازدي وسربرنيتشا وتوزلا والعاصمة سراييفو، رغم الحصار الذي ضربه الصرب عليها لأكثر من عامَين، وعلى الرغم من تعرضها للقصف المدفعي، شبه المتواصل، من القوات الصربية. ولم تسقط سربرنيتشا، إلا بعد أن سحبت القوات الدولية الأسلحة من المسلمين المدافعين عنها.

أما الكروات، الذين نقضــوا تحالفهم مع المسلمين في البوسنة، فقد كانوا يحتفظون بحوالي 60 ألف مقاتل و50 دبابة، ومثلها من العربات المدرعة، إضافة إلى حوالي 60 قطعة مدفعية، وعدد من الطائرات العمودية. وكان لهم محاور إمداد متصلة، ومستمرة، مع الجمهورية الأم، كرواتيا، تمدهم، رأساً من العاصمة الكرواتية، زغرب، بالأسلحة والذخائر والمعدات والمواد الحربية، التي يحتاجون إليها. إلا أنه يلاحظ من سير الأعمال القتالية، أن القوات الكرواتية في البوسنة، كانت أفضل تنظيماً وتدريباً وتسليحاً من القوات الصربية، كذلك في نواحي المهارة القتالية. الأمر الذي انعكس في دقة تنظيم وتخطيط وإدارة عملياتهم القتالية. وكان الكروات قد أنشأوا "مجلس الدفاع الكرواتي"، لتخطيط وإدارة العمليات الحربية، والقيام بمهام القيادة والسيطرة على المستوى الإستراتيجي.

ورغم قرارات الأمم المتحدة، التي تمنع جمهورية كرواتيا من تقديم أي دعم عسكري إلى كروات البوسنة، إلا أن وحدات عسكرية كرواتية، تقدر بحوالي 30 ألف جندي، مدعمين بالمدرعات، شاركت في العمليات الحربية الدائرة في البوسنة، خاصة أثناء الصراع الذي دار على إقليم "يوسافينا"، وحول مدينة موستار، المقسمة بين المسلمين والكروات. وعلى الرغم من توقيع رئيسَي البوسنة وكرواتيا اتفاقية دفاع مشترك، تنص على مشاركة القوات الكرواتية القوات المسلمة في القتال ضد الصرب، إلا أن الكروات رفضوا مطالب حلفائهم المسلمين، الداعية إلى تجميع كافة القوات المدافعة عن البوسنة والهرسك، تحت قيادة عامة مشتركة. وأعلن قائد مجلس الدفاع الكرواتي للهرسك الغربية، أن قواته تعدّ نفسها القوات الشرعية الوحيدة في المنطقة، بل أعلن تأسيس دولة هرسك ـ البوسنة الكرواتية.

وقد كشف اندلاع القتال بين الكروات والمسلمين، في أواخر أبريل 1992، عن وجود تحالف صربي ـ كرواتي سرّي، انعكس، بوضوح، في قتال الكروات ضد المسلمين، في مدن "بروزور"، و"موستار"، و"ترافنيك"، حيث طردت القوات الكرواتية السكان المسلمين، ومارست ضدهم عمليات التطهير العِرقي نفسها، التي مارستها الميليشيات الصربية. بل فتحت معسكرات اعتقال للمسلمين على غرار معسكرات الاعتقال الصربية، التي انتشرت في أنحاء المدن، التي استولت عليها من المسلمين.

أما على جانب القوات المسلمة، فإنه من الواضح، أن القيادات، السياسية والعسكرية، في البوسنة، لم تتحسب جيداً لاندلاع الحرب داخل أراضي البوسنة والهرسك؛ واعتمدت على الجهود السياسية الدولية في صيانة استقلال الجمهورية الجديدة، وظنت أن القوى الدولية، لن تسمح بتقطيع أوصال البوسنة والهرسك. بل إن القادة البوسنيين، اعتمدوا، لدى استعار القتال في مدن البوسنة وقراها، على الجهود الدولية في إيقافه، وكان ذلك نوعاً من خداع النفس، وقع فيه قادة البوسنة والهرسك من دون وعي. ناهيك من انخداعهم أيضاً بنيات الكروات إزاءهم، عندما تحالفوا معهم. وكان نتيجة كل ذلك، أن الجيش البوسني، لم يستطع بناء عدد كافٍ من الوحدات العسكرية، يتلاءم مع حجم المهام الدفاعية، التي كان عليه أن يضطلع بتنفيذها، دفاعاً عن كل أراضي البوسنة، عندما تعرضت لهجوم صربي ـ كرواتي مشترك، من الخارج ومن الداخل.

كما كانت مخزونات الأسلحة والذخائر والمعدات والمهمات والمواد الحربية، غير كافية للصمود في القتال لأكثر من أيام معدودة. ساعد على ذلك عدم استيلائهم، مبكراً، على أسلحة وذخائر القوات الاتحادية، التي كانت موجودة داخل أراضي البوسنة، وعدم نزعهم سلاح القوات الصربية الموجودة في البوسنة، وذلك قبل أن تقع هذه الأسلحة والذخائر والمعدات في أيدي الميليشيات الصربية، التي تشكلت بعد ذلك. لذلك، عندما نشب القتال، فعلياً، داخل مدن البوسنة وقراها، لم يجد المسلمون في أيديهم سوى الأسلحة الخفيفة، والقليل جداً من الأسلحة الثقيلة، التي فطنوا، في آخر لحظة، إلى ضرورة الاحتفاظ بها في أيديهم.

وكان جيش البوسنة المسلم، قد بدأ تشكيله في أواخر 1992، وأوائل 1993، بإمكانات متواضعة جداً، وفي ظل ظروف صعبة للغاية، ناجمة عن فرض حظر دولي على استيراد السلاح، حتى بالنسبة إلى الأسلحة الدفاعية. كذلك لم يكن لديهم مؤخرة آمنة، يمكن أن تشكل لهم قاعدة إستراتيجية، يعتمدون عليها في بناء وحداتهم العسكرية، وبناء مخزونات احتياطية من العتاد الحربي، إذ إن كل المدن البوسنية، بما فيها العاصمة سراييفو، كانت واقعة تحت ضغط عمليات القتال والحصار. لذلك، لم يكن أمام مسلمي البوسنة، إلاّ الاستعانة بما وجدوه متروكاً لديهم من أسلحة ومعدات قديمة، ترجع إلى زمن الحرب العالمية الثانية.

وتشير معلومات المصادر البوسنية إلى أن قوة جيش مسلمي البوسنة، قد وصلت، في منتصف 1993، إلى 125 ألف فرد، مسلحين بأسلحة خفيفة (رشاشات وهاونات وصواريخ مضادّة للدبابات)، وعدد محدود من الأسلحة الثقيلة، القديمة، لا تتجاوز 60 دبابة و 30 عربة مدرعة، و50 مدفعاً. وعلى الرغم من أن المسلمين في البوسنة، كانوا يسيطرون على حوالي 40% من المصانع الحربية، التي كانت تابعة للجيش اليوغسلافي الاتحادي السابق، لوجودها على أراضيهم، إلا أن معظم هذه المصانع توقفت عن العمل، بسبب فقدان المواد اللازمة لتشغيلها، وإن كان المهندسون والفنيون البوسنيون، قد نجحوا في تشغيل بعضها، وإنتاج بعض نوعيات الأسلحة الصغيرة وذخائرها. إضافة إلى اعتمادهم على ما كانوا يغنمونه من الصرب والكروات من أسلحة وذخائر، أثناء القتال. بل كان المسلمون يشنون عمليات هجومية خاصة، في شكل إغارات على مَواقع الصرب والكروات، من أجْل الحصول على السلاح فقط.

وفي مواجهة الإستراتيجية التعرضية (الهجومية)، التي اتّبعها كل من القوات الصربية والكرواتية، وفي ضوء الخلل القائم في الميزان العسكري لمصلحتهما، لم يكن أمام القوات البوسنية المسلمة، إلا تبنّي الدفاع الثابت، لحماية المدن والقرى والأهداف الحيوية، ذات القيمة الإستراتيجية، نظراً إلى افتقارها إلى وسائل خفيفة الحركة، مثل المدرعات ومركبات العجَل، التي كان من الممكن أن تمنحهم القدرة على شن عمليات هجومية، أو هجومية مضادة، أو دفاع متحرك. لذلك، اتّسمت مواقف القوات البوسنية المسلمة، في معظم الأحيان، بردود الفعل إزاء المبادرات الصربية والكرواتية. وفي المرات القليلة، التي تمكنت فيها القوات البوسنية المسلمة من استعادة مواقع، سبق أن احتلتها القوات الصربية أو الكرواتية، كان اعتماد المسلمين على حشد قوات المشاة، بتركيز شديد، في الاتجاهات المهمة، على الرغم من افتقارها إلى وسائل نقْل آلية. وفي أحيان كثيرة، كان المسلمون يعتمدون على الدواب، كوسائل نقْل لقواتهم وأسلحتهم وإمداداتهم، خاصة في المناطق الجبلية.

وخلال المعارك الدفاعية، التي خاضتها القوات البوسنية المسلحة، كانت قيادات هذه القوات تعتمد، إلى درجة كبيرة، في تخطيطها وإدارتها للعمليات، على قدرة قواتها على الصمود داخل مَواقع حصينة ذات عمق، والعمل على تكبيد أعدائها خسائر، مادية وبشرية، جسيمة، من خلال استنزافها وإرهاقها، في محاولاتها اقتحام خطوط دفاعية محصنة، ومتتالية. حتى إنْ نجح الصرب والكروات في اختراق بعض الخطوط الدفاعية الأمامية، فإن الدفاعات الموجودة في العمق، كانت تحتوي العدو المهاجم وتحاصره، وتشعره باستمرار المقاومة، وأن استمرار الهجوم هو رهان خاسر. وهو ما كان يدفع الصرب والكروات، في أحيان كثيرة، إلى إيقاف الهجوم، والاكتفاء بالحصار، أو الانسحاب، مثلما تكرر عدة مرات في هجوم الصرب على سراييفو وجورازدي وسربرنيتشا.

ومن أجل كسر الحصار، الذي كان الصرب يضربونه حول المدن والقرى البوسنية، اعتمدت تكتيكات البوسنيين المسلمين على أسلوب شن الإغارات الليلية المفاجئة على المَواقع الصربية، وقطع طرق إمدادات القوات المعادية، وتحقيق الاتصال مع المَواقع المسلمة المنعزلة، لإمدادها بما تحتاج إليه. ومن أهم هذه الإغارات، تلك التي كان يشنها المسلمون في وادي نهر سافا، لقطع طريق الإمداد الرئيسي للقوات الصربية، والتي أثَّرت، سلباً، في عملياتها الهجومية، ووفّرت للمسلمين قدراً من حاجاتهم التسليحية.

ولمواجَهة الإستراتيجية الصربية، التي استهدفت تقطيع أوصال القوات البوسنية المسلمة، حرصت القيادة البوسنية على منح القيادات الفرعية لقواتها لامركزية في التخطيط، على المستوى التعبوي، في استخدام القوات المتمركزة في المناطق البعيدة عن وسط البوسنة، ومنحها أقصى ما في الإمكان من الاكتفاء الذاتي من الأسلحة والذخائر، وبما يكفل لها الاعتماد على نفسها والصمود في القتال لفترات طويلة. وهو ما كفل للمدن الرئيسية في البوسنة، مثل سراييفو وجورازدي، الصمود، على الرغم من قسوة الحصار والقصف المدفعي الشديد. بل تمكن البوسنيون المسلمون، على الرغم من محدودية إمكاناتهم العسكرية، أن يكبدوا القوات الصربية خسائر جسيمة، في المعارك التي خاضتها ضد المسلمين، قدّرها بعض المصادر الغربية بحوالي 70 ألف قتيل.

ولئن كانت قلة السلاح في أيدي المسلمين، تمثل مشكلة كبيرة، إلا أن المشكلة الأكبر من ذلك، كانت في شدة حاجتهم إلى الذخائر، نظراً إلى استهلاكها المستمر أثناء القتال، في ظل ظروف الحصار ومنع الإمدادات عنهم، براً وجواً وبحراً. وقد أمكنهم أن يتغلبوا على هذه المشكلة جزئياً، بتحويل بعض المصانع المدنية القليلة، التي بقيت تعمل تحت ظروف الحصار والقصف المدفعي، إلى تصنيع نوعيات معينة من الذخائر التي كانوا في مسيس الحاجة إليها، لكي يصمدوا في قتالهم أطول فترة ممكنة.