إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الثامن

المبحث الثامن

صربيا والكروات والعلاقات بين المسلمين

أولاً: توظيف الصرب للورقة الدينية

ومن أجل سكب مزيد من الوقود على نار الصراع الدائر في البوسنة، وظَّف قادة الصرب الورقة الدينية على أوسع نطاق، لكي يوغروا، ليس صدور الصرب والكروات فقط، ضد مسلمي البوسنة، بل صدور الأوروبيين والأمريكيين، كذلك. ولكي يبرروا ممارساتهم الوحشية ضد المسلمين، جمع الصربيون تصريحات قادة مسلمي البوسنة، قديماً وحديثاً، التي تظهر رغبتهم في إقامة دولة مسلمة في أوروبا، وزعم الصربيون أنها ستكون إيران أخرى، تنشر الإرهاب في جنبات أوروبا. في حين كانت تصريحات الصربيين المعلَنة، تكشف أن هدفهم من الحرب، هو إبادة المسلمين في كل أوروبا. كما استعاد الصربيون أحداث الحروب العثمانية، في القرن التاسع عشر، في البلقان، وزيَّفوها بما يظهر المسلمين على أنهم غزاة متعطشون إلى دماء الأوروبيين النصارى، وتدمير الحضارة الغربية. وقد استفادت الصرب من استغلال هذه الورقة الدينية، في الحصول على دعم، سياسي وعسكري، من بلدان أوروبا، خاصة روسيا واليونان ورومانيا. بينما لم يحصل مسلمو البوسنة، إلاّ على الدعم، السياسي والمعنوي، والقليل من الدعم المالي، من الدول الإسلامية.

ولقد تعمّد الصربيون، ومَن يحالفهم ويدعمهم، في الغرب والشرق، أن يظهروا هذه الحرب على أنها حرب دينية، بين الصرب والكروات والمسلمين. في حين أن هناك صرباً مسلمين، وكروات مسلمين. كما أن من البوسنيين مَن كانوا يدينون بالكاثوليكية والأرثوذكسية، ويقاتلون القوات الصربية والكرواتية، دفاعاً عن حرماتهم في البوسنة، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. ولم يقُل هؤلاء أبداً، إنها حرب بين كاثوليك وأرثوذكس ومسلمين، بل قالوا إنها حرب بين صرب وكروات معتدين على البوسنة، وبين بوسنيين يدافعون عن بلادهم. وهو ما يكشف عن مدى حرص الصربيين على تصوير حرب البوسنة على أنها حرب دينية، تشكل، في نظرهم، امتداداً للحروب الصليبية، التي وقعت في القرن الثاني عشر، ولمحاكم التفتيش، التي جرت ضد المسلمين، في أسبانيا والبرتغال، وذلك بهدف إذكاء روح العداء للمسلمين، واستنفار مشاعر الكراهية ضدهم، والخوف منهم بين الشعوب الأوروبية.

ثانياً: تمويل آلة الحرب في صربيا

منذ اندلاع الصراع في دولة يوغسلافيا السابقة، لم تتوانَ بلجراد عن توفير كل حاجات حلفائها الصرب، في كرواتيا والبوسنة، تحت ستار "المعونة الإنسانية"، التي كانت تستغل لتمويل آلة الحرب الصربية، التي كانت تستنفد نحو 60% من إجمالي الدخل القومي في صربيا. عندما فرضت الأمم المتحدة قرار المقاطعة على صربيا، في أواخر مايو 1992، كانت هذه قد استعدت لمواجهة متطلبات الحرب، وأَعدَّت اقتصادها، ليكون اقتصاد حرب، من أجْل تحقيق الهدف القومي، الذي تحدد في إقامة "دولة الصرب الكبرى". وكوّنت احتياطيات كافية من حاجات الحرب، وبادرت إلى طبع كمية ضخمة من أوراق البنكنوت. وقد مارست صربيا، حكومة ومنظمات المافيا، التي استفادت من الحرب، إجراءات عديدة، غير شرعية، كانت على حساب الاقتصاد القومي، ومصلحة الشعب.

فقد ظهرت، فجأة، مع بداية الحرب، في أواخر 1991، أعداد من المصارف الخاصة، نجحت، تحت إغراءات الفائدة العالية، للودائع، في امتصاص آخر ما تبقّى من مدّخرات أفراد الشعب الصربي، سواء بالعملات الحرة أو العملة المحلية. وحتى تضع الدولة يدها على هذه الأموال، لتستخدمها في تمويل متطلبات المجهود الحربي، فقد لجأت إلى طبع كمية ضخمة من أوراق البنكنوت، دون أن يكون لها الغطاء الكافي، من العملة الحرة، أو الذهب، في المصرف المركزي. فتفاقمت حالة التضخم، التي التهمت كل فوائد الأرصدة، المودَعة بالعملة المحلية، وانخفضت القدرة الشرائية. فضلاً عن منع مودِعي العملات الحرة من استرداد أموالهم بهذه العملات، وإن استمر تحصيلهم فوائد ودائعهم بالدولار، التي كانوا يعيدون بيعها في الأسواق السوداء، بالعملة المحلية. هكذا، استطاعت الدولة أن تحصل، من خلال المصارف الخاصة، التي أصبحت سيدة الموقف في السوق السوداء، على العملة الحرة، بثمن بخس. وبغضّ النظر عما سببه ذلك من زيادة معدلات التضخم، التي تعدت نسبة 200% شهرياً، فإن المصارف الخاصة، عمدت إلى مضاربة العملات الحرة، المودَعة في مصارف إسرائيل وفرنسا وجنوب أفريقيا. وبوساطة ما حققته من أرباح في هذه المضاربات، وما كانت تحصل عليه من عمولات ضخمة، لقاء عمليات تهريب السلاح والوقود، أمكن تمويل آلة الحرب لدى الميليشيات الصربية، التي كانت تحارب في البوسنة وكرواتيا، والتغلب على قرارات الحظر الدولي المفروض على صربيا. وكانت المصارف الخاصة تُقرض الحكومة ما تحتاج إليه من أموال، لدفع مرتبات الجنود والمتطوعين، القادمين من دول أخرى، مثل روسيا واليونان، والإنفاق على تدريبهم ونقْلهم إلى صربيا، ومعاشات ذويهم في حالة قتلهم. ناهيك من تمويل الحملات الانتخابية لرؤوس النظام العنصري في صربيا، ولدى صرب البوسنة وكرواتيا، ومن عمليات غسل النقود لفروع عصابات المافيا العالمية، الموجودة في يوغسلافيا، من خلال حسابات وفروع لهذه المصارف، مفتوحة في الخارج.

ونظراً إلى أن هذه المصارف مسجلة بأسماء مصارف أجنبية، فإنها كانت تفلت من قيود الحظر الدولي المفروض على صربيا، ومن ثم، كانت تمارس معاملاتها المصرفية بكل ارتياح؛ حتى إن قرارات تجميد الأرصدة، لم تصبها، حينما أصبحت سارية، بموجب العقوبات الدولية، في أبريل 1993.

وتعقيباً على هذه السلوكيات، كتب خبير الاقتصاد، ليوبومير مديار، من بلجراد: "إن سياسة بلجراد، تسببت بإفلاس اقتصاد البلد. ذلك أنها تسببت بتحويل أربعة ملايين يوغسلافي من العشرة ملايين، الذين يمثلون العدد الكلي للسكان (يقصد في صربيا)، إلى بائسين، يعيشون تحت خط الفقر. علاوة على تسببها بضياع مدّخرات كل الذين غامروا بوضعها، سواء في المصارف الوطنية، ثم فوجئوا بقرارات الحكومة تجمِّد ودائعهم بالعملات الحرة، أو في المصارف الخاصة، التي كانت تعمل بأسلوب يتنافى وكل القواعد المصرفية المتعارف عليها. وإذا كانت شرائح الأرباح العالية، التي كانت تصرفها المصارف الخاصة، قد ساعدت ملايين المودعين على تلبية حاجاتهم المعيشية بالكاد، على مدى عامين من الحرب، فإن كتلة أرصدتهم، في كرواتيا والبوسنة، قد تبخرت إلى جيوب تجار الحرب والانتهازيين، الذين استغلوا حالة الحرب لجمع الأموال".

وفي أوائل مارس 1993، غادر المليونير الصربي يزدمير فاسيليفيتش، صاحب واحد من أهم المصارف الخاصة في يوغسلافيا، بلجراد، هرباً، مما أسماه "عملية الابتزاز والنصب المنظم، التي تزاولها الدولة". وقبل سفره بيومين، أحيل وزيران في صربيا إلى المحاكمة، بتهمة النصب والاحتيال. عندئذٍ، بدأت الألسنة تنطلق لتفضح حجم الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، وعمليات المافيا، القائم عليها اقتصاد الدولة. ولم تتردد دوائر رجال الأعمال في المجاهرة بأن بقاء حكومة صربيا مرهون بالمضاربات المالية، التي تجريها المصارف الخاصة لمصلحتها في الخارج.

وعلى الرغم من تأكيد فاسيليفيتش أن عدداً، لا يستهان به، من كبار موظفي الدولة والمسؤولين السياسيين، في صربيا، منغمسون إلى آذانهم في عمليات عصابات المافيا، للاستفادة من الحرب الدائرة. حتى بعد أن أشار بعض الصحف إلى وقوف بعض المحيطين بالرئيس الصربي، ميلوسيفيتش، وراء هذه العمليات، مثل رئيس الوزراء السابق، رادوفان نوروفيتش، وما واكبها من فضائح مالية صارخة، تكشفت خلال ربيع 1993، فإن السلطات الصربية لم تهتز. وعندما بدأت الجماهير الصربية تعبّر عن غضبها، نتيجة ما نشرته الصحف من عمليات فساد في دوائر الحكم، إلى جانب ضياع أموال المودِعين في المصارف، عمد ميلوسفيتش إلى محاولة امتصاص ثورة الغضب، بالتعهد، علناً، بعدم سكوته على ما يجري، وأنه سيكافح هذه الجرائم، ويحاكم مرتكبيها من الوزراء المتهمين بها. وفي أواخر فبراير 1993، ألقي القبض على وزير التجارة والسياحة، سافافا ليبكوفيتش، بتهمة الاختلاس. وبعد أسبوع واحد فقط، قُبض، كذلك، على خليفته، الوزير فلاديمير ميهابلوفيتش. وكلاهما متهم باختلاس 700 ألف مارك ألماني، من قيمة صفقة وقود مستورد، في عقب قرار الحظر الدولي، إضافة إلى اتهام وزير التجارة، كذلك، ببيع صفقة حبوب لمقدونيا، في مقابل حصوله على صفقة أدوية، ليتّجر فيها لحسابه الخاص، وذلك على الرغم من قرار الحكومة حظر تصدير المواد الزراعية، والسلع الغذائية، خارج صربيا، بهدف توفيرها لتلبية متطلبات الحرب. وكانت الشركة، التي يعمل لحسابها هذا الوزير، قد دفعت ما يزيد عن مليونَيْ مارك، رُشىً لمسؤولين في الحكومة الصربية، مقابل الحصول على التراخيص اللازمة لاستيراد الوقود.

وقد أدت هذه الاختلاسات والرشاوى إلى رفع أسعار المواد الأساسية، مثل البنزين، الذي ارتفع سعره من نصف مارك للتر الواحد إلى مارك ونصف، بعد أن تحمل المستورد عبء الرُّشَى، التي كانت تدفع، بشكل مستتر، إلى الحكومة الرومانية، التي يستورد منها إلى صربيا، وإلى قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، من أجل التحايل على قرارات الحظر، ولتلبية مطالب الحكومة الصربية، في مجال شراء الأسلحة والمعدات والمواد الضرورية المطلوبة للحرب. وعندما كانت ترتفع الشكاوى من الرشاوي، ضد مسؤولين في الحكومة، ويقدَّموا إلى محاكمات صورية، تستهدف امتصاص غضب الجماهير، كانت عصابات المافيا تغتال الشهود.

وكان يزداد سخط جماهير صربيا، عندما كانت تعلم بهروب أصحاب المصارف الخاصة ومديريها، وإغلاق فروعها، وضياع ودائعها، مثل مصرف يوجوسكاتريتش، الذي هرب مديره، فاسيليفيتش، بعد أن أغلق جميع فروعه، فأدرك مئات الآلاف من المودِعين، أن أموالهم وودائعهم، قد ذهبت أدراج الرياح. وكانت الحكومة الصربية، قد رفضت أن تعطيهم أي ضمان لأرصدتهم المودَعة في المصارف الخاصة. وعَقَّب بعض الخبراء المستقلين، في صربيا، على السبب في رفض الحكومة اتخاذ أي إجراء ضد هذه المصارف الخاصة، أو إعطاء ضمان للمودِعين فيها، بأنها تخشى أن تكشف النقاب عن العمليات المشبوهة، التي تمارسها هذه المصارف لمصلحة الحكومة.

ثالثاً: تطور العلاقة بين المسلمين والكروات

1. جذور العلاقة بينهما

تضرب أبعاد العلاقة الحالية، بين كل من المسلمين والكروات، بجذورها إلى بداية الأربعينيات من هذا القرن، حين سقطت يوغسلافيا تحت  الضربات الألمانية، عام 1941، وسماح الألمان وحلفائهم الإيطالين للحركة الكرواتية المتطرفة، الأوستاش، بتأسيس دولة كرواتيا، وضم البوسنة والهرسك إليها .

وفى مواجَهة الصرب، القاطنين في البوسنة، لجأت سراييفو إلى تأمين الرجحان للقوات الكرواتية، وإطلاق شعارات تؤكد الأواصر التي تربط مسلمي البوسنة بالكروات، وعدّتهم من صميم الشعب الكرواتى . ونتيجة الخلاف بين الصرب والكروات، بعد ضم كرواتيا الىالبوسنة والهرسك، تكبد مسلمو هذه المنطقة العديد من الضحايا، إذ وقعوا بين حَجَرَي رحى القوتَين، الصربية والكرواتية.

وإزاء الضربات الكرواتية ضد الصرب، بالغ هؤلاء فى القضاء على المسلمين والكروات، فى البوسنة والهرسك، فأصدروا تعليماتهم إلى عصابات الجيتنك الصربية، عام 1941، بالقضاء على كلٍّ من المسلمين والكروات، فقتلت حوالي ربع مليون مسلم. وها هو التاريخ يعيد نفسه حيث وقف الصرب ضد كلٍّ من المسلمين والكروات. ولعل هذه الصلة التاريخية والمصلحة المتبادلة حملتا الكروات، في بداية الصراع الحالي إلى الوقوف إلى جانب مسلمي البوسنة، ليس بدافع حمايتهم، وإنما رغبة في مواجهة العدو المشترك، الصرب. فمع انفصال الجمهوريات اليوغسلافية، واندلاع الحرب بين صربيا وكرواتيا، تمكن الصرب من الاستيلاء على حوالي 30% من الأراضى الكرواتية، التي يقطن فيها الصرب. وبتدخل الأمم المتحدة، ووضع مشروع السلام، الذي قضى بنزع السلاح من مناطق القتال، وإرسال قوات دولية إلى هذه المناطق، لحفظ السلام فيها، لم يكن أمام صربيا، إلاّ أن تشعل نار الحرب فى البوسنة والهرسك، لإقامة صربيا الأرثوذكسية الكبرى. ونشأ عن ذلك تحالفان. أولهما إسلامي ـ كرواتي، تلاه تحالف صربي ـ كرواتي. ويمكن إرجاع الأسباب الكامنة وراء هذين التحالفَين إلى مجموعة من العوامل، أهمها:

أ. رغبة كرواتيا، تحت شعار المصالحة، في تأمين الوجود الكرواتي في البوسنة، ضد الصرب، لضمان الإبقاء على البوسنة ضعيفة، إلى جانب التأكد من استمرارية تدفق السلاح الكرواتي، للدفاع عن نصيب كرواتيا فقط، دون المسلمين.

وقد تطلعت إلى إعادة الحقوق الكرواتية في البوسنة، كما ادَّعى حزب الحقوق الكرواتية، الذي يضم جناحاً عسكرياً، رأَسه، خلال تلك الفترة، آنتي براجا، الذي طالب بأن يكون نهر درينا، شرقي البوسنة، الحدّ الشرقي لكرواتيا. ولئن كان هذا الواقع يجمع بين كرواتيا وصربيا، فإن تشابههما الأكثر خطراً، يكمن في أنهما تمثلان وجْهَي الدرع، الذي يعلن رغبته في حماية الغرب من الأصولية المتنامية فى البلقان

ب. سعي كرواتيا، من خلال تحالفها مع المسلمين، إلى ضمان رافد مهم لتغذية دخْلها، من خلال استمرارية اعتماد المسلمين على الكروات، في الحصول على السلاح، واستقبال المهاجرين البوسنيين، مما يعني انتعاش اقتصادها، سواء عبْر الحصول على جزء من المساعدات الآتية باسم البوسنة، أو من طريق بيع السلاح لمسلمي البوسنة.

وفى هذا الإطار، كانت كرواتيا تحاول استغلال ورقة المسلمين المهاجرين، لتوثيق علاقاتها بالدول، الإسلامية والعربية، ذات الثقل الاقتصادي.

وسعت كرواتيا، في إطار ما أفصح عنه فرانكو توديمان، في 21 يوليه 1992، إلى إيقاف توافد المهاجرين المسلمين، الأمر الذي دعمه تصريح لأحد المسؤولين الكروات: "إن الحكومة البوسنية، سوف تدفع فاتورة المهاجرين، بعد انتهاء الحرب".

هكذا، اتّضح أن خطر الكروات على مسلمي البوسنة، لا يقلّ، إنْ لم يزد على الأطماع الصربية، نتيجة تخفِّيه وراء عدد من الأقنعة، تحت شعار المصلحة المشتركة بين الكروات والمسلمين،تارة، وتارة أخرى تحت رغبة الاشتراك مع الصرب في اقتسام البوسنة.

وكان لقاء الرئيس الكرواتي، توديمان، الرئيس الصربي، ميلوسيفيتش، عام 1990، للحفاظ على المصالح المشتركة بين البلدين ـ خير دليل على جذور التحالف الصربي ـ الكرواتي، لتقسيم البوسنة.

وسرعان ما تدعم هذا التحالف، بعد تضاؤل الميزات، التي حصلت عليها كرواتيا من وراء مساندتها لمسلمي البوسنة، في مقابل تعاظم عوائد تقسيم البوسنة بين الصرب والكروات، على الرغم من عدائهما، كخطوة مرحلية، ريثما يتفرغ كل منها لآخر.

وترجع أصول هذا التحالف إلى عام 1990، وعززه لقاء رادوفان كرادازيتش، زعيم صرب البوسنة، ماتي بوبان، زعيم كروات البوسنة، في مايو 1992، في النمسا، للاتفاق على التقسيم القومي للبوسنة والهرسك، ووقف إطلاق النار بين كل من الصرب والكروات.

وقد هاجمت القوات الكرواتية مسلمي البوسنة لإحكام قبضتها على إقليم الهرسك. وأعلن ماتي بوبان، رئيس الحزب الديموقراطي الكرواتي، في البوسنة والهرسك، قيام دولة كرواتية، أو منطقة متمتعة بالحكم الذاتي، في غربي الهرسك، في المناطق الخاضعة للكرواتيين في البوسنة والهرسك في خطوة دانتها حكومة البوسنة، لافتقارها إلى القانونية والشرعية، إلى جانب كونها تشكل عقبة أمام هدف المسلمين في الإبقاء على وحدة البوسنة والهرسك.

وقد اتخذ هذا القرار مجلس الدفاع الكرواتي، الذي أوضح ملامح الدولة الكرواتية، التي يتولى السلطة فيها رئيس ومجلس رئاسة من الكروات، ولها قواتها المسلحة. كما أعلن وضع كل مخلفات الجيش الاتحادى وممتلكاته في أراضيها، في تصرفها. وتكتمل ملامح العلاقة بين مسلمي البوسنة والهرسك والكروات في عدم انتقاد فرانكو توديمان، رئيس كرواتيا، هذه الخطوة الانفصالية. وهو ما يعني حصول ماتي بوبان على موافقة رئيس كرواتيا للإقدام على هذه الخطوة. ومن المعروف أن توديمان، تزعم حزب الاتحاد الديموقراطي، الحاكم في كرواتيا، وهو الذي اختار بوبان، ليكون رئيساً لفرع الحزب في الهرسك، بعد عزل رئيسه السابق.

واللافت أن حزب توديمان، الذي حقق انتصاراً ساحقاً في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، التي جرت في كرواتيا، في مايو 1990، كانت شعبيته قد بدأت تتضاءل، نتيجة موقفه الازدواجي تجاه البوسنة والهرسك، ومعارضة عدد من الأحزاب السياسية، باستثناء "حزب الحق الكرواتي" بزعامة براجا. ولا بدّ من الإشارة إلى أن فرانكو توديمان، اتسم، في تعامله مع المسلمين، بالمراوغة وعدم الوضوح. فنظيره ميلوسيفيتش، الرئيس الصربي، أظهر العداء الصريح للمسلمين أمّا توديمان، فقد فتح، في بداية حربه مع الصرب، المجال أمام التحرك، السياسي والعسكري، للمسلمين بما يسمح له بكسب تعاطف العالم الإسلامي، وتأسيس علاقات، دبلوماسية واقتصادية، مع مختلف دوله.

ومع رسوخ الدولة الوليدة، في إطار التأييد الغربى لها، بزعامة ألمانيا، بدأ التحول في علاقة كرواتيا بمسلمي البوسنة، يأخذ مساره، فقد فرضت الإتاوات على مسلمي البوسنة، لتأمين السلاح الهزيل المهرب من الخارج بأسعار السوق السوداء، إلى جانب قيام العصابات الكرواتية بعمليات سرقة واسعة النطاق.

ومع مضيّ الوقت، صار الوجود فوق الأراضي الكرواتية، عامل ضغط من توديمان، يمارسه على الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، بعد أن أدرك المسلمون أن سماحهم بوجود ميليشيات كرواتية فى البوسنة، بهدف حماية الأقلية الكرواتية من عدوان الصرب، فى منطقة الهرسك، قد انقلب ضدهم، إذ لجأ كروات البوسنة إلى طعن القوات الحكومية من الخلف.

ويشير عدوان الميليشيات الكرواتية ضد المسلمين، إلى حقيقة قديمة، وهي أن كلاًّ من الصرب والكروات يريد تقسيم البوسنة، وحل مشكلاته مع الطرف الآخر على حساب أراضي وسكان البوسنة والهرسك، ذات الأغلبية المسلمة.

وقد أعلن توديمان قبوله لتقسيم البوسنة والهرسك إلى ثلاث مناطق عِرقية، مستقلة. ونادى بضرورة تخلّي المسلمين عن فكرة الإبقاء على جمهورية البوسنة والهرسك، كدولة واحدة. وعزز دعمه للميليشيات الكرواتية في البوسنة، التي تعمل ضد القوات الشرعية. وقد كشف صرب كرواتيا والبوسنة عن مؤامرتهم ضد المسلمين، حين أعلنوا تشكيل اتحاد برلماني مشترك، في خطوة للرد على الضغوط الدولية على صربيا. من جانب آخر أصر علي عزت بيجوفيتش، على رفضه لتقسيم المنطقة، استناداً إلى معايير عِرقية، إذ يمكن أن يواجِه المسلمون احتمالات الخسارة في مثل هذه الحالة، نظراً إلى تركز أعدادهم في المدن الكبيرة وإلى ضعف قواتهم العسكرية. وقد أكد المراقبون للتطورات الميدانية على ساحة الحرب، فى البوسنة والهرسك، وجود صفقة مقايضة بين صربيا وكرواتيا، لاقتسام هذه الجمهورية، واستبدال مناطق يقطن فيها صرب، وتمثّل أهمية خاصة لتحقيق صربيا الكبرى، بمناطق يقطن فيها كروات، وتُعَدّ حيوية لتكامل كرواتيا على أنقاض مسلمي البوسنة. وفي هذا الإطار، هُجِّر حوالي 1.4 مليون مسلم، من مجموع مليونَين، وتراجعت الأغلبية العددية للمسلمين، بعد أن تحولوا إلى أقلية فى البوسنة. وقد صرح توديمان، آنذاك، بأنه بحث مع رئيس ما عُرف بيوغسلافيا الجديدة، كوزيتش إمكانية تبادل السكان بين صربيا وكرواتيا، فى البوسنة والهرسك، لإنشاء مناطق صربية وكرواتية خالصة.

وهكذا، يكشف هذا الواقع خطر العداء الكرواتي للمسلمين، الذي يفوق العداء الصربي. فالصرب يتسمون بالوضوح، في إطار مؤامرة صربية، تتجاوز الشرعية الدولية، في حين يتخفى الكروات وراء مجموعة من الأقنعة، التي يلجأون إلى استبدالها لتحقيق أطماعههم التوسعية.

ومع اقتطاع الصرب لحوالي 70% من الأراضى البوسنية، هدف الكروات، منذ بداية الصراع، إلى الاستيلاء على أكبر قدر من أراضي البوسنة، خاصة تلك التي يسكنها الكروات. وفي هذا السياق، اجتمع زعماء صرب البوسنة وكرواتها، في 6 مايو 1992، لاقتسامها، فكروات البوسنة قد استفادوا من حرب الجيش الفيدرالي، ذي القيادة الصربية، ضد مسلمي البوسنة، وعقدوا اتفاقات مع صرب البوسنة، من أهمها الاتفاقية الخاصة بمدينة كيسلياك، التي تركها لهم الصرب . أمّا مدينة يوسانسكي، الواقعة في الشمال، على أحد الأنهار، الفاصلة بين البوسنة وكرواتيا، فقد تنازعها كلٌّ من الصرب والكروات، إذ أراد الصرب أن تكون المدينة ممراً، عبر بانجالوكا، بين جمهورية الصرب وإقليم كرايينا الخاضع لحراسة مشددة، من قِبل قوات حفظ السلام، التابعة للأمم المتحدة، وقد نجح الصرب فى ضمها إليهم.

أمّا إقليم موستار، فهو يفصل بين غربي الهرسك، الذي يشكل الكروات معظم سكانه، وشرقيها، الذي يشكل الصرب معظم سكانه. ولذلك، استمر الطرفان في الصراع حوله، حتى استطاع كروات البوسنة السيطرة على الأجزاء، التي تسكنها أغلبية كرواتية.

إلاّ أنه من المؤكد أن أي اتفاق صربي ـ كرواتي، سوف يكون قصير الأجل، نظراً إلى تأكيد جميع المؤشرات إمكانية نشوب حرب شاملة بينهما، حالما تستعيد كرواتيا بناء قواتها. فالكروات سيعملون على استرجاع الأراضي، التي احتلها الصرب، وإنْ كان الرئيس الكرواتي لا يرغب في الظهور بمظهر المعتدي، لحاجته إلى تأييد عالمي، من أجْل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، لإعادة بناء الاقتصاد الكرواتي. (اُنظر خريطة جمهورية البوسنة الهرسك).

2. بداية التحالف بين المسلمين والكروات، فى البوسنة

بدأت البوسنة، منذ الرابع من أكتوبر 1992، تتلقى الأسلحة والأموال من عدة مصادر، ومن طريق البر وعبر الأدرياتيكي. كما وصل متطوعون من عدة بلدان إسلامية، من بينهم مجموعة من المجاهدين الأفغان، الذين بدأوا، بدورهم، تدريب مسلمي البوسنة. وبدأ الغرب يُدرك، بعد أن رفض التدخل العسكري، أن في إمكان مسلمي البوسنة، إذا أُمِدوا بالسلاح، أن يستعيدوا أراضيهم المغتصبة، خاصة إذا ما استمر التعاون بينهم وبين كروات البوسنة.

وقد توقع المراقبون، أن يؤدي الهجوم العسكري، الذي شنته قوات البوسنة، مؤيدة، في بعض المناطق، بالقوات الكرواتية، إلى أن تحقق البوسنة كثيراً من المكاسب.

ومن الناحية العسكرية، كانت المواقع الصربية قابلة للاختراق، لأن كلاًّ من الاستخبارات والتخطيط الصربيين، اتّسم بالضعف. إذ غاب عن ذهن المخططين الصرب، أن معظم مسلمي البوسنة، هم فى سن التجنيد، وأن القيادة العليا لجمهورية البوسنة والهرسك، أضحى تحت تصرفها، آنذاك، مائة ألف متطوع مدرَّب. وقد أكد عدد من التقارير، خلال تلك الفترة، أن القوات المحلية البوسنية، وفى مقدمتها وحدة مدربة، مؤلفة من 3500 مقاتل، قد كسرت الحصار الصربي لمنطقة جورازدي.

هذا كما تلقى مسلمو البوسنة أسلحة من تركيا ودول إسلامية أخرى، وكذلك من إيران. وكان يمكن المسلمين أن يشنوا هجوماً مضادّاً، منذ فترة سابقة، لو تعاونت معهم القوات الكرواتية HVO. بيد أن الكروات رفضوا التعاون مع مسلمي البوسنة، إلاّ بعد الوصول إلى نوع من الاتفاق السياسي، مع القيادة البوسنية.

هكذا وقفت القوات الكرواتية تراقب الحرب الضارية من جبال سراييفو، عند منطقتَي شتوبا وكيشيليال. وقد رفضت قيادة قوات الدفاع الإقليمي البوسنية B.H.T.O مشاركة القوات الكرواتية في القيادة العسكرية، بما هدد ترتيبات التعاون بين الجانبَين، التي كان قد اتفق عليها، في نهاية أغسطس 1992، خاصة أن القيادة الكرواتية قد وجهت اللوم إلى الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، لأنه أمعن في الثقة بضمانات الجماعة الأوروبية ووعود الولايات المتحدة الأمريكية.

بيد أنه برزت علامات التعاون بين الطرفين، إذ حاربت قوات المسلمين فى بعض المناطق، إمّا إلى جانب الوحدات الكرواتية، أو فى وحدات مختلطة، مثلما كان عليه الحال في منطقة يوسافينا، ومثلّث كازيه، فى أقصى شمالي غربي البوسنة.

وفي إطار هذا السياق، انضم عدد كبير من المقاتلين المسلمين إلى الجناح العسكري "لحزب الحقوق الكرواتية HOS" في البوسنة، وطالبوا الرئيس علي عزت بيجوفيتش بإعادة تنظيم قواته لمواجهة الصرب بشكل أكثر فاعلية.

كذلك، برزت مؤشرات متزايدة إلى نمو التعاون بين حكومة بيجوفيتش وبين حكومة جمهورية كرواتيا. إذ افتتحت سفارة البوسنة في العاصمة الكرواتية، زغرب، إلى جانب ‌قنصلية لها فى "سبلت". وتحولت زغرب إلى قاعدة عمل لبعض وزراء حكومة البوسنة.

بيد أن المشكلة الحقيقية، التي هددت العلاقة بين المسلمين والكروات، تبدّت من خلال كروات البوسنة، بزعامة ماتي بوبان، الذي تزعم المنطقة الكرواتية، إذ طالب هؤلاء بتمثيل مساوٍ للمسلمين فى حكومة الرئيس بيجوفيتش، ثمناً للتحالف، وهو أثار شك المسلمين.

وقد اضطلع ‌‌‌الفاتيكان بدور فى إرساء التعاون بين كرواتيا والبوسنة، وذلك من خلال تركيا. ففي منتصف أغسطس 1992، زار المبعوث البابوي الخاص، الكاردينال ألفونس روجيه اتشجاري كلاًّ من زغرب وسراييفو[1].

وقد اعتمدت خطة المعركة، التى يقودها المسلمون، فى البداية، على المساعدة العسكرية الكرواتية، وعلى تنفيذ الصرب لقرارات الأمم المتحدة، فيما يتعلق بسراييفو، التى حاصرها الصرب، وذلك بوضع المدفعية الصربية تحت سيطرة قوات الأمم المتحدة، ومحاولة استعادة وادي زينكا وتوزلا من الصرب، إلى جانب كسر حصار الصرب ‌لبيهاك، شمالي غربي البوسنة، لفتح ممر من الشمال، ثم كسر حصار الصرب لسراييفو، والسماح لمواطنيها بالتحرك في اتجاه توزلا وزينكا.

وتمثلت الأهداف العسكرية لمسلمي البوسنة، آنذاك، في الاستيلاء على الوادي بين توزلا ومدينة دولوي، فى الغرب، للاتصال مع القوات الكرواتية HVO، المتقدمة من منطقة سلافونسكي برود فى الشمال، ليتم قطع الممر الصربي إليها، من الناحية الإستراتيجية. وقد أمل المسلمون الإحاطة بمدينة زفوزنيك، ثم مدينة فيسيجراد، ثم فوكا، الواقعة شرقي البوسنة والهرسك، وذلك لإجبار الميليشيات الصربية على التحرك شرقاً، أو الاستسلام. وهو ما يمكن أن يقطع وصول الصرب إلى المناطق الشرقية، عدا منطقة بيسلينا في أقصى شمال شرق البوسنة.

وقد افترضت هذه الخطة، التعاون بين المسلمين والكروات، من خلال ما يلي:

أ. تنسيق العمليات مع القوات الكرواتية في البوسنة والهرسك، على الجانب الشمالي لمنخفض يوسافينا.

ب. تعاون كروات البوسنة، بقيادة ماتي بوبان.

وفي إطار هذا السياق، سيطر كروات البوسنة، منذ بداية الصراع، على الجزء الأكبر من مثلث، قاعدته هي كل جنوبي الهرسك، تقريباً، ويمتد شرقاً، إلى تريبيني، ثم يعود الضلع الثالث من المثلث إلى نيريتفا ونيفتش، أمّا قمته فبالقرب من زينكا. وقد سيطر على هذا المثلث القوات الكرواتية HVO، وكان ضلع هذا المثلث تحت هجوم قوي متجدد من الجيش اليوغسلافي، إلاّ أن الكروات استطاعوا وقف هذا الهجوم، على الرغم من أن مواقفهم امتدت على خيط رفيع جداً، على امتداد جبهة، طولها خمسائة كيلومتر.

وتمثلت الأهداف الصربية، أمام الهجوم المضادّ لقوات المسلمين، في الجسور الواقعة على نهر درينا، لقطع خطوط تموين الصرب، وكذلك عدد من المنشآت العسكرية، على الرغم من أن الجيش، نقل مصنع أسلحة من المنطقة إلى جمهورية الصرب نفسها.

ومما يذكر، أن أكبر مشروع ذخائر للجيش في البوسنة الشرقية، كان يقع عند جيل زيب، على بعد 60 كم، شمالي شرقي العاصمة سراييفو، هذا إلى جانب وجود محطات رادار على جبال بيليسيفيتشا وكوزارا وماييفا وياهورينا.

3. الاتحاد الفيدرالي بين المسلمين والكروات

في إطار العلاقة بين المسلمين والكروات، ساورت الشكوك الطرفين، كما أن التعاون العسكري بينهما، في بعض مراحل الصراع، في البوسنة، أمر فرضته ظروف الواقع، المتعلقة بالمواجهة مع الصرب. وعدا ذلك، لا يوجد ما يربط العِرقَين على نحو يساعد على بروز رفع التعاون، والرغبة في الحفاظ على الاتحاد الفيدرالي بينهما.

فمن ناحية، إن قطاعاً رئيسياً من كروات البوسنة، يتحفظ من الاشتراك مع المسلمين في اتحاد فيدرالي، لأن ذلك يعني ‌‌طمس الهوية الكرواتية، في سياق التفوق الإسلامي العددي، والاتهامات الموجهة إلى الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، بالرغبة في تكريس الهيمنة الإسلامية على الاتحاد.

هكذا، شهدت العلاقات بين المسلمين والكروات توترات عديدة، اتخذت، فى بعض مراحلها، سمات المواجَهة العسكرية، في بعض المناطق. وقد ترسخت شكوك حكومة البوسنة في نيات كروات البوسنة، بل في كرواتيا عينها، في أكتوبر1995، عندما تقدمت حكومة البوسنة بطلب إلى حكومة زغرب لتسليم القائد المسلم المنشق، فكرت عبديتش، الذي كان ‌‌يستقل مقاطعة بيهاتش، حتى أغسطس 1995، وذلك بناءً على دعوى قضائية ضدّه، فى المحكمة العليا، إلاّ أن الحكومة الكرواتية رفضت ذلك، بل وقّعت اتفاقاً مع عبديتش، فى 26 أكتوبر، من العام نفسه، نص على تشكيل إقليم في مقاطعة بيهاتش، يكون مقره فيلكا كلادوشا، ويتولى فيه عبديتش رئاسة الحكومة المحلية، إضافة إلى إدارته لمجموعات شركاته الضخمة. كما وافقت كرواتيا على منح جنسيتها من يريد من مسلمي بيهاتش، أنصار عبديتش (حوالي 25 ألف نسمة). الأمر الذي فسرته سراييفو على أنه عمل غير ودي، يهدف إلى الضغط عليها، وتفتيت تجمّع مسلمي البوسنة.

كذلك سمحت كرواتيا لكروات البوسنة بالاشتراك فى الانتخابات الكرواتية، التي جرت فى 21 أكتوبر 1995، (حوالي 300 ألف ناخب). وهو ما رأته حكومة البوسنة مقدمة تمهيدية، لضم مناطق الكروات في البوسنة إلى كرواتيا، ويزداد موقف مسلمي البوسنة خطراً، إذ إن الاتحاد الفيدرالي بينهم وبين الكروات، لم يحدد نسب تقسيم الأراضى داخله، ومن ثم، يسيطر الكروات على أكثر من نصف الأراضي، في حين أن نسبة المسلمين تصل إلى ثلاثة أضعاف الكروات. وهناك أيضاً الحذر الذى يسود صفوف حكومة البوسنة، حول اتفاق الاتحاد الفيدرالي مع الكروات، وذلك بسبب التقسيمات الوظيفية، التي نص عليها الاتفاق الاتحادي. وأبرزها نقل وظائف الحكومة البوسنية وصلاحياتها إلى الحكومة الفيدرالية، وجعل الحكومة البوسنية محتفظة فقط بالأمور، التي تمكنها من العمل، كحكومة دولة معترف بها دولياً، في الشؤون الخارجية والتجارة والجمارك والمالية، إضافة إلى التنسيق المدني للقوات المسلحة. في حين أن الحكومة الفيدرالية، تتولّى شؤون الدفاع والداخلية والعدل، واللاجئين والمهاجرين، والشؤون الاجتماعية والصحية، والطاقة والصناعة، والمؤسسات التعليمية والثقافية والعلمية، والمواصلات. كذلك جعل الاتفاق مدينة موستار موحدة، على أن تتكون من 6 بلديات، واتخذها عاصمة ثانية للاتحاد، بعد سراييفو. إذ إن موستار، سوف تكون مقراً لمكاتب مشتركة لرئيس الاتحاد والحكومة ونائبها، إضافة إلى وزارات، التجارة والمواصلات والطاقة والصناعة والتربية والتعليم، وتعقد فيها حكومة الاتحاد جلسة من بين كل أربع من جلساتها.

4. الصعوبات التي يواجهها الاتحاد الفيدرالي

على الرغم من معرفة جميع الأطراف، الإقليمية والدولية، طبيعة التعاون، الذي تبلور إبّان الحرب بين المسلمين والكروات، والذى لا يعدو أن يكون تعاوناً مصلحياً، أملته ضرورات مواجَهة الاعتداءات الصربية، ورغبة الكروات في ممارسة الضغوط على الصرب، للوصول إلى حل وسط معهم، حول سيطرة الكروات على أجزاء من أراضي البوسنة، وتسوية قضية إقليم كرواتيا، الذي كان يسيطر عليه صرب كرواتيا ـ راهنت الولايات المتحدة الأمريكية على فيدرالية بين الجانبَين، كمخرج محتمل، وممكن، من فكرة التقسيم العرقي، التي كانت مطروحة في أوائل 1992، في مؤتمر برشلونة، الذي رعته دول الجماعة الأوروبية.

وعلى الرغم من التوصل إلى صيغة الاتحاد الفيدرالي، إلاّ أن تطورات الصراع المسلح، في البوسنة وكرواتيا، كشفت، بوضوح، عن "براجماتية" الكروات، ولا سيما بعد أن ذكر بعض المصادر توصلهم إلى اتفاق سري مع صربيا، في شأن إعادة السيطرة على إقليم كرواتيا، مقابل فك أًسُس التحالف مع الحكومة البوسنية. وبدا ذلك واضحاً، في النصف الثاني من 1995، حينما أقدمت كرواتيا على استعادة كرايينا، عدا منطقة سلافونيا الشرقية، الملاصقة لحدود صربيا. وبمرور الوقت، تكشفت الأبعاد الحقيقية للتنسيق، الذي كان قائماً بين المسلمين والكروات. إذ بدا واضحاً، أن الكروات يسعون إلى استغلال هذا التنسيق، من أجْل إحكام سيطرتهم على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي المخصصة للاتحاد الفيدرالي مع المسلمين.

وفى عقب توقيع اتفاق دايتون وإقراره، فى باريس، عام 1995، بدا واضحاً التنافس الشديد بين عنصرَي الاتحاد في السيطرة على أراضيه، ولا سيما أن اتفاق دايتون، لم يتطرق إلى توزيع الأراضي داخل الاتحاد. فاندلعت الاشتباكات المسلحة، بل التراشق بالصواريخ، بين المسلمين والكروات، في إطار التنافس في السيطرة على الأراضي، التي كان الصرب ينسحبون منها، للاحتفاظ بـ 49% من أراضي الجمهورية، كما تحدد في اتفاق دايتون.

أمّا موستار، المقسمة بين طرفَي الاتحاد، فقد فشلا في حل مشكلتها. ففي الوقت الذي أحكم كل طرف سيطرته على نصف المدينة، ورفع أعلامه الخاصة عليه، رفض الكروات توحيد المدينة، بل إن مصادر الحكومة البوسنية، اتهمتهم، صراحة، بالتحرك لخلق ترابط إقليمي، بين المناطق التى يسيطـرون عليهاـ في مختلف الأراضي المخصصة للاتحاد الفيدرالي، تمهيداً لإعلان الانفصـال، ولا سيما أنهم لم يكونوا قد أعلنوا، حتى حينه، إلغاء الدويلة المستقلة، التى أعلنوها إبّان الحرب.

وفشلت الاجتماعات، التي عُقدت بين عناصر من الكروات والمسلمين، أو بين رئيسّي البوسنة وكرواتيا، فى احتواء الخلافات أو الحدّ منها، بل إن الكروات اتّهموا الحكومة البوسنية بالسعي إلى إقامة دولة إسلامية في البوسنة، وأنه لا يمكن استيعاب الكروات داخل إطار دولة، يُشكل المسلمون أغلبية سكانها.

ويُعَدّ التوتر بين المسلمين والكروات، في موستار، من أهم الأسباب الرئيسية، التى دفعت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية إلى عقد مؤتمر روما، في 17 و18 فبراير 1995، من أجْل دعم تنفيذ اتفاق دايتون. وعلى الرغم من ذلك، تواصلت المشاكل بين المسلمين والكروات، مما يكشف، بوضوح، أن الخلاف بين الجانبَين، ليس مجرد خلافات فى وجهات النظر، وإنما هو أعمق من ذلك.

5. عوامل تصاعد الخلاف داخل الاتحاد الفيدرالي (1996)

مع النص على تشكيل اتحاد فيدرالي بين المسلمين والكروات، بذل كروات البوسنة كل ما في وسعهم من أجل تجميد أي خطوة في إنشاء هياكله، ناهيك من تعميق المشاكل القائمة حول العديد من القضايا الناجمة عن حسابات معقدة، تتداخل فيها أبعاد مركبة. ولم يتوقف طرفا الاتحاد عن تبادل الاتهامات بالسعى إلى تفكيك الاتحاد. وفي الوقت الذي تمسك فيه كروات البوسنة بدولتهم، التي أعلنوها في مناطق سيطرتهم عليها، فإن نائب الرئيس البوسني، أيوب جانيتش، دعا إلى إقالة وزير الخارجية البوسني، الكرواتى الأصل، يادرا ناكوترليتش، لأنه تستر على الحكومة، التي شكلها الكروات من جانب واحد، فى دويلتهم التي أعلنوها، "هرسك بوسنة".

وبدت مشاكل التعايش المشترك بين المسلمين والكروات واضحة، في تجربة الانتخابات المحلية لمدينة موستار، الواقعة ضمن أراضي الاتحاد الفيدرالي، ولكنها مقسمة إلى شطر غربي، يسيطر عليه الكروات، وآخر شرقي، يسيطر عليه المسلمون. وقد جرت الانتخابات المحلية في موستار، في 30 يونيه 1996، لاختيار أعضاء المجلس المحلي للمدينة، المكون من 48 عضواً، والذي يتولى إدارة المدينة، بدلاً من ممثلي الاتحاد الأوروبي، وذلك لاتخاذ خطوات توحيد المدينة. ونظرت الدول الكبرى إلى هذه الانتخابات، على أنها مؤشر إلى مستقبل تجربة الاتحاد الفيدرالي بين المسلمين والكروات. وكان عدد سكان المدينة، قبل الحرب، 130 ألفاً (50 ألف مسلم، و40 ألف كرواتي، والباقي من الصرب وأعراق أخرى) .

وبعد الحرب سيطر الكروات على غربي المدينة، وطردوا العِرقيات الأخرى منه، وأعلنوه عاصمة لدويلتهم المستقلة.

في حين بسطت حكومة البوسنة سيطرتها على الشطر الشرقي من المدينة، الذي أصبح خالياً، كذلك، من العِرقيات الأخرى، عدا البوشناق أو البوسنيين، المسلمين، سواء بفعل سياسات الحكومة، أو دعوات الصرب والكروات أبناء قوميتيهما إلى الرحيل، من أجْل سكنى المناطق، التي طهّراها من العِرقيات الأخرى.

وجاءت انتخابات موستار المحلية مؤشراً إلى ما ينتظر مستقبل الاتحاد الفيدرالي بين المسلمين والكروات، إذ تبادل الطرفان الاتهامات بالتزوير، وارتكاب التجاوزات. وعندما أعلن فوز "حزب العمل الديموقراطي الإسلامي"، بزعامة علي عزت بيجوفيتش، قائمة موستار الموحدة، بنحو 48 % من الأصوات و19 مقعداً، وفوز قائمة الاتحاد الديموقراطي بنحو 45 % من الأصوات و18 مقعداً، رفض الكروات الاعتراف بنتائج الانتخابات، وأعلنوا مقاطعة جلسات المجلس المنتخب، وعادت الاتهامات المتبادلة من جديد. فحمل رئيس الاتحاد الفيدرالي المسلم، كريشمبر زوباك، الكرواتي الأصل، الطرف المسلم مسؤولية تردي الأوضاع داخل الاتحاد، مؤكداً أن دولة الكروات (هرسك بوسنة) ليست المشكلة، وإنما هى زريعة اتخذها المسلمون لتغطية نقاط الضعف لديهم.

وجاء اتفاق إنهاء الأزمة متجاوزاً نتائج الانتخابات المحلية فى موستار، إذ اختير كرواتي لرئاسة المجلس المحلي، ونائب مسلم له، فى حين أن نتائج الانتخابات، كانت تعني انتخاب مسلم لرئاسة المجلس. ولم يؤد إعلان إنهاء وجود دولة الكروات فى البوسنة إلى وقف التدهور، في علاقات طرفَي الاتحاد الفيدرالي. إذ تواصلت الاشتباكات بين المدنيين المسلمين والكروات، في المناطق المشتركة، كما تواصلت عمليات التطهير العِرقي، فى المناطق ذات الأغلبية الكرواتية. ونجح الكروات في تحقيق ما أسموه بالنقاء العرقي، فى الشطر الغربي من مدينة موستار. واللافت أن العلاقة بين المسلمين والكروات، قد شهدت، مؤخراً، نوعاً من التصعيد في مدينة موستار، المقسمة بين الجانبَين، بسبب إصابة رَجلَي شرطة مسلمَين برصاص الكروات. وقد وقع هذا الحادث بعد لقاء الرئيس الكرواتى مراكوتودجيمنت علي عزت بيجوفيتش فى سراييفو، لبحث تنشيط الاتحاد الفيدرالي بين مسلمي البوسنة وكرواتها.

ونتيجة لهذه الأحداث، فصلت وحدة عسكرية أسبانية، تابعة لحلف شمال الأطلسي بين المسلمين والكروات، على خط المواجهة. وبعد أن خضعت موستار لإدارة أوروبية، قسمتها بين الطرفَين وأطلقت حرية الحركة في المدينة، من دون قيود، بموجب اتفاق دايتون للسلام.

وفي إطار هذا السياق، يمكن القول إن مدينة موستار، باتت تمثل خطراً حقيقياً على مستقبل الاتفاق الفيدرالي، الموقع بين المسلمين والكروات، وعلى اتفاق السلام بصفة عامة، الذي ترعاه أكبر عملية انتشار بري في تاريخ حلف شمال الأطلسي، يشارك فيها حوالي 60 الف جندي.

ويتمركز المسلمون فى الجانب الشرقي، من موستار، في حين يوجد الكروات في الجانب الغربي. وتضم المدينة، بصفة عامة، حوالي مائة ألف شخص، نصفهم من المسلمين والنصف الثاني من الكروات. ويرى الجانب الشرقى (المسلم) ضرورة توحيد المدينة، تحت لواء الفيدرالية المشتركة للجانبَين، بينما يرى الجانب الغربي الكرواتي ضرورة الانفصال، والخضوع لسيطرة زغرب. وقد دفع هذا الوضع المراقبين إلى وصف موستار بأنها برلين البلقان. ويرجع تصاعد المخاوف الحالية، بين المسلمين والكروات، إلى التقارب المفاجئ بين كرواتيا وصربيا. إلاّ أن الطرفَين توصلا، في 6 يناير 1996، إلى اتفاق، تعهدا فيه باتخاذ خطوات لتقرير الاتحاد الفيدرالي المسلم ـ الكرواتي، الذي يشكل حجر الزاوية لنجاح اتفاق دايتون للسلام.

ومما يذكر أن البوسنة، قد رفضت مقترحات كرواتية، بإنشاء اتحاد كونفيدرالي بينهما، في إطارعلاقات خاصة، إذ رفض علي عزت بيجوفيتش اقتراحاً من كرواتيا بإنشاء اتحاد كونفيدرالي من كرواتيا والاتحاد الفيدرالى المسلم ـ الكرواتى، للاتفاق على انسحاب القوات، الصربية والكرواتية، من خطوط المواجهة بينهما، فى وسط وشمالي شرقي البوسنة، لإقامة مناطق عازلة بين الأطراف المتصارعة على خطوط المواجهة.

وقد تجددت الخلافات بين الطرفين، وذلك حمل توزيع السلاح الأمريكي بين قوات الجانبَين، مما أدى إلى إرجاء تسلم الجيش الفيدرالي الأسلحة الأمريكية. وتعلقت الخلافات بنصيب كل طرف، ومواقع تخزين السلاح والتدريب عليه، إذ كان هناك اتفاق على تخزين ما بين 80 إلى 90 % من الأسلحة، في منطقة مسلمة، بالقرب من سراييفو، وإيداع الباقي في مخازن منطقة نيفنو الكرواتية غربي البوسنة.



[1] مما يذكر أن الكاثوليكية قد تعايشت مع الإمبراطورية العثمانية خلال خمسة قرون من حكمها للبوسنة والهرسك، وكانت طائفة الفرنسيسكان موجودة في الهرسك كلها وفي وسط البوسنة وغربها منذ نهاية القرن الثالث عشر حتى الفترة الحالية وهو ماجعلها قوة سياسية في البوسنة ومنذ بداية أزمة البوسنة، نادت بخطة فيدرالية ضد الكانتونات التي طلب بها الصرب