إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث التاسع

المبحث التاسع

جهود المجموعة الأوروبية وتدخل الأمم المتحدة

أولاً: جهود المجموعة الأوروبية قبل انتقال الحرب إلى البوسنة

أظهرت مؤسسات المجموعة الأوروبية، في بداية الأمر، موقفاً رسمياً، يعبّر عن عدم رغبتها في أن تتعامل مع كل جمهورية من جمهوريات يوغسلافيا على حِدَة. بل بدا، في بادئ الأمر، أن الأطراف الدولية كافة، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفيتي، المجموعة الأوروبية، صندوق النقد الدولي، مفوض يوغسلافيا، دول عدم الانحياز … الخ، كانت حريصة على عدم التفريط في كيان يوغسلافيا الاتحادي. لذلك، عندما اعترفت باستقلال سلوفينيا وكرواتيا، وقبولهما داخل إطار عملية الاندماج الأوروبي، اشترطت المجموعة الأوروبية ضرورة موافقة السلطات الاتحادية اليوغسلافية، أولاً. ومما يلفت النظر، أن أوروبا، من خلال آليات مجلس التعاون والأمن الأوروبيَّين، وليس واشنطن، ولا موسكو، ولا عواصم عدم الانحياز، هي التي بدأت أولى جولات المفاوضات، عندما أرسلت وفد الترويكا الأوروبية، للعمل على فض النزاع حول انتخاب رئيس لمجلس الرئاسة اليوغسلافي. ثم جاء الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية دول المجموعة الأوروبية، في لاهاي، في 5 يوليه 1991، الذي قررت فيه المجموعة إيفاد ترويكا مزدوجة إلى يوغسلافيا، تتشكل من مدنيين وعسكريين، يصل عددهم إلى 50 عضواً، للإشراف على احترام وقف إطلاق النار. إلى جانب وفد آخر من الترويكا، يضم وزراء خارجية كل من هولندا ولوكسمبورج والبرتغال، مهمته فتح باب الحوار بين الأطراف المتنازعة، في خصوص الاهتمام بالنواحي، القانونية والتقنية. كما قررت المجموعة الأوروبية، كذلك، فرض حظر بيع الأسلحة، من جانبها، إلى يوغسلافيا، ومناشدة العالم أجمع أن يطبق هذا الحظر، مع تعليق المساعدات الاقتصادية، التي كانت المجموعة الأوروبية، قد قررت تقديمها إلى يوغسلافيا، وقدرها 6 مليارات فرنك فرنسي، حتى عام 1996.

وفي 8 يوليه 1991، وافقت الأطراف المتصارعة في يوغسلافيا، وفي حضور وفد الترويكا، في بريوني على اتفاق، كانت قد وضعت المجموعة الأوروبية مسوَّدته. ويقضى بأن تبدأ إجراءات السلام في سلوفينيا، وأن تشرف الشرطة على المراكز الحدودية، وأن تقتسم مع بلجراد عائدات الجمارك.

وعلى الرغم من تصاعد حدّة القتال في كرواتيا، وتدخّل الجيش الاتحادي إلى جانب الصرب، فإن البيان الصادر عن وزراء المجموعة الأوروبية، في أغسطس 1991، لم يأتِ بأي ضغوط فعلية على الأطراف المتصارعة، لحثهم على إنهاء القتال. فقد نص البيان فقط على ضرورة إيجاد حل سلمي للأزمة، وأعلن خطة لتسوية الأزمة، تضمنت إقامة مؤتمر للسلام، بشرط إيقاف أعمال العنف، قبْل أول سبتمبر، موعد انعقاد المؤتمر، ومطالبة الحكومة الفيدرالية بالكف عن استخدام الجيش الاتحادي إلى جانب الصرب، مع تأكيد عدم اعتراف المجموعة بأي تغيير للحدود، من طريق العنف. كما طالب البيان اللجنة التابعة لمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيَّين بتأخير موعد اجتماعها إلى أول سبتمبر، الذي يمكن أن يرغم صربيا على وقف اعتراضها على مهمة قوات المراقبة، التي كانت المجموعة ترغب في إرسالها إلى كرواتيا. وأكد البيان ضرورة أن تجري المفاوضات على أساس مبدأَيْ عدم المساس بالحدود الداخلية ليوغسلافيا، وتوفير الضمانات لحقوق الأقليات في جميع الجمهوريات.

ومع استمرار القتال المسلح بين الكروات والصرب، بمساندة الجيش الاتحادي، وإعلان جمهوريتَي سلوفينيا وكرواتيا إنهاء تجميد إعلان الاستقلال، واتخاذ سلوفينيا الإجراءات التنفيذية المترتبة على إعلان الاستقلال ـ بدأ مؤتمر السلام، الذي دعت إليه دول المجموعة الأوروبية، أول اجتماعاته، في 7 سبتمبر 1991، في لاهاي، برئاسة اللورد كارينجتون، وزير خارجية بريطانيا السابق، وفي حضور دول المجموعة الأوروبية، وممثلي الجمهوريات اليوغسلافية كافة والحكومة الاتحادية. وعلى الرغم من انعقاد المؤتمر في موعده، فقد عكس فشل المجموعة الأوروبية في تصعيد إجراءاتها ضد الأطراف المتنازعة، والتي استمرت على الوتيرة نفسها وبالدرجة عينها في التفاعل مع الأحداث. مما عكس، بدوره، اختلاف وجهات النظر بين أعضائها تجاه الأزمة وأبعادها، وكيفية إنهائها. كما لم تنجح المجموعة الأوروبية والترويكا في تمهيد الطريق لمفاوضات جادّة، من أجل التوصل إلى حل سلمي للأزمة، وذلك للافتقار إلى آلية محددة لمواجهة الأزمات، خاصة مع فقدان عامل الوقت، في ظل تصاعد الأزمة وتعقُّدها.

وقد جاء أول مشروع حقيقي لتسوية شاملة للأزمة، في 18 أكتوبر 1991، حينما استأنف مؤتمر لاهاي اجتماعاته، بمشاركة سايروس فانس، المبعوث الخاص لسكرتير الأمم المتحدة. إذ وُقِّع اتفاق لوقف غير مشروط لإطلاق النار. ووافقت خمس جمهوريات، مبدئياً، على هذا المشروع، الذي تقدم به اللورد كارينجتون، نيابة عن المجموعة، لمنع تمزيق يوغسلافيا، في وقت لا تريد فيه أوروبا عمليات انفصال، عِرقي وطائفي، تشكل سابقة، في أكثر اللحظات حرجاً لأوروبا، في سعيها نحو الاندماج، خاصة أن دولاً أوروبية عديدة، تعاني مشاكل الأقليات المطالبة بالانفصال.

ولكن، من الثابت، في هذه المرحلة، وقبل انتقال الصراع إلى البوسنة، أن هذا لم يكن موقف كل دول المجموعة الأوروبية، من دون استثناء. ذلك أن أطرافاً أوروبية، في مقدمها ألمانيا وإيطاليا والنمسا والمجر، قد أظهرت توجهات، أشعرت بأن لها مصلحة خاصة في تمزيق يوغسلافيا. وهو ما يفسر تسرب الكثير من الأسلحة في كرواتيا، وتصاعد قدراتها المالية، التي مكّنتها من الصمود في وجْه الهجوم الصربي. كذلك وجود مرتزقة كثيرين في صفوف الميليشيات الكرواتية، وفدوا من بلدان شتّى. وربما يرجع دور ألمانيا البارز في مساندة انفصال كرواتيا، إلى جانب الروابط التاريخية التي تجمعهما، إلى سعي ألمانيا المعاصر إلى النهوض بدور بارز، في قطاعات واسعة من بلدان شرقي أوروبا، وأن تحل محل الاتحاد السوفيتي، بوصفها الدولة ذات النفوذ الأعظم في تلك المنطقة، وتحويل الشرق والجنوب الأوروبيَّين إلى أمريكا لاتينية، تابعة لها. لذلك، كان الموقف الألماني المؤيد للكروات، والتعاطف، بعد ذلك، مع البوسنة، عندما انتقل الصراع الساخن إليها، والداعي إلى استخدام القوة ضد الصرب، متسقاً مع مصالحها وطموحاتها وعدائها التقليدي للصرب، بوصفهم القوى المنافسة للطموحات الألمانية، والساعية إلى السيطرة على شعوب يوغسلافيا السابقة، خاصة أنهم حلفاء روسيا الجديدة، الراغبة، كذلك، في استعادة مجدها المفقود في أوروبا الشرقية، من خلال الصرب. وقد انعكس الموقف الألماني في وصف وزير خارجية ألمانيا، جينشر، للحدود الإدارية الداخلية بين جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي، وكأنها حدود دولية تملك الحصانة الدولية. وهو وصف يبرر لألمانيا التدخل، بعد ذلك، لدعم انفصال سلوفينيا وكرواتيا.

وعندما اشتدت ضراوة قصف الجيش الاتحادي مدينة فوكوفار الكرواتية، لعدة أشهر، حتى دمِّرت تماماً، فقد شعرت أطراف أوروبية عديدة، بأن المواجهة فقدت طابعها، كمواجهة بين جهة شرعية، هي السلطة الاتحادية، وجهة انفصالية، هي كرواتيا، وإنما هي تصفية حسابات ثأرية، بين الصرب والكروات، ترجع إلى سنوات بعيدة.

وعندما بدأ اللورد كارينجتون مهمته، كمبعوث الجماعة الأوروبية، وهو صاحب قرار مجلس الأمن، 242، الشهير، الصادر عقب العدوان الإسرائيلي، في يونيه 1967 ـ تقدم بمشروع تسوية، كان له غير صيغة. أكدت الصيغة الأولى إعطاء كل الجمهوريات وضع الدول المستقلة، على أن يقام بينها نوع من التحالف، للمحافظة على سوق مشتركة بينها، أي نوع من الاتحاد، على غرار اتحاد جمهوريات مستقلة ذات سيادة، الذي كان جورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي السابق، قد طرحه، ليؤخر، قدر الإمكان، تفكك كيان الاتحاد السوفيتي. كما أكدت هذه الصيغة الأولى معنى "حقوق الإنسان"، والدفاع عن الأقليات، وتحديداً إقرار "وضع خاص" للصرب في كرواتيا، من منطلق أنهم يشكلون أقلية كبيرة، مهددة، في ظل حصول كرواتيا على استقلالها، وأن يشمل هذا الوضع الخاص نظاماً قضائياً خاصاً للصرب في كرواتيا، وقوة شرطة خاصة بهم. باختصار، يحقق لهم نوعاً من الحكم الذاتي في المناطق التي يتمركزون فيها. غير أن هذه الصيغة الأولى، لم تكن موضع رضىً من الأطراف، إذ أعلن ميلوسيفيتش أن هذا المشروع، يعني القضاء على يوغسلافيا، كدولة ذات سيادة، وهي إحدى الدول المؤسسة للأمم المتحدة، ويشجع، بعد ذلك، على انفصال باقي الجمهوريات الست. ولذلك عدَّل كارينجتون الصيغة الأولى لمشروعه. وأفضت المفاوضات العديدة التي أجراها، إلى غير صيغة معدلة، تضمنت آخرها ضمانات، تكفل استمرارية الوجود القانوني الدولي للدولة اليوغسلافية، مع التسليم بوجود آليات لإنجاز استقلال الجمهوريات، ضمن إطار الدولة الموحدة.

ومع ذلك، لم تحُلْ هذه الجهود دون استمرار القتال في كرواتيا، حتى تدخل مجلس الأمن، إثر انهيار المحاولة 13 لوقف إطلاق النار، بقراره الرقم 721، في 27 نوفمبر 1991، الذي أقر، بالإجماع، طلباً لم يرَ كلٌّ من صربيا وكرواتيا مناصاً من التقدم به. وهو أن تتولى الأمم المتحدة نشر قوة دولية، لحفظ السلام بين الأطراف المتحاربة. وقد تقرر أن يتولى وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق، سايروس فانس، مندوباً عن الأمم المتحدة، مهمة التوصل إلى صيغة في شأن نشر هذه القوة. ذلك لوجود خلاف بين الجانبَين، الصربي والكرواتي، حول المناطق التي تنتشر فيها هذه القوة الدولية. فقد أصرّت كرواتيا على نشرها في منطقة الحدود، التي تفصلها عن سائر الجمهوريات. بينما أصرّت صربيا، ومعها الجيش الاتحادي، على نشرها في مناطق القتال الحالية. كما كان هناك إصرار من مندوب الأمم المتحدة على ضرورة وقف إطلاق النار، وبصفة نهائية، كشرط مسبق، قبْل نشر القوات الدولية، لتأمينها. كذلك أجَّل مجلس الأمن فرض الحظر النفطي على يوغسلافيا، كحل وسط بين الدول الغربية، التي كانت تدعو إلى فرض هذا الحظر، حتى يتوقف الجيش الاتحادي عن القتال ضد الكروات، وبين دول عدم الانحياز، خاصة الهند واليمن وكوبا والإكوادور، التي عارضت هذا الحظر، على أساس أنه يضر بالشعب، وليس الجيش، الذي فرض في شأنه حظر على صادرات السلاح، بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 713، في 25 سبتمبر 1991.

وربما كانت أول محاولة إيجابية، من قِبل المجموعة الأوروبية، لتكثيف الضغوط الدولية على يوغسلافيا، هي التي جاءت عقب اجتماع وزراء خارجية المجموعة في روما، على هامش اجتماعات حلف شمال الأطلسي، في أوائل نوفمبر 1991، بفرض عقوبات اقتصادية على يوغسلافيا. وهو ما يعكس حالة الإحباط والاستياء العام، اللذين أصابا دول المجموعة من الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأزمة، والفشل المتكرر لمؤتمر لاهاي، واستمرار المعارك الطاحنة بين الصرب والكروات. إذ نصت قرارات المجموعة الأوروبية على التعليق الفوري لاتفاق التجارة والتعاون مع يوغسلافيا، المعقود عام 1980، وبدء الإجراءات القانونية لإنهائه كلية، مما يعني إيقاف بروتوكولات التعاون الاقتصادي والمالي، التي كانت تحصل يوغسلافيا، بموجبها، على أكثر من مليار دولار. وتعَدّ هذه أول سابقة في تاريخ المجموعة، تُوقِف فيها اتفاقاً للتعاون مع دولة ما، مما ترتب عليه فقدان يوغسلافيا للشروط التفضيلية، التي كانت تتمتع بها صادراتها إلى السوق الأوروبية، والتي قدِّرت، عام 1991، بحوالي 45% من حجم صادراتها في العام السابق له، و60% من صادراتها، عام 1992، بخسارة فعلية، بلغت 60 مليون دولار. كذلك إعادة فرض نظام التحديد الكمي على صادرات يوغسلافيا من المنسوجات إلى المجموعة الأوروبية، والتي تمثل نحو 20% من الصادرات اليوغسلافية، ووقف الاستفادة من نظام الفضليات الذي كانت تتمتع به يوغسلافيا في تجارتها مع المجموعة. إضافة إلى إيقاف المساعدات الاقتصادية، التي كان ينص عليها برنامج إعادة بناء النُّظُم المصرفية لدول شرقي أوروبا، والذي كانت تحصل يوغسلافيا، بموجبه، على 120 مليون دولار.

وقد أثرت هذه العقوبات، بشدة، في صادرات يوغسلافيا إلى الدول الأوروبية، التي تراوح ما بين 600 و700 مليون دولار، خاصة أنها فُرضت في وقت حرج، كان فيه معظم تجارة يوغسلافيا تتحول إلى أوروبا. إذ وصل حجمها مع الدول الأوروبية إلى 6.6 مليارات دولار، والواردات من السوق إلى مليارين و600 ألف دولار، والواردات من السوق الأوروبية إلى 6.2 مليارات دولار. وقد صعدت المجموعة الأوروبية تلك العقوبات إلى المستوى الدولي، بمطالبتها مجلس الأمن باتخاذ إجراءات إضافية، لدعم فاعلية الحظر المفروض من قِبل هذا المجلس على صادرات السلاح إلى يوغسلافيا، كأداة لتعطيل القدرة القتالية للأطراف المتنازعة، خاصة الجيش الاتحادي، وكذلك إرسال قوات دولية لحفظ السلام.

ويعَدّ موقف ألمانيا أكثر المواقف راديكالية، بين مواقف الدول الأوروبية المتباينة، تجاه الصراع الذي دار في يوغسلافيا، في هذه المرحلة، وكان له انعكاس في أولويات الأمن الإقليمي الأوروبي، تبعاً لمصالح الدول الأوروبية في استقلال الجمهوريات المنشقة، أو في بقاء الاتحاد في صورتـه التي كان عليها. فبهذا الاعتراف المبكر، خرجت ألمانيا على الإجماع الأوروبي، الذي كان لا يزال ينتظر قرار لجنة التحكيم، التي كانت تبحث مدى التزام الجمهوريات اليوغسلافية بالشروط، التي وضعتها المجموعة الأوروبية، للاعتراف بهذه الجمهوريات. وقد وضع هذا الاعتراف أوروبا أمام واقع جديد، ساعد على إذكاء الصراع في باقي الجمهوريات، كما قال، بعد ذلك، كريستوفر، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية. فبعد أن أعلنت ألمانيا، صراحة، اعترافها بكل من سلوفينيا وكرواتيا، راحت تضغط على دول أخرى، مثل المجر والنمسا وبولندا وفرنسا، من أجْل الاعتراف باستقلالهما. إضافة إلى إبلاغ الحكومةِ الألمانية الحكومةَ اليوغسلافية، رسمياً، في 6 ديسمبر 1990، قرارها تجميد اتفاق التعاون بين البلدين، في مجال النقل والمواصلات. كما رحّب المستشار الألماني، هيلموت كول، بفرض العقوبات الاقتصادية الأوروبية على يوغسلافيا. أما وزير الخارجية الألماني، جينشر، فقد دعا إلى فرض حصار اقتصادي دولي مُحكَم على الصرب، يشمل تصدير النفط وتجميد أرصدة يوغسلافيا لدى المصرف المركزي الاتحادي. وكان عدد اللاجئين من يوغسلافيا إلى جنوبي ألمانيا، حتى بداية عام 1992، قد زاد على 30 ألف لاجئ، معظمهم من كرواتيا وسلوفينيا، مما زاد الأعباء، الاقتصادية والاجتماعية، في ألمانيا، خصوصاً مع ظهور مجموعة النازيين الجدد، المعادية للأجانب.

أما اليونان، فقد كان موقفها مؤيداً، بشكل عام، لبقاء الاتحاد اليوغسلافي، وبشكل خاص مؤيداً لصربيا. في حين كان الموقف البريطاني، في الظاهر، لامبالياً، وإن كانت بريطانيا تؤدي، في الخفاء، دوراً في مصلحة الصرب حلفائها القدامى، بهدف الحد من الطموح الألماني. لذلك، رأت إنجلترة أن الإسراع في الاعتراف بالجمهوريات المنشقة عن الاتحاد اليوغسلافي، سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في الجمهوريات الأخرى، كما أن الاعتراف باستقلالها في حدّ ذاته، لن يؤدي، بالضرورة، إلى وقف إطلاق النار، وإنْ كان لدى لندن قناعة كاملة بأن حصول جمهوريات يوغسلافيا على استقلالها الكامل، هي مسألة وقت. وفي ما يتعلق بفرنسا، فقد شهد موقفها تدرجاً. فبعد أن كان يقوم على مبدأَين أساسيَّين، هما الحفاظ على وحدة يوغسلافيا، وحق تقرير المصير للأقليات، نجده يتحول، مع بداية 1992، إلى جانب ألمانيا، حرصاً على الدور الكبير للمارك الألماني في دعم الفرنك الفرنسي.

كان الاعتراف الأوروبي باستقلال كرواتيا وسلوفينيا، في منتصف يناير 1992، أشبه بإطلاق العنان لدعاوى الانفصال في سائر جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي، وتسريع وتيرتها. وفي محاولة استباقية لمواجهة توالي إعلان الجمهوريات المستقلة الجديدة، وضعت الجماعة الأوروبية شروطاً لاعترافها بهذه الدول الجديدة. في مقدمها التزامها بعدم استخدام القوة لتعديل الحدود القائمة فعلاً، وأن أي تعديل لها يجب أن يكون بالطرق السلمية، من خلال الاتفاق المشترك، والتحكيم والتفاوض. إضافة إلى شرط التزامها بحقوق الأقليات فيها، واحترام المواثيق الدولية كافة، وفي صدارتها ميثاق الأمم المتحدة، وإعلانا هلسنكي وباريس، خصوصاً البنود المتعلقة بدولة القانون والديموقراطية. ومن ناحيتها، أصرّت اليونان على إضافة فقرة إلى وثيقة المبادئ المتعلقة بالجمهوريات اليوغسلافية، تحميها من مطالب إقليمية من جانب مقدونيا، الواقعة على حدودها. وبالفعل، أصدرت جمهورية مقدونيا دستوراً وضمانات سياسية، أكدا عدم وجود مطالب إقليمية لديها ضد أي دولة مجاورة، عضو في المجموعة الأوروبية، والمعني بها، طبعاً، اليونان، وأن تتحفظ في القيام بالدعاية لأغراض إقليمية.

ومن الملاحظ، في هذه المرحلة من الصراع في يوغسلافيا، أي في الأشهر الأولى من عام 1992، ازدواجية المعايير، التي اتسمت بها السياسة الأوروبية. ففي حين كان هناك إسراع في الاعتراف بسلوفينيا وكرواتيا، فإن الموقف الأوروبي من الاعتراف بالبوسنة والهرسك ومقدونيا، عندما أعلنا استقلالهما، قد اتسم بالتريث والتسويف، لمعايير ومعادلات سياسية ومصلحية، فرضت على الجماعة الأوروبية تبنّي صيغة وسطاً، تمثلت في عدم سحب اعترافها بما تبقّى، حتى هذه اللحظة، بداية عام 1992، من الاتحاد اليوغسلافي.

وقد قابلت الجماعة الأوروبية مشاكل عديدة، عقب اعترافها باستقلال كرواتيا وسلوفينيا، واستعدادها للاعتراف باستقلال سائر الجمهوريات، تمثلت في الآتي:

1. استقلال كرواتيا المنقوص

إذ فرضت تطورات الحرب الأهلية، هناك، أن وضع الصرب أيديهم على ثلث مساحة كرواتيا، المعروف بإقليم كرايينا، لذلك، طالبت صربيا بإعادة ترسيم حدود كرواتيا ترسيماً، لا تضم معه سوى الأراضي التي تقع تحت سيطرة قواتها، عقب قبول الأطراف المتقاتلة بوقف إطلاق النار، في 2 يناير 1992. كذلك، وضع القوات الدولية في المناطق الساخنة، وأن تحل محل الجيش الاتحادي في حماية السكان الصرب. بينما أصرت كرواتيا على سحب أسلحة الميليشيات الصربية، وانسحاب الجيش الاتحادي، ونشر القوات الدولية على خط الحدود بين صربيا وكرواتيا. ونتيجة الضغوط الأوروبية على صربيا، فقد استجابت لمطلب سحب الجيش الاتحادي، وطالبت الصرب سكان إقليم كرايينا بالاستجابة لمطالب القوات الدولية، التي انتشرت في مناطق الحدود والمناطق الساخنة على السواء، ونزع سلاح الميليشيات الصربية، التي كان يقودها بابيتش، الذي كان قد أجرى استفتاء، في 7 مارس 1992، للسماح للقوات الدولية بالانتشار في أراضي الإقليم، الذي يسيطر عليه.

ومما لا شك فيه، أن موقع كرواتيا البحري، يغري الصرب بالمحافظة على نوع من الهيمنة على كرواتيا. إذ إن يوغسلافيا الاتحادية، كانت تمتلك، قبل تفككها، بحْرية قوية، تضم 10 غواصات، و15 زورق صواريخ، و14 صائدة ألغام، و35 سفينة إنزال بحري، إضافة إلى عدد آخر من سفن الإمداد والنقل والخدمة اللوجستية. وهذه القوة كانت مخصصة للدفاع عن ساحل، يمتد بطول 600 كم، ويصل إلى 2300 كم، إذا ما أضيف إليه كل الجزر والخلجان، التابعة ليوغسلافيا. وعند استقلال كرواتيا، فإن طول الساحل المخصص للصرب، لم يتجاوز 100 كم، في حين يكون الشريط الساحلي الكبير من نصيب كرواتيا، التي تنتشر على مسافة 80% من الساحل اليوغسلافي القديم. وعلى هذا، فإن استقلال كرواتيا، سيجعل منها دولة تمتلك بحراً، ولكن من دون قوة بحرية كبيرة. بينما تكون صربيا والجبل الأسود دولة، تمتلك قدرة بحرية كبيرة، ولكن من دون بحر. وقد كان لهذه الحقيقة دورها في الصراع الكرواتي ـ الصربي.

2. مخاوف اليونان من استقلال مقدونيا

رأت اليونان، أن تعهد زعماء مقدونيا بعدم وجود مطالب إقليمية لمقدونيا في اليونان، ونص دستور مقدونيا على ذلك، ليس سوى تكتيك مرحلي، يستهدف تثبيت دعائم الدولة المستقلة، وانتزاع اعتراف دولي بها، ستنتقل بعده مقدونيا إلى العمل من أجْل استعادة أراضيها في شمالي اليونان وجنوبي غربي بلغاريا. وقد ضاعف من هذه المخاوف تنامي رأي عام في مقدونيا مؤيد لتلك التوجهات، إضافة إلى تنافس الأحزاب على أساس تحقيق هذه الأهداف الوطنية. ونتيجة لهذه المخاوف، انهارت أول محاولة للحوار بين اليونان ومقدونيا، بسبب إصرار أثينا على أن تغيّر مقدونيا اسمها إلى "سكوبيا"، نظراً إلى ما ينطوي عليه اسم مقدونيا من نوازع توسعية وقومية، تهدد اليونان. وهو الأمر الذي رفضته مقدونيا، لكونه لا يندرج ضمن شروط اعتراف الجماعة الأوروبية بها. ومن ناحيتها، اعترفت بلغاريا باستقلال مقدونيا، مما هدد التحالف، الذي كان قائماً بينها وبين اليونان وصربيا. في حين دعمت تركيا ألبانيا، الساعية إلى ضم إقليم كوسوفو، مما دفع اليونان إلى إثارة الأقلية اليونانية في ألبانيا، والتي يمثلها حزب "أمونيا". أما رومانيا، فقد رفضت الاعتراف بمقدونيا، أو بأي من الجمهوريات اليوغسلافية، قبل التفاهم على ذلك مع اليونان وصربيا. ذلك لأن رومانيا تضم أقلية صربية، وهي تخشى غضب الصرب عليها.

3. مخاوف انتقال الحرب إلى البوسنة والهرسك

استجابة للشرط الأساسي، الذي وضعته الجماعة الأوروبية، للاعتراف الدولي بالبوسنة والهرسك، ككيان مستقل عن الاتحاد اليوغسلافي، تعهدت السلطات في البوسنة بعدم السماح للأقلية الصربية فيها بالاستقلال. وهو ما عارضته الأقلية الصربية، وعَدَّته "إعلان حرب". وفي محاولة لتجاوز هذا التباين، اتفقت صربيا وكرواتيا والبوسنة على مؤتمر، عقد في لشبونة، في فبراير 1992، رعته البرتغال، وأوصى ببقاء البوسنة والهرسك ضمن حدودها الحالية، على أن يُشكَّل فيها ثلاث دول قومية اتحادية: "إسلامية ـ كرواتية ـ صربية"، تتمتع بقدر كبير من الاستقلال الذاتي، مع التشديد على استمرار المفاوضات بينها، لإيجاد حل نهائي للمشكلة. وقد برزت مخاوف أوروبية من احتمال امتداد الحرب الأهلية الدائرة، إلى البوسنة والهرسك، خاصة مع تشدُّد صرب البوسنة في الانفصال عن جمهورية البوسنة، ورفض الجيش الاتحادي الانسحاب منها. وقد انعكست هذه المخاوف في دعوة كل من فرنسا وبريطانيا وبلجيكا، إلى مدّ نشاط القوات الدولية إلى حدود البوسنة والهرسك مع كرواتيا، إدراكاً من هذه الدول الثلاث أن انتقال الحرب إلى البوسنة، سيشكل كارثة إنسانية محدِقة، تفوق كثيراً تلك التي شهدتها كرواتيا. لذلك، استجابت الأمم المتحدة، لطلب هذه الدول، ومدت نشاط القوات الدولية إلى حدود البوسنة والهرسك مع كرواتيا.

4. مشاكل فنية

منها ما يتعلق بتقسيم الإرث الاقتصادي، على صعيدَي الموارد والديون، وحصة كل جمهورية، ولا سيما أن معظم المؤسسات الاتحادية، توجد في بلجراد، عاصمة صربيا، إضافة إلى مقارّ السفارات والقنصليات والكوادر الدبلوماسية في الخارج. وما يتعلق، كذلك، بالإرث العسكري، الخاص بقدرات الجيش الاتحادي وعتاده، في ظل هيمنة صربيا عليه، وتركُّز معظم قواته ومخازنه ومستودعاته ومصانعه الحربية في صربيا. كذلك، ما يتعلق بكيفية ومستقبل العلاقات بين الجمهوريات الجديدة، لا سيما الاقتصادية منها، بالنظر إلى التداخل والتشابك الاقتصادي، الذي كان قائماً، وطبيعة الاعتماد والتبادل، سواء بالنسبة إلى المواد الخام اللازمة للتقدم الصناعي، أو توزيع المنتجات في عموم يوغسلافيا. وهنا، تبرز وجاهة مقترح البوسنة والهرسك في شأن إنشاء مجموعة للدول المستقلة، على غرار الكومنولث، الذي نشأ بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي المستقلة، عقب تفككه، وبما يتيح تكريس التعاون الوثيق، الذي يفرضه الواقع والمصالح الاقتصادية للجمهوريات المستقلة، وما يعنيه هذا التعاون من حرية انتقال الأفراد، والتبادل التجاري، والتكامل الوظيفي الاقتصادي بينها.

ثانياً: تدخّل الأمم المتحدة، قبْل انتقال الحرب إلى البوسنة

اتخذ مجلس الأمن قراره (743)، في 21 فبراير 1992، بإرسال قوات لحفظ السلام في الجمهوريات اليوغسلافية، بعد القتال العنيف الذي دار بين الصرب والكروات، واستمر لمدة ستة أشهر تقريباً. وتضمن قرار المجلس طلباً إلى جميع الأطراف المتصارعة في يوغسلافيا، بالتعاون بشكل كامل على تطبيق خطة الأمم المتحدة لحفظ السلام، المتضمنة نشر القوات الدولية في ثلاث مقاطعات، هي سلوفينيا الغربية وسلوفينيا الشرقية وكرايينا، لتصبح هذه المقاطعات منزوعة السلاح، وتشرف عليها قوات الأمم المتحدة. كما طلب قرار مجلس الأمن التعاون الكامل مع المؤتمر الدولي حول يوغسلافيا، والذي يرأسه اللورد كارينجتون. وذكر أن نفقات هذه العملية، التي عُدَّت، آنذاك، أضخم عملية تضطلع بها الأمم المتحدة، بعد عملية الكونغو، عام 1960، قدرت بمبلغ 634 مليون دولار، لمدة سنة، ستدفع الولايات المتحدة الأمريكية منها ما نسبته 30%. وطلب إلى 31 دولة المشارَكة في هذه القوات، منها الأرجنتين وأستراليا وبلجيكا وبنجلاديش والبرازيل وكندا وكولومبيا وتشيكوسلوفاكيا والدانمرك ومصر وفنلندا وفرنسا وغانا ونيجيريا والبرتغال وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وسنغافورة والسويد وسويسرا وبريطانيا وفنزويلا. وتقرر تنظيم القوة من 10.400 رجل من المشاة، في 12 فرقة، ومن 2.840 رجلاً، للعمل في مجال القيادة والسيطرة والأجهزة اللوجستية وعناصر الدعم. إضافة إلى مائة مراقب عسكري، ووحدة جوية من أربع طائرات، وست وعشرين طائرة عمودية.

وقد جاء تدخل الأمم المتحدة، في هذه المرحلة، بناء على جهود أوروبية ـ أمريكية مشتركة، واستناداً إلى تقارير سايروس فانس، المكلف بالملف اليوغسلافي في الأمم المتحدة. ولهذا أمكن، دونما جهد كبير، القضاء على المعارضة، التي أبداها الصرب والكروات، عند صدور قرار مجلس الأمن بالتدخل. فانتشرت قوات الأمم المتحدة، من دون عراقيل كثيرة، في مناطق القتال، بين الصرب والكروات.