إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث العاشر

المبحث العاشر

انتقال الحرب داخل البوسنة والهرسك

في الفترة من أبريل 1992 إلى ديسمبر 1993

أولاً: تطور الأحداث

ما أن تمكنت المجموعة الأوروبية، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، من وضع حد للمعارك الدائرة في سلوفينيا وكرواتيا، حتى بدأت الأنظار تتجه إلى جمهورية البوسنة والهرسك. وكانت المخاوف كبيرة من اندلاع الصراع في هذه الجمهورية، للعديد من الأسباب التي سبق تناولها. وبالفعل، نقل الصرب جهودهم، عقب توقف القتال في جبهة كرواتيا، إلى الجهة الأخرى، جبهة المسلمين في البوسنة والهرسك. وتعود الشرارة الأولى في اندلاع الصراع على أراضي البوسنة، إلى الاستفتاء العام الذي جرى فيها، في 29/2/1992، في شأن الاستقلال عن يوغسلافيا، وتصويت أغلبية السكان لمصلحة هذا الاستقلال. ولئن عجز الصرب عن تحقيق نصر كبير في الجبهة الكرواتية، بسبب توافر الدعم الألماني والنمساوي للكروات، فقد كانوا (الصرب) يتوقعون تحقيق نصر حاسم على الجبهة البوسنية، بسبب عدم توافر قوات أو أسلحة على هذه الجبهة. ولم يكن من الصعب إشعال فتيل الحرب، ما دام في داخل البوسنة والهرسك نسبة من الصربيين.

فعلى أثر إعلان استقلال الجمهورية البوسنية، تفجّر الصراع، فعلياً، بين الصرب، من ناحية، والمسلمين والكروات، من ناحية أخرى. وتدخل الجيش الاتحادي إلى جانب الصرب، من أجل سرعة تمكينهم من السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من أراضي الجمهورية، وفرض الأمر الواقع إلى حين التوصل إلى تسوية سياسية، تأتي انعكاساً لهذا الأمر الواقع. وأعلن صرب البوسنة دولتهم المستقلة في 5 أبريل 1992، من جانب واحد.

وهكذا، ومع مطلع شهر أبريل 1992، بدأت الميليشيات والعصابات الصربية المنظمة استفزازاتها وأعمالها العدوانية، ضد المسلمين والكروات في البوسنة والهرسك. وقد تمكنت القوات النظامية والميليشيات الصربية، خلال شهر ونصف من القتال، من إحكام الخناق على المسلمين، والسيطرة على المراكز الإستراتيجية المهمة في البوسنة والهرسك. كما تعرضت المناطق الشرقية للبوسنة، المجاورة لصربيا، مثل مدينة جورازدي الإستراتيجية، التي تقطنها أغلبية مسلمة، لعمليات حصار وقصف مدفعي شديد، تسبب بسقوط آلاف القتلى والجرحى، مع تدمير شبه كامل في المباني والمنشآت والمرافق الحيوية، حتى إن معونات الإغاثة الإنسانية، التي أرسلها بعض الدول على عَجَل لإنقاذ المسلمين وقوات حفظ السلام الدولية، لم تسلم من خسائر شديدة، بسبب عمليات القصف العشوائي، التي كانت تمارسها القوات والميليشيات الصربية ضد المدن البوسنية، بما في ذلك العاصمة سيراييفو.

ويمكن إدراك شيء من بشاعة عمليات القصف الصربي، عندما نتوقف أمام ما تناقلته وكالات الأنباء، بعد شهر ونصف تقريباً من بداية القتال في الجبهة البوسنية، إذ تقول: "استؤنفت المعارك في عاصمة البوسنة والهرسك، سيراييفو، بعد ساعات قليلة من إعلان الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالي، أن سيراييفو أصبحت مكاناً خطراً جداً، رغم كونها مقراً للقيادة العامة للقوات الدولية في يوغسلافيا. وذكر أن قتالاً ضارياً تدور رحاه في شوارع ضواحي سيراييفو وأحيائها، منها المنطقة المحيطة بمبنى القيادة العامة للقوات الدولية. ويصد المدافعون، ببسالة، الهجوم الصربي المدعوم بالمدرعات، والذي يرمى إلى توسيع منطقة نفوذ الصرب في العاصمة، والذي يؤكد أن وقف إطلاق النار، الذي أعلنه الصرب، لم يكن أكثر من خدعة.

ورافق الهجوم قصف عنيف بقذائف المدفعية الثقيلة والدبابات ومدافع الهاون، مما أدى إلى اشتعال الحرائق وتدمير مبانٍ أثرية ومنشآت مهمة كثيرة، من بينها المقر الرئيسي للإذاعة والتليفزيون، ودار المتقاعدين، التي تتخذ منها القوات الدولية مقراً عاماً لها، إذ أصيب بعدد من القذائف، وعمارة الغرفة التجارية، التي يقع فيها المركز الصحافي الدولي للبوسنة والهرسك. إضافة إلى مصانع ومباني شركات كبيرة. وسقطت خمس قذائف هاون على الفندق، الذي تستخدمه القوات الدولية كمقر لأفرادها، مما أدى إلى إصابة جندي كندي من قوة حفظ السلام الدولية بجروح. كما اشتعلت النار في 12 سيارة تابعة للمنظمة الدولية. وذكر أن رئيس الجمهورية،علي عزت بيجوفيتش، قد وجّه نداءً إلى المواطنين من تليفزيون سيراييفو، دعاهم فيه إلى الدفاع عن العاصمة ودحر العدوان.

كما طلب عضو قيادة الدفاع المحلي في البوسنة، العقيد بوفاك ديفياك، في بيان بثته الإذاعة، من كل المواطنين القادرين على حمل السلاح، الالتحاق بمراكز الدفاع المحلي، فوراً. كما بثت إذاعة سيراييفو نداءً وجّهه مدير الإعلام في مجلس رئاسة جمهورية البوسنة، خيرالدين سايمون، دعا فيه الأطراف المتحاربة إلى تمكين الصحفيين الأجانب، المحتجزين في الفنادق التي تتعرض للقصف، من الانتقال إلى مراكز أخرى أكثر أماناً. هذا، وقد صرح الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالي، أن الصرب يتحملون المسؤولية الكاملة في الحرب الدائرة في البوسنة. وأنه بعد اطلاعه على تقرير مبعوثه إلى يوغسلافيا، (ماراك جولدينج)، لا يمكنه إرسال قوات دولية إلى البوسنة، بسبب غموض الموقف. كما أنه ليس في المستطاع تلبية طلب المسؤولين في البوسنة، في شأن نشر هذه القوات، ما دام القتال مستمراً.

وتبعاً لذلك، فقد جرى تخفيض عدد العاملين في مقر القيادة العامة للقوات الدولية في سيراييفو، إلى الثلث، حتى لم يبقَ هناك أكثر من مائتي جندي فقط، بسبب الأخطار المحدِقة بهم، نتيجة المعارك الضارية التي يقع في ساحتها مبنى القيادة. وذكر أن المعارك الضارية تدور رحاها أيضاً في سبع مدن أخرى في البوسنة، معظم سكانها من المسلمين، من بينها موستار وبيهاتش وخاجيتش وزينيتسا وجورازدي. كذلك، اقترح بطرس غالي أن تُترك جهود المفاوضات والبحث عن تسوية سلمية في البوسنة والهرسك للمجموعة الأوروبية، وليس لمجلس الأمن والأمم المتحدة.

فيما سارت المجموعة العربية لدى الأمم المتحدة في الاتجاه المعاكس. إذ طلبت، بعد ساعات من صدور هذا الاقتراح، انعقاد مجلس الأمن رسمياً، لبحث الموقف. وهذه أول مواجهة سياسية بين المجموعة العربية، وبين الأمين العام للأمم المتحدة. وذُكر أن رئيس المجموعة العربية في الأمم المتحدة، لتلك الفترة، سفير دولة الإمارات، محمد جاسم سرحان، قد اجتمع مع رئيس مجلس الأمن وسلمه رسالة من أمين عام الجامعة العربية، د. عصمت عبدالمجيد، تضمنت رغبة المجموعة العربية في عقد مجلس الأمن، من أجل النظر في الممارسات التي يقوم بها الصربيون ضد الشعب في البوسنة والهرسك.

وتتلخص غاية المجموعة العربية من انعقاد مجلس الأمن في إصدار قرار رسمي، أو بيان سياسي تحذيري إلى الصرب، لسحب قواتهم العسكرية، والسماح للأمم المتحدة بتقديم المساعدات الإنسانية، وإدانة الممارسات العدوانية، والتوقف عن تدمير الآثار الإسلامية. وذُكر أن الأمين العام للجامعة العربية، قد أظهر استياءه الكبير بموقف بطرس غالي، لا سيما أن المملكة العربية السعودية، قد أعلنت استعدادها، في منظمة المؤتمر الإسلامي، للإسهام في توفير الإمكانات المالية اللازمة لعمليات الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك. وبقي موضوع الجيش الاتحادي، هو السبب الرئيسي في معاناة المسلمين في هذا الإقليم، نظراً إلى وقوفه إلى جانب الصرب المسيطرين عليه. وعلى الرغم من اتخاذ قرار بسحب أفراده، من غير مواليد البوسنة والهرسك، فإن بقاء الألوف من أفراده ومعداته في جمهورية البوسنة، باعتبارهم من مواليدها؛ وتحت الأوامر الصربية، يبقى خطراً على استقلال البوسنة وأمنها. ويعمل الجيش الاتحادي على دعم صرب البوسنة، لإحكام سيطرتهم، بهدف تقسيم هذه الجمهورية، بعد الاستيلاء على 65 بالمائة من أراضيها، مع العلم أن نسبتهم السكانية في حدود 33 بالمائة".

ومع استمرار المعارك الحربية وأعمال الحصار والقصف المدفعي، من جانب القوات والميليشيات الصربية، ضد المدن والقرى الصربية التي يقطنها المسلمون، كانت حصيلة القتلى منهم، حتى منتصف يوليه 1992، حوالي 50 ألف قتيل، وراوح عدد اللاجئين والمهجَّرين بين 500 ألف ومليون لاجئ، طبقاً لما أكده وزير خارجية البوسنة، حارس سيلاديتش. وقد فشلت كافة الجهود والمحاولات، التي بذلت لوقف إطلاق النار. فمنذ إعلان استقلال البوسنة وحتى 25/7/1992، انتهك الصرب وقف إطلاق النار 39 مرة. كما امتد القتال إلى مدن أخرى إلى جانب ما سبق ذكره، وهي بوسانسكي، كروبا، دوبوي، براتوناس، كالينونيك، نوجا ... إضافة إلى استمرار حصار وقصف العاصمة سيراييفو وغيرها من المدن التي تقطنها أغلبية مسلمة.

وخلال الأشهر الأولى من تَفجّر الصراع في البوسنة، أمكن استخلاص مجموعة من النتائج، أبرزها أن الصراع لم يكن متكافئاً بين الجيش والميليشيات الصربية، من جهة، والمسلمين، من جهة أخرى، بسبب عدم وجود الحد الأدنى من الأسلحة في أيدي المسلمين، حتى يكونوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم. كما ثبت أن الحصار، الذي فرضه مجلس الأمن حول صربيا لم يكن فعالاً، إذ كانت تصل إمدادات السلاح والذخيرة والوقود والمواد الغذائية، بلا انقطاع، من صربيا إلى القوات والميليشيات الصربية.

هذا في الوقت الذي كان الحظر فيه صارماً على تصدير السلاح إلى المسلمين في البوسنة. ولقد كان واضحاً، منذ بداية اندلاع أعمال القتال في البوسنة، أن الصراع يتَّخذ بعداً دينياً، وهو ما تمثل في الاعتداءات الصربية على المساجد الأثرية، والمنشآت الإسلامية ذات الطابع التاريخي، مع تشويه الهوية الثقافية والميراث الحضاري لمسلمي البوسنة، وتدمير المعالم الأثرية واعتقال الرموز الإسلامية وتصفيتهم.

كما ساعد اكتساح القوات الصربية السريع لمناطق عديدة من البوسنة، إلى جانب هجرة مئات الألوف من المسلمين إلى الدول المجاورة، على إحداث خلل في التركيبة الديموجرافية في البوسنة، إذ سيطر الصرب على ثلثَي أراضي البوسنة، في أقل من ثلاثة أشهر، وهو ما كان له تأثير بالطبع في المفاوضات التي جرت بعد ذلك، تحت مظلة الأمم المتحدة والجماعة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية. وقد ثبت في هذه المرحلة الأولى من العمليات القتالية، أن التحالف الهش الذي كان قائماً بين المسلمين والكروات، لن يصمد طويلاً، خاصة مع نزعات الانفصال لدى الكروات في البوسنة، ورغبتهم في الانضمام إلى كرواتيا، باعتبارها دولتهم الأم.

ثانياً: اشتداد المعارك

لم يكن من الصعب على حكومة صربيا والجبل الأسود الالتفاف من حول مسألة زَجّ الجيش الاتحادي في القتال، وسحبه من سيراييفو. والتوقف عند حدود دعم صرب البوسنة بالسلاح والعتاد والإمدادات المختلفة، من أجل التظاهر بالحرص على العلاقات بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ولتجنب الضغوط السياسية. وهذا ما أعلنته حكومة بلجراد، يوم 13/5/1992. ولكن في الوقت عينه، وعلى الرغم من إعلان الصرب وقف إطلاق النار من جانب واحد، فقد استمروا في إطلاق النار والعدوان، كما استمرت المعارك العنيفة في سيراييفو وعدد من مدن البوسنة والهرسك. أما بالنسبة إلى الجيش الاتحادي، فقد عمل على تدمير الثكنات التي قرر الانسحاب منها، بعد أن وجَّهت سلطات البوسنة إليه إنذاراً بالجلاء عن الثكنتين الرئيسيتين في سيراييفو، وإلا سيواجِه هجوماً شاملاً. كما عمل الجيش الاتحادي على تدمير القاعدة الجوية في مدينة بيهاتش، ذات الأغلبية المسلمة، والقريبة من الحدود مع كرواتيا، وذلك بعد ما قرر الانسحاب منها، بسبب بُعدها عن مناطق الأغلبية الصربية. وكانت هذه القاعدة من أحدث القواعد الجوية اليوغوسلافية وأكثرها تطوراً، وتقوم معظم منشآتها في الجبال، واستمر العمل في بنائها عشرين عاماً كاملة. كما تم فك ونقل الأجهزة التي يمكن نقلها والإفادة منها، وتدمير ما بقي، حتى لا تفيد منه حكومة البوسنة والهرسك وشعبها.

وأثناء ذلك، كانت تدور معارك عنيفة ورهيبة، ووجّه الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، نداء إلى مواطنيه، حضهم فيه على الصمود والتضحية الكاملة، لدحر العدوان الصربي. وذكرت الإذاعة البوسنية "أن القصف المدفعي قد استمر، في ما لا تزال المعارك تدور في شوارع عدة من سيراييفو. ويحاول السكان الهرب من المدينة، رغم الأخطار التي يتعرضون لها، حتى بات من المتوقع ألا يبقى فيها، بعد أيام، سوى المقاتلين فقط. ويقضي السكان لياليهم ومعظم ساعات النهار في الملاجئ، إذ يطلق القناصة رصاصهم من دون رحمة".

كما تحدث المستشار الرئاسي للبوسنة والهرسك، خيرالدين سايمون، عن معاناة سيراييفو، بعد الهجمات الضارية التي واصلها الصرب ضدها، في تلك الفترة، والتي أدت إلى قطع المساعدات الإنسانية عن سكانها المتضررين، الذين كانوا يعيشون بلا ماء، ولا كهرباء، ولا مواد غذائية. وأبدى قلقه إزاء "مصيدة الآلاف من سكان ضاحية اليجا، الذين يريدون مغادرتها بعد ما احتلها الصرب، ولكن الصرب احتجزوهم. ويقدر عددهم بحوالي سبعة آلاف شخص، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ". وكانت إذاعة سيراييفو، قد ذكرت "أن الطرف الصربي وافق، يوم 20 مايو 1992، على السماح للمحتجزين بالمغادرة. إلا أن المقاتلين الصرب، تراجعوا عن الاتفاق، بحجة أن قوات البوسنة والهرسك، لم تلتزم، من جانبها، بهذا الاتفاق الذي يقضى بتسليم جثث القتلى الصرب في الانتهاكات الأخيرة، ورفع الحصار عن ثكنات الجيش الاتحادي في سيراييفو.

وبعد مضى ثلاثة أشهر على تدخل الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك، لم تتمكن من عمل شيء لإيقاف الحرب الدائرة، أو حتى تخفيف معاناة المسلمين هناك. حتى قوافل الإغاثة لم تتمكن تلك القوات من حمايتها أو إيصالها إلى المناطق المنكوبة، وأولاها العاصمة سيراييفو، التي كانت تحت الحصار الصربي الشديد.

وكان الموقف، يوم 18 يونيه 1992، يتلخص في استمرار القصف المدفعي، وقتال الشوارع في سيراييفو. وكانت قافلة تابعة لقوات حفظ السلام، قد تمكنت من الوصول، بسلام، إلى وسط المدينة، بعد أن أمضت 36 ساعة تحت الحصار. وكانت تضم أربع آليات مدرعة تابعة للأمم المتحدة و60 مراقباً عسكرياً، مهمتهم هي المساعدة على إعادة فتح مطار المدينة، لاستقبال شحنات الإغاثة الدولية لنجدة السكان، الذين كانوا يتضوَّرون جوعاً. وكان القصف المدفعي المستمر من جانب الصرب، والمعارك الدائرة على مدار الساعة، سبباً في إعاقة خطة الأمم المتحدة لتأمين المجال الجوي في سيراييفو. فقد كانت جثث القتلى متناثرة في الشوارع المهجورة، والنيران تطلق بشكل عشوائي من جانب الصرب، المتحصنين في تلال إجمان المطلة على سيراييفو. ومنها كانت المدفعية الصربية تُصْلِي منشآت المدينة بقذائفها. وكانت ضاحية دوبرينا، التي يبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة، هي الأكثر تضرراً، إذ كانت تتعرض، إلى جانب قصف المدفعية، لقصف الدبابات الصربية. في الوقت نفسه، كانت الميليشيات الصربية تشتبك في قتال متلاحم مع قوات المسلمين، في ضاحية هراسنو.

وقد عبَّر العضو الكرواتي في الرئاسة البوسنية، ستيبان كلويتش، عن هذه المأساة، يوم 18 سبتمبر 1992 بقوله: "إن الغرب هو المسؤول عن إطالة أمد النزاع في البوسنة والهرسك، بسبب تمهّله في دعم استقلالها. إن المئات يقتلون يومياً، وعيونهم شاخصة إلى الغرب. إن السياسيين الغربيين، يشاركون في العدوان على بلادنا، بعجزهم عن تنفيذ شروط مؤتمر لندن للسلام". وكان هذا المؤتمر قد عقد في شهر أغسطس 1992، وقضى بجمع الأسلحة الثقيلة من الصربيين، والإشراف عليها، ونشر مراقبين على طول حدود البوسنة مع الصرب، لإنهاء القتال. كما حصل الوسيطان الدوليان فانس وأوين، على موافقة الأطراف على هذه الإجراءات. إلا أنها، كغيرها من القرارات الدولية، لم تطبق أيضاً. وفي اليوم عينه 18 سبتمبر، كان وزير الدفاع الأمريكي، ديك تشيني، يجتمع في باريس مع كبار المسؤولين الفرنسيين، ويعلن: "لم تتوصل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا بعد إلى اتفاق، في شأن منع الطائرات الصربية من التحليق فوق جمهورية البوسنة والهرسك".

وقد أدى عجز الأمم المتحدة والدول الكبرى، عن الوصول إلى حل يوقف الصراع الدموي، الذي كان دائراً في صيف عام 1992، إلى عدم التوصل حتى إلى هدنة، تسمح بإقامة جسر جوي عاجل، لإغاثة 300 ألف من سكان المدينة المحاصرين، الذين يتضوَّرون جوعاً، وتتهددهم الأمراض والأوبئة، بسبب ارتفاع درجات الحرارة، والحصار الذي تفرضه القوات الصربية، والذي حرم السكان من الغذاء والماء والكهرباء.

أمّا عن موقف رئيسَي صربيا وكرواتيا، في هذه المرحلة، فقد أعرب الأول، سلوبودان ميلوسيفيتش، عن تنصله من ميليشيات صرب البوسنة وأعمالها، وأنه لا علاقة له بحصار سيراييفو، وأنه يدعم الخطة الدولية لإعادة فتح مطارها الدولي. كما أعرب في الوقت عينه، عن ارتياحه لتطمينات المجموعة الأوروبية، بأنها لن تعترف بأي انفصال من جانب القومية الألبانية المسلمة، في إقليم كوسوفو، عن جمهورية صربيا. أما الرئيس الكرواتي، فراينو توديمان، فقد صرح بأن على بلاده كرواتيا أن تتدخل في البوسنة والهرسك، إذا استمرت الحرب، وإذا ما تعرض الكرواتيون في البوسنة والهرسك لخطر الإبادة، وعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم بمفردهم. وأنه وإن كان يفضل الوصول إلى حل سياسي للأزمة، لكنه يؤيد التدخل العسكري الخارجي، باعتباره الوسيلة الوحيدة لإنهاء الأزمة. كما طالب طائرات حلف شمال الأطلسي وسفُنه، أن تفرض حظراً جوياً وبحرياً ضد الصرب. وأن على أوروبا أن تحزم أمرها، وتضع آلية للتدخل، لأنه لا يوجد نقص في الإمكانات العسكرية، ولكن النقص في إرادة استخدام هذه الإمكانات.

وعندما ضج الرأي العام العالمي، لما اعتبره مؤامرة دولية ضد مسلمي البوسنة والهرسك، وبعد معاناة مريرة، أرادت فرنسا أن تُظهر للعالم عدم تورطها في هذه المؤامرة، حتى لا يسجل عليها التاريخ ذلك. وهو ما انعكس في قيام الرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران، باقتحام الحصار المفروض على سيراييفو ومطارها الدولي، وهبط فيه بطائرته، يوم الأحد 28 يونيه 1992. وهو الإجراء الذي تسبب بإحراج دول كثيرة، في مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ اضطر وزير خارجيتها، آنذاك، جيمس بيكر، إلى الدفاع عن موقف بلاده، بقوله: "إنها كانت تنتظر طلباً من الأمم المتحدة، لتقديم الدعم العسكري المطلوب لحماية مطار المدينة، وعملية نقل المساعدات الإنسانية إليها. وإن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة للقيام بعمليات نقل المساعدات الإنسانية إلى سيراييفو فوراً، إذا ما كان مطار المدينة مفتوحاً، وسلامته مضمونة". وبالطبع، لم يكن مطار سيراييفو مفتوحاً، ولم تكن سلامته مضمونة، بالنظر إلى تعرضه لنيران المدفعية الصربية، ولتعرض أجواء المدينة لنيران المدفعية الصربية المضادة للطائرات.

وفي بداية يوليه 1992، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، أن قوة بحرية أمريكية، تتألف من حاملة للطائرات وسفن هجومية وطائرات عمودية للنقل، وألفي 2000 جندي من مشاة البحرية، كانوا قد تلقوا الأوامر بالتحرك في اتجاه الأدرياتيكي، لتوفير غطاء جوي وبحري لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في سيراييفو. كما أعلن جيمس بيكر أن واشنطن تؤيد قراراً جديداً لمجلس الأمن، يسمح باتخاذ "كل الإجراءات اللازمة"، وهو تعبير بديل من مصطلح القوة المسلحة، لتقديم المساعدات الإنسانية.

وهكذا أدت زيارة الرئيس الفرنسي ميتران إلى دفع عجلة الأحداث نحو التسارع. ولكن ظهر أن القوى الكابحة كانت أكبر من قوة التسارع. فاستمرت المأساة، وهو ما جعل ديفيد أوين، الوسيط الدولي، يصرح: "سيكون الطريق طويلاً قبل الوصول إلى السلام في هذه المنطقة ... وإن عملية السلام ستأخذ وقتاً، ولا ينتظر حصول معجزات ... وإنني أنتظر أن ينهك الطرفان، إذ من الصعب جداً حض الناس على الجلوس إلى مائدة المفاوضات والتباحث بشكل جدي، قبل أن تنهك القوى، وذلك نظراً إلى تاريخ المنطقة وإلى حذر كل طرف وغضبه".

ومن الواضح أن عبارة "إنني انتظر أن ينهك الطرفان"، إنما تعني استمرار القتال، وسقوط مزيد من الخسائر المادية والبشرية، خاصة في جانب المسلمين. كما تعني أيضاً عدم حرص هذا الوسيط الدولي على إيقاف نزف الدم، وإنما جعل مزيد من الدماء المسالة في البوسنة دافعاً إلى الضغط على المسلمين للجلوس إلى مائدة المفاوضات، والتسليم لشروط الطرف الصربي، الأقوى عسكرياً، والذي له اليد العليا في البوسنة، من حيث فرض إرادته وسيطرته على معظم مناطق البوسنة. وهي السياسة الماكيافلّية نفسها، التي اتبعها اللورد كارينجتون، الوسيط الأوروبي الذي سبقه، قبل أن يعتزل عمله، في نهاية أغسطس 1992.

وقد شجعت تصريحات الوسيط أوين الصرب على التمادي في قصفهم للعاصمة سيراييفو، بشكل أشد عنفاً وقسوة بما يشبه المذبحة. مما حمل الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش على القول: "إنني أدعو الأمم المتحدة لحماية المدنيين داخل العاصمة سيراييفو من المجازر البشعة، التي يتعرضون لها من جانب الصرب. وإن هذا الأسلوب يعكس تفكير قيادة الصرب، التي تصر على تصفية المسلمين. لقد سقطت، بالأمس، قنبلة على سوق مزدحمة في ضاحية اليباسينوبولي، غرب المدينة، مما أدى إلى مقتل 16 فرداً وإصابة 78 بجروح. وهي عملية قتل متعمدة، فكيف يمكننا التفاوض مع أناس على هذه الشاكلة؟ إنهم قتلة، لا يريدون السلام، بل سفك الدماء. وسنقاطع محادثات السلام في جنيف، إذا لم يتوقف الهجوم الدموي على شعب البوسنة في سيراييفو".

وعن موقف حكومة البوسنة المسلمة من قرارات مؤتمر لندن، الذي انعقد في نهاية أغسطس 1992، قال رئيس البوسنة: "إن بعضها مناسب لنا ... مثل قرار عدم جواز اللجوء إلى القوة، لإحداث تغييرات في التركيبة السكانية، وعدم الاعتراف بأي مكاسب عسكرية على الأرض تحققها دولة على حساب أخرى، وإغلاق الموانئ البرية الصربية، وإقامة ممرات لإيصال المعونات الإنسانية. أما الأمور التي نتحفظ عليها، فهي: الاستمرار في فرض حظر على شحنات الأسلحة، لأن في هذا إجحافاً في حق مسلمي البوسنة والهرسك، الذين أصبحوا عاجزين عن الدفاع، شرعياً، عن وجودهم، فضلاً عن قلة السلاح الذي في حوزتهم. كما أن من شأن إغفال النص صراحة على موضوع التدخل العسكري الدولي، زيادة المجازر التي يتعرض لها شعبنا، إضافة إلى عدم وجود أي ضمانات دولية لحماية مسلمي البوسنة والهرسك ... إن افتقار الغرب إلى الإرادة السياسية يدهشنا، في صورة تثير الاستياء. لقد خان الغرب مبادئه ... وإنني أحمّل أوروبا، جزئياً المسؤولية عن الجرائم المفزعة، التي ارتكبت في البوسنة ... وإن منطقتنا لا تحتل أولوية، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا أحد أسباب المأساة التي تتضح للعيان، والتي ربما كان في المستطاع تفاديها، لو تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في وقت سابق".

وعلى الرغم من القرارات الدولية، بإرسال مساعدات إنسانية، لإنقاذ مسلمي سيراييفو خاصة، والتخفيف من معاناة البوسنيين بشكل عام، فقد كان في استطاعة الصرب إيقاف تلك المساعدات ومنعها من الوصول، سواء من طريق البر، أو من طريق الجو. وهكذا، أصبحت "لعبة إيقاف المساعدات" إحدى الوسائل المفضلة للصرب، من أجل زيادة الضغط على المسلمين وتهجيرهم، إذ كان يكفي قصف مطار سيراييفو بقنبلة واحدة، أو جرح جندي من القوات الدولية، لإيقاف الجسر الجوي لمدة غير محدودة، وريثما يتم الاتفاق على هدنة جديدة مع الأطراف المتصارعة. وأما من طريق البر، فقد كانت القوات الصربية تتحكم في الطرق ومحاور التقدم الجبلية، فتعمل على تعطيل حركة قوافل الإغاثة.

وبينما كانت مشكلة البوسنة تنضج على نار هادئة، بفعل وساطة فانس-أوين، كان الوضع يتفاقم خطراً في سيراييفو على وجه الخصوص. وهو ما يشير إليه تقرير الممثل الخاص للأمم المتحدة لشؤون الصحة، رونالد تشيسون، في 4/10/1992، الذي جاء فيه: "إن الوضع الغذائي والصحي المتردي؛ إضافة إلى حلول فصل الشتاء، يعنيان أن أطفال سيراييفو سيموتون جوعاً، ابتداء من نهاية شهر أكتوبر، على أن يتبعهم الكبار، اعتباراً من منتصف الشهر التالي، إذا لم يتحرك المجتمع الدولي. إن الوضع خطيرٌ للغاية، وإذا لم نوصل، يومياً، 240 طناً من الأغذية، على الأقل، فإن الأطفال سيموتون جوعاً، بعد أربعة أسابيع، والبالغين بعدهم بأربعة أسابيع أخرى. وبحلول يناير، سنشهد في مدينة أوروبية ما صوراً عرفناها في القرن الأفريقي. إن الوضع في عاصمة البوسنة سيراييفو يشبه، إلى حد كبير، حصار ليننجراد خلال الحرب العالمية الثانية. وإن أعراض سوء التغذية، قد بدأت تظهر، فعلاً، على السكان".

وفي هذا اليوم عينه، كانت وكالات الأنباء تتناقل ما كانت تتعرض له سيراييفو من قصف، وُصف بأنه الأعنف منذ شهور، إذ استخدمت فيه القنابل الحارقة، التي أطلقها الصربيون على وسط قلب المدينة، وعلى الشطر العثماني القديم فيها. مما أدى إلى اشتعال النيران فيها، وفي عدد من المجمعات السكنية، وأحد الفنادق، ووقوع عدد كبير من الضحايا. وبينما كان مسؤول الصليب الأحمر الدولي يعلن، في جنيف، أن أطراف النزاع في البوسنة، قد وافقوا على تبادل شامل للمحتجزين المدنيين والأسرى العسكريين، رفض زعيم صرب البوسنة، كارادازيتش، حظر الطيران العسكري الصربي فوق أراضي البوسنة، الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية، بدعوى أنه يعطي المسلمين تفوقاً إستراتيجياً في القتال. وهدد، في حالة إقرار الحظر الجوي، بأنه، سينسحب من عملية السلام. ولقد كان واضحاً أنه ما كان في استطاعة كارادازيتش تحدي الأمم المتحدة، ومواجهة الولايات المتحدة الأمريكية على هذا النحو، لو لم يكن على ثقة من دعم أطراف دولية أخرى له، أبرزها روسيا وصربيا. وهو الدعم الذي ضمن للصربيين الوصول إلى موقع التفوق العسكري على مسلمي البوسنة والهرسك، ومن ثم، فرض إرادتهم عليهم.

وخلال تلك الفترة، لم يكن الوضع داخل صربيا مستقراً، فبسبب سوء الموقفين، السياسي والاقتصادي، في صربيا، نتيجة ظهور آثار المقاطعة الاقتصادية، والعزلة الدولية التي فرضت عليها، نشبت مظاهرات شعبية حاشدة في بلجراد، رفضت استمرار الحرب في البوسنة، وطالبت باستقالة الرئيس الصربي، ميلوسيفيتش، وتشكيل حكومة جديدة.

ثالثاً: بداية انقلاب الكروات على مسلمي البوسنة

اختار كروات البوسنة أسلوباً آخر، لحرمان المسلمين من المساعدات، أو لاقتطاع قسم منها، مع ممارسة ضغوط عليهم أيضاً، أي أنهم كانوا يكملون دور الصرب في إضعاف المسلمين وتمزيقهم. وهذا ما تحدث عنه مسؤول من مسلمي البوسنة بقوله: "إنني أعتبر الموقف الكرواتي منافقاً. لقد أسّس الكروات داخل البوسنة جيشاً خاصاً بهم، وهم يرفعون أعلامهم على المواقع التي تقع في أيديهم داخل أراضينا، تمهيداً لاحتلال أجزاء من دولة البوسنة والهرسك. وهم، في بعض الأماكن، يحاربون القوات الصربية، وفي أماكن أخرى، يسمحون بمرورها، ويتحالفون معها، كما حدث في مدن شمال البوسنة، التي استولى عليها الصرب، بسبب تخلّي القوات الكرواتية عنها لهم، في غياب قوات المسلمين. بل إن الكروات أصدروا، مؤخراً، قراراً يقضى باقتطاع عشرة بالمائة من المساعدات، التي ترسلها هيئة الإغاثة الإسلامية إلى البوسنة والهرسك. كما أنهم يعملون في أماكن عدة على مصادرة شحنات الأسلحة، التي تصل إلينا ناقصة دائماً، والسبب في ذلك يعود إلى سيطرتهم الميدانية على معظم الطرق، داخل البوسنة والهرسك".

وهكذا اتفق الصرب والكروات، رغم ما بينهما من خلافات وصراعات، على نقطة واحدة، على الأقل، وهي عدم السماح بظهور كيان إسلامي مستقل في البوسنة. وهذا ما عبّر عنه، صراحة، زعيم صرب البوسنة، كارادازيتش، في تصريح له، يوم 18 سبتمبر 1992، قال فيه: "إنني على استعداد لوقف القتال، فوراً، ضد الكروات في البوسنة. و أوافق على قيام كونفدرالية فيها من ثلاث دول. وإنهاء حالة العداء مع الكروات. وتشكيل هيئة لترسيم الحدود بين الصرب والكروات. ولكن ليس هناك إمكان الوصول إلى اتفاق سلام مبكر مع حكومة البوسنة، التي يسيطر عليها المسلمون. إن لدى الطرف المسلم هدفاً غير واقعي، وهو أن تكون البوسنة والهرسك بتمامها لهم وحدهم. ولقد رفضت حكومة البوسنة، مراراً، كل الاقتراحات التي من شأنها أن تؤدي إلى تقسيم دائم لأراضي الجمهورية. إن هناك ما يزيد على 25 ألفاً من المجاهدين المسلمين، يستعدون، في المستقبل القريب جداً، لدخول الحرب الدائرة في البوسنة. وإن دولاً إسلامية عدة، منها إيران وتركيا، تقوم بإرسال أسلحة وذخيرة إلى قوات المسلمين".

يتضح من هذا التصريح، أن كارادازيتش، تجاهل أن قوات صرب البوسنة كانت تضم في صفوفها قوات نظامية من الجيش الاتحادي لجمهورية صربيا، إضافة إلى متطوعين من روسيا وإسرائيل وتتارستان ورومانيا واليونان والصين ومقدونيا. كما تجاهل أيضاً وجود مسلمين في صربيا وكرواتيا، لم يطلبوا إقامة كيان مستقل لهم داخل هاتين الجمهوريتين، باعتبارهم يشكلون أقليات، وقبلوا بالخضوع للأكثرية الصربية والكرواتية. لذلك، لم يكن ما تطلبه حكومة البوسنة غريباً، عندما طلبت أن ترضخ الأقليتان، الصربية والكرواتية، في البوسنة لحكم الأكثرية المسلمة، وألا تسمح بإقامة كيانات مستقلة لهما في البوسنة. وهذا ما أشار إليه الناطق باسم الأمم المتحدة، فريد إيكهارد، في تصريحه، في 18 سبتمبر 1992، في معرض التعليق على محادثات جنيف، عندما قال: "لقد رفض وزير خارجية البوسنة، حارس سيلاديتش، الجلوس مع زعيم صرب البوسنة، كارادازيتش، في وقت يهاجم فيه الصرب السكان المسلمين في سيراييفو ومدن أخرى. وقال إنه لن يذهب إلى الغرفة نفسها التي يجلس فيها مجرم الحرب. وإن المحادثات ستبدأ على ورقة بيضاء، فلن يكون تقسيم البلاد إلى كانتونات هو نقطة البداية للمحادثات. ولقد فشلت مساعي السلام السابقة، نتيجة إصرار المجموعة الأوروبية، التي رعتها، على التوصل إلى حل اتحادي لأزمة البوسنة، على النمط السويسري، بينما يفضل صرب البوسنة نوعاً من الاتحاد، يضمن خضوعهم لهيمنة المسلمين والكرواتيين في دولة موحدة".

ولقد أثبتت الأحداث، بعد ذلك، أن المخطط الصربي ـ الكرواتي، كان يستهدف وضع المسلمين بين المطرقة الصربية والسندان الكرواتي. فعلى صعيد العلاقات بين المسلمين والصرب، فإنها كانت عدائية منذ تفجُّر الصراع، على نحو ما وصفها الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، في قوله: "لقد جنَّد الصرب للعدوان على البوسنة والهرسك، منذ البداية، قوة عسكرية ضخمة من الأسلحة الثقيلة والدبابات، التي وفرها لهم الجيش الاتحادي. ولكن قوات دفاع البوسنة، أحبطت، بصمودها، خطة العدوان للقضاء على الجمهورية الوليدة في الأيام الأولى من نشوئها. ولقد حاول العدو، في بداية الحرب، محو وجودنا، بأسلوب الحرب السريعة، على نحو ما كانت عليه حروب الشرق الأوسط. إلا أننا نجحنا في التصدي، حتى أصبح الوضع أكثر توازناً. وعلى الرغم من أننا لا نملك ما يملكه العدو من السلاح، إل أنه لدينا الروح المعنوية والقدرة القتالية العالية اللتان مكنتانا من الصمود". أما بالنسبة إلى الكروات، فكانت العلاقات كما وصفها المسلمون في البوسنة والهرسك: "حاول الكروات بسط سيطرتهم على الحكومة، مع دخول الحرب الناشبة بين المسلمين والكروات والصرب، على مسألة استقلال البوسنة. وتحالف الكروات مع المسلمين، اسمياً، في الصراع ضد الصرب، الذين سيطروا على سبعين بالمائة من أراضي البوسنة، في أبريل 1992. وبسط الكروات سيطرتهم، على حساب المسلمين، وهم يرفعون في البوسنة علم جمهورية كرواتيا المجاورة، ويستعملون عملتها".

ولم تكن هذه هي الفائدة الوحيدة، التي غنِمها الكروات من المسلمين، الذين اضطروا إلى التحالف معهم. بل إن الكروات استفادوا أيضاً من فتح بلادهم أمام اللاجئين المسلمين، الذين هربوا من نيران الحرب في البوسنة، وثقل عمليات التطهير العرقي، وأقاموا لهم مخيمات في كرواتيا، فظهروا أمام العالم بمظهر حضاري وإنساني. في حين أن المسلمين كانوا يمثلون رهائن في أيدي الكروات، يستخدمونهم كورقة ضغط ضد حكومة البوسنة، عندما يريدون ذلك. وهو الأمر الذي دفع الرئيس البوسني، بيجوفيتش، إلى زيارة زغرب، عاصمة كرواتيا، ولقاء رئيسها، توديمان، في منتصف أكتوبر 1992، بهدف تفقّد أوضاع لاجئي البوسنة في كرواتيا، الذين قدِّر عددهم، آنذاك، بزهاء 300 ألف لاجئي، ولبحث آفاق التعاون العسكري مع الكروات.

ومن الأمور التي أثبتت للمسلمين خداع الكروات لهم، أن معارك الكروات ضد الصرب، كانت تشتد وتتعاظم فقط على أراضي المسلمين في البوسنة، مع ما يقترن بهذا الاقتتال من تدمير وخراب، على حساب المسلمين. وهو ما تمثل في الاشتباكات الضارية، التي وقعت، يوم 9 نوفمبر 1992، بين الصرب والكروات، قرب عاصمة الهرسك، موستار، حيث أمطرها الصرب بقذائف مدفعيتهم، مما أحدث فيها دماراً كبيراً، وأوقع خسائر فادحة بين سكانها المسلمين.

ولقد بذل المسلمون أقصى درجات ضبط النفس، وبذلوا كل جهد مستطاع، من أجل تجنُّب الصراع مع الكروات، حتى يحتفظوا بما هو متيسر لهم من أسلحة وذخائر، لقتال الصرب، عدوهم الرئيسي، والتخفيف، قدر المستطاع، من معاناة المسلمين الاقتتال على جبهتين. وهذا ما فعله الرئيس البوسني، بيجوفيتش، في 23 أكتوبر 1992، عندما أعلن أنه وجّه الدعوة إلى زعيم كروات البوسنة، ماتي بوبان، للاجتماع معه في سيراييفو، في محاولة منه لإنهاء الاشتباكات الخطيرة، التي وقعت بين قواتهما، التي يفترض أنها متحالفة. وقد جاءت هذه الدعوة في أعقاب معارك عنيفة، وقعت بين المسلمين والكروات، شمال غرب سيراييفو، واستمرت أسبوعاً، إذ تجاهل الكروات أعداءهم الصرب المتمركزين في مناطق قريبة، ووجهوا نيرانهم نحو مواقع المسلمين. وقد أدى هذا القتال، الذي شمل مجموعة من المدن، الواقعة على الطريق الممتد من سيراييفو إلى سبليت وزغرب، إلى وقف قوافل الإغاثة، التي كانت تحمل المساعدات الإنسانية إلى المدن والقرى المسلمة المحاصرة. كذلك أدى إلى تعليق جسر الإغاثة الجوي إلى سيراييفو. كما عقد الرئيس البوسني اجتماعاً آخر مع نظيره الكرواتي، توديمان، في زغرب، حيث جرى بحث المواجهات بين الكروات والمسلمين، في منطقتي ترافينك وفنيتز، وسط البوسنة، وقيام الكروات بإغلاق الطرق البرية، المؤدية من كرواتيا إلى البوسنة، مما تسبب بحرمان المسلمين من الإمدادات، التي كانت تأتيهم عبر هذه الطرق.

ورغم اتفاق الرئيسين، البوسني والكرواتي، على وقف القتال بين قواتهما، وفتح الطرق البرية التي أغلقت، إلا أن "قوات مجلس الدفاع الكرواتي"، لم تنفذ التعليمات التي صدرت إليها من الرئيس توديمان. ويذكر أن هذه القوات الكرواتية، تعتبر من أفضل التشكيلات المقاتلة الكرواتية تنظيماً وتسليحاً، ولا يخفي قادتها نزعاتهم الاستقلالية، الداعية إلى إقامة جمهورية للكرواتيين في إقليم الهرسك. وهكذا بقى الموقف، في مناطق القتال بين الكروات والمسلمين، مضطرباً، إذ أذاعت محطة زغرب، في أكتوبر 1992، أن القوات الكرواتية، قد طردت قوات المسلمين من بلدة نوفي ترافنيك، وأنها سيطرت على سلسلة من البلدان الواقعة شمال غرب سيراييفو، وما زالت مستمرة في قصف مواقع المسلمين. من جهة أخرى، أعلن قائد جيش البوسنة، صفر خليلوفتش، في بيان بثته أذعة سيراييفو: "إن هدف الكرواتيين، هو تقسيم البوسنة والهرسك. ويوجد في صفوف القوات الكرواتية بعض المتطرفين، الذين يريدون إقامة دولة وهمية، للانضمام إلى كرواتيا، تماماً مثلما يريد الصرب الانضمام إلى جمهورية صربيا، وإقامة دولة "الصرب الكبرى".

وقد استمرت الأعمال القتالية بين الكروات والمسلمين، بأقصى عنفها وأشد قوتها. وفي يوم 26 أكتوبر 1992، أعلن كروات البوسنة، أن قواتهم توشك أن تستولي على بلدة باييستا الإسلامية. فيما استمرت الاشتباكات بين الكروات والمسلمين، وسط اتهامات من جانب القيادة الكرواتية، بأن "المجاهدين المسلمين، القادمين من خارج البوسنة والهرسك، شاركوا في القتال". غير أن كافة المصادر، أكدت عدم اشتراك متطوعين من خارج البوسنة في القتال، الذي كان دائراً آنذاك.

ومع استمرار عمليات القصف المدفعي، التي كان يقوم بها الصرب، لضواحي سيراييفو، في أواخر شهر أكتوبر 1992، بشكل أشد عنفاً وقسوة، إذ بلغ معدلاً لم يبلغه من قبل. ومع احتمالات سقوط مدينة باييستا، التي يسكنها 40 ألف مسلم، في أيدي الصرب، وهي تقع شمال غرب سيراييفو، كان الكروات يسعون إلى احتلال بلدة ترافنيك المجاورة لها. فإن معنى سقوط هاتين المدينتين في أيديهما، أن قوات المسلمين، المدافعة عن البوسنة، ستفقد سيطرتها على منطقة واسعة، وسط البوسنة. وكانت التقارير تشير، في هذه الفترة من الحرب، إلى أن المسلمين فقدوا داخل ترافنيك وحولها، أكثر من 300 شهيد، خلال القتال ضد الكروات. كما أصيب المسلمون المقاتلون في بلدة بروزور، غرب سيراييفو، بخسائر فادحة أيضاً.

وقد أدى ذلك إلى تزايد تعقيد الموقف السياسي في البوسنة والهرسك، نتيجة تصاعد القتال بين الأطراف الثلاثة المتحاربة، وانهيار التحالف بين الكروات والمسلمين. ففي مدينة موستار، بدأت القوات الكرواتية تعمل على تجريد المسلمين من أسلحتهم، وتحاول إقناعهم بمغادرة المدينة، مما حمل المسلمين على توقع حدوث قتال بينهم وبين الكروات، في إقليم الهرسك، إن آجلاً أو عاجلاً. وقد ثبت أن الجيش الكرواتي، قد تدخل بصورة مباشرة في القتال حول مدينة نوفي ترافنيك. وكانت حصيلة القتال سقوط مئات القتلى في مدينة ترافنيك ومحيطها، وكذلك في موستار والمناطق القريبة منها. ورغم إنكار القوات الكرواتية مسؤوليتها عن المذبحة التي قتلت فيها مئات المسلمين، في بلدة بروزور، التي تقع على مسافة 70 كم، غرب سيراييفو، وتدمير البلدة تدميراً كاملاً، إلا أن حكومة البوسنة، أصدرت بياناً، أثبتت فيه أن بلدة بروزور، قد أزيلت من الوجود، إثر الهجوم الذي شنه الجيش الكرواتي بالدبابات والمشاة، وأن مئات المسلمين قد قتلوا في هذا الهجوم.

ولقد أفاد الصرب من انهيار التحالف بين الكروات والمسلمين، ليشددوا قبضتهم على بلدة باييستا، شمال سيراييفو، والتي مضت أشهر طويلة على حصارهم لها، حيث دارت أشد المعارك وأكثرها ضراوة، فقتل مئات الأشخاص، وأمكن القوات الصربية، أن تقتحم هذه المدينة الباسلة من ثلاثة اتجاهات، بعد صمود استمر من أبريل إلى 29 أكتوبر 1992. وقد جاء هذا الاقتحام بعد قصف مدفعي مستمر وكثيف، استمر أياماً متتالية، مع دعم كثيف من نيران الطائرات العمودية الهجومية. وقد استفادت القوات الصربية من هذا النجاح الذي حققته، فاستولت، بعد ذلك، على بلدة الباس، ومعاقل أخرى كانت في قبضة المسلمين. وكرر الصرب، هنا، ما فعله الكروات عند استيلائهم على بلدة بروزور، قبل ذلك بيومين، عندما قاموا بطرد المسلمين بوحشية، وارتكاب فظائع ضدهم، ونهب متاجرهم. وبذلك، أصبح الصرب يسيطرون، بالفعل، على 70 بالمائة من البوسنة، بينما سيطر الكروات على عشرين بالمائة، ولم يبقَ في قبضة المسلمين، إلا عشرة بالمائة من جمهوريتهم.

أعقب ذلك اتفاق بين الكروات والمسلمين، لإيقاف الاقتتال بينهما. وتضمن هذا الاتفاق عودة كل الأفراد إلى المدن والقرى، التي غادروها أثناء عمليات الاقتتال. وكذلك فتح الطرق التي تربط منطقة الهرسك الجنوبية بالبوسنة. كذلك خفّت حدّة القتال بين الصرب والكروات، جنوب البوسنة، بعد أن حقق الطرفان أهدافهما.

ولكن تكرار ما كان يحدث في أعقاب كل جولة من الاقتتال العنيف، إذ تنصرف القياداتان الصربية والكرواتية، إلى إعادة تنظيم قواتهما واستعراض خسائرهما، استعداداً للجولة التالية ـ قد ظهر بسرعة هذه المرة! فبعد استيلاء الصرب على باييستا، تم عقد جلسة برلمانية مشتركة لجمهورية صربيا، وما يسمى بجمهورية صرب البوسنة، بهدف دمج القوات المسلحة، وتوحيد العملة، وذلك في بلدة برييدور، شمال البوسنة. كذلك أُعلن أن الجانبين الصربيين، في البوسنة وكرواتيا، قد اتفقا على إجراء استفتاء لتوحيد الجمهوريتين. وطرح زعيم صرب البوسنة، كارادازيتش، على المجتمعين خطة، تقضى بتقسيم البوسنة، على أساس عرقي، إلى خمسة كونتونات، ولا تترك لمسلمي الجمهورية سوى ثلاث مناطق صغيرة فقط. وكان مما قاله كارادازيتش في هذا الاجتماع: "هناك خطة دولية، للإبقاء على البوسنة موطناً لخليط عرقي. وهذا أمر غير مقبول. لكنه يصلح أساساً لمفاوضات جديدة. ومن المفضل تقسيم البوسنة تقسيماً يعكس المكاسب العسكرية، التي تحققت للصرب في خلال الأشهر السبعة الماضية. وإن الخطة تقترح أن يكون للصرب معظم الشمال والشرق. وأن يحصل الكروات على الجنوب والغرب. مع إبقاء ثلاث مناطق للمسلمين، حول بلدات توزلا وزينيتسيا وبيهاتش". ويلاحظ في هذه الخطة، أن الصرب قد استقطعوا العاصمة سيراييفو ضمن المناطق التي خصصوها لأنفسهم.

ولقد كان وقع ضياع بلدة باييستا مؤلماً للمسلمين، الذين وجهوا اتهاماتهم إلى الكروات، باعتبارهم المسؤولين عن هذه الكارثة والمأساة، لأنهم شغلوا المسلمين بهجومهم على ترافنيك. ولم يكن صعباً بالطبع، على الكروات أن يوجهوا اتهامات مضادة للمسلمين، بأنهم هم الذين افتعلوا الحوادث في وسط البوسنة. وتم تشكيل لجنة تقصِّي حقائق، لدحض مزاعم الكروات، والتي، بالطبع، لم تصل إلى أي نتيجة. ورداً على اتهامات الرئيس البوسني، بيجوفتش، للكروات، اكتفى التليفزيون الكرواتي بالقول: "لقد قدَّمت كرواتيا الكثير إلى المسلمين في البوسنة والهرسك. ويجب على حكومة سيراييفو أن تعترف بذلك، وتشكر لكرواتيا جهودها، إذ إن كل المساعدات للبوسنة والهرسك، تأتي من طريق كرواتيا، وخصوصاً تلك المحظورة عالمياً".