إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الحادي عشر

المبحث الحادي عشر

الفترة من أول يناير 1993 حتى ديسمبر 1993

أولاً: استئناف القتال

وكان طبيعياً أن يستغل الصرب الموقف الروسي المؤيد لهم. فعلى الصعيد السياسي، أعلن ميلوسيفيتش، رئيس صربيا: "إن روسيا ستعمل على إلغاء الحصار المفروض على الصرب، انطلاقاً من مسؤولياتها التاريخية إزاء الشعوب الإسلامية". أما على صعيد المعارك، فقد كثَّف الصرب قصفهم المدفعي ضد المدن المسلمة المحاصرة في البوسنة.

كما اندلعت، يوم 26/2/1993، معارك طاحنة في أنحاء البوسنة، بين القوات الصربية والكرواتية والمسلمين. واعترف كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، بالاعتداءات الصربية، التي وقعت في نهاية شهر فبراير على المسلمين، وأوضح أنها تهدف إلى تعزيز دور الصرب في مفاوضات السلام، المقرر عقدها في نيويورك تحت إشراف الأمم المتحدة.

كما قامت السفن الصربية بفرض حصار على نهر الدانوب، الأمر الذي أدانه مجلس الأمن وطالب بضرورة رفعه. وكان حامد باهتو، قائد دفاعات المسلمين في سيراييفو، قد صرح بأن الصربيين استخدموا السلاح الكيماوي ضد المسلمين، وأنه من فضل الله، أن الرياح في تلك الفترة، كانت شديدة وتتجه خارج المدينة، الأمر الذي جعل الغازات الكيماوية ترتد إلى مواقع الصرب نفسها، وأن لديه أسرى ومرتزقة من روسيا وأوكرانيا ورومانيا وبلغاريا. كما أن لديه أيضاً ما يثبت قيام إسرائيل بتزويد الصرب بدبابات وقطع غيار طائرات

قام الكروات أيضاً بالاعتداء على مواقع المسلمين في المناطق التي تمنحهم إياها خطة الوسيطين، فانس ـ أوين، وذلك لتعزيز أوضاعها قبل إقرار الخطة، وبذلك انهار التحالف الهش بين الكروات والمسلمين، وكان من الواضح أن الكروات عقدوه بغرض الحد من المشروع الصربي، التوسعي، في البوسنة، وتعزيز موقف الكروات داخل البوسنة، كذلك تحقيق مكاسب اقتصادية من بيع السلاح للمسلمين، إضافة إلى استيلاء الكروات على بعض السلاح الذاهب إلى البوسنة عبر أراضيها، وكسب التعاطف الدولي من قبل الأطراف الإسلامية والعربية. ناهيك من استخدام اللاجئين المسلمين فيها كورقة ضغط على حكومة البوسنة، في ما بعد.

ونتيجة لما تعرض له المسلمون في مدينة سربرنيتشا في شرق البوسنة، من أعمال قتال وإرهاب فظيعة، من قبل القوات والميليشيات الصربية، التي اقتحمت المدينة، إضافة لتعرضها لقصف مدفعي شديد، وغارات جوية من قبل المقاتلات القاذفة الصربية ـ أصدر مجلس الأمن، في 7 أبريل 1993، القرار الرقم 749 بإعلان هذه المدينة، التي أدار فيها الصرب مذابح رهيبة، بعد أن سقطت في أيديهم، منطقة آمنة، تعتبر قوات الأمم المتحدة مسؤولة عن حماية سكانها، كما طالب القوات الصربية، التي اقتحمتها بسرعة الانسحاب منها، وكان الجنرال الفرنسي، فيليب ثوريون، قد أعلن بقاءه داخل المدينة، تضامناً مع أهلها، وهو ما أدى إلى تسليط الأنظار على مأساة المسلمين في هذه المدن التي تسمى مناطق آمنة.

وأكد مجلس الأمن اعتزامه تشديد العقوبات ضد صربيا، في حالة عدم انسحاب قواتها من سربرنيتشا. وفي 17/4/1993، أصدر مجلس الأمن قراره الرقم 820، بتشديد العقوبات المفروضة على صربيا والجبل الأسود، اعتباراً من 26/4/1993، ما لم تحمل بلجراد صرب البوسنة على توقيع اتفاق للسلام، ووقف القتال في البوسنة. وقد فرض هذا القرار حظراً على شحن السلع الغذائية إلى صربيا، كذلك فرض حظراً أيضاً على مرور السفن اليوغسلافية في نهر الدانوب خارج حدود يوغسلافيا.

وفي 26/4/1993، دخل قرار مجلس الأمن رقم 820، الذي أصدره في 17/4/1993، حيز التنفيذ. وهو القاضي بتشديد العقوبات على صربيا والجبل الأسود. وكان ذلك بعد أن رفض برلمان صرب البوسنة خطة فانس ـ أوين بعد تعديلها. وقد تضمنت العقوبات الجديدة سلسلة من الإجراءات العسكرية، من بينها توجيه ضربات وقائية ضد الأهداف العسكرية الصربية، إلى جانب إجراءات تشديد الحصار الاقتصادي. كما قررت العقوبات، في 29/4/1993، وقْف عضوية جمهوريتَي صربيا والجبل الأسود في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، التابع للأمم المتحدة.

ومع استمرار تحدي الصرب لقرارات مجلس الأمن، وتشديد حصارهم وقصفهم للمدن والقرى المسلمة. عقد الرئيس كلينتون اجتماعاً، في 1/5/1993، مع أعضاء مجلس الأمن القومي الأمريكي، لبحث سُبُل وقْف هذا العدوان. طرحت فيه خطة من ثلاث نقاط، هي: توجيه ضربات جوية إلى مواقع القوات الصربية في البوسنة، ورفع حظر السلاح عن الأخيرة، وإقامة مناطق آمنة للمسلمين فيها. وفي 2/5/1993، أعلن قادة الأطراف الثلاثة المتحاربين في البوسنة، في اجتماع قمة ضمهم في أثينا، بدعوة من رئيس وزراء اليونان، موافقتهم على خطة فانس ـ أوين، وهدد كارادازيتش بالاستقالة، في حالة عدم موافقة برلمانه على ذلك. وكان لذلك مردود إيجابي في مجلس الأمن، الذي أعلن، في 4/5/1993، أنه سيبحث على وجه السرعة كيفية تنفيذ خطة فانس ـ أوين.

ولكن برلمان صرب البوسنة، رفض الموافقة على خطة فانس ـ أوين، وقام بمناورة لتلافي المردودات السلبية لهذا القرار، وذلك بإعلانه استفتاء شعبياً عاماً، حدد له يومَي 15/16 مايو 1993. وقد تسبب ذلك بفشل مجلس الأمن في إصدار قرار لتنفيذ خطة فانس ـ أوين. وفي 9/5/1993، وقع القادة العسكريون لقوات حكومة البوسنة والمتمردين الصرب، اتفاقاً جديداً للهدنة، تم بموجبه نزع سلاح بلدتَي زيبا وسربرنيتشا المحاصرتين، في مقابل فك الحصار عنهما.

إلا أن هذه الهدنة، كغيرها، خرقها الصرب، إذ صعدوا من هجماتهم على المدن والقرى المحاصرة، بعد نزع سلاح المسلمين بواسطة الأمم المتحدة. كما استغل الكروات الموقف، كعادتهم، فقاموا بشن هجمات واسعة في مناطق موستار، وجابلينكا، وديرزينكا. وهو ما أدانه مجلس الأمن في بيان له، يوم 11/5/1993، لاعتباره خرقاً لخطة السلام التي وقّعها الكروات. وفي 13/5/1993، وجهت المجموعة الأوروبية تهديداً إلى كرواتيا بفرض عقوبات دولية عليها، إذا لم توقف هجومها على مواقع المسلمين. 

وكما هو متوقع، رفض صرب البوسنة، في الاستفتاء الذي جرى يومَي 15 و 16/5/1993، خطة فانس ـ أوين. وحذر قائد جيش صرب البوسنة، في 17/5/1993، من مغبة قيام حلف شمال الأطلسي بتوجيه ضربات ضد المواقع الصربية.

ولقد أحرج سقوط سربرنيتشا الحكومات الغربية والأمم المتحدة، وكشف ضعفها. وقد أبدى أهالي مدينة توزلا، المحاصرة أيضاً من قبل الصرب، شكوكاً إزاء موقف الجنرال فيليب موريون، قائد قوات الأمم المتحدة ومساعديه في شرق البوسنة. فقد كان الاتفاق بينهم وبين رئيس مجلس مدينة توزلا على نقل الجرحى فقط من المسلمين في سربرنيتشا إلى توزلا، ولكنهم فوجئوا في توزلا بأنه لم ينقل سوى 25 جريحاً فقط، والباقي مواطنون أصحاء، وهو ما يؤكد اتفاقه مع الصرب على تهجير المسلمين عن شرق البوسنة، وأن موريون هو واحد من القادة الأوروبيين، الذين يميلون إلى فكرة تخليص أوروبا من الوجود الإسلامي، وهو يمارس ذلك في ظل شرعية دولية.

ثانياً: إستراتيجية احتواء الحرب، والمناطق الآمنة

عندما رفض صرب البوسنة خطة فانس ـ أوين، وصلت الجهود الدولية لحل مشكلة البوسنة والهرسك إلى طريق مسدود، خاصة وأن أحداً من الأطراف الدولية، لم يكن لديه نية حقيقية لاستخدام القوة، لفرض وقْف إطلاق النار على الصرب، ومنعهم من الاستمرار في هجومهم ضد مواقع المسلمين في البوسنة.

فقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، أن مسؤولية حل الصراع في البوسنة، تقع على عاتق أوروبا بشكل كامل. إذ إن ما قدمته واشنطن من اقتراحات، تم رفضه من جانب المجموعة الأوروبية. وإن واشنطن لن تتحرك بمفردها، والمشكلة في جوهرها أوروبية. وكان هذا الموقف الأمريكي رداً على تفجُّر الخلاف في مجلس الأمن، بين الأعضاء الدائمين فيه، يوم 18/5/1993.

وفي 19/5/1993، تحركت روسيا، ومارست ضغوطها على الإدارة الأمريكية، للتركيز على احتواء الحرب، بدلاً من تسوية الصراع، بمعنى تكريس المكاسب التي حققها الصرب على الأرض. وهنا، ظهر الاتفاق الأمريكي ـ الروسي ـ الأوروبي، الذي أعلن في 22/5/1993، بهدف التحرك لاحتواء الحرب ومنع التدهور، وهو ما ظهر في ما أطلق عليه، آنذاك، "إستراتيجية احتواء الحرب"، التي نجمت عن اجتماع وزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا وبريطانيا وأسبانيا، يوم 22/5/1993.

وقد استبعد هذا الاتفاق استخدام القوة العسكرية، لإجبار صرب البوسنة على تنفيذ خطة السلام الدولية. كما تقرر تحميل الأمم المتحدة مسؤولية اتخاذ إجراءات، لإجبار صرب البوسنة على تنفيذ خطة السلام الدولية. وتقرر أيضاً، تحميل الأمم المتحدة مسؤولية اتخاذ إجراءات جديدة، بإرسال قوات حفظ السلام إلى البوسنة، لمنع وصول الأسلحة من جمهورية صربيا إلى صرب البوسنة، وإقامة مناطق منزوعة السلاح، ووقْف المذابح.

كذلك استخدام القوة الجوية الأمريكية من أجل حماية قوات الأمم المتحدة، في مناطق آمنة لمسلمي البوسنة، إذا تعرضت لهجوم صربي، على أن تبذل روسيا جهودها للضغط على صربيا، لكي تمنع إرسال أسلحة إلى صرب البوسنة، مع تحذير كرواتيا من مساعدة كروات البوسنة على هجماتهم ضد مواقع المسلمين.

ويبدوا أن المجتمع الدولي قد قبل بهذا الحل "التجميدي"، إذ رحب به صرب البوسنة وكرواتها، وباركته روسيا، وأيدته الولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة الأوروبية، حتى إن الرئيس كلينتون، أعرب، في 23/5/1993، عن ارتياحه العميق تجاه هذه الإستراتيجية المشتركة، وأكد أنها تمثل خطوة كبيرة في اتجاه وضع نهاية للتطهير العرقي والمجازر التي تجري في البوسنة. وتعهد باستمرار الضغوط الأمريكية للتوصل إلى تسوية سياسية، تتضمن منطقة جغرافية "معقولة" للمسلمين.

وكان واضحاً من هذا الاتفاق، أن دور القوات الأمريكية سينحصر في الدفاع عن قوات الأمم المتحدة، المكلفة بحماية المناطق الآمنة، وليس الدفاع عن المدنيين المسلمين، الذين يعيشون في هذه المناطق، التي أقرها مجلس الأمن في قراره رقم 819، في 16/4/1993، والقرار 824، في 6/5/1993، الذي أضاف إليها مدينة سربرينتشا، وهي :

1. العاصمة سيراييفو في وسط البوسنة، وفيها 380 ألف نسمة.

2. مدينة توزلا في شرق البوسنة، وفيها 130 ألف نسمة، وهي مركز صناعي كبير، وفيها نسبة كبيرة من اللاجئين.

3. مدينة جورازدي في شرق البوسنة، وفيها 60 ألف نسمة، وهي المدينة الوحيدة على نهر درينا، وخاضعة لسيطرة الصرب وحصارهم، ولها أهمية إستراتيجية. وقد كلف بحمايتها 196 جندياً بريطانياً، و10 جنود نرويجيين، و76 جندياً أوكرانياً.

4. مدينة بيهاتش في غرب البوسنة، وفيها 150 ألف نسمة، ولها أهمية كبيرة بالنسبة إلى البوسنة، ومكلف بحمايتها 280 جندياً من بنجلاديش.

5. مدينة زيبا في شرق البوسنة، وفيها 12 ألف نسمة.

6. مدينة سربرينتشا في شرق البوسنة، وفيها 12 ألف نسمة.

كما وفرت خطة المناطق الآمنة، التي أعدَّها أوين، ممرات لمصلحة الصرب، تربط بين المناطق المخصصة لهم في شرق وغرب البوسنة ووسطها، كما تربط هذه المناطق أيضاً بجمهورية صربيا، ربطاً تخضع هذه الممرات بموجبه لسيطرة الصرب، وليس لسيطرة الأمم المتحدة. وبذلك، تحولت المناطق الست الآمنة إلى أقاليم منعزلة، محاصر فيها المسلمون، ومعسكرات اعتقال للاجئين، وذلك بعد أن تحولت إلى حطام من الأراضي، بعد ما تهدمت مبانيها ومرافقها، ويشاهد فيها مشوهو الحرب والمعوقون، يعرجون في أحيائها المهدمة، يتسولون الطعام، والمقابر الجماعية ملأى بالقتلى، وقذائف الصرب تنهال عليها بلا توقف، مما أدى إلى توقف الحياة الطبيعية في مدن هذه الأقاليم المنعزلة، خاصة مدينة توزلا الصناعية، حيث توقفت الصناعات المحلية، التي اشتهرت بها، وأبرزها الأسمنت والكيماويات والملح.

والملاحظ أن أعداد القوات الدولية المكلفة بحماية هذه المناطق، هي أعداد هزيلة، لا تكفي للقيام بما تم تكليفها به، ولا لحماية نفسها، كما ثبت بعد ذلك. ولقد كشفت صحيفة "الإيكونوميست" البريطانية، في ما بعد، عن مغزى اللعب بالألفاظ لدى دول الغرب، مقارنة بقرار مشابه، قائلة: لو أن قرار مجلس الأمن نص على اعتبار المدن البوسنية "ملجأ آمناًHaven"، مثلما حدث مع الأكراد في العراق، لكان ذلك معناه تدخل الغرب لضمان حماية السكان. ولكن قرار مجلس الأمن إزاء البوسنة، اعتبر هذه المدن البوسنية مناطق آمنة "Area"، وهو ما يعفي الدول الغربية من ذلك الالتزام.

وقد أثار هذا الاتفاق مسلمي البوسنة، الذين رفضوا هذا الإستراتيجية. وأكد الرئيس علي عزت بيجوفيتش: "أن هذه الخطة ستدفع المسلمين إلى معازل (جيتو)، لا يخرج المسلمون منها، معتمدة على مساعدة العالم الخارجي وحمايته. كما تضفي الشرعية على سيطرة صرب البوسنة على الأراضي بالقوة". لذلك، طالبت حكومة البوسنة، في 25/5/1993، مجلس الأمن بعقد اجتماع طارئ، لبحث واتخاذ قرارات تؤدي إلى حل دائم للأزمة البوسنية، وناشدت المجلس أن يراجع الخطة الجديدة، "احتواء الحرب"، التي تكافئ الصرب، وتضفي الشرعية على عمليات الإبادة الجماعية.

كما تحركت الدول الإسلامية، وقدمت مشروع قرار مضاداً لخطة "احتواء الحرب"، عرضت فيه مساهمة الدول الإسلامية بقواتها، لتوسيع صلاحيات قوات الحماية الدولية، لتشمل الأقاليم الثلاثة المخصصة لمسلمي البوسنة، وفقاً لخطة فانس ـ أوين، حتى لا يتكرس الأمر الواقع، الذي أفرزته سياسة التطهير العرقي. ولكن الدول الكبرى في مجلس الأمن، رفضت هذا المشروع، وتأسس ذلك على تحفظها إزاء إرسال قوات تركية وإيرانية وفلسطينية إلى البوسنة. وهو ما دفع فرنسا إلى اقتراح زيادة حجم قواتها في البوسنة، بزعم "المحافظة على توازن جغرافي جيد داخل قوات الأمم المتحدة في البوسنة، وتجنّب مشاركة بعض الدول، التي لها وجهة نظر ومصالح مميزة هناك".

وإدراكاً من فرنسا لخطر حالة الجمود السياسي، التي أصابت الموقف في البوسنة، قدمت، في 28/5/1993، مشروع قرار لمجلس الأمن، يسمح لقوات الأمم المتحدة باستخدام القوة ضد الاعتداءات الصربية. وهو ما يمكن قوات الأمم المتحدة من إجبار القوات الصربية على الانسحاب من المناطق التي تحاصرها، واحتلال مواقعها بدلاً منها. كما صرح سكرتير عام حلف شمال الأطلسي، مانفريد فيرنز، في التاريخ عينه، بأن التدخل العسكري، في البوسنة، يبدو أنه الخيار المتاح لإنهاء الأزمة ووقف القتال. وأكد أنه ما لم يتدخل المجتمع الدولي بفاعلية لاحتواء الأزمة، فإن هذا سيؤدي إلى إلحاق الضرر بكل المنظمات الدولية، بما في ذلك منظمة حلف شمال الأطلسي.

 

ثالثاً: الصرب يستأنفون هجومهم (اُنظر خريطة الهجوم الصربي على المناطق الآمنة)

ولم يكن مستبعداً أو غريباً، أن تستغل القوات الصربية حالة الجمود هذه، وتشن، في 1/6/1993، هجوماً شاملاً بالدبابات على مدينة جورازدي شرقي البوسنة، التي أعلنتها الأمم المتحدة إحدى المناطق الست الآمنة للمسلمين في البوسنة. وقد حوّلها الصرب إلى مقبرة جماعية، كما قاموا بإحراق 51 قرية مسلمة. وقد اضطر مجلس الأمن، إزاء تردى الموقف، إلى إصدار قرار، في 4/6/1993، يقضي بتوسيع التفويض الممنوح لقوات الحماية الدولية في البوسنة، لتمكينها من ردع الهجمات والدفاع عن النفس، بما في ذلك استخدام القوات الجوية في المناطق الآمنة، كتدبير مؤقت، وليس دائماً.

وفي قصف صربي عنيف بالمدفعية ضد مدينة سيراييفو، سقط، في بداية شهر يونيه 1993، حوالي 238 قتيلاً مسلماً، وكان واضحاً هدف الصرب من مهاجمة المناطق الآمنة في شرق البوسنة: سربرينتشا، ثم جورازدي وبعدها زييا، وتوزلا، أنهم كانوا يريدون قطع آخر خطوط إمداد المسلمين إلى مناطق شرق البوسنة، توطئة لتصفيتها من المسلمين، ثم ضمها، بعد ذلك، إلى جمهورية صربيا الملاصقة لها.

ولم يكتفِ الصرب بذلك، بل قاموا بتسليح الكروات لقتال المسلمين في ترافنيك، التي تمكن المسلمون من استعادتها من الكروات، في 9/6/1993، وبعدها بأسبوع واحد، تمكنت القوات المسلمة من استعادة مدينة كاكان التي كان يسيطر عليها الكروات بوسط البوسنة، إضافة إلى استعادة 26 قرية في المنطقة نفسها. وهو ما وصفته مصادر الأمم المتحدة، بأنها الهزيمة الكرواتية الأقسى، منذ السيطرة على ترافنيك. وقد ذكر تقرير لصحيفة "الحياة" ذلك، بتاريخ 21/6/1993، وأرجعه إلى أن الجيش البوسني، يشهد نمواً مطرداً، على المستويين البشري والسلاح والعتاد، مكّنه من تحقيق عدة انتصارات على الكروات في مدن زينتسا وكوينتس وكاكان وغيرها. وقد واكب ذلك حدوث زعزعة في صفوف الميليشيات الكرواتية، وسيطرة المسلمين على أهداف إستراتيجية مهمة، مثل مصنع الذخيرة في كونتيس، وإقامة مصانع حربية صغيرة خاصة بهم. وإن كان الوضع على عكس ذلك في مدن شرق البوسنة، بسبب عدم اتصال مدن المسلمين بعضها ببعض، ولقرب مواقع المسلمين هناك من حدود صربيا. في حين أن مدن المسلمين وقراهم في وسط البوسنة، تحظى باتصال وتعاون متكاملين كل ذلك. في الوقت نفسه الذي عزلت فيه القوات الصربية مطار سيراييفو، واعتبرته منطقة حدود، وهدد زعيم صرب البوسنة بأن قواته ستنتزع سيراييفو، سلماً أو حرباً، وطالب المسلمين بالتخلي عن فكرة دولة بوسنية واحدة، ولن يستغني أبداً عن سيراييفو.

في مواجهة إصرار الصرب على مهاجمة المناطق الآمنة، وتصفية المسلمين داخلها، أو إجبارهم على الهروب منها، حتى يتم ضمها إلى جمهورية صربيا، وما يلاقيه المسلمون المحاصرون داخلها من تهديد، بعد أن سحبت قوات الأمم المتحدة الأسلحة من أيديهم، هدد المحاصرون في مدينة توزلا المسلمة في شرق البوسنة، باستخدام أسلحة كيماوية من صنع أيديهم للدفاع عن أنفسهم.

وكانت وكالات الأنباء قد تناقلت، في وقت سابق، أن قائد جيش البوسنة قد هدد بتدمير معظم أوروبا بالأسلحة الكيماوية، إذا لم يوقف الصرب هجومهم على جورازدي، بعد أن أعلن قائد قوات الأمم المتحدة، أن البوسنة تنزلق نحو حالة من الفوضى الشاملة، مشيراً إلى أن ذلك قد يدفع القوات الدولية إلى الانسحاب. خاصة وأن القوات الصربية تواصل تدميرها المحسوب لجورازدي، والتي لم تستقبل قافلة إغاثة واحدة، وتوشك دفاعاتها أن تنهار. وأضاف القائد البوسني، حازم باديتش، أن جيش البوسنة وضع خططاً لذلك، وأعَد كميات كافية من غاز الكلور السام وكيماويات أخرى، لتحييد كل القوى الفاعلة في أوروبا كلها تقريباً.

وقد علق رئيس البوسنة على تصريح القائد البوسني بقوله: "إن على المجتمع الدولي أن يَعِي حجم التهديد الذي أطلقه العسكريون المسلمون باستخدام المواد الكيمياوية، نتيجة الحظر المفروض على استيراد المسلمين للأسلحة، وأنه ليس على المضطر حرج". لذلك، سارع بطرس غالي إلى إرسال 7500 جندي، لدعم القوات الدولية في البوسنة. وطالب حلف شمال الأطلسي بتوفير التغطية الجوية اللازمة، لمساعدة الأمم المتحدة على القيام بمهمتها في المناطق الآمنة.

وكان نائب رئيس وزراء البوسنة، قد بعث برسالة إلى مجلس الأمن، في 20/6/1993، ذكر فيها أن 56 قرية قد دُمِّرت، منذ بدء الهجوم الصربي، وأن مذبحة بشعة ارتكبت في قرية زيجوفيتش، وطالب بالتدخل العسكري لوقف الهجوم على جورازدي، وإنهاء عمليات الإبادة التي تشهدها المدينة.

وفي الثالث من يوليه 1993، صعَّد الصرب قصفهم المدفعي لمدينة سيراييفو بالصواريخ والمدفعية، كذلك مدينة ماجلاي، التي هرب الآلاف منها عبْر الممرات الجبلية بعد سقوطها. وقد شارك الكروات الصرب في قصفهم للمدن الإسلامية بالقنابل الحارقة، في شمال ووسط وجنوب البوسنة. وهو الوضع الذي دفع الرئيس البوسني بيجوفيتش إلى مناشدة الأمم المتحدة التدخل لمنع سقوط سيراييفو، في الوقت الذي نفت فيه واشنطن وجود أي مبادرة للتدخل العسكري لإنقاذ المدينة.

في الوقت نفسه من بداية شهر يوليه 1993، شدد الكروات هجومهم على مدينة موستار البوسنية، الإستراتيجية بالنسبة إليهم، لأنهم يريدونها عاصمة لدويلتهم في الهرسك، مما أدى إلى سحب الأمم المتحدة لقواتها من المدينة، بسبب التهديدات التي تتعرض لها من جانب القوات الكرواتية.

وهو ما كشف الدور الكرواتي الحقيقي، الذي لا يقل خطره على البوسنة عن الدور الصربي، وتم فض التحالف الهش، الذي كان قائماً بين الكروات والمسلمين، وبدأت القوى السياسية الكرواتية، المعارضة للرئيس الكرواتي، توديمان، تنتقد موقفه. واعتبرت اتفاقه مع الصرب على تقسيم البوسنة، هو أكثر لحظات التاريخ السياسي المعاصر لكرواتيا مأساوية. وحمَّل كاردينال الكنيسة الكاثوليكية في كرواتيا الرئيس توديمان مسؤولية تفجير القتال بين الكروات والمسلمين، ووصف ذلك بأنه جريمة بشعة.

وخلال هذه الفترة، كانت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، قد وافقت على رفع حظر الأسلحة المفروض على البوسنة. وأبلغ وارين كريستوفر، وزير الخارجية الأمريكي، وزراء خارجية المجموعة الأوروبية، خلال محادثاته معهم في لوكسمبورج، في 8/6/1993، أن، بلاده عازمة على توفير غطاء جوي للمناطق الآمنة للمسلمين.

وتحت ضغط الموقف العسكري السيئ، الذي كان يتعرض له المسلمون في المناطق المحاصرة والعاصمة، وبعد استيلاء الصرب على 70 بالمائة من أراضي المسلمين، وخوفاً من أن يتحقق ما نشرته مجلة نيوزويك عن خريطة لأوروبا عام 2000، تُبيِّن زوال دولة يوغسلافيا، وتقسيمها لتختفي منها تماماً جمهورية البوسنة والهرسك، اضطر الرئيس علي عزت بيجوفيتش إلى التراجع عن موقفه، الرافض لتقسيم البوسنة على أسس عرقية، وألمح إلى إمكانية إجراء مفاوضات حول خطة التقسيم الجديدة، والاجتماع، مرة أخرى، مع زعماء الصرب والكروات، لبحث تفاصيل الخطة. ذلك في الوقت نفسه، الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة الأمريكية أنها لن تضطلع بدور كبير في هذه المفاوضات، وستكتفي بمتابعة التطورات عن قرب.

وقد كشفت وكالات الأنباء عن السبب وراء التغير، الذي حدث في موقف الرئيس بيجوفيتش، وأرجعته إلى خلافات نشبت داخل مجلس الرئاسة البوسني، قادها فكرت عبيديتش، المسؤول عن قطاع مدينة بيهاتش في غرب البوسنة، وهو تاجر سلاح يحظى بتأييد رئيسَي صربيا وكرواتيا والوسيطين الدوليين. وقد أسفرت هذه الخلافات عن تجاهل صلاحيات الرئيس البوسني، واتخاذ قرار بقبول التفاوض مع زعماء الصرب والكروات على تقسيم البلاد عرقياً. لذلك، لم يكن غريباً أن يقرر المجلس أن يكون الوفد البوسني، الذي سيفاوض في جنيف، ممثلاً عن البوسنة برئاسة عبيدتش. وفي حديث له مع صحيفة "الحياة"، أفصح عبيدتش عن مساعيه ونواياه لتقليص سلطات بيجو فيتش، وذكر أنه يدعم فقط قرارات مجلس رئاسة البوسنة، ولا يدعم شخصاً بعينه.

وفي تحقيق لمجلة "المصور" في 25/6/1993، أوضح أن هذا المجلس مكون من 7 أعضاء: اثنين من المسلمين، واثنين من الكروات، واثنين من الصرب، والسابع من يوغسلافيا سابقاً. وأن المجلس استهدف بقراره الأخير عزل بيجوفيتش، وأن عملية العزل هذه هي المرحلة الثانية من المؤامرة، الخاصة بتقسيم البوسنة إلى ثلاث دويلات عرقية.

ولكن موافقة مجلس الرئاسة البوسني على خطة التقسيم، أثارت معارضة شديدة من جانب قطاعات واسعة من مسلمي البوسنة، لا سيما القادة العسكريون. وعبَّرت بعض عناصر المعارضة صراحة عن احتمال الإطاحة بالرئيس بيجوفيتش، إذا استمر في موافقته على خطة التقسيم. وكان من الذين أعربوا عن هذه المعارضة محمد فيليبوفتش، زعيم المعارضة، وحارس سيلاديتش، وزير الخارجية، والقائد العسكري محمد اللهجيتش، الذي صرح بأنه يخشى "أن تكون المفاوضات، التي تجري، حالياً، في جنيف، خدعة سياسية، وإذا استمرت الأوضاع في السير في هذا الطريق الخطأ، فستكون هناك زعامة سياسية جديدة. فهؤلاء الرجال ليسوا معينين من قبل السماء".

وإزاء هذه الضغوط، التي تعرض لها الرئيس بيجوفيتش، أعلن مجلس الرئاسة البوسني، في 9/7/1993، رفضه لخطة التقسيم العرقي إلى ثلاث دويلات، وأصر على الإبقاء على بلاده موحدة، مع إقامة مناطق عرقية ذات حكم ذاتي داخل حدودها، وأن المسلمين يوافقون فقط على تقسيم اقتصادي، وليس تقسيماً سياسياً ذا طابع عرقي. وهو التطور المفاجئ، الذي اعتبره الوسيطان الدوليان سيؤدي إلى استمرار حمام الدم في البوسنة.

وقد شجع المجلس الرئاسي على اتخاذ هذه الخطوة رفض المجموعة الأوروبية، في 21/6/1993، لخطة التقسيم، وإصرارها على الحفاظ على وحدة أراضي البوسنة، وإعطاء هذه الدول توجيهات للوسيطين الدوليين بتعديل الخطة الجديدة تعديلاً يشمل التقسيم بموجبه إبقاء وحدة دولة البوسنة، وأكدت هذا الموقف في قمة كوبنهاجن، التي عقدت في 23/6/1993، بعد أن توجّه إليها الرئيس بيجوفيتش، ليشرح قضية بلاده أمام القمة الأوروبية.

وكانت المفاوضات قد بدأت بين الأطراف الثلاثة المتحاربة في البوسنة، في جنيف، في 23/6/1993، في حضور الرئيسين، الصربي والكرواتي، وممثل عن الرئيس البوسني. وكان الوسيطان الدوليان قد أجريا تعديلاً لخطة التقسيم، يكفل بقاء الأقاليم الثلاثة في كيان واحد. هذا في الوقت الذي كثف فيه الصرب والكروات عملياتهما العسكرية ضد المسلمين، في وسط البوسنة وشرقها، لحملِهم على القبول بخطة التقسيم.

وقد صمدت القوات المسلمة لهذه الهجمات، بينما واجهت القوات الدولية موقفاً حرجاً، في 5/7/1993، بسبب حصار القوات الصربية والكرواتية لثلاث من قواعدها، بما فيها المقر العسكري للأمم المتحدة في البوسنة. وهدد كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، في 7/7/1993، بإعلان دولة صرب البوسنة المستقلة، ومطالبة العالم بالاعتراف بها، وفقاً للحدود التي رسمتها قواته على الأرض، إذا لم يوافق المسلمون على الخطة. وهو الموقف الذي أثار زعماء الدول الصناعية الكبرى، الذين كانوا مجتمعين في طوكيو، ودفعهم إلى إصدار بيان، في 8/7/1993، أعربوا فيه عن رفضهم لأي تسوية في البوسنة، إلا إذا وافق عليها المسلمون، مع استبعاد فكرة الحل العسكري.

رابعاً: تجدد القتال، بعد فشل مؤتمر جنيف الأول

ووسط هذه اللامبالاة الدولية، صعَّد الصرب، يوم 20/7/1993، هجماتهم في جميع أنحاء البوسنة. واستمر القتال الضاري في جبل إيجمان، المطل على سيراييفو، حيث حاول الصرب اختراق خطوط دفاع المسلمين حول المدينة. وهو الوضع الذي حذَّر منه موظفو الإغاثة الدولية، لأن جبل إيجمان، يعيش على سفحه حوالي 132 ألف من اللاجئين المسلمين، الذين قد يضطرون إلى المجازفة بحياتهم بالعودة إلى سيراييفو. ولا سيما أن المدفعية الصربية، تتخذ في هذا الجبل مواقع لها، تقصف منها سيراييفو وما حولها. وقد دفع هذا الموقف الخطير الرئيس بيجوفيتش إلى توجيه نداء استغاثة عاجل إلى الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، في 21/7/1993، يطلب فيه سرعة العمل على إنقاذ العاصمة سيراييفو، التي كانت على وشك السقوط في أيدي الصرب. إلا ن رد فعل مجلس الأمن، لم يتعدَّ إصدار بيان، في 23/7/1993، طالب فيه الصرب بوقف هجماتهم على سيراييفو، ومناشدة الأطراف الحضور إلى جنيف، لاستئناف المفاوضات، وهدّد، كعادته، بإبقاء جميع الخيارات مفتوحة.

وبعد هدنة قصيرة، اندلع القتال مرة أخرى، عنيفاً، في جميع أنحاء البوسنة، يوم 26/7/1993، وتعرضت فيه كتيبة فرنسية لهجوم صربي متعمد. في الوقت عينه، الذي أعلن الوسيطان الدوليان عن جولة جديدة من المفاوضات، يحضرها الرؤساء الثلاثة، في جنيف. كما أعلن حلف شمال الأطلسي عن تزويد البوسنة بغطاء جوي عاجل، بعد أن ظهرت الحاجة الماسة إلى ذلك، عقب القصف الذي تعرضت له الكتيبة الفرنسية.

وبينما الاتصالات تجري في دوائر حلف شمال الأطلسي، لإرسال غطاء جوي إلى البوسنة، شنت القوات الصربية، في 4/8/1993، هجوماً على ثلاثة محاور على جبل إيجمان، المعقل الأخير للقوات البوسنية، بهدف قطع خط الإمداد والتموين الوحيد، الذي يربط القوات البوسنية بالمدينة، وهو ما دفع الرئيس البوسني إلى التهديد بمقاطعة مفاوضات جنيف القادمة، إذا لم تنسحب القوات الصربية من جبل إيجمان. ولكن الخلاف الذي كان دائراً بين حلف شمال الأطلسي وبين الأمم المتحدة، حول الجهة التي ستُصدر أوامر الضربات الجوية، عطل تنفيذ قرار إرسال الغطاء الجوي المقترح.

وتحت التهديد الذي وجهته الولايات المتحدة الأمريكية، بقصف المواقع الصربية في إيجمان، أعلن الصرب، في 8/8/1993، أنهم بدأوا في الانسحاب من جبل إيجمان وجبل بيلاشنتيا، اللذين يشرفان على سيراييفو، شريطة أن تحتل هذه المواقع قوات من الأمم المتحدة، لضمان عدم استيلاء القوات المسلمة عليها مرة ثانية. ولكن، لم تظهر دلائل جدية على انسحاب الصرب من مواقعهم، في الوقت نفسه، أعلن كلينتون موافقته على إعطاء الأمم المتحدة حق إقرار خطة القصف الجوي للمواقع الصربية حول سيراييفو. وفي 9/8/1993، أعلن ناطق باسم الأمم المتحدة، أن قوات صرب البوسنة، قد انسحبت، فعلاً، من جبل بيلاشنتيا، كما أعلن كارادازيتش انسحاب نصف قواته من جبل إيجمان، وهو الشرط الذي وضعه الرئيس البوسني لكي يحضر قمة جنيف، كما طالب أيضاً، في 14/8/1993، بجعل موضوع رفع الحصار عن سيراييفو على رأس جدول أعمال المؤتمر. 

وفي موستار، كان سكان القطاع المسلم، المحاصر من قبل الكروات، يتعرضون، في 22 /8 /1993، لخطر الموت، ما لم تصلهم قوافل إغاثة فورية. وكان الوسيطان الدوليان قد طالبا، في 21/8/1993، بإدخال المدينة ضمن الإشراف الدولي، إلا أن الكروات رفضوا ذلك، باعتبار موستار، بقطاعيها، عاصمة للدويلة الكرواتية داخل البوسنة. وعندما حاولت قوات الأمم المتحدة مغادرة القطاع المسلم من المدينة، أقام المسلمون المحاصرون، في 26 /8 /1993، حواجز بشرية لمنعهم من ذلك، خوفاً من استئناف الكروات للمذابح ضدهم. وفي 28/8/1993، أعلن برلمان كروات البوسنة، رسمياً، قيام جمهورية "هرسك البوسنة" وعاصمتها موستار. كما طالب بضم أراضٍ جديدة، تسكنها أغلبية كرواتية في القسم الكرواتي، وذلك تحدياً لقرار مجلس الأمن، الذي أصدره في 24/8/1993، بضرورة الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي البوسنة واستقلالها السياسي، وعدم تغيير اسم الدولة أو تنظيمها الداخلي.

أما برلمان صرب البوسنة، فقد وضع شروطاً لقبول خطة التقسيم، تتمثل في عدم التنازل عن أراضٍ جديدة، وعدم تجريد المناطق الصربية من السلاح، إلى حين تنفيذ الاتفاق النهائي وأن يكون إلغاء العقوبات الدولية، المفروضة على يوغسلافيا الجديدة، مرافقاً لتنفيذ الاتفاق، في شأن البوسنة. وفي ظل الموقف العسكري الصعب، الذي كان يواجهه مسلمو البوسنة، من استحالة استخدام القوة العسكرية من جانب الدول الكبرى ضد الصرب، وحرمان المسلمين من الحصول على السلاح الذي يحتاجون إليه للدفاع عن أنفسهم ـ فقد بدا واضحاً لهم، أنه لا بديل من قبولهم خطة التقسيم، لأن الجيش البوسني أضحى غير قادر على وضع حد لتقدم قوات الصرب والكروات، مما جعل الحفاظ على البوسنة دولة كاملة الوحدة، أمراً غير ممكن، وهدفاً ميؤوساً منه. لذلك، انصب اهتمام برلمان البوسنة على محاولة تحسين خطة التقسيم، قدر الإمكان، من حيث الحصول على 10% من الأراضي، التي كانت تقطنها أغلبية مسلمة قبل تطبيق إجراءات التطهير العرقي، كما طالب بالحصول على منفذ بحريلهم على البحر الأدرياتيكي، وجعل مدينة بانيالوكا، ذات الأغلبية الصربية، مدينة مفتوحة، أسوة بسيراييفو وموستار.

خامساً: الكروات والصرب يشددون هجماتهم ضد المسلمين

بعد أن فشل مؤتمر جنيف، بسبب رفض الكروات منح المسلمين منفذاً إلى بحر الأدرياتيكي، شددت الميليشيات الكرواتية، المدعومة من قبل كرواتيا، هجماتها ضد مواقع المسلمين، فتمكنت، خلال الفترة الأخيرة من أغسطس 1993، من طرد قرابة 100 ألف مسلم من جنوب ووسط البوسنة، تم تجميعهم في مدينة يابلانيتشا، دون أن توفر لهم الحد الأدنى من مقومات المعيشة. كما استمرت القوات الكرواتية المسلحة، براجمات الصواريخ متعدد المواسير، والمدفعية الثقيلة، في قصف القطاع الشرقي من مدينة موستار، التي يسكنها المسلمون، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، ومحاصرة 55 ألف مسلم على الضفة الشرقية من نهر نيرتيفا في موستار، التي يريدها الكروات عاصمة لدويلتهم. كذلك استؤنف القتال في مدن نوفي ترافنيك، كريسفيد، زيتش. واشتدت، في الوقت نفسه، هجمات الكروات ضد مواقع المسلمين في مدن وقرى جورني فاكوف، كونيتش، كارلولفاتش، يابلانيكا، ربيك، جابلانيتشا، تيزانين، كسيلاك، فيستر، ومرتفعات جربا فيتسا ودفياك.

أما الصرب، فقد استغلوا هذا الوضع، وشددوا قبضتهم على مواقع المسلمين. إذ استمروا في قصفهم الشديد لمدن ماجلاي وبتساني المحاصرتين، وزادوفيتش في شمال غرب البوسنة، ودوبوي في شمال البوسنة، وزفورنيك في شرق البوسنة. كما أصبح سكان مدينة سربرنيتشا، إحدى المناطق الآمنة المحاصرة، مهددين بالإبادة، بسبب النقص الشديد في مواد الإغاثة، وانتشار الأمراض. هذا، إضافة إلى استمرار أعمال التطهير العرقي في بانيالوكا، التي فر منها 100 ألف مسلم، وبقي فيها 40 ألفاً، كانوا يتعرضون لصنوف شتى من التعذيب، لإجبارهم على ترك أراضيهم والخروج من هذه المدينة، التي اتخذها صرب البوسنة عاصمة لدويلتهم. (اُنظر خريطة الهجوم الكرواتي الصربي).

ومع جمود الموقف الغربي عند حد مناشدة الأطراف المتحاربة إيقاف القتال، تمكنت الأمم المتحدة من تجميع 7500 جندي إضافي لحماية المناطق الست الآمنة، وهي القوة التي أسهمت فيها الدول الإسلامية بـ 5500 جندي، منهم 3000 من باكستان، و1500 من ماليزيا، و1000 من بنجلاديش. وعندما وضعت قوات الأمم المتحدة 150 جندياً فقط في جبل إيجمان، المتحكم في سيراييفو، اشترط الصرب أن يكون انسحابهم متزامناً ومتداخلاً مع قوات الأمم المتحدة، وبما يصعب على طائرات حلف شمال الأطلسي قصف القوات الصربية، إذا ما قررت الأمم المتحدة وقيادة حلف شمال الأطلسي ذلك.

بل لقد منعت قوات الأمم المتحدة في إيجمان المسلمين من استخدام هذه المنطقة الجبلية وما تحويه من ممرات، في تسريب بعض الأسلحة والمواد الغذائية والوقود إلى المسلمين المحاصرين في سيراييفو، بل منعت استخدام هذه الممرات كطرق نجاة للمسلمين الفارين من جحيم القصف في سيراييفو. وهو تكرار لموقف سابق لقوات الأمم المتحدة، عندما توصلت، في جنيف 1992، إلى اتفاق مع قوات الصرب في شأن فتح مطار سيراييفو، يقضي بالاستجابة لمطالب الصرب، في منع المسلمين من محاولة الهروب من جحيم المدينة من طريق عبور منطقة المطار في اتجاه جبال إيجمان، ومن ثم حرمانهم من الحصول على حريتهم. لذلك، أصبح واضحاً أنه بتجريد مسلمي سيراييفو من السلاح، كما طالب الصرب بذلك، واستمرار فرض الحظر على دخول أي أسلحة إليهم من الخارج، إضافة إلى تطويق قوات الأمم المتحدة الموجودة حولها، كانت سيراييفو مشابهة لسربرنيتشا وجورازدي. ولقد كان من المفترض أن يؤدي وجود الأمم المتحدة هناك إلى إغاثة تلك المناطق.

ولكن منذ أن تم اعتبارها مناطق آمنة، أصبحت وكأنها مخيمات اعتقال جبرية للمسلمين. وتصرفت قوات الأمم المتحدة، وكأنها سجان رحيم. بينما كانت القوات الصربية تواصل احتجازها لقوافل الإغاثة، وإطلاق النار على مواقع الأمم المتحدة. وهو وضع كان يدعو للسخرية والرثاء. أما على جبهة الكروات، فعلى الرغم من أن المفوضية العليا للاجئين التابعين للأمم المتحدة، قد نددت بالممارسات الوحشية، التي ترتكب ضد مسلمي موستار المحاصرين، وعددهم يزيد على 50.000 مسلم محرومين لمدة ستة أشهر من الحاجات الإنسانية الأساسية، كالماء والغذاء والعلاج، إلى جانب تعرضهم اليومي للقصف المدفعي.

كذلك أدانت الممارسات الإجرامية التي كانت تمارس في مخيمات الاعتقال التابعة لكروات البوسنة، خاصة مخيمَي درتيلا وجابيلا، وعدم السماح لمندوبي الصليب الأحمر بدخول هذه المعسكرات، إلى جانب أعمال الطرد المستمرة للمسلمين من المدن التي يستولي عليها الكروات ـ كل ذلك دفع هذه المفوضية إلى أن توصي باللجوء إلى ممارسة أقوى الضغوط على سلطات الكروات، لوقف الانتهاكات الفاضحة للقوانين الإنسانية التي تجري في هذه المعتقلات". وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الأمم المتحدة لم تستطع أن تجبر قوات الكروات على السماح بإرسال قوافل الإغاثة إلى داخل موستار. الأمر الذي أدى بالمسلمين المحاصرين إلى احتجاز عدد من قوات الأمم المتحدة لديهم، حتى يوقف الكروات القصف الذي تتعرض له مناطق المسلمين في موستار، وحتى يسمح لقوافل الإغاثة بدخول المدينة.