إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الثاني عشر

المبحث الثاني عشر

الفترة من أول يناير 1994 حتى ديسمبر 1994

أولاً: قصف سيراييفو

وعلى صعيد المعارك، تعرضت سيراييفو، يوم 7/1/1994، لأعنف قصف مدفعي منذ بداية الحرب، إذ سقط عليها 1353 قذيفة، كان نتيجتها 175 قتيلاً، 877 جريحاً. الأمر الذي دفع وزير الخارجية الأمريكي، كريستوفر، في 9/1/1994، إلى إعلان استعداد حلف شمال الأطلسي لشن ضربات جوية ضد مواقع المدفعية الصربية، في جبال إيجمان، حول سيراييفو. وفي 10/1/1994، دعا كلينتون أيضاً حلف شمال الأطلسي إلى التحرك عسكرياً، إذا لم يتحسن الوضع في سيراييفو. إلا أن مانفريد فيرنر، سكرتير عام حلف شمال الأطلسي، استبعد قيام أوروبا بأي دور في ذاك الوقت لإيقاف القتال في البوسنة، وألقى بالمسؤولية على عاتق الأمم المتحدة. وكان زعماء دول حلف شمال الأطلسي، قد أصدروا بياناً، في 10/1/1994، أعربوا فيه عن استعدادهم (تحت سلطة مجلس الأمن) لتوجيه ضربات جوية، لمنع خنق سيراييفو وغيرها من المناطق المهددة في البوسنة. كما وجهوا نداء من أجل إعادة فتح مطار توزلا، وفك الحصار الذي يضربه الصرب حول قوات الأمم المتحدة في سربرنيتشا. وفي أعقاب اجتماعات حلف شمال الأطلسي، سحب الرئيس كلينتون، في 11/1/1994، دعوته الحلف للاستعداد العسكري، مفضلاً العمل على تشجيع التسوية السياسية، معللاً ذلك بعدم وجود رأي عام داخل الحلف، يؤيد العمل العسكري في البوسنة. كما رفض بطرس غالي، في رسالة منه إلى مجلس الأمن، يوم 20/1/1994، مقترحات حلف شمال الأطلسي بشن ضربات جوية ضد مواقع الصرب في البوسنة، لفك الحصار المفروض على المناطق الآمنة في توزلا وسربرنيتشا، مشيراً إلى أن قوات الحماية الدولية، أضعف من أن تقوم بالعمليات العسكرية اللازمة لهذه الخطوة. وفي 22/1/1994، وتحت ضغط النقد العنيف الذي تعرض له من وسائل الإعلام العالمية، عاد بطرس غالي وأعلن أنه سيوافق على اللجوء إلى الضربات الجوية ضد الصرب، إذا طلب منه ذلك ممثلهُ الشخصي في البوسنة، ماسوهي أكاشي. كما أوضح أنه سيجيز الضربات الجوية في حالة عرقلة إحلال كتيبة هولندية محل القوات الكندية في جيب سربرنيتشا المحاصرة، وأنه فوض ممثله في البوسنة طلب ذلك. ولكن سكرتير عام حلف شمال الأطلسي، أبلغ بطرس غالي، في 28/1/1994، أن قوات الحلف غير مسموح لها بتوجيه ضربات هجومية أو انتقامية ضد أي من الأطراف في البوسنة والهرسك، وأن ذلك يتطلب قراراً جديداً من قيادة الحلف. وفي المقابل، حذّر زعماء صرب البوسنة الغرب من استخدام القوة لإعادة فتح مطار توزلا. كما أعلن الزعيم الروسي المتطرف، جيرينوفسكي، في 31/1/ 1994، أن شن غارات جوية من قبل حلف شمال الأطلسي ضد صرب البوسنة، سيرقى إلى حد إعلان الحرب على روسيا. (اُنظر خريطة ترسيم الكروات لحدود دويلتهم)

وفي بداية شهر فبراير 1994، أبلغ بطرس غالي مجلس الأمن بوجود 5000 جندي كرواتي نظامي، يقاتلون في وسط البوسنة وجنوبها مع كروات البوسنة، ضد المسلمين. وقد هدد مجلس الأمن، في 4/2/1994، بفرض عقوبات اقتصادية ضد كرواتيا، ما لم تسحب قواتها النظامية وعتادها العسكري من وسط البوسنة وجنوبها، خلال أسبوعين. وفي 5 فبراير 1994، تعرضت سيراييفو لمذبحة أخرى، حيث سقطت عدة قذائف مدفعية، صربية في وسط سوق المدينة، مما أدى إلى مقتل أكثر من 68 شخصاً وإصابة 200 فرد. وكان رد الفعل، أن طالب وزراء خارجية المجموعة الأوروبية برفع الحصار عن سيراييفو بكل الوسائل الممكنة، بما فيها الوسائل الجوية، وأنه يتعين على حلف شمال الأطلسي اتخاذ القرارات حول الأعمال الواجب القيام بها. ومن جانب حلف شمال الأطلسي، وبناء على طلب من بطرس غالي، فقد وافق، في 9/2/1994، على منح صرب البوسنة مهلة، مدتها عشرة أيام، لسحب قطع المدفعية والأسلحة الثقيلة الأخرى من التلال المطلة على سيراييفو، إلى مسافة 20 كيلومتراً، أو أن يضعوها تحت رقابة الأمم المتحدة، وإلا فإن طائرات حلف شمال الأطلسي، ستوجه ضربات إلى هذه المدفعية. وهو القرار الذي عارضته روسيا، باعتبار أن قرار توجيه الضربات من شأن مجلس الأمن، وليس من شأن حلف شمال الأطلسي، وقال وزير الخارجية الروسي، أندريه كوزيريف: "إن مثل هذه الضربات، هي الوسيلة الأقل فاعلية لحل النزاع في البوسنة، وستزيد الأمر تعقيداً". كما أعربت الصين أيضاً عن عدم موافقتها على توجيه ضربات جوية ضد صرب البوسنة. ومن ثم، فإن اثنين من أعضاء مجلس الأمن يملكان حق "النقض" (الفيتو)، كانا يعارضان العمل العسكري ضد الصرب. كما عارضت اليونان أيضاً الإنذار الذي وجهه حلف شمال الأطلسي إلى الصرب، وعدّته توسيعاً لنطاق الحرب. ومن جانبه هدد كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، بالانتقام من الأجانب الموجودين في مناطق سيطرته، إذا ما نفذ حلف شمال الأطلسي تهديداته، وشن ضربات جوية. كذلك عارض الوسيط الدولي، أوين، توجيه ضربات جوية، وأعلن تمسكه بالمفاوضات. وحتى يبطل صرب البوسنة مفعول الإنذار، الذي وجهه ضدهم حلف شمال الأطلسي، أعلنوا، في 10/2/1994، موافقتهم على سحب المدفعية الثقيلة والرشاشات من 22 موقع إطلاق حول سيراييفو، والسماح للمراقبين الدوليين بمراقبة المدافع التي يتم تحريكها. كما وافقت حكومة البوسنة على نقل مدافعها إلى ستة مراكز مراقبة للأمم المتحدة حول سيراييفو. وقبل انتهاء المهلة بيوم واحد، قامت روسيا بنشر 800 جندي من قواتها على تلال سيراييفو، الأمر الذي يعني إبطال مفعول إنذار حلف شمال الأطلسي عملياً، لأن أي قصف جوي من قبل الحلف، سيؤثر بالضرورة في هذه القوات الروسية. وفي 28/2/1994، أسقطت مقاتلتان أمريكيتان ضمن قوات حلف شمال الأطلسي، أربع طائرات هجومية خفيفة، تابعة للصرب، كانت تقصف أهدافاً أرضية في البوسنة، أي في منطقة محظور الطيران فيها. وكان القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي، في أوروبا، الجنرال جورج جلوان، قد أعلن، في 17/2/1994، أن الحلف قد حشد أكثر من 170 طائرة مقاتلة وقاذفة في إيطاليا وعلى متن حاملات الطائرات في الأدرياتيكي، وتوجد عدة خيارات للضربة العسكرية. وفي 21/2/1994، تخلي حلف شمال الأطلسي عن الإنذار الذي وجهه إلى الصرب، وأعلن أنه ليس هناك داع لتوجيه ضربات في هذه المرحلة.

وعلى صعيد التحركات السياسية، فقد فشل مجلس الأمن، خلال المناقشة المفتوحة، التي جرت بين أعضائه، في منتصف فبراير 1994، حول مشكلة البوسنة، في إصدار أي قرار على صعيد حل الأزمة، بسبب تصلّب الموقف الروسي المؤيد للصرب. ولكن، بدأ يظهر توجُّه أمريكي جديد لجمع المسلمين والكروات في اتحاد كونفدرالي، وهو الذي كان، بعد ذلك، جوهر اتفاق دايتون للسلام، الذي نجحت الولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1995، في فرضه في البوسنة، إذ بدأت، في 26/2/1994، في واشنطن، وبمبادرة دبلوماسية أمريكية محادثات كرواتية ـ بوسنية، ترمي إلى إقامة اتحاد كونفدرالي، يضم كروات البوسنة ومسلميها. وتم التوصل إلى اتفاق مبدئي، يقضى بإقامة هذا الاتحاد، كما اتُّفق أيضاً على المسائل الدستورية وتوزيع المناصب .. الخ. وبذلك تم تخفيف الضغط ـ مرحلياً ـ على المسلمين، بتحييد الطرف الكرواتي، كما تم إفشال محاولة التطبيع بين الصرب والكروات. وكان ذلك بداية التحرك في اتجاه الحل الأمريكي. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية، قد أعلنت، قبل ذلك بيومين، رفضها لاقتراح روسي بعقد مؤتمر قمة أوروبية ـ أمريكية ـ روسية، لتسوية أزمة البوسنة، ووصفت واشنطن هذا الاقتراح بأنه "غير مناسب، في الوقت الراهن".

وعلى صعيد المعارك العسكرية خلال شهر فبراير 1994، وبعيداً عن سيراييفو، نجد أن الصرب والكروات، قد نسقا جهودهما العسكرية من أجل تشديد ضرباتهما ضد باقي مدن البوسنة، مثل بيهاتش، وتسازرين، وبوسكانا، وماجلاي، وترافنيك. وهو ما دفع الدول الغربية إلى دعوة حلف شمال الأطلسي، في 21 فبراير، لتقديم إنذارات مماثلة لرفع الحصار عن هذه المدن، إضافة إلى سيراييفو. وقد تصاعدت هذه الدعوات في أعقاب سحب الصرب لمدفعيتهم من حول سيراييفو.

وفي مواجهة التحرك الأمريكي، ولكي تثبت روسيا وجودها على الساحة الدولية، خاصة في الصراع الدائر في البوسنة، كثفت من دعمها السياسي والعسكري لصرب البوسنة. وهو ما انعكس في إبرام اتفاق مع صرب البوسنة، يقضي بإعادة فتح مطار توزلا وسط البوسنة، في خطوة وصفها نائب الرئيس البوسني، أيوب جانيتش بأنها تمثل "إهانة للأمم المتحدة". وكان واضحاً من هذه الخطوة، أنها ترمي إلى تبليغ رسالة بإمكانية نقل دعم عسكري مباشر من روسيا إلى صرب البوسنة.

ثانياً: انتقال التوتر إلى باقي دول البلقان

مع استمرار الصراع في البوسنة، كان من الطبيعي أن ينعكس على صعيد الصراع العرقي والديني بين باقي بلدان البلقان، والذي كان كامناً ينتظر اللحظة المناسبة لينفجر فيها. فمن ناحية، نجد أن روسيا ومعها اليونان، قد بذلتا جهوداً سياسية ضخمة، من أجل منع حلف شمال الأطلسي من توجيه ضربات جوية ضد الصرب، كما تشددت روسيا ضد تركيا، لمنعها من مساندة مسلمي البوسنة. كذلك توترت العلاقات بين اليونان وألبانيا، إذ تعدّ الأخيرة كوسوفو امتداداً لها، بالنظر إلى الأغلبية الألبانية المسلمة فيها. وكانت ألبانيا قد أبدت استعدادها لوضع مطاراتها تحت تصرف حلف شمال الأطلسي، لكي يوجه منها ضرباته ضد الصرب. وقد ردت اليونان على هذا بتحرك انتقامي، تمثل في طرد مئات الآلاف من اللاجئين الألبانيين من أراضيها. كما صعدت صربيا واليونان من حملاتهما الانتقامية ضد أبان كوسوفو ومنطقة السنجق. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نجد اليونان تعاقب مقدونيا أيضاً لموقفها المساند لمسلمي البوسنة، بأن تحرمها من استخدام ميناء سالونيك، الذي يعد المنفذ الوحيد لمقدونيا.

وفي المقابل، سعت الدول الإسلامية، وفي مقدمها تركيا وباكستان وإيران، إلى دعم مسلمي البوسنة، وهو ما تمثل في الزيارة التي قامت بها رئيستا وزراء تركيا، تانسو تشيلّر وباكستان، بناظير بوتو، في 2 فبراير، إلى سيراييفو، حيث طرحتا فكرة استبدال قوات مسلمة بالقوات الدولية، غير المحايدة في الصراع الدائر في البوسنة، وهو ما رفضته الدول الأوروبية، التي منعت أيضاً إيران من الاضطلاع بأي دور، خشية الرد الانتقامي من جانب اليونان والصرب.

وفي بداية مارس 1994، صعّد الصرب هجماتهم ضد المدن المسلمة، بما فيها سيراييفو، التي تعرضت، في 3/3/1994، لقصف مدفعي عنيف، في أول خرق صريح لاتفاق وقف إطلاق النار. إلا أن الجنرال البريطاني مايكل روز، قائد القوات الدولية في البوسنة، عدّ الحادث عملاً فردياً، ولا يستدعي توجيه ضربة جوية ضد الصرب. كما واصل الصرب اعتراض قوافل الإغاثة الدولية، المتجهة إلى المدن البوسنية. كما شددوا الحصار والقصف العشوائي على مدينة ماجلاي المسلمة، مما دفع مجلس الأمن، في 15/3/1994، إلى مطالبة الصرب بضرورة رفع الحصار عن المدينة، وفتح الطريق أمام قوافل الإغاثة لدخولها. إلا أن الصرب أعلنوا تحديهم لقرار مجلس الأمن، ورفضوا السماح لقوافل الإغاثة بدخول المدينة. وتحت تهديد حلف شمال الأطلسي بشن غارات جوية ضد المواقع الصربية، استجاب الصرب، في 30/3/1994، وسمحوا بدخول أول قافلة إغاثة إلى ماجلاي منذ أكتوبر 1993، وإن كانوا قد خطفوا عشر شاحنات منها ونهبوا محتوياتها. كما أعلنت الأمم المتحدة، أن الصرب فتحوا مطار توزلا لاستقبال طائرات الجسر الجوي للمساعدات الإنسانية. وفي 27/3/1994، قامت القوات الدولية بتدمير مخزن للأسلحة الصربية قرب مدينة ماجلاي المحاصرة، في اشتباك عنيف مع القوات الصربية.

وعلى صعيد العلاقات الصربية ـ الكرواتية، هدد صرب كرواتيا، المتمركزون في إقليم كرايينا، بتدمير العاصمة الكرواتية، زغرب، إذا حاولت كرواتيا استعادة منطقة كرايينا، التي تحتلها الميليشيات الصربية. ولكنْ الطرفان نجحا، في 30/3/1994، في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بينهما. وإزاء احتمالات الصراع في هذه المنطقة، قرر مجلس الأمن إرسال 8500 جندي إلى البوسنة، وطلب من قيادة حلف شمال الأطلسي أن توفر الحماية الجوية للقوات الدولية العاملة في كرواتيا، ودراسة إرسال 1600 جندي و200 طائرة عمودية إلى منطقة كرايينا، لرعاية السلام الموقع بين الصرب والكروات في هذه المنطقة.

لقد شهد شهر مارس 1994 تصاعد الخلافات بين أطراف الصراع، سواء في ما بينهم ـ مثل الصراع بين الصرب والمسلمين من جهة، أو بين الصرب والكروات من جهة ثانية، وإن كانت قد خفت حدّة الصراع بين الكروات والمسلمين، بعد الاتفاق الذي تم توقيعه بينهما في واشنطن، لإقامة اتحاد فيدرالي، يضم كروات البوسنة ومسلميها، وهو ما رفضه صرب البوسنة. أو في ما بين أطراف الصراع من جهة، والأمم المتحدة من جهة أخرى، إذ تزايدت الانتقادات بين المسلمين وبطرس غالي، خاصة عندما اتهم الأخير مسلمي البوسنة باستغلال قوات الأمم المتحدة والضربات الجوية لحلف شمال الأطلسي، كغطاء لشن هجمات وإغارات ضد المواقع الصربية، وذلك في تقرير قدمه إلى مجلس الأمن في 15/3/1994.

ومع بداية شهر أبريل 1994، طفت مشكلة مدينة جورازدي المسلمة والمحاصرة، مرة أخرى، على سطح الأحداث في البوسنة. وتمثل هذه المدينة أهمية إستراتيجية كبرى، سواء بالنسبة إلى صرب البوسنة أو مسلميها؛ فهي المدينة الوحيدة على نهر درنيا، وغير خاضعة كلياً لسيطرة الصرب، كما تشكل تقاطعاً مهماً للطرق، ويوجد بها مصنع للأسلحة. لذلك، كثف الصرب، في 4/4/1994، هجماتهم وقصفهم المدفعي على هذه المدينة التي تعدّ واحدة من المناطق الأمنية الست، التي تولت الأمم المتحدة حمايتها. وكان هدف الصرب السيطرة عليها، خاصة بعد إعلان اتفاق الفيدرالية بين الكروات والمسلمين. لذلك، رفضوا السماح بمرور مزيد من المراقبين الدوليين إلى المدينة، مما دفع حارس سيلاديتش، رئيس وزراء البوسنة، إلى مطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته لمنع سقوط المدينة في أيدي الصرب. وفي 5/4/1994، قرر مجلس الأمن إرسال ألف جندي أوكراني إلى جورازدي، وهو ما رفضه الصرب أيضاً، كما منعوا الجنرال مايكل روز، قائد القوات الدولية في البوسنة، في 6/4/1994، من دخول المدينة. وعندما أصرت القوات الصربية على اقتحام جورازدي، شنت طائرات حلف شمال الأطلسي هجوماً ضد المواقع الصربية حول المدينة، في 10/4/1994، وهو ما عارضته روسيا والصين. وفي رد انتقامي من جانب الصرب، قامت المدفعية الصربية، في 14/4/1994، بقصف مطار مدينة توزلا، الذي تقوم الأمم المتحدة بتشغيله لنقل إمدادات الإغاثة.

وبعد مفاوضات بين ياسوشي أكاشي، ممثل بطرس غالي في البوسنة، وبين الصرب، وافقوا في 18/4/1994، على سحب قواتهم من جورازدي. ولكنهم خرقوا، مرة أخرى، هذا الاتفاق، وواصلوا قصف المدينة بضراوة شديدة، مكنتهم من اقتحامها بالدبابات، وتوغلوا فيها 10 كم. وقاموا، على الفور، بتدمير مصنع الذخيرة الموجود فيها، وذلك بعد أن انهارت دفاعات المسلمين في المدينة. وكان الرئيس الروسي، يلتسين، قد وجّه نداء عاجلاً إلى الصرب بضرورة إيقاف هجومهم على جورازدي، حتى لا يتعرضوا لغارات طائرات حلف شمال الأطلسي مرة أخرى. وقد دفع هذا الموقف المتدهور الرئيس البوسني إلى طلب استقالة بطرس غالي من منصبه، وإبعاد ممثله، أكاشي، من البوسنة. إلا أن بطرس غالي طلب، في 19/4/1994، معاودة قصف القوات الصربية في جورازدي، ووافق مجلس الأمن على ذلك، إذا لم ينسحب الصرب من المدينة يوم 25/4/1994. وفي 23/4/1994، وجه حلف شمال الأطلسي إنذاراً جديداً إلى صرب البوسنة بسحب جميع أسلحتهم الثقيلة إلى مسافة 20كم من محيط هذه المناطق.

وتخوفاً من تكرار القصف الجوي للمواقع الصربية، وافق الصرب، في 23/4/1994، بعد مفاوضات مع أكاشي، على سحب أسلحتهم 3كم فقط، وليس 20 كم، من محيط جورازدي. وتم نشر 276 جندياً للأمم المتحدة في المدينة، بعد أن انسحب الصرب منها، ولكن بعد أن دمروا كل شيء تقريباً في المدينة، وهو ما دفع أكاشي إلى تقديم احتجاج إلى القيادة الصربية، بسبب ممارسة قواتها إستراتيجية "الأرض المحروقة" في جورازدي، وهو الأمر الذي دفع الرئيس البوسني إلى تكرار المطالبة بسحب أكاشي، لعدم حياده في حل هذه المشكلة، خاصة بعد أن سمح لصرب البوسنة بتحريك 7 دبابات داخل المنطقة المحظورة. وقد عبرت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن، مادلين أولبرايت، عن استيائها بتصريحات أكاشي وممارساته في البوسنة.

ثالثاً: المسلمون يشنون هجوماً مضاداً واسعاً

كان من نتيجة فشل لجنة الاتصال الدولية في تحقيق أي نجاح يذكر، على صعيد إقناع الأطراف المتحاربة بخطة التقسيم، أن اتجه الصرب إلى تنشيط العمليات العسكرية في وسط وغرب البوسنة. ولكن القوات المسلمة كانت قد أتمت، إلى حدّ ما، إعادة تنظيم وتسليح وتدريب نفسها، فشنت هجوماً مضاداً واسعاً ذا شعبتين، أحدهما في اتجاه الغرب، للقضاء على التمرد الذي كان يقوده فكرت عبيدتش، والآخر في اتجاه الشمال، لفك الحصار الذي ضربته القوات الصربية على المدن والقرى المسلمة في وسط البوسنة وشمالها. وكان الصرب قد نجحوا، عقب استيلائهم على مدينة بوسانسكي برود في شمال البوسنة، أن يقيموا ممراً يربط المناطق البعيدة التي يحتلونها في البوسنة بمعقل صرب البوسنة في كرايينا. والأمر نفسه تكرر في مدينة بيهاتش في غرب البوسنة، مما أتاح للصرب شطر وسط البوسنة، الذي يعتبر مركز تجمع المسلمين في البوسنة، إلى قسمين. وبذلك أصبح الوجود العسكري للمسلمين منحصراً في عدة مدن متناثرة، أبرزها بيهاتش في الغرب، والمناطق الآمنة في الشرق في سربرنيتشا، وجورازدي، وتوزلا، وزيبا, وجراداكاتس. وفي الشمال، كانت مواقع المسلمين محاصرة في بريتشكو، ودوبوي. أما في الوسط، فقد تمركزت المواقع المسلمة حول مدن زينتسا وترافنيك، وسيراييفو. وفي الجنوب، كانت مواقع المسلمين في مدن موستار، وفوتشا، وكونيتس، ومعظمها مدن محاصرة بواسطة الصرب والكروات. وكانت سيراييفو مقسمة، بدورها، إلى قسمين: أحدهما يضم المسلمين والكروات، والآخر يضم الصرب في منطقة خاصة بهم، ويفصل بين المنطقتين نظام مركب من الموانع الهندسية، يحوى إلى جانب الأسلاك الشائكة، الغاماً وحواجز ومتاريس وأنظمة إنذار، ناهيك بالقناصة في المباني الموجودة في القطاع الصربي من المدينة، يصطادون أكبر عدد من المسلمين، أثناء تحركهم في القطاع الخاص بهم من المدينة. وهو الوضع نفسه في مدينة موستار، التي كانت مقسمة بين قطاع شرقي يتمركز فيه المسلمون، وقطاع غربي يحتله الكروات. (اُنظر خريطة الهجوم المضاد البوسني والكرواتي).

ورغم قلة الأسلحة التي كان يملكها المسلمون، فقد واجهوا هجمات الصرب والكروات في آن واحد. وفي يونيه 1994، بدأ الموقف العسكري يتحسن لمصلحتهم في جبهات كثيرة، خاصة في وسط البوسنة، وهي المنطقة التي تعد حلقة الوصل للإمدادات القليلة، التي تأتيهم من الخارج. كذلك في شمال البوسنة في منطقة توزلا الصناعية، حيث يعيش ما يزيد على 800 ألف مسلم، أي ثلث سكان البوسنة. أما في سيراييفو، التي توقعوا في الغرب سقوطها منذ شهور، فقد استمرت صامدة إلى آخر لحظة، إذ يوجد فيها حوالي ألف مقاتل مسلم محاصرين بأكثر من 200 قطعة مدفعية ثقيلة و 30 ألف جندي صربي، تدعمهم صربيا بإمدادات متواصلة، منذ بداية الحرب. وكان المصدر الرئيسي، تقريباً، للقوات المسلمة للسلاح داخل سيراييفو، هو الغنائم بالدرجة الأولى، وتحويل قذائف الصرب التي لا تنفجر إلى رصاصات صغيرة في الورش داخل البيوت.

ورغم التآمر الكرواتي، وسيطرة الكروات على الطرق، وهو ما جعل المسلمين منذ ستة أشهر، تقريباً، لا يستطيعون الحصول على طلقة واحدة من الخارج، بالنظر لمنع الكروات لكل المعونات والإمدادات القادمة إلى المسلمين عبر الحدود الكرواتية، فقد استطاعت القوات المسلمة في شمال البوسنة وشرقها، أن تخوض معارك بطولية ضد الصرب، وتنزل بهم خسائر موجعة. فقد استطاعت فرقة واحدة من الجيش المسلم تدمير 14 دبابة صربية، وقتل 150 جندياً صربياً في معركة واحدة من قواتهم الخاصة. أما في الغرب، فلم تكن توجد منطقة، إلا وكانت تشهد مقاومة إسلامية شديدة. حتى الأراضي التي استولى عليها الصربيون والكروات، فإن القوات المسلمة لم تستسلم فيها نهائياً. بل استمرت المقاومة، كما تقدمت القوات المسلمة تقدماً ملحوظاً، خاصة في المناطق التي يتنازعها المسلمون والكروات في وسط البوسنة، حيث تمكن المسلمون من طرد الكرواتيين من مدينة فاريس وثلاث قرى أخرى، هي بوروفيتشا وبوجار وإيفانسيفو.

أما موستار بجنوب غرب البوسنة، فقد شهدت قتالاً متقطعاً على الرغم من الاتفاق الذي وقعه المسلمون والكروات. وفي يونيه 1994، صرح عارف باسيلج، قائد قوات البوسنة في مدينة موستار، بقوله إن قواته مصممة على مواصلة القتال، بصرف النظر عن أي تسوية، على الرغم من أن الكروات يحاصرون 55 ألف مسلم في الجانب الشرقي من المدينة، وأنه وقواته عازمون على تحرير موستار من القوات الكرواتية، على الرغم من القصف الكرواتي المستمر للقطاع المسلم من المدينة. لذلك، نجحت القوات المسلمة في الاقتراب من شمال المدينة، حتى أصبحت على مسافة 15كم، في محاولة لفك حصار الكروات لها. كما زحفت قوات البوسنة أيضاً على بلدة فيتز في وسط البوسنة، في محاولة لقطع طريق إمداد حيوي على الكروات والصرب. لذلك، لم تتورع القوات الصربية والكرواتية عن استخدام أساليب بشعة لاختراق خطوط المسلمين في وسط البوسنة، حيث استخدمت الأسرى المسلمين دروعاً بشرية، بعد لف أجسادهم بالمواد المتفجرة، ثم تفجيرها بمجرد الاقتراب من مواقع المسلمين. وقد أفادت التقارير، أن قادة الكروات يستخدمون في ذلك أجهزة التحكم عن بعد لتفجير المتفجرات في أجسام المسلمين. وعلى الرغم من هذه الوسائل الوحشية، فإن القوات الكرواتية فشلت في إجبار القوات المسلمة على الانسحاب من منطقة نوفي ترافنبيك بوسط البوسنة. كذلك، فإنه على الرغم من حصار القوات الصربية والكرواتية لبلدة ماجلاي، والذي تعدى أربعة أشهر، فإن المقاتلين المسلمين فيها استمروا صامدين على الرغم من تدهور أحوالهم المعيشية، بسبب منع القوات الصربية والكرواتية إمدادات الإغاثة من الوصول إليهم. وذلك على الرغم من القصف المستمر للبلدة، والذي يسقط نتيجته ما بين 15 ـ 20 شخصاً يومياً. الأمر عينه بالنسبة إلى جنوب البوسنة، حيث لم تتوقف مدفعية الصرب والكروات عن قصف مواقع المسلمين، في محاولة لانتزاعها منهم، إلا أنهما فشلا أيضاً في ذلك.

وفي دراسة أجراها المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بلندن، في عام 1994، حول الاحتمالات المتوقعة لمسار الصراع المسلم في البوسنة، قال مايكل بالشاك، المحلل بالمعهد: "إنها مسألة أيام قبل أن يستولي الصرب على مقر القيادة العسكرية في جبل إيجمان المطل على سيراييفو. وفي هذه الحالة، سيكون من الصعب على البوسنيين مواصلة القتال ... سيفقدون ما تبقى لهم من تنسيق مركزي. وسيشدد الصرب، والحالة هذه، قبضتهم على ضواحي سيراييفو الجنوبية الغربية، مما قد ينهي هذا الفصل من الحرب. لأن البوسنيين سيرغمون على قبول خطة التقسيم، ولن يكون أمامهم خيار آخر سوى الاستسلام". وأضاف بالشاك، ومعه خبراء آخرون، أنه ربما لا يضطر الصربيون حتى إلى دخول سيراييفو، لأن موقفهم سيكون قوياً إلى درجة تمكنهم من الانتظار حتى يكمل الشتاء بقية المهمة نيابة عنهم. لكنه حذر من أن انتصار الصرب في البوسنة، سيدفعهم إلى شن حرب أخرى ضد كرواتيا، ثم في إقليم كوسوفو ومقدونيا، حيث يرابط ثلاثمائة جندي أمريكي. وأضاف بالشاك: "سيكون في استطاعة الصرب أن يفعلوا ما يحلو لهم ... وسيكون درس البوسنة مسبباً لقلق كبير للكثيرين. وإننا إذا لم نفعل شيئاً، فسنكون قد قدَّمنا نموذجاً يحتذى لقيام توترات في مناطق أخرى من العالم. ويمكن على مدى عشرين عاماً قادمة، أن نشهد حروباً عرقية كثيرة".

ومع نجاح الهجوم المضاد الواسع، الذي شنه المسلمون في البوسنة، خلال شهر يونيه 1994، أمكن فك الحصار عن الكثير من المدن والقرى المسلمة المحاصرة. كما هرب فكرت عبيدتش من بيهاتش، بعد أن استعادها المسلمون في 26 أغسطس 1994، إلى إقليم كرايينا الصربي داخل كرواتيا. وأمام تقدم القوات المسلمة، كان الصرب يفرون بالآلاف نحو الشرق إلى صربيا، تاركين أسلحتهم ومعداتهم التي كان يستولي عليها المسلمون. وهو الوضع الذي دفع الصرب، في 28 أغسطس 1994، للمرة الأولى إلى مناشدة مجلس الأمن التدخل الفوري لوقف إطلاق النار، وإنقاذ آخر فرص إحلال السلام في البوسنة. وقد تزامن ذلك مع وصول أول دفعة من القوات التركية المشاركة في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في البوسنة، والذي وصفه برلمان الصرب بأنه كارثة خطيرة للمجتمع الدولي والأزمة البوسنية. وكان مجلس الأمن قد أصدر، في 7/6/1994، بياناً رئاسياً أكد فيه ضرورة وقف كل أعمال القتال على امتداد حدود دولة البوسنة، وهو ما لم تلتزم به الأطراف المتصارعة. كما فشلت المفاوضات التي جرت في مطار سيراييفو بين المسلمين والصرب، يوم 19/6/1994، لتبادل الأسرى. وكان الجنرال مايكل روز، قائد القوات الدولية في البوسنة، قد وجه تهديداً صريحاً إلى القوات البوسنية، بسبب قيامها بشن هجمات على القوات الصربية. وقد ردت حكومة البوسنة على ذلك، في 11/8/1994، بأن الجيش البوسني لا يطلق النار إلا دفاعاً عن النفس، مما يزيل أي مبرر لتوجيه الضربات التي يهدد بها الجنرال روز المسلمين. 

رابعاً: تصاعد حدة التوتر في سبتمبر 1994

بعد أن نجحت القوات البوسنية المسلمة في تصفية حالة التمرد في جيب بيهاتش، بنهاية أغسطس 1994، وتمكنت في أول سبتمبر من بسط سيطرتها على أربع بلديات في هذه المنطقة من غرب البوسنة، تابعة لبيهاتش، وهي فيليكا كلادوشا، بوسانسكا كروبا، وتسازين. وأصبحت القوات المسلمة بذلك في وضع أفضل، قررت القيادة البوسنية أن تستغل النجاح، الذي حققته لكي تدعم موقفها التفاوضي حول خطة التقسيم. وهو الوضع الذي أثار الصرب، خاصة بعد فرار فكرت عبيدتش إلى إقليم كرايينا في كرواتيا.

وقد انعكس ذلك في زيادة عمليات التطهير العرقي، التي مارسها الصرب ضد مسلمي البوسنة. كما هدد كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، في 2/9/1994، بحرمان المسلمين من كافة سُبُل الحياة، ما لم ترفع جمهورية صربيا حصارها المعلن منذ أواخر أغسطس عن صرب البوسنة. وقد أدان مجلس الأمن بشدة عمليات التطهير العرقي، وطالب بسرعة إيقافها، وذلك في بيان له في 3/9/1994، والسماح لممثلي الأمم المتحدة بدخول منطقة بانيالوكا، لتفقّد أحوال المعتقلين من المسلمين.

وفي 4/9/1994، هددت روسيا بسحب قواتها المشاركة في قوات حفظ السلام في البوسنة، في حالة رفع الحظر المفروض على توريد السلاح إلى مسلمي البوسنة، أو إذا شنت طائرات حلف شمال الأطلسي هجمات جديدة ضد المواقع الصربية. كما ألغى بابا الفاتيكان، يوحنا بولس الثاني، في 7/9/1994، زيارته المقررة إلى سيراييفو بعد فشله في الحصول على الضمانات الأمنية اللازمة. وقد ترتب على توتر الموقف، أن أجرت قيادتا القوات الدولية في البوسنة وحلف شمال الأطلسي مشاورات عاجلة، في 10/9/1994، بهدف نزع فتيل الأزمة في منطقة بيهاتش، التي حاصرها صرب كرايينا بمساعدة فلول فكرت عبيدتش، التي هربت إلى إقليم كرايينا الصربي، والموجودة في كرواتيا، استعداداً لشن هجوم مضاد على بيهاتش، بعد أن أحكم المسلمون السيطرة عليها. وفي 15/9/1994، وصلت طلائع قوات المراقبة الدولية بلجراد، استعداداً لأخذ مواقعها على طول الحدود بين صربيا والبوسنة.

وكانت المعارك قد اشتدت، بدءاً من منتصف سبتمبر، حول سيراييفو، عقب تصعيد الصرب لهجماتهم على المدينة، وعلى مواقع القوات الدولية حولها، مما دفع طائرات حلف شمال الأطلسي إلى شن هجمات جوية ضد المواقع الصربية، في 23/9/1994. وقد ترتب على ذلك أن بدأ صرب البوسنة حملة ضد قوات الأمم المتحدة، مما دفع مجلس الأمن، في 24/9/1994، إلى إصدار ثلاثة قرارات، الأول لتخفيف العقوبات على جمهوريتَي صربيا والجبل الأسود، بسبب إغلاق حدودها مع صرب البوسنة، وإعادة فتح مطار بلجراد أمام الرحلات المدنية. ويقضي القرار الثاني بمناشدة الدول وقف أي تعامل مع صرب البوسنة، مع حظر سفر زعمائهم إلى أي دولة، وحظر التجارة معهم وتجميد أرصدتهم المالية في الخارج. ويشجب القرار الثالث عمليات التطهير العرقي، التي أدارها الصرب في مدن البوسنة، في الفترة الأخيرة من عام 1994، وطالب القرار صرب البوسنة بالسماح لمسؤولي الأمم المتحدة بدخول بانيالوكا وبلينا ومناطق أخرى.

خامساً: المسلمون يوسعون هجومهم، والصرب يشنون هجوماً مضاداً

بعد أن نجحت القوات البوسنية في تحرير جيب بيهاتش وفرض سيطرتها عليه، استغلت نجاحها واتجهت، بمساعدة القوات الكرواتية، إلى شن هجوم واسع النطاق، في 28/10/1994، ضد القوات الصربية في مناطق عديدة من وسط البوسنة. وأسفر هذا الهجوم عن تحرير حوالي 200 كم2 من المناطق التي سبق للصرب احتلالها بقوة السلاح، خاصة في منطقة بلاتبو الواقعة شرق مدينة بيهاتش. وكان متحدث باسم قوات الأمم المتحدة قد صرح: "أن قوات صرب البوسنة في هذه المناطق قد انهارت. كما تقوضت أنظمة القيادة والسيطرة عندهم. في الوقت نفسه، حذر الجنرال مايكل روز، قائد القوات الدولية، الصرب من شن أي هجمات انتقامية ضد المدنيين العزل في المناطق الست الآمنة، الخاضعة لحماية الأمم المتحدة. (اُنظر خريطة توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب).

إلاّ أن بعض المصادر المستقلة، أشارت إلى أن انسحاب الصرب من بعض المناطق، كان مدبراً، لأنه تم من دون قتال، وأنه كان بهدفين: الأول سياسي، للظهور بمظهر الضحية أمام الهجوم البوسني ـ الكرواتي، وكسب تعاطف إقليمي دولي يخدم خطط الصرب المستقبلية. والسبب الآخر عسكري، ويستهدف تشتيت وبعثرة جهود القوات المسلمة في اتجاهات متعددة، بعد إخراجها من دفاعاتها المحصنة، وإجبارها على خوض معارك تصادمية مفتوحة، تفتقر فيها إلى المدرعات والغطاء الجوي، وهما العنصران اللذان تتفوق فيهما القوات الصربية، وبذلك يمكن إلحاق هزيمة كاسحة بالقوات المسلمة.

وبالفعل، بعد أن استوعبت القوات الصربية الهجوم البوسني، شنت مع صرب كرواتيا الموجودين في إقليم كرايينا، هجوماً مضاداً واسع النطاق، في 10/11/1994، ضد قوات الفيلق الخامس البوسني، المتمركز في إقليم بيهاتش في غرب البوسنة وحوله. وقد شاركت قوات فكرت عبيدتش في هذا الهجوم، فأصبح الهجوم ثلاثي الاتجاهات ضد جيب بيهاتش: صرب البوسنة من الشرق، صرب كرواتيا من الغرب، وقوات عبيدتش من الشمال ضد مدينة فيليكا كلاودشا.

ومع نجاح حدة الهجوم الصربي على جيب بيهاتش، نجحت القوات الصربية في استعادة كثير من الأراضي، التي فقدتها في الهجوم الذي شنته القوات البوسنية. لذلك، أصدر مجلس الأمن قراراً، في 19/11/1994، بالموافقة على قيام طائرات حلف شمال الأطلسي بضرب أهداف صربية في منطقة كرايينا داخل كرواتيا، وهو القرار الذي مهد لشن أكثر من غارة على مطار أودبينا داخل إقليم كرايينا، إلا أنها كانت غارات ذات تأثير محدود.