إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الثاني عشر

المبحث الثالث عشر

الفترة من أول يناير 1995 حتى ديسمبر 1995

استأنفت الأمم المتحدة جهودها لتنفيذ اتفاق الهدنة والتوصل إلى اتفاقية سلام نهائية، بعد أشهر الهدنة الأربعة. ونصت الاتفاقية على فصل قوات المسلمين عن القوات الصربية، على امتداد خطوط المواجهة، مع الامتناع عن إطلاق النار، وأن تتولى قوات حفظ السلام الدولية مراقبة وقف الأعمال العسكرية، ومنح قوات الحماية الدولية ومسؤولي الإغاثة حرية الحركة الكاملة. وفي 2/1/1995، وافق جيش البوسنة على الانسحاب من منطقة منزوعة السلاح في غرب سيراييفو، في مقابل أن يفتح الصرب بعض الطرق أمام المرور المدني.

إلا أن أجواء التوتر عادت من جديد في 5/1/1995، بعد تعثر المفاوضات حول تنفيذ بنود اتفاق الهدنة، بسبب ما أعلنه الصرب من رفض المسلمين الانسحاب من مواقعهم في جبل إيجمان، وفي 10/1/1995، اتهمت حكومة البوسنة مجموعة الاتصال الدولية بالإذعان لمطالب الصرب. وتحت الضغط الذي مارسه الجنرال مايكل روز، قائد القوات الدولية، تم في 12/1/1995، انسحاب القوات البوسنية من جبل إيجمان، مقابل موافقة الصرب على إعادة فتح طرق الإمدادات إلى سيراييفو.

أولاً: فشل الهدنة

إلا أنه اتضح للجميع، في منتصف يناير 1995، أن كل الجهود الدبلوماسية والسياسية، التي تمّت خلال الفترة الأخيرة، كانت عبارة عن مناورة صربية، استهدفت إجلاء المسلمين عن مواقعهم في جبل إيجمان وكسب الوقت. وهو ما اعترفت به مجموعة الاتصال الدولية في 15/1/1995، عندما أعلنت فشلها في دفع عجلة السلام، وأعاد الصرب إغلاق الطرق المؤدية إلى سيراييفو، كما رفضوا، في 26/1/1995، خطة السلام إلا بعد تنفيذ مطالبهم بربط جميع مناطقهم بعضها ببعض مع صربيا بممرات آمنة، وهو ما رفضه مسلمو البوسنة. في الوقت نفسه، تزايد التوتر بين المسلمين والكروات في شمال البوسنة ومدينة موستار، مما دفع فرنسا، في 30/1/1995، إلى زيادة حجم قواتها في البوسنة، لتعزيز وقف إطلاق النار الذي توصل إليه كارتر.

وفي 2/2/1995، أعلن حارس سيلاديتش، رئيس وزراء البوسنة، رفض بلاده لاقتراح فرنسي بعقد مؤتمر دولي لحل الأزمة، بعد أن تخلت مجموعة الاتصال الدولية عن جهودها، عقب رفض الصرب لخطة التقسيم، لأن ذلك، من وجهة نظر حكومة البوسنة، يعني البداية من نقطة الصفر. إلا أن التوتر الذي برز بين المسلمين والكروات تم احتواؤه بالموافقة على التحكيم الدولي لإنقاذ الاتحاد الفيدرالي، الذي تحوّل، فعلياً، إلى اتحاد كونفدرالي. وأعقب ذلك تشكيل قيادة مشتركة بينهما لمواجهة الاعتداءات الصربية.

وفي 5/2/1995، أعلن مسؤولو الأمم المتحدة أن صربيا انتهكت الحظر الجوي المفروض في أجواء البوسنة، وقامت بتزويد صرب البوسنة بالأسلحة والمؤن. وفي 25/2/1995، أعلن كريس جانوفسكي، المتحدث باسم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، أن المتطرفين الصرب شنوا حملة ترهيب جديدة ضد المسلمين في جراديسكا بشمال البوسنة، في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان. وفي 28/2/1995، أعلن متحدث باسم الأمم المتحدة، أن إلغاء الزيارة التي كان مقراراً أن يقوم بها الرئيس التركي، سليمان ديميريل، إلى العاصمة سيراييفو، جاء في أعقاب رفض صرب البوسنة تأمين زيارته ومعارضتهم لها.

ومع اقتراب موعد انتهاء الهدنة في مايو 1995، تزايد معدل اختراق أطراف النزاع للهدنة، كل لحساباته الخاصة، التي استهدفت الضغط لإتمام التسوية وفق شروطه الذاتية. وبدأ كل طرف يؤكد رفضه لتجديد الهدنة، ويبرهن على ذلك، عملياً، بتسخين الموقف على بعض الجبهات، خاصة مع ما ثبت من صعوبة تنفيذ خطة تقسيم البوسنة، التي وضعتها مجموعة الاتصال الدولية، بسبب تمسك الصرب بضرورة الحصول على ممرات أرضية، تربط المناطق التي يسيطرون عليها.

وعلى صعيد الجانبين المسلم والكرواتي، اتجه الطرفان إلى تنشيط المفاوضات حول الاتحاد الفيدرالي المزمع بينهما، ونشطت الإدارة الأمريكية في دعم هذا الاتحاد، مع وعود بمساعدات أمريكية وأوروبية لإعادة الإعمـار (كانت الدفعة الأولى 200 مليون دولار). وعلى الرغم من ذلك، ظلت المشاكل تواجه هذا الاتحاد، لا سيما بعد تشدد جناح داخل كروات البوسنة في موقفه الداعي إلى عدم الدخول في اتحاد مع المسلمين، حتى لا تضيع ملامح الكروات وسط المحيط الإسلامي الأكبر. أما على صعيد الجانب الصربي، فقد حاولوا استغلال فترة الهدنة من أجل استصدار قرار من مجلس الأمن برفع ما تبقى من عقوبات على يوغسلافيا الجديدة، وهو الأمر الذي اصطدم برفض دول الاتحاد الأوروبي، التي طالبت أولاً باعتراف صربي بجمهوريتَي كرواتيا والبوسنة.

ومع استمرار كل طرف في تشدده، واستغلال الهدنة في تعزيز قدراته العسكرية وتثبيت أقدامه على الأراضي التي يسيطر عليها، جاء التلويح من جانب الأطراف المختلفة، في منتصف أبريل 1995، بعدم الرغبة في تجديد الهدنة، بل بإمكانية نسفها قبل حلول موعد انتهائها. من هنا، يمكن أن نفهم تأكيدات الحكومة البوسنية أن الهدنة كانت "كارثة". ونفهم أيضاً رفض الرئيس الكرواتي، توديمان، تجديد مهمة قوات حفظ السلام الموجودة في بلاده، فضلاً عن التصعيد العسكري الصربي في مناطق عديدة.

ثانياً: تجدد القتال بعد انتهاء الهدنة

بعد انتهاء المهلة بين الأطراف المتحاربة، في أول مايو 1995، اتجه الصرب إلى تصعيد الموقف عسكرياً، فعادت الأمم المتحدة تطلب من حلف شمال الأطلسي شن غارات جوية على مواقع الصرب، وهو ما حدث في 26 مايو، الأمر الذي دفع زعيم صرب البوسنة إلى إصدار أوامره باعتقال أفراد القوات الدولية العاملة في البوسنة، واتخاذ بعضهم كدروع بشرية، وانتهي الأمر بأسر حوالي 400 جندي من أفراد القوات الدولية، وهدد الصرب بقتلهم إذا ما عاود الحلف شن غاراته من جديد. وهنا ساد التردد صفوف البلدان الغربية، وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، رفضها القاطع لإرسال قوات لفرض السلام، مؤكدة أنها إذا أرسلت قوات إلى البوسنة، فسوف يكون ذلك لهدف من اثنين: إما إجلاء القوات الدولية، أو حفظ الأمن، بعد التوصل إلى اتفاق تسوية نهائية.

وكان صرب البوسنة قد شنوا، في 9/5/1995، أول هجوم بالدبابات على سيراييفو منذ عامين، كما شدّدوا من القصف المدفعي ضد المدينة، مما أدى إلى مصرع 50 مسلماً. وفي 28/5/1995، لقي وزير خارجية البوسنة مصرعه، بعد قصف طائرته بصاروخ أرض/جو صربي.

وقد دفعت هذه التطورات بطرس غالي، في 31/5/1995، إلى تقديم تقرير لمجلس الأمن، حدد فيه أربعة خيارات بشأن مهمة القوات الدولية في البوسنة، وهي:

1. سحب القوات الدولية.

2. لإبقاء على الوضع الراهن.

3. غيير الولاية، باستبدال قوات الأمم المتحدة في البوسنة بقوة متعددة الجنسيات، تكون جاهزة لاستخدام القوة عند الحاجة، وذلك على غرار حالتَي الصومال وهاييتي.

4. تعديل ولاية قوة الأمم المتحدة في البوسنة، على نحو يقع بين الإبقاء على الوضع الراهن، وتعزيز القوة أو تقليصها، حسب ما يمليه الواقع على الأرض.

وأعلن بطرس غالي، من جانبه، أنه يفضل واحداً من الخيارين، الثالث والرابع، ورفْض الأول لمخاطره، والثاني لعجزه عن الوفاء بمقتضيات حفظ الأمن في البوسنة.

ورداً على ذلك، وافق وزراء دفاع دول حلف شمال الأطلسي، في اجتماعهم في باريس، في 3/6/1995، على تشكيل قوة تدخل سريع، قوامها 12550 جندي، تساهم فيها فرنسا وبريطانيا وهولندا بالنصيب الأكبر، تُكلف بثلاث مهام هي: التدخل لمساعدة القوات الدولية العاملة، في البوسنة في حالة تعرضها للخطر، وتسهيل عملية إعادة تجميع القوات الدولية، وتسهيل إتمام القوات الدولية لمهامها. وأكد وزراء دفاع الحلف، أن مهمة القوات الدولية ليست فرض الحل، وإنما العمل على دعم الحل الذي يتم التوصل إليه، وتقديم المساعدات الإنسانية، والإشراف على وقف إطلاق النار. ويلاحظ، في هذه المهام الثلاثة، أنه لا يوجد بينها تأمين المسلمين في المناطق الآمنة الست، التي تعهدت الأمم المتحدة بتأمين سكانها، وقد استكملت قوة التدخل السريع الأوروبية، انتشارها حول سيراييفو، في 24/7/1995.

وإمعاناً في تحدى الصرب لكل هذه القرارات الدولية، أسقطت الدفاعات الجوية الصربية، يوم 2/6/1995، مقاتلة أمريكية طراز (ف ـ 16)، تابعة لحلف شمال الأطلسي بواسطة صاروخ أرض/جو (سام ـ 6) بالقرب من بلدة بانيالوكا الخاضعة لهم. وفي 5/6/1995، أعلن مسؤولو الأمم المتحدة، عجزهم عن حماية المناطق الآمنة، بسبب احتجاز الصرب 752 جندياً دولياً كرهائن. وتم الإفراج عنهم في 18/6/1995، بعد وساطة روسية-يونانية، وتدخل من الرئيس الصربي، ميلوسيفيتش.

وفي 15/6/1995، نشب قتال عنيف شمال سيراييفو، حيث شنت القوات البوسنية هجوماً شاملاً، لفك الحصار عن سيراييفو. وقد سجل المراقبون الدوليون سقوط 1600 قذيفة على منطقة نوجوسكا. وأكد نائب الرئيس البوسني، أيوب جافيتش، في 18/6/1995، رفض حكومته المطالبة الدولية بوقف العمليات العسكرية، إلا في حالة تمكُّن المجتمع الدولي من فك الحصار عن سيراييفو، وأن الطرق الدبلوماسية أثبتت فشلها في ذلك. وقد وضعت الحكومة البوسنية شرطاً آخر لوقف الهجوم البوسني، وهو أن يلتزم الصرب بقرار الأمم المتحدة، الذي يحظر دخول الأسلحة الثقيلة إلى منطقة قطرها 20 كم حول سيراييفو. وقد رد الصرب على الهجوم البوسني باقتحام نقاط الحماية الدولية في جبل إيجمان.

تفاقمت حدة الموقف في 28/6/1995، عقب رفض الصرب المبادرة الأوروبية الجديدة، التي دعت إلى وقف القتال مؤقتاً، لإفساح المجال أمام جولة جديدة من محادثات السلام. وفي 29/6/1995، أعلنت قيادة حلف شمال الأطلسي الموافقة على خطة انسحاب قوات الأمم المتحدة من البوسنة، بشرط أن يكون هو الحل الأخير بعد فشل باقي الجهود. وكان وزير خارجية البوسنة قد أبلغ مجلس الأمن، في 29/6/1995، أن حكومته تقوم بمراجعة شاملة لمستقبل قوات الأمم المتحدة في البلاد، بعد أن ثبت عجزها عن العمل طبقاً لمعايير المناطق الآمنة، خاصة في ما يتعلق بسحب الأسلحة من حول العاصمة، كما أنها لا تستدعي طائرات حلف شمال الأطلسي للتصدي للطائرات الصربية، التي تنتهك مناطق الحظر الجوي.

ثالثاً: سقوط المناطق الآمنة في أيدي الصرب

وفي 30/6/1995، قصفت الميليشيات الصربية مقر قيادة عمليات الأمم المتحدة في سيراييفو، كما بدأت في شن هجمات موسعة وكثيفة ضد المناطق الآمنة في شرق البوسنة. في الوقت نفسه، الذي نجحت القوات البوسنية في اختراق الحصار المضروب حول سيراييفو، وتطهير 150 كيلومتراً حول العاصمة. وفي 10/7/1995، شدد الصرب من هجومهم على سربرنيتشا، مما أدى إلى سقوطها في أيديهم، في 11/7/1995، بعد أن تخلت القوات الدولية عن الدفاع عنها، وسلمت أسلحتها وأسلحة المسلمين فيها إلى القوات الصربية. وبينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها يبحثون كيفية استعادة سربرنيتشا من أيدي الصرب، حفاظاً على هيبة الأمم المتحدة التي تعهدت بحمايتها، كان ياسوشي أكاشي، ممثل بطرس غالي في البوسنة يعلن استحالة ذلك، بعد تشريد 25 ألفاً من سكانها.

وفي 14/7/1995، استأنف الصرب هجومهم على باقي المناطق الآمنة، حيث سقطت مدينة زيبا في 14/7/1995، بعد انهيار دفاعاتها، وكانت طائرات حلف شمال الأطلسي قد حلقت فوقها، في استعراض للقوة، ودون تدخل نيراني ضد القوات الصربية. وعقب سقوط زيبا، وجّه الصرب، في 19/7/1995، تهديداً إلى المدافعين عن جورازدي، يطالبونهم بالاستسلام الفوري أو الإبادة. مما دفع فرنسا إلى طلب التدخل عسكرياً، وبسرعة، لإنقاذ جورازدي. وفي 20/7/1995، اقترح زعيم صرب البوسنة أن يتخلى للمسلمين عن بعض قطاعات سيراييفو، مقابل تخليهم عن جورازدي، وهو ما رفضته حكومة البوسنة.

في 21/7/1995، عقد مؤتمر دولي في لندن، لبحث تفاقم الأزمة. ودعا جون ميجور، رئيس وزراء بريطانيا، إلى موقف دولي لوقف عدوان الصرب وردعهم عن احتلال جورازدي وباقي المناطق الآمنة، مع ضرورة إبقاء القوات الدولية في مواقعها بالبوسنة. وقد توصل المؤتمر إلى قرار باستخدام القوة للدفاع عن جورازدي، وهو ما عارضته روسيا. وقد وجّه ممثلو الدول الغربية، في 24/7/1995، تحذيراً بذلك إلى صرب البوسنة، وأن أي هجوم من جانبهم، سيقابل بضربات جوية. وفي 27/7/1995، عارض الرئيس كلينتون قراراً جديداً من مجلس الشيوخ برفع حظر توريد السلاح إلى البوسنة. وكان الاتحاد الأوروبي قد عين كارل بليت بديلاً من ديفيد أوين، كممثل لأوروبا في البوسنة.

في 28/7/1995، أعلن كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة الأحكام العرفية والتعبئة العامة، في محاولة لوقف سلسلة الهزائم، التي منيت بها قواته في غرب البوسنة، بعد سقوط مدينتَي جلاموتش وجراهوفو جنوب شرق البوسنة في أيدي القوات الكرواتية. وكانت جمهورية صربيا قد قطعت علاقاتها بصرب البوسنة، بسبب هجومهم على المناطق الآمنة. أما روسيا، فقد اقترحت تنازل شعب البوسنة عن المناطق الآمنة للصرب، مقابل وقف الهجوم الصربي. وكان الرئيس الكرواتي، توديمان، قد وجّه تحذيراً، في 30/7/1995، من أن كرواتيا ستدخل الحرب بصورة رئيسية لاستعادة إقليم كرايينا، الذي أعلن صرب كرواتيا المقيمون فيه قيام دولة لهم عليه من جانب واحد، إذا لم تبدِ القوات الصربية الرغبة السياسية في الانضمام إلى المباحثات، التي تهدف إلى إحلال السلام في البوسنة.

رابعاً: الهجوم الكرواتي الواسع على إقليم كرايينا

شنت المدفعية الكرواتية، في 1/8/1995، هجمات نيرانية مكثفة على مواقع الصرب في كرايينا، بهدف تشديد الضغوط على القوات الانفصالية، التابعة لفكرت عبيدتش، للانسحاب من بيهاتش. استتبع ذلك هجوماً موسعاً، شنته المدرعات والمشاة الكرواتية بقوة 100 ألف جندي، في عملية هجومية موسعة، أطلق عليها "العاصفة 95". وقد نجحت القوات الكرواتية في اختراق الدفاعات الصربية في ثلاثين موقعاً إستراتيجياً ومحاصرة مدينة كينن، عاصمة إقليم كرايينا من جميع الجهات، مما أدى إلى سقوطها في 5/8/1995. كما سيطر الكروات على مدن أخرى في الإقليم، أبرزها بيكوفاتش. وقد تعاونت القوات البوسنية مع الكرواتية على استعادة بيهاتش. وبسقوط مدينة بيترنيا، أكبر وآخر معقل للصرب في إقليم كرايينا، استعادت السلطات الكرواتية سيطرتها الكاملة على كرايينا، في 6/8/1995. وقد ترتب على ذلك تشريد عدة آلاف من الصرب، الذين كانوا في هذا الإقليم، بعد أن تركوا أسلحتهم للكروات.

استغلت القوات البوسنية الهزيمة التي لحقت بالصرب في كرايينا، فشدد الفيلق الخامس البوسني، في 8/8/1995، هجومه ضد دفاعات الصرب في بيهاتش، تعززه في ذلك المدفعية الكرواتية، وأمكنه اختراق دفاعات الصرب وتحرير الإقليم.

وفي 26/8/1995، أكد الرئيس الكرواتي، توديمان، عزم بلاده على تحرير إقليم سلافونيا الشرقية، وقال: "إنه من المؤكد أننا سنفعل ذلك خلال الأشهر المقبلة، إما بالوسائل السلمية أو بهجوم عسكري. وكانت مصادر الأمم المتحدة قد أعلنت، في 18/8/1995، أن كرواتيا حشدت نحو عشرة آلاف جندي في المنطقة حول ميناء دوبرفنيك، استعداداً لشن هجوم واسع آخر على مواقع الصرب.

رحب كلينتون، في 11/8/1995، بالانتصارات التي حققها الكروات في كرايينا، ورأى أنها تمهد الطريق أمام التوصل إلى حل سياسي في يوغسلافيا السابقة، ولمبادرة أمريكية، لم يكشف عنها النقاب رسمياً، لحل أزمة البوسنة على أساس اتحاد كونفدرالي، يربط صرب البوسنة بصربيا، والجزء المسلم ـ الكرواتي بكرواتيا. ويتجلى جوهر المبادرة الأمريكية في تقسيم البوسنة إلى كيانين، مع الحفاظ، في الوقت نفسه، على تكاملها ووحدتها. وقد رحب الصرب، في 12/8/1995، بالمبادرة الأمريكية ورأوا أن الجزء الأكبر من هذه المبادرة مقبول، بالنسبة إليهم. بينما حذر رئيس وزراء البوسنة، في 12/8/1995، من ممارسة أي ضغوط على جمهورية البوسنة، لدفعها إلى تقديم تنازلات إقليمية للانفصاليين الصرب. كما رفض الرئيس البوسني، في 14/8/1995، أي خطة سلام تقضى بتنازل بلاده عن جيب جورازدي، وفقاً لمقترحات واشنطن. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت، في 15/8/1995، مساعيها لدى أطراف النزاع في البوسنة، كذلك حلفاؤها، وروسيا، لتأييد مشروعها الجديد للسلام في البوسنة. إلا أن موسكو أعلنت رفضها للجوانب العسكرية في المشروع الأمريكي، ودعت إلى التركيز على الجوانب السياسية لدفع جهود التسوية. وكان الرئيس كلينتون قد عارض قراراً آخر للكونجرس، في 11/8/1995، لرفع حظر توريد السلاح عن البوسنة، وأعلن، في المقابل، إرسال مبعوث شخصي له إلى البوسنة، ريتشارد هولبروك، لاستئناف الجهود الأمريكية لدفع جهود عملية السلام هناك. وكان قد تم الكشف، في 3/8/1995، عن شبكة دولية لتهريب الأسلحة إلى الصرب بمشاركة إسرائيل.

خامساً: تفسيرات المراقبين الدوليين للهجوم الكرواتي

تبدو كافة التطورات، التي جرت في ساحة الصراع في يوغسلافيا السابقة، مندرجة في إطار ترتيب متكامل، سابق الإعداد من جانب القوى الدولية المعنية، لا سيما بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية. ويقوم هذا الترتيب على الدفع في اتجاه خلق درجة أكبر من التجانس الديموجرافي بين مختلف مناطق البوسنة، وذلك من خلال السماح بحدوث تحولات جذرية في مسار الصراع المسلح. في البوسنة وبعض الأنحاء الشرقية من كرواتيا، بما يتيح تقسيم جمهورية البوسنة ـ الهرسك بين المسلمين والصرب والكروات، وبما يجعل من السهل تقسيم المناطق بين القوميات الثلاث، بحيث يستقطع الصرب مناطق شرق البوسنة، ويتجمع البوسنيون المسلمون في شريط ضيق في منطقة وسط البلاد، بينما يسيطر الكروات على مناطق غرب البلاد. وعلى هذا الأساس، ربما كان من الممكن النظر إلى جميع التطورات، التي تلاحقت خلال الآونة الأخيرة باعتبارها تندرج في إطار ذلك الترتيب المشار إليه.

فقد بدأت التحولات المذكورة مع قيام القوات الصربية باجتياح الملاذات الآمنة في شرق البلاد، لا سيما مدينتَي سربرنيتشا وزيبا، حيث اتخذت القوى الدولية المعنية، بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا، موقفاً متخاذلاً، وغير عابئ باتخاذ أي مواقف جادة وقوية في مواجهة هذا التصعيد الصربي الحادّ، على الرغم مما انطوى عليه هذا التصعيد، من تقويض لمصداقية الأمم المتحدة والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي. وقد بدا هذا الموقف مدفوعاً، في تلك الفترة، بالسماح لصرب البوسنة بالسيطرة على جميع مناطق شرق البوسنة، بما يخلق للصرب واقعاً عسكرياً وديموجرافياً متميزاً، عند الحديث، بعد ذلك، عن أي خطط لتقسيم أراضي البوسنة، في ضوء التحولات العسكرية والديموجرافية الجديدة. وقد اتضح هذا الدافع اتضاحاً أكبر، عندما أبدت الدول الغربية تساهلاً واضحاً إزاء عمليات التطهير العرقي واسع النطاق في المناطق الجديدة، التي استولى عليها الصرب في شرق البلاد، وهي العمليات التي كان الغرض منها خلق واقع سكاني جديد في تلك المناطق. كما اتضح ذلك الدافع أيضاً عندما اتخذت الدول الأوروبية موقفاً أكثر تشدداً، حينما حاول الصرب اجتياح مدينة جورازدي، بل التهديد بإمكانية استخدام القوة الجوية لحلف شمال الأطلسي ضد القوات الصربية، إذا هاجمت تلك المدينة. وكان الموقف الغربي المتشدد نابعاً من أن مثل هذا التصعيد الصربي، سوف يقوّض فكرة التجانس الديموجرافي، التي كانت تمثل في حد ذاتها العامل الحاكم وراء جملة التطورات الجارية.

ومن ثم، فقد شكل هذا الاجتياح الصربي للمناطق الآمنة، مقدمة لسلسلة من التطورات المتلاحقة، لعل أبرزها تطور الأحداث في اتجاه مشاركة كرواتيا في ذلك الصراع. وجاء هذا التطور مع مطالبة حكومة البوسنة لكرواتيا بتنفيذ معاهدة الدفاع المشترك التي، كان الجانبان قد وقعاها عام 1994، ثم بات التدخل الكرواتي حيوياً مع قيام صرب البوسنة بالتحرش بمنطقة بيهاتش الواقعة غرب البوسنة، مما دعا الحكومة الكرواتية إلى الإعلان، صراحة، أنها لا يمكن أن تسمح بسقوط بيهاتش في أيدي الصرب، الأمر الذي وفر الفرصة للكروات للدخول في الصراع الدائر في البوسنة، ليس للدفاع عن بيهاتش فقط، ولكن أيضاً لتحقيق الهدف الإستراتيجي الكرواتي، الذي طال انتظاره، والمتمثل في العمل على استعادة كرايينا من أيدي الصرب، وذلك في إطار ما عُرف بعملية "العاصفة 95". وعلى هذا الأساس، قامت كرواتيا باجتياح منطقة كرايينا في 3/8/1995، وبدا هذا الاجتياح مندرجاً في إطار خطة متكاملة لتعديل الأوضاع الصراعية في المنطقة، إذ كان محاطاً بمجموعة الملابسات الغريبة، المتمثلة في التداعي السريع وغير المتوقع في الدفاعات الصربية في منطقة كرايينا، ناهيك أن موقف جمهورية صربيا نفسه، كان غريباً إلى حد ما من حيث ما انطوى عليه من عدم الاكتراث بضياع تلك المنطقة من السيطرة الصربية. وتشير بعض التقارير إلى أن الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، كان يرى، منذ البداية، في الوجود الصربي في إقليم كرايينا عبئاً ثقيلاً على عاتق صربيا، على المستويين الاقتصادي والعسكري، علاوة على أنه كان راغباً في الاستفادة من الثقل الديموجرافي لصرب كرايينا، الذين يقدّر عددهم بحوالي ربع مليون نسمة، في تعزيز الكثافة السكانية الصربية في مناطق أخرى من البوسنة أو من صربيا في إقليم كوسوفو. ومن ثم، أشار عدد من التقارير إلى أنه من المحتمل، إلى حد كبير، أن تكون عملية "العاصفة الكرواتية" جزءاً من صفقة صربية ـ كرواتية، تشتمل على انسحاب الصرب من كرايينا، في مقابل احتفاظ الصرب بمنطقة سلافونيا الشرقية، القريبة من الحدود الصربية ـ الكرواتية. إلا أن هذا الاحتمال، لم يكن متفقاً مع العديد من المتغيرات الأخرى القائمة على ساحة الصراع، مثل التعاون العسكري البوسني ـ الكرواتي في منطقة غرب البوسنة، إضافة إلى التنسيق السياسي عالي المستوى بين الجانبين.

وإضافة إلى ما سبق، فإن خطة التسوية، التي طرحتها الإدارة الأمريكية عقب التصعيد الحادّ، الذي طرأ على صراع البوسنة، كانت في حد ذاتها تكريساً لمبدأ إعادة تركيب الخريطة الديموجرافية والإقليمية في البوسنة، حيث قامت تلك الخطة على مبدأ قبول الأطراف المتصارعة بفكرة التنازلات الإقليمية المتبادلة. وفي ضوء هذا المبدأ، انطوت الخطة الأمريكية على عدد من الأفكار المهمة مثل: الموافقة لصرب البوسنة على إقامة اتحاد مع جمهورية صربيا، إعطاء مناطق شرق البوسنة للصرب ووسطها للبوسنيين المسلمين وغربها للكروات، المقايضة الإقليمية لعدد من المدن والأقاليم، تطبيقاً للخطة، على أن يشتمل ذلك على تنازلات البوسنيين عن مدينة جورازدي، في مقابل تنازل صربي حول العاصمة سيراييفو ومقايضة مدينة بانيالوكا بمدينة توزلا، مما يعني أن هذه الخطة جاءت تأكيداً لفكرة التنازلات المنطقية المذكورة.

وتمثل التحولات الأخيرة في الوضع العسكري في البوسنة وكرواتيا، تحولاً إستراتيجياً بالغ الأهمية، في ما يمثل مدخلا مهماً لوضع ترتيبات جديدة لتسوية الصراع على الصعيد السياسي. والواقع، إن رصد الاحتمالات المستقبلية للصراع في البوسنة، يقتضي أولاً التحديد الدقيق للآثار المختلفة للتطورات المشار إليها في الموقف العسكري ـ السياسي. ويمكن هنا تحديد عدد من الانعكاسات المباشرة لتلك التطورات على النحو التالي:

1. إضعاف الموقف العسكري لصرب البوسنة وصرب كرواتيا، إذ يمثل الانتصار الكرواتي في منطقة كرايينا، والانتصار البوسني في منطقة بيهاتش، اكبر هزيمة تعرض لها الصرب منذ بداية الصراع في يوغسلافيا السابقة. ومن المنظور العسكري البحت، سوف يؤدي هذا التطور إلى إضعاف قدرة القوات الصربية على تهديد الوجود البوسني الإسلامي في مقاطعة بيهاتش في غرب البوسنة، والتي كانت تتعرض في ما مضى لهجمات صربية متلاحقة، وهي هجمات كان يشارك فيها أيضاً صرب كرايينا، القريبة من تلك المقاطعة. أما من المنظور السياسي، فإن هذا التطور من شأنه أن يضعف من المركز التفاوضي لصرب البوسنة في أي محادثات للتسوية السياسية لاحقاً، استناداً إلى أن التطورات الأخيرة، خلقت واقعاً جديداً على ساحة الصراع المسلح، وهو واقع بات يتسم بدرجة أكبر من التوازن في ما بين الأطراف المتصارعة، دون أن يحتفظ الصرب باليد العليا في الصراع، على نحو ما كان قائماً في الفترات السابقة.

2. نشوء درجة عالية من التصعيد الكرواتي ـ الصربي، إذ بدا واضحاً أن الجانب الكرواتي، لم يكن قانعاً باسترداد إقليم كرايينا، وانما أكد المسؤولون الكروات التزامهم أيضاً باستعادة منطقة سلافونيا الشرقية، التي تعدها كرواتيا جزءاً من أراضيها، والقريبة من الحدود مع جمهورية الصرب، مما ينذر بإمكانية اشتعال الموقف بين جمهوريتَي كرواتيا والصرب، استناداً إلى أن حكومة بلجراد، عبّرت بقوة عن رغبتها في الاحتفاظ بالمنطقة المذكورة، وقام الجانبان، في هذا الإطار، بحشد أعداد ضخمة، نسبياً، من القوات والمعدات، مما يمكن أن يدفع نحو نشوب حرب واسعة النطاق بين الجمهوريتين، وذلك في حالة تعثر المحاولات السياسية، التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية، القائمة على أساس التنازلات المنطقية المتبادلة بين أطراف الصراع.

3. القضاء على التمرد الداخلي في صفوف المسلمين البوسنيين، والذي كان يقوده فكرت عبيدتش، إذ نجحت قوات الفيلق الخامس للجيش البوسني في فرض سيطرتها على جميع أراضي إقليم بيهاتش. واستطاعت دخول مدينة فيليكا كلادوشا، التي كانت مقر التمرد. وانضم غالبية الجنود المنشقين إلى الفيلق الخامس، مما حقق وحدة جميع أراضي إقليم بيهاتش تحت سلطة الحكومة البوسنية.

4. تأكيد متانة التحالف البوسني ـ الكرواتي، إذ شهدت التطورات الأخيرة درجة وثيقة للغاية من التنسيق السياسي والعسكري بين الجانبين، المسلم والكرواتي، الأمر الذي مثل تأكيد قوة التحالف بين الجانبين ومتانته، مما ساعد على إجهاض التحليلات، التي أشارت إلى إمكانية وجود صفقة صربية ـ كرواتية لتقسيم الأراضي، على حساب البوسنة. أضف إلى ذلك، أن الجانب الكرواتي حرص على إعطاء تأكيدات توضح عدم صحة التكهنات التي أشارت إلى وجود الصفقة المذكورة. وهو ما جاء، بصفة خاصة، في رفض الرئيس الكرواتي، فرانيو توديمان، المشاركة في قمة مع الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، بناء على دعوة من الرئيس الروسي، بوريس يلتسين، إذ رفض الرئيس الكرواتي المشاركة فيها دون وجود الرئيس البوسني، عزت بيجوفتش.

ومن ثم، فان التصعيد العسكري الأخير، الذي شهدته يوغسلافيا السابقة، خلق واقعاً جديداً. وقد سعت الإدارة الأمريكية، بشكل خاص، إلى الاستفادة من هذه الوضعية الجديدة، إذ كانت هذه التطورات الأخيرة تتوافق، في جوهرها، مع الطرح الأمريكي، الذي كان يقوم على ضرورة تلقين الصرب درساً، يجبرهم على إبداء مرونة أكبر في جهود التسوية السياسية. ولذا، كان من الطبيعي أن ترى الإدارة الأمريكية في التطورات الأخيرة عاملاً إيجابياً. و أعرب المسؤولون الأمريكيون عن اعتقادهم، بأن تلك التطورات قد خلقت وضعاً إستراتيجياً جديداً، و هو وضع سوف يكون في مصلحة عملية التسوية السياسية لصراع البوسنة. وعلى هذا الأساس، كانت الإدارة الأمريكية القوة الدولية الوحيدة، التي تحركت، بجدية، للبحث عن تسوية سياسية للصراع في البوسنة. وجاء التحرك الأمريكي من خلال إرسال مبعوث خاص إلى جمهوريات يوغسلافيا السابقة، في منتصف أغسطس 1995، بهدف مناقشة خطة أمريكية جديدة لتسوية الصراع. والواقع، إن هذه الخطة لم تعلن تفصيلاً، آنذاك، إلا أن كافة المؤشرات المتاحة، كانت تشير إلى أن هذه الخطة ترتكز، في جوهرها، على خطة مجموعة الاتصال الدولية، التي كانت قد صيغت، في الأصل عام 1994، إلا أن صرب البوسنة، لم يوافقوا عليها، وقتذاك. وكانت تقوم على تقسيم أراضي البوسنة على أساس صيغة 51 في المائة من أراضي البوسنة للاتحاد الإسلامي-الكرواتي، و 49 في المائة لصرب البوسنة. وبدا واضحاً أن الخطة الأمريكية، انطوت على تعديلات جزئية في توزيع المدن والمناطق، بهدف خلق درجة من التجانس الديموجرافي بين المناطق، التي سوف يجري تقاسمها.

والواقع، إن المواقف المبدئية للأطراف المعنية من هذه الخطة، قد تفاوتت إلى حد كبير، إذ تحفظ البوسنيون المسلمون، إلى حد كبير، على هذه الخطة، لأنها سوف تقضي على وحدة الأراضي البوسنية، علاوة على أنها تخلق صعوبات عديدة في إعادة المهجرين المسلمين. كما تحفظت الحكومة البوسنية على فكرة المقايضة الواردة في الخطة الأمريكية. بينما أبدى الصرب ترحيباً ضمنياً بفكرة المقايضة، ولكنهم رأوا أن الأفكار الواردة فيها في شأن المقايضة، قد وضعت بشكل عشوائي، لا سيما تلك المتعلقة، مثلاً، بمقايضة بانيالوكا بتوزلا. وأكد الصرب أن الأمر سوف يحتاج إلى وضع خرائط أكثر واقعية، تأخذ في الحسبان الوضع القائم. بينما أعرب الكروات عن موافقتهم على الجهود الدبلوماسية الأمريكية المبذولة لتسوية الصراع. ومن ثم، فإن جملة تلك التطورات كانت، بنهاية 1995، تصب في اتجاه التقسيم الديموجرافي والإقليمي للبوسنة، وفق صيغة أكثر واقعية، حسب التصور الأمريكي والغربي، مما يعني أن التطورات الأكثر حداثة للصراع في البوسنة، قد خلقت مناخاً مواتياً إلى درجة أكبر للتسوية السياسية. إلا أن الصيغة الوحيدة، التي كانت تبدو مطروحة للتسوية، تتمثل في الخطة الأمريكية، وهي خطة كان يحيط بها العديد من الخلافات الجزئية بين الأطراف المتصارعة في البوسنة، إضافة إلى انه حتى إذا كانت جميع الأطراف قد اتفقت على هذه الخطة، فلقد كان هناك العديد من التفاصيل السكانية والاقتصادية والجغرافية، التي يجب التفاوض في شأنها في ما بين مختلف الأطراف، الأمر الذي كان يعني، آنذاك، أن التسوية السياسية هي نفسعا في حاجة إلى مزيد من الوقت، حتى تصل إلى صياغة مقبولة من الأطراف جميعها، وحتى يحدث ذلك، كان من الصعب توقع توقف العمليات العسكرية، والتي كان هدفها الاستحواذ على مزيد من الأراضي وتدعيم الموقف التفاوضي.

سادساًً: اشتعال الموقف حول سيراييفو

أعلن بطرس غالي، في 19/8/1995، أن الأمم المتحدة في صدد التخلي عن منطقة جورازدي الآمنة، حيث تستعد وحدات القوات الدولية للانسحاب منها. وكانت أول دفعة من الوحدة الأوكرانية، قد غادرت جورازدي في 24/8/1995، تلتها الوحدة البريطانية في 25/9/ 1995. وأن الأمم المتحدة أسندت مهمة حماية جورازدي إلى طائرات حلف شمال الأطلسي. وفي 26/8/1995، حذرت حكومة البوسنة من أخطار هذه الخطوة، التي ستضع جورازدي تحت رحمة الصرب.

وفي 28/8/1995، شهدت سيراييفو مذبحة بشعة جديدة ضد المدنيين، بسبب قصف المدفعية الصربية لسوق المدينة، مما تسبب بمقتل 68 شخصاً، وإصابة عدة مئات من سكان المدينة. وقد ترتب على ذلك أن هدد الرئيس البوسني بالامتناع عن المشاركة في جهود السلام، التي تقوم بها أمريكا، حتى يتأكد دور حلف شمال الأطلسي في حماية العاصمة والمناطق الأمنية الأخرى. وقد اتفقت فرنسا مع الولايات المتحدة الأمريكية، في 29/8/1995، على ضرورة قيام حلف شمال الأطلسي بالرد، بشكل حاسم، على هذا العدوان الوحشي على سيراييفو، حتى لا تفقد الأمم المتحدة والدول الكبرى مصداقيتها نهائياً أمام الرأي العام العالمي.

وفي 30/8/1995، شنت 60 طائرة، تابعة لحلف شمال الأطلسي، أعنف غارات جوية على مواقع القوات الصربية، في الوقت الذي قصفت فيه المدفعية الثقيلة، التابعة لقوة الرد السريع الأوروبية، تلك المواقع. وأوضح مسؤول في الأمم المتحدة في سيراييفو، أن الهدف من الضربات الجوية، هو إعادة المنطقة الخالية من الأسلحة الثقيلة حول سيراييفو إلى الوضع الذي كانت عليه في السابق، بدائرة قطرها 20كم. وفي 31/8/1995، أعلن متحدث باسم حلف شمال الأطلسي، أن طائرات الحلف قد شنت غارات جديدة على مواقع الصرب. وحذر بطرس غالي صرب البوسنة من أن الهجمات الجوية لطائرات حلف شمال الأطلسي، ستستمـر إذا لـم يوقفوا اعتداءاتهم على المدنيين في المناطق الآمنة، ويسحبوا أسلحتهم الثقيلة لمسافة 20 كم من سيراييفو، ويسمحوا لوحدات الأمم المتحدة بحرية الحركة، ويوقفوا قصف العاصمة، ويسمحوا بفتح مطارها. وأن قبول هذه المطالب سيكون الخطوة الأولى نحو التوصل إلى تسوية دائمة من طريق التفاوض.

ونتيجة للانتصارات التي حققها المسلمون والكروات على صعيد المعارك العسكرية في وسط البوسنة وغربها، تصدعت العلاقة بين رادوفان كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، وقائده العسكري، ميلاديتش. وسعى كل منهما إلى عزل الآخر، وتحميله مسؤولية ما حدث. بينما اتهمت المعارضة الصربية الرئيس ميلوسيفيتش بالخيانة والتخلي عن الشعب الصربي خارج حدود صربيا.

وفي 3/9/1995، وجّه حلف شمال الأطلسي إنذاراً جديداً إلى صرب البوسنة بضرورة سحب أسلحتهم الثقيلة من حول سيراييفو، وإلا سيواجهون ضربات جوية جديدة. ونتيجة لعدم استجابة الصرب لهذا الإنذار، استأنفت طائرات حلف شمال الأطلسي، يوم 6/9/1995، قصفها للأهداف الصربية حول سيراييفو، ولمدة أربعة أيام، وعلى الرغم من ذلك، لم يسحب الصرب أسلحتهم من حول سيراييفو حتى 19/9/1995، حين أعلنوا موافقتهم على سحبها، بعد أن واصلت طائرات حلف شمال الأطلسي، قصفها لمواقعهم، وكانت طائرات حلف شمال الأطلسي، قد نفذت، خلال شهر سبتمبر 1995، أكثر من 500 طلعة جوية. وفي 10/9/1995، شاركت الصواريخ الأمريكية، كروز، من نوع (توماهوك) في قصف أهداف صربية للمرة الأولى. وكانت القوات الصربية والكرواتية قد تمكنت، في 19/9/1995، وللمرة الأولى منذ بداية العدوان، من بسط سيطرتها على نصف أراضي البوسنة بعد انتصاراتها الأخيرة على الصرب، إذ تم تحرير ثلاث مدن رئيسية، وواصل الجيشان، البوسني والكرواتي، زحفهما في اتجاه معقل الصرب في بانيالوكا بشمال البوسنة. وهنا، بدأت الضغوط الدولية أيضاً لوقف الهجوم، وطالبت الدول الكبرى حكومتَي البوسنة وكرواتيا بإيقاف قواتهما على مسافة 15كم من بانيالوكا، حتى لا تختل المعادلة الموضوعة لحل الأزمة، وحتى لا تغضب صربيا. وقد ترتب على سحب الصرب لأسلحتهم الثقيلة من حول سيراييفو، أن تم فتح محاور التنقل منها وإليها وحولها، كذلك إعادة فتح المطار، ورفع الحصار عن المعونات الإنسانية.

وفي 3/10/1995، تجدد القتال، مرة أخرى، في غرب البوسنة وجنوب سيراييفو. كما قصف الصرب، في 8/10/1995، مخيماً للمسلمين في شرق البوسنة بالقنابل العنقودية. وقد أمكن احتواء هذه العمليات العدوانية بسرعة، تحت تهديد قيادة حلف شمال الأطلسي بالعودة إلى قصف المواقع الصربية جواً. وعندما ساد الهدوء، نسبيا، مسرح العمليات، بدأت تتكشف بعض جرائم هذه الحرب. إذ أزيح الستار، في 21/10/1995، عن فضيحة دولية، عندما ساقت قوات الحماية الهولندية 329 مسلماً إلى مذابح الصرب في سربرنيتشا، وقيام الصرب بقتل 6 آلاف مسلم في هذه المدينة ودفنهم في مقابر جماعية.

وفي 5/10/1995، تمكنت الدبلوماسية الأمريكية، التي كان يقودها ممثل الرئيس كلينتون، ريتشارد هولبروك، من التوصل إلى اتفاق دائم لوقف النار، يبدأ سريانه في 10/10/1995، وهو الاتفاق الذي مهد الطريق لاتفاق دايتون، الذي تم التوصل إليه في 21 نوفمبر 1995. وسوف نتناول كل هذه النقاط بالتفصيل في الفصلين الخامس والسادس من هذه الدراسة.