إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الرابع عشر

المبحث الرابع عشر

موقف الولايات المتحدة الأمريكية

طرحت الأزمة في البوسنة والهرسك تساؤلات عديدة حول الموقف الأمريكي. فقد اتسمت ردود الفعل الأمريكية، منذ بداية الأزمة، بالغموض والتضارب الجزئي، وإن اتفقت حول المضمون والجوهر. إذ اقتصر رد الفعل الأمريكي على التهديد باستخدام القوة ضد صربيا والجبل الأسود، مع التباطؤ والتلكؤ في اتخاذ تدابير عسكرية على أرض الواقع، بل إن مجلس الأمن قد افتقد التحرك الأمريكي النشط نحو اتخاذ قرارات، على غرار ما تم في أزمة الخليج. كما أفقدت تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين وتصريحات مسؤولين آخرين قِيمتها الردعية والتهديدية على الجانب الصربي. فرغم تحرك بعض القطع والفرقاطات الحربية الأمريكية في البحر الأدرياتيكي، إلا أن المسؤولين الأمريكيين، أكدوا أن ذلك لا يعني تحولاً في الموقف الأمريكي، الرافض لاستخدام القوة العسكرية في المستنقع اليوغسلافي، كما صرح بذلك الرئيس الأمريكي، جورج بوش. وأكدت الإدارة الأمريكية على لسان تاتويلر، المتحدث الرسمي، أن الرئيس الأمريكي، جورج بوش، ووزير خارجيته، جيمس بيكر، أعلنا عدة مرات أن واشنطن مستعدة لتقديم الدعم الكامل إلى أي عمل إنساني يجري من طريق مطار سيراييفو. كما أكد البنتاجون أنه لا توجد نوايا أمريكية لتحريك الطائرات المقاتلة عبر سماء يوغسلافيا. وقد تحدث بعض المصادر عن خلاف بين ريتشارد تشيني، وزير الدفاع، وجيمس بيكر، وزير الخارجية، على أساس أن بيكر كان يرغب في تحرك أمريكي جادّ، يدعم القيادة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، التي برزت عقب أزمة الخليج. بينما كان تشيني يخشى من الانغماس في بؤر جديدة للصراعات الدولية.

إلا أن الموقف الأمريكي، خلال هذه الفترة، اتضحت أبعاده في أن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعلن مطلقاً نيةً واضحة وصريحة في استخدام القوة العسكرية، ضد صربيا والجبل الأسود، إذا لم توقف عدوانها ضد البوسنة والهرسك، إذ تجددت عقدة فيتنام، التي ظن العالم أنها زالت، بعد النجاح الذي حققته القوات الأمريكية في حرب تحرير الكويت. فقد ثارت هواجس ومخاوف أمريكية من التورط في حرب طويلة، كحرب فيتنام، أو تكرار ما حدث في لبنان. كما اتضح أيضاً أن الولايات المتحدة الأمريكية، قصرت تأييدها لاستخدام القوة على  أعمال الإغاثة الإنسانية، وفتح مطار سيراييفو العاصمة وحمايته.

وقد أرجع المراقبون ضعف الموقف الأمريكي في أزمة البوسنة، إلى مجموعة من الدوافع، تتمثل في انتفاء وجود مصالح إستراتيجية أمريكية، قد تدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى حشد قوات أمريكية في البحر الأدرياتيكي، كتلك المصالح الحيوية في منطقة الخليج، التي فرضت عليها التدخل لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، وأبرزها حاجتها إلى النفط العربي. كذلك المصاعب الحادة، التي كان يعانيها الاقتصاد الأمريكي، في تلك الفترة، وصعوبة تحميل الخزانة الأمريكية نفقات حرب، قد تطول، مع صعوبة توفير موارد للدعم المادي، كما حدث في حرب الخليج. كما أن الرئاسة الأمريكية، كانت، آنذاك، على مشارف الانتخابات، وقد يؤدي التدخل الأمريكي، غير المحسوب جيداً في يوغسلافيا، إلى تناقص وتأكّل شعبية الرئيس بوش، خاصة مع عدم توافر الإجماع الشعبي. ناهيك من كون أزمة البوسنة، القريبة من الجماعة الأوروبية، تمنح الولايات المتحدة الأمريكية الفرصة لضرب أي محاولات لتشييد أمن أوروبي منفصل، في الصميم، مع افتقاد الأوروبيين الثقة بأي منظومة للأمن الأوروبي، بمعزل عن مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية فيها وهيمنتها، ولا سيما مع تزايد التوجه الأوروبي عامة، والفرنسي والألماني خاصة، إلى إقامة جيش أوروبي مشترك، بعيداً عن أجهزة حلف شمال الأطلسي. ناهيك من إدراك الولايات المتحدة الأمريكية لعجز المجموعة الأوروبية عن وقف قتال دائم في قلب القارة، بسبب الانقسامات التي تسود مواقف أعضائها، خاصة في ما يتعلق باللجوء إلى الحل العسكري. ومن ثم، فإن استمرار القتال، حتى بعد تدخل الأمم المتحدة، يقدم دليلاً جديداً إلى المجتمع الدولي على عجز الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية عن اتخاذ خطوات حاسمة، لوقف القتال، في ظل غياب دور أمريكي فاعل ومستقل.

ولقد أكدت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ اللحظة الأولى لاندلاع القتال في أراضي يوغسلافيا، أهمية تحمّل المجموعة الأوروبية لمسؤولياتها السياسية والعسكرية حيال هذا الصراع، والعمل على وقفه، وعدم قيامها بأي دور مستقل، خشية إثارة توقعات بتدخل أمريكي مباشر في مناطق اضطرابات أخرى، كما قال رئيس الأركان الأمريكي، كولين باول، آنذاك، وأن أي دور لها سيكون في إطار الأمم المتحدة، سواء بإصدار قرارات بوقف الحرب، أو فرض عقوبات على الأطراف المعتدية، أو المساهمة العسكرية في فرض العقوبات.

ومن هنا، يتضح أن الموقف الأمريكي بدأ بتصعيد الضغوط السياسية ضد يوغسلافيا الجديدة، مثل اقتراح تجميد عضويتها في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين، والتهديد باستثناء البوسنة من الحظر المفروض على تصدير السلاح إلى جمهوريات يوغسلافيا السابقة. وعندما تزايدت الضغوط الدولية ـ الإسلامية، للقيام بعمل عسكري ضد صرب البوسنة، حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على إسقاط فكرة تدخل عسكري أمريكي منفرد، إذ أكد وزير الدفاع الأمريكي، ريتشارد تشيني، في 7 ديسمبر 1992، أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرس خيار تسليح البوسنة. وأكد مانفريد تيرنر، السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي، أن الحلف مستعد للتدخل العسكري في يوغسلافيا السابقة، إذا طلبت منه الأمم المتحدة ذلك، بمعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي أعادا المسؤولية إلى الأمم المتحدة، في خصوص تدخل أطراف دولية أخرى، ويعني، في الوقت نفسه، استحالة إتمام ذلك، بسبب انقسام مواقف الدول الأوروبية المشاركة في حلف شمال الأطلسي، حول أسلوب وحجم تدخل ذلك الحلف.

ومما لا شك فيه، أن من أسباب عدم رغبة الولايات المتحدة الأمريكية، في عدم القيام بدور فاعل في أزمة البوسنة، أنها لم تُرِد توتير علاقاتها بروسيا الاتحادية، التي تبنّت، منذ البداية، موقفاً مؤيداً للصرب. كما أن أي تدخل عسكري أمريكي في البوسنة، سيقابل باستياء من اليونان وبعض بلدان البلقان، مثل رومانيا وبلغاريا.

أولاً: بدء جهود وساطة فانس ـ أوين

قبل بدء جهود وساطة فانس ـ أوين، فمن المهم أن نتعرض لوساطة أوروبية سابقة، قام بها اللورد كارينجتون، كممثل للجماعة الأوروبية، أوفدته إلى البوسنة. فقد كان كثيراً ما يهدد بتوقف الوساطة أو عمليات الإغاثة وسحب قوات حفظ السلام، إن لم تتراجع الأطراف في البوسنة عن مواقفها. وقال في أحد تصريحاته، معبراً عن استيائه وإخفاقه في وقف إطلاق النار: "إنه لن يحاول، بعد الآن، التفاوض على وقف إطلاق النار في البوسنة، إلى أن يصطدم المتنازعون في هذه الجمهورية بطريق مسدود، أو يُصفي بعضهم بعضاً، وتنهك قواهم". وقال في حديث آخر إلى راديو لندن، في يوليه 1992: "إنه من أجل التوصل إلى فرض احترام وقف إطلاق النار، يجب على الصرب أن يعتبروا أنهم ضموا ما فيه الكفاية من الأراضي، أو يجب على المسلمين أن يعتبروا أنهم من الضعف إلى درجة لا يستطيعون معها مواصلة المعارك". وقد كان لمثل هذا الموقف غير العادل، من جانب وسيط دولي، يفترض أن يكون محايداً، أثره في استمرار الاعتداء الصربي، خاصة مع عدم فاعلية العقوبات الدولية.

وبعد فشل مهمة كارينجتون، سعت الأمم المتحدة، ومعها المجموعة الأوروبية، من خلال مبعوثَيها، سايروس فانس، واللورد ديفيد أوين، إلى دفع أطراف الصراع إلى الجلوس وجهاً لوجه إلى مائدة التفاوض، ليس فقط ممثلي القوميات الثلاث المتناحرة، بل أيضاً ممثلي صربيا والجبل الأسود، أو ما يسمى بيوغسلافيا الجديدة، ومن خلال الجولات المكوكية لهذين الوسيطين الدوليين، أمكن بدء الاجتماعات في 26/12/1992، إذ قدَّما وثيقة إلى المؤتمر، عُرفت باسم "الإطار الدستوري للبوسنة والهرسك"، وعرفت، فيما بعد، بخطة فانس ـ أوين، نسبة إلى مُعِدَّيها. وقد احتوت هذه الوثيقة على عشر نقاط، يمكن ذكر أبرزها في الآتي:

1. جعل البوسنة دولة لامركزية، تتكون من عشرة أقاليم: ثلاثة للصرب، ومثلها للمسلمين، وإقليمان للكروات، وآخران مختلطان.

2. ليس لهذه الأقاليم شخصية قانونية دولية.

3. للدولة دستور موحد، تشارك في صياغته المجموعات الثلاث، وتعديله يتطلب إجماعها.

4. للأقاليم برلمانات منتخبة، وسلطة تنفيذية، وأخرى قضائية مستقلة.

5. رئاسة الدولة تتكون من ثلاثة ممثلين عن الأطراف الثلاثة.

6. نزع السلاح التدريجي من كافة الأطراف، تحت إشراف الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية.

والملاحظ في هذه الخطة، أن تحديد حدود الأقاليم فيها، تم وفقاً لاعتبارات قومية (عرقية) واقتصادية واجتماعية. وقد حظيت هذه الخطة، في البداية، بموافقة الرؤساء اليوغسلافي والصربي والكرواتي. وفي حين طالب المسلمون بضمانات للحفاظ على وحدة أراضي البوسنة كدولة، فإن صرب البوسنة رفضوا هذه الوثيقة، مؤكدين عدم التنازل عن دولتهم، التي أعلنوها من جانب واحد في البوسنة، في 5/4/1992.

ونتيجة لذلك، سعى كل طرف من الأطراف الثلاثة المتصارعة إلى تحسين مواقعه على الأرض، بأسرع ما يمكن، كمقدمة لفرض الأمر الواقع، قبل أن يفرض المجتمع الدولي رؤيته على الجميع. ففي الوقت الذي أعطت فيه خطة فانس ـ أوين حوالي 43 بالمائة من مساحة البوسنة إلى الصرب، في إطار ثلاثة أقاليم، فإنهم كانوا، من الناحية الفعلية، يسيطرون على نحو 70 بالمائة من إجمالي مساحة الدولة، فضلاً عن سعيهم إلى الحصول على ممرات أرضية، تربط مناطق الصرب في البوسنة بمناطقهم في كرواتيا بالجمهورية الأم (صربيا). والأمر عينه، بالنسبة إلى الكروات الذين حصلوا على إقليمين، وفقاً للخطة، بمساحة نسبتها 15 بالمائة من مساحة البوسنة. فقد سعوا أيضاً إلى توسيع نطاق سيطرتهم على حساب المسلمين؛ وذلك في المناطق المختلفة، التي كان يقطنها كروات ومسلمون. وهكذا، اندلعت المعارك الطاحنة بين الصرب، من ناحية، والكروات والمسلمين، من ناحية أخرى، ومعارك طاحنة في مناطق أخرى، بين المسلمين والكروات.

لقد كانت التوقعات، قبل أن تعلن إدارة كلينتون مبادرتها، في شأن الوضع في البوسنة والهرسك، أن تعلن الولايات المتحدة الأمريكية استخدام القوة العسكرية، بغرض احترام المنطقة الجوية المحظورة على الصرب، وأن ترفع، من جانب آخر، الحظر على تصدير السلاح إلى المسلمين، أو أن يوجه سلاح الطيران الأمريكي ضربات إلى أهداف صربية انتقائية لردع الصرب عن مواصلة عدوانهم على البوسنة والهرسك. بيد أن الخطة الأمريكية المعلنة، جاءت خلواً من هذه الإجراءات، ولم تستجب لأي مطلب لمسلمي البوسنة، بل إنها أكدت أن الوسائل السلمية، من دون الحزم العسكري، تمثل الطريقة المُثلى لحل هذه الأزمة. وقد أُثير حول الخطة الأمريكية عدد من التحفظات، من أهمها:

1. عدم تضمنها لأي تأكيد للحفاظ على سيادة البوسنة والهرسك.

2. إغفالها تأكيد المبدأ الدولي، المتعلق بعدم الاعتراف بأي استيلاء على أراضي الغير بالقوة .

3. استمرار الحظر المفروض على السلاح إلى المسلمين. ومن الملاحظ، كذلك، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تمِل كثيراً إلى خطة فانس ـ أوين، للسلام، وانتقدتها في عدد من المناسبات، حتى أعلن وارن كرستوفر، وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك، في 26 يونيه 1993، وفاة هذه الخطة، وقبول التقسيم الثلاثي.

بيد أن الدبلوماسية الأمريكية، تمكنت من انتزاع موافقة الأطراف المتحاربة في البوسنة، على وقف إطلاق النار، الذي بدأ سريانه في 10 أكتوبر 1995.

هذا وقد بدأت مفاوضات متواصلة، في قاعدة عسكرية، في مدينة "دايتون" الأمريكية، توصل أطراف الصراع، من خلالها، إلى اتفاق شامل، ينهي الحرب الأهلية في البوسنة وامتداداتها، الإقليمية والدولية.

على الرغم من مجيء الصراع في البوسنة والهرسك في وقت، كثُر فيه الحديث عن النظام العالمي الحديث، الذي يوفر آليات محددة لحل الصراعات، وهو ما قد يعطي الولايات المتحدة الأمريكية دوراً، لكونها المحرك الفعلي للنظام الدولي، في المرحلة الراهنة ـ إلاّ أن واشنطن، منذ الوهلة الأولى لاندلاع الصراع في المنطقة، حرصت على دفع المجموعة الأوروبية إلى تحمّل مسؤولياتها، السياسية والعسكرية، والاضطلاع بدور فاعل في وقفه. وحرصت على تأكيد عدم رغبتها في أي دور أمريكي مستقل في هذا الصراع، حتى لا يؤدي ذلك إلى إثارة توقعات بتدخل أمريكي مباشر مماثل لما حصل في مناطق اضطرابات أخرى، كما صرح رئيس الأركان الأمريكي، آنذاك، كولين باول.

وفي هذا السياق، ركزت الولايات المتحدة الأمريكية، في أن أي دور لها، سيكون داخل إطار الأمم المتحدة، سواء بإصدار قرارات توقف الحرب، أو فرض عقوبات على الأطراف المعتدية، أو المساهمة العسكرية في تلك العقوبات. هكذا، بدأ الموقف الأمريكي يُصَعِّد الضغوط السياسية ضد يوغسلافيا الجديدة، مثل اقتراح تجميد عضويتها في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيَّين، والتهديد باستثناء البوسنة من الحظر، المفروض على تصدير السلاح إلى جمهوريات يوغسلافيا السابقة. وعندما تزايدت الضغوط الإسلامية الدولية من أجل عمل عسكري ضد الصرب، في البوسنة، حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على إسقاط فكرة تدخّلها منفردة. إذ أكد وزير الدفاع الأمريكي، ريتشارد تشينى، في 7 ديسمبر 1992، أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرس خيار تسليح البوسنة، وأكد مانفرد تيرنر، السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي، أن الحلف مستعد للتدخل العسكري في البوسنة، إذا ما طلبت منه الأمم المتحدة ذلك، أي أن الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف شمال الأطلسي، أعادا المسؤولية إلى الأمم المتحدة، بما يعني تدخّل أطراف دولية أخرى يفضي إلى استحالة إتمام ذلك.

ويعني ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية، لم ترغب في الاضطلاع بأي دور فاعل، في شأن الصراع في البوسنة؛ فلا مصلحة حقيقية لها في تدخّل عسكري لوقف القتال، لأنه إضافة إلى الخسائر، المادية والبشرية، التي يمكن أن تترتب عليه، سيؤدي إلى توتر علاقاتها بروسيا الاتحادية، كما أنه سيقابَل باستياء بالغ، من جانب اليونان وبعض بلدان منطقة البلقان، مثل رومانيا وبلغاريا. وفي الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، رأت في استمرار القتال في البوسنة ما يؤكد، بالدليل العملي، عجز المجموعة الأوروبية عن أداء أي دور سياسي فاعل، ناهيك من دور عسكري، ولو محدوداً. فالمجموعة الأوروبية عاجزة عن وقف القتال، في قلب أوروبا، فضلاً عن الانقسامات، التي تسود مواقف أعضائها، تجاه فكرة العمل العسكري لوقف القتال. كما أن تواصل القتال، حتى بعد تدخّل الأمم المتحدة، يقدم دليلاً جديداً إلى المجتمع الدولي على عجزها عن اتخاذ خطوات كافية لوقف القتال، في ظل غياب دور أمريكي فاعلٍ، ومستقل. وقد رأت أطراف، محلية وإقليمية، وكذلك دولية، أن الدبلوماسية الأمريكية ركزت في حصيلة المفاوضات النهائية، أي توقيع الاتفاق، على حساب الوصول إلى تسوية شاملة، لا تترك مجالاً أمام تعثر التطبيق، واستمرار دوافع الصراع، من خلال عدم رضاء بعض الأطراف عن مضمون الاتفاق، وهو ما أثار تساؤلات عديدة، حول قدرة اتفاق دايتون على إنهاء الصراع، والوصول بالبوسنة إلى سلام حقيقي.

ثانياً: أسباب اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية على خطة فانس ـ أوين

عندما أعلنت خطة فانس ـ أوين، كانت الإدارة الأمريكية، بزعامة كلينتون، في بداية عهدها في الحكم. ولذلك، لم تشأ أن تتسرع وتعلن موقفاً محدداً. وقاومت، على حدّ قول مصادر إعلامية، محاولات الوسيطَين، فانس وأوين، كسب تأييد أقوى منهما للخطة. وصرح ديفيد أوين، بعد اجتماع له مع وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك، أن الوزير "يريد مزيداً من الوقت". وشدد كريستوفر على أن حكومته، التي كانت قد تولت السلطة، منذ عشرة أيام فقط، لا تزال تُجري مراجعتها لسياستها الخارجية وضمنها الموقف تجاه البوسنة. وقال إنه قدّم إلى فانس وأوين عدداً من الأسئلة الصعبة، فيما يتعلق بجدوى الخطة، التي عرضها، وإمكانية تطبيقها وتنفيذها. وأضاف أن "الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع مشكلة صعبة، وأن الرئيس كلينتون، يعتقد ضرورة العمل على إنهاء الصراع في البوسنة والهرسك، ولكنه لا يفكر، حالياً، في إرسال قوات برية إلى هناك. ووصف، في مؤتمر صحفي، عقده في مقر الأمم المتحدة، الأزمة البوسنية بأنها تشغل أولوية فائقة.

وعقب اجتماع كريستوفر مع الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالى، بحثا خلاله سُبُل وضع إستراتيجية مشتركة، في شأن الأزمة في البوسنة والهرسك، أخذ الموقف الأمريكي يتضح، إذ انتقد الرئيس الأمريكي خطة الوسيطَين الدوليَّين، ووصفها بأنها تضر بالمسلمين.

وصرح  بنية الولايات المتحدة الأمريكية، اتخاذ إجراء، في شأن أزمة البوسنة، ولكن في إطار التأييد الدولي له. وقد أثار هذا الموقف الأمريكي انتقاد الوسيطَين، فانس وأوين. ورأى فانس، في رده على تصريحات الرئيس الأمريكي، "أن الخطة هى أفضل خطة، يمكن طرحها "، ودعا كيلنتون إلى تمحيصها أكثر.

أمّا ديفيد أوين، فقد أعرب عن أسفه لعدم دعم الولايات المتحدة الأمريكية للخطة، ودعاها إلى دور أكثر فاعلية في هذه الأزمة. كما أعلن أن واشنطن، لا يمكن أن تجهض خطة السلام الأوروبية، وألاّ تسهم في أي قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة، على الرغم من موافقة مجلس وزراء خارجية المجموعة الأوروبية، ودعم كلٍّ من الصين وروسيا لها، في مجلس الأمن.

وفي هذا السياق، عمد الرئيس الأمريكي إلى دراسة خطوات مكثفة، لتوصيل معونات إنسانية، مروراً بخطوط الصرب، وتعديلات في الخريطة المقترحة، وفرض مزيد من العقوبات على دولة يوغسلافيا الاتحادية.

ثالثاً: العزوف الأمريكي عن التدخل

أجمع المراقبون، إزاء ما كان يجري على أرض البوسنة، على أن جميع المبادئ الأخلاقية، التي حكمت التدخل الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ضد العدوان العراقي على الكويت عام 1991، وأهمها عدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، ورفض مكافأة المعتدي وتركه يستمتع بثمار عدوانه، بل يجب معاقبته، كل هذه المبادئ، التي نادى بها القائمون على النظام الدولي الجديد، وكان في مقدمهم الرئيس الأمريكي السابق، بوش، قد أُهدرت على الساحة البوسنية. فعلى الرغم من كون الولايات المتحدة الأمريكية، هي المحرك الفعلي لهذا النظام الدولي، في المرحلة الراهنة، فإنها، منذ الوهلة الأولى لاندلاع الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة، حرصت على جعل المجموعة الأوروبية، تتحمل مسؤولياتها السياسية والعسكرية إزاء هذه المشكلة. وأكدت على عدم قيامها بدور فعال في وقف هذا الصراع، بشكل مستقل أو مباشر، وأن مشاركتها، إذا ما تطلب الأمر ذلك، ستكون في إطار الأمم المتحدة، أو حلف شمال الأطلسي، سواء في ما يتعلق بالقرارات السياسية، التي يصدرها مجلس الأمن، أو بالمساهمة في عمل عسكري. لذلك، فسوف يسجل التاريخ، أن بوش، الذي وعد بإقامة نظام دولي جديد، قائم على الحرية والعدالة ورفض العدوان، قد نكث بوعده، ولم يفعل شيئاً لمنع تفتيت دولة متحضرة في أوروبا، هي دولة البوسنة، أو وقف حملة الإبادة، التي يتعرض لها شعبها. كما كانت زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق، جيمس بيكر، لبلجراد، في يونيه 1991، والتي أعلن خلالها حرص الولايات المتحدة الأمريكية على وحدة يوغسلافيا، على الرغم مما كان يجري فعلياً من انفراط عقدها، بمثابة ضوء أخضر، لكي يستخدم ميلوسيفتش الجيش اليوغسلافي ضد سلوفينيا وكرواتيا، ثم البوسنة والهرسك، بعد ذلك، عقب إعلان استقلالها جميعاً.

ولقد أوضح عدد من المسؤولين الأمريكيين، أن هذه السياسة الأمريكية، ستؤدي إلى خفض التزاماتها العسكرية في القارة الأوروبية، ومن ثم المساعدة على إصلاح الاقتصاد الأمريكي، الذي يشكل الهاجس الأكبر لإدارة كلينتون. كما أكد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، المشتركة الجنرال كولين باول، حرص الولايات المتحدة الأمريكية على عدم قيامها بأي دور مستقل في هذا الصراع، حتى لا يؤدي ذلك إلى إثارة توقعات بتدخل أمريكي مباشر مماثل، في مناطق اضطرابات أخرى، وهو ما يناقض دافع التدخل الأمريكي المباشر في الصومال.

ولقد أدركت الإدارة الأمريكية جيداً، أن الحل الوحيد لمواجهة أزمة البوسنة، إنما يتمثل في التدخل ضد الصرب على نحو ما، أو التهديد الجوي بذلك، إذا لم تخضع صربيا وصرب البوسنة، وكرواتيا وكروات البوسنة، لمطالب الشرعية الدولية، المتمثلة في وقف العدوان، والانسحاب من الأراضي البوسنية، التي احتلتها، أو على الأقل في رفع حظر إمدادات السلاح إلى يوغسلافيا، وبما يمكن مسلمي البوسنة من الحصول على احتياجاتهم التسليحية للدفاع عن أمنهم. إلا أن الإدارة الأمريكية، لم تكن على استعداد لتبنى الخيار الأول، لعدة أسباب، أبرزها تخوفها من الخسائر البشرية والمادية، التي يمكن أن تتعرض لها، ولما ستتعرض له علاقاتها بروسيا من توتر، لكون الأخيرة تتخذ موقف المدافع تماماً عن العدوان الصربي. كما سيقابل التدخل الأمريكي باستياء بالغ من حليفتها بريطانيا، التي عبَّرت على لسان وزير خارجيتها، دوجلاس هيرد، عن موقفها، بقوله: "إننا نرفض منح ضحايا حرب البلقان فرصة مكافئة للرد على المعتدين، حتى لا تتصاعد الأعمال القتالية"!! لكن من المؤكد، أن مثل هذا الموقف الأمريكي، كان سيقابل باستياء من جانب دول أوروبية أخرى، يُسعدها ما يجري من مذابح للمسلمين في  البوسنة، على يد الصرب والكروات، مثل اليونان ورومانيا وبلغاريا. هذا إضافة إلى حقيقة مهمة شكلت أساس الموقف الأمريكي من أزمة البوسنة، وهي أن تقسيم البوسنة يُعَدّ هدفاً أمريكياً، تعارضه واشنطن، علناً وترحب به، سراً. ذلك أن قيام جمهورية إسلامية ضعيفة، بين جمهورية صربية قوية، وأخرى كرواتية مماثلة، سيؤدي، حتماً، إلى استمرار نشوب حروب عرقية، تهز أوروبا بأسرها، وتجعلها ضعيفة، ومرتهنة لمشاكلها الداخلية،  فضلاً عن مشاكل جيرانها وأكبرهم تركيا والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، خاصة أنه من سيراييفو، انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى. لذلك، رسمت الإدارة الأمريكية إستراتيجيتها في إدارة هذه الأزمة، على أساس فرضية تقول إن استمرار القتال في البوسنة لفترة محسوبة، سوف يؤكد، عملياً، عجز المجموعة الأوروبية عن أداء دور سياسي فعال، ناهيك من العجز عن الاضطلاع بدور عسكري، ولو محدوداً، يمكن أن يوقف القتال الداخلي في قلب القارة الأوروبية، كما يزيد من الانقسامات، التي تسود مواقف أعضائها، حول فكرة العمل العسكري وأبعاده. وحتى بعد تدخل الأمم المتحدة بدور م باشر، فإن استمرار القتال، يؤكد عجز المنظمة الدولية عن العمل، في غياب دور أمريكي فعال ومستقل، وهو ما حرصت الإدارة الأمريكية على إظهاره وإبرازه، طوال سنوات القتال، التي سبقت اتفاق "دايتون".

وعندما بدأت ملامح الموقف الأمريكي، المتواطئ مع العدوان الصربي على البوسنة، سواء بالتأييد سراً أو بالصمت علناً، تتضح للرأي العالمي، أثارت سخطه، خاصة بعد تصريح كريستوفر، الذي قال فيه: "باتت الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع القيام بشيء". وهو ما أثار غضب واستياء عدد كبير من السياسيين الأمريكيين، الأمر الذي دفع كلينتون إلى محاولة التخفيف من المذاق المر، الذي تركه تصريح وزير خارجيته، إذ أصر كلينتون على "أن الولايات المتحدة الأمريكية، ما زالت تحاول تحقيق السلام". إلا أن هذه التصريحات، سواء من جانب وزير خارجية أمريكا أو من جانب رئيسها، عدّها عدد من السياسيين والخبراء الأمريكيين "كلمات فارغة، يجب ألا تصدر عن مسؤولين أمريكيين". وفي ذلك، قال زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق، جيمي كارتر: "أعتقد، بصراحة، أنه منظر مخز أن نرى وزير الخارجية ينفض يديه علناً، بينما سيراييفو على وشك السقوط. وسيشكل ذلك نكسة جيوسياسية خطيرة للغرب، تعكس، بوضوح، فشل قيادات أوروبا بالدرجة الأولى، والولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الثانية". وأضاف بريجينسكي قائلاً: "كأمريكي، فإني أشعر بجرح عميق، لأن ما يحدث الآن، ينال بالهزء والسخرية شعار "ابدأ مرة أخرى"، الذي أُطلق عقب الحرب الثانية". ثم أضاف: "أبداً إن الوقت لم يفت بعد لرفع الحظر عن إمدادات السلاح إلى البوسنيين، وقيام طائرات الولايات المتحدة الأمريكية بضرب مواقع الصرب المتقدمة". ولكنه حذَّر من مجرد "توجيه تهديدات تفقد مصداقيتها، مع استمرار عدم تنفيذها".

ومع تصاعد ثورة الرأي العام العالمي، التي أدانت السلبية الأمريكية، بدأت  الإدارة الأمريكية في تبنِّي بعض المواقف، التي تظهر رفضها للعدوان الصربي على البوسنة. تمثل ذلك في تصعيد بعض الضغوط ضد صربيا، مثل اقتراح تجميد عضويتها في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين، والتهديد باستثناء البوسنة من قرار الحظر المفروض على تصدير السلاح إلى جمهوريات يوغسلافيا السابقة. وأرفقت ذلك بعدة تصريحات ذرّاً للرماد في العيون، أوضحت فيها أنها لا تمانع في توجيه ضربة عسكرية ضد المعتدين الصرب، وأنها لا توافق على مكافأة المعتدين الصرب، باستمرار حصولهم على أراضي المسلمين، كما أعربت الإدارة الأمريكية عن رغبتها في محاكمة مجرمي الحرب الصربيين والكروات، الذين انتهكوا حقوق الإنسان في الحرب. إلا أن كل هذه التصريحات، لم تكن أكثر من كلام لتسجيل المواقف، لم توضع أبداً موضع التنفيذ من قبل واشنطن، إذ أُرفقت بقيود وشروط حالت دون تنفيذها، حين أكد المسؤولون الأمريكيون أن كل ذلك مرهون بقرار من حلف شمال الأطلسي والسكرتير العام للأمم المتحدة.  فبينما نجد وارين كريستوفر، يُحذِّر الصرب قائلاً: "إن حلف شمال الأطلسي مستعد للقيام بعمل قوي ضد الصرب، إذا لم يكفوا عن سلوكهم، الذي لا يمكن التسامح إزاءه، والمتمثل في حصار المدن، والقصف المستمر للمدنيين، ومنع وصول المساعدات الإنسانية إلى الأشخاص الذين يحتاجون إليها، وتقديم وعود جوفاء تشكل غطاء للعدوان". وهو تصريح حاول، من خلاله، وزير الخارجية الأمريكية، أن يدافع عن إدارة كلينتون في مواجهة الاتهامات، التي يوجهها الرأي العام العالمي إليها، إذ يصفها بالضعف وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة إزاء القضايا الدولية الساخنة، خاصة بعد أن رفع الكونجرس الأمريكي توصية إلى الإدارة الأمريكية، طالب فيها بضرب أهداف صربية، ورفع الحظر على تصدير السلاح إلى البوسنة.

إلا أن حقيقة الأمر في هذه التصريحات، التي وصفت بالإيجابية، أنها لم تكن أبداً جادة، بل كانت تستهدف إضاعة الوقت، وإتاحة الفرصة للصرب والكروات، ليستولوا على مزيد من أراضي المسلمين، حتى يصلوا إلى الحدّ، الذي يُبقى جيباً صغيراً، محدوداً، ومحاصراً من قبل الصرب والكروات، يمكن لباقي مسلمي البوسنة أن يقيموا به، كأقلية مسيطر عليها، لا حول لها ولا قوة. وهي الحقيقة التي كشف عنها مسؤول فرنسي كبير في الصحف الفرنسية، حين قال: "إن اتصالات سرية، تجري بين باريس وواشنطن ولندن مع بلجراد، لوضع اللمسات الأخيرة للقضاء نهائياً على جمهورية البوسنة"، وقد علَّقت صحيفة "لو فيجارو" الفرنسية على ذلك قائلة: "إن عنصر الزمن، أصبح يحتل أهمية بالغة في تقديرات الساسة في أوروبا وأمريكا. لذلك تحاول تلك الدول أن تزيح الرئيس البوسني بيجوفتش عن الساحة، لأنه يمثل المقاومة المسلمة ضد المؤامرات الأمريكية والأوروبية، أو يعطل سرعة القضاء على المسلمين في البوسنة، وخوفاً من ردود الأفعال، التي يمكن أن تحدث داخل العالم الإسلامي، إذا طالت المدة التي تستغرقها عملية الإبادة المنظمة للمسلمين".

وتحسباً لاحتمالات ردود الفعل في الدول الإسلامية، والرأي العام العالمي، خاصة عندما اشتدت هجمات الصرب على سيراييفو، التي كانوا يمطرونها بحوالي ألف قذيفة مدفعية، يومياً، من المرتفعات الإستراتيجية، التي كانوا يحتلونها في جبال إيجمان. الأمر الذي جعل عملية سقوطها مسألة أيام، بينما كانت قوات كرواتيا تواصل توغلها في غرب البوسنة ووسطها، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية، بالاتفاق مع الدول العربية معلنة قرارها بتوجيه ضربة جوية لوقف تقدم الصرب نحو سيراييفو وغيرها من المدن البوسنية. واستهدفت من وراء ذلك امتصاص الغضب، الذي يجتاح المسلمين في كل مكان، والذي أصبح يضع حكام الدول الإسلامية، الصديقة للولايات المتحدة الأمريكية، في حرج كبير، إذ أصبح الرأي العام الإسلامي، يتهمهم بالتقاعس عن نجدة إخوانهم في البوسنة.

ولقد كشف ديفيد أوين، الوسيط الدولي، عن حقيقة الوهم الذي تروّج له الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، في مسألة توجيه ضربات جوية ضد مواقع الصرب. وذلك في حديث له إلى مجلة "لونوفّل أوبزرفاتور" الفرنسية، قال فيه: "إن المسلمين يُمَنُّون أنفسهم، بأن الأمريكيين سوف يأتون لإنقاذهم، كما يحدث في أفلام رعاة البقر الأمريكية، ولقد أقام المسلمون إستراتيجيتهم على هذا الوهم. مع أنى حذّرتهم مراراً بألاّ يناموا على حرير الأوهام". كما كشف السفير الأمريكي بارفولوميو عن حقيقة الموقف الأمريكي، المخالف تماماً لكل التصريحات الرسمية التي صدرت عن واشنطن، حين كان يحث رئيس البوسنة، بيجوفتش، على توقيع خريطة تقسيم البوسنة، قائلاً له: "يجب أن تغلق فمك، لأن الأمريكيين غير جادين في شأن إرغام الصرب على التراجع".

وعندما اجتمع سفراء حلف شمال الأطلسي في بروكسل، لمناقشة الخيارات المطروحة، لتوجيه ضربات جوية ضد مواقع القوات الصربية في البوسنة، كان هناك اتفاق حول نوعية الأهداف، التي يمكن مهاجمتها، بما لا يؤثر في قوة الصرب العسكرية. فإن مصدراً أمريكياً صرح بأن تلك المفاوضات، قد تستغرق وقتاً طويلاً، وأعرب عن اعتقاده، أنه لن يتم التوصل إلى قرار في هذا الشأن. وقد أكد مانفريد تيرنو، السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي، أن الحلف مستعد للتدخل العسكري في يوغسلافيا السابقة، إذا طلبت الأمم المتحدة ذلك. وهو ما يعني تدخل أطراف دولية أخرى، مثل روسيا والصين وبريطانيا، وجميعها كانت تعارض، علناً، تنفيذ ذلك. وقد خرجت صحيفة "نيويورك تايمز"، لتنقل عن مسؤولين أمريكيين قولهم: "إن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تمارس ضغطاً على حلفائها في حلف شمال الأطلسي، من أجل اتخاذ قرار فوري باستخدام القوة". وفي واشنطن، استبعد أنطوني ليك، مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، قيام الولايات المتحدة الأمريكية بعمل عسكري، على نحو منفرد، في البوسنة والهرسك، ونقل راديو صوت أمريكا عنه وصفه لسياسة كلينتون، بأنها "تستهدف دعم الديموقراطيات القائمة في العالم، وعزل الدول والحكومات المعادية للمبادئ الديموقراطية"!!

وعندما اجتمع قادة الدول السبع الصناعية الكبرى في طوكيو، بحثوا، ضمن ما بحثوا، مشكلة الصراع الدائر في البوسنة والهرسك، وأصدروا بياناً، قالوا فيه: "إنهم لا يوافقون على أي حل، يمليه الصرب والكروات ضد مصالح المسلمين في البوسنة، وطالبوا بضرورة التنفيذ الفوري والكامل لقرارات مجلس الأمن الدولي، في شأن المناطق الآمنة. كما أكدوا تمسكهم بسلامة أراضي البوسنة والهرسك، وبضرورة التوصل إلى حل للأزمة، على أساس التفاوض الذي جرى في مؤتمر لندن، وأنهم لا يمكنهم "القبول بحل يفرضه الصرب والكروات على حساب مسلمي البوسنة. كما لن يقبلوا بأي تسوية، لا تحظى بموافقة الأطراف الثلاثة". وأضاف البيان "أنه إذا أصرّ الصرب والكروات على تقسيم البوسنة، من خلال التطهير العرقي، أو تغيير الحدود بالقوة، وحدث ذلك، فإنهم يكونون قد وضعوا أنفسهم خارج المجموعة الدولية. ولن يكون في وسعهم الاعتماد على أي مساعدة اقتصادية أو تجارية".  وكان واضحاً أن هذا البيان الضعيف، لم يقدم جديداً، في شأن إيجاد حل واقعي لمشكلة البوسنة، حتى إنه خلا من التلويح بتهديدات عسكرية محددة، بل اقتصر التهديد بالعقاب، الذي سينزله المؤتمر بالصرب والكروات، على التهديد بعدم منحهما مساعدات في المستقبل، ولكنه لا يمنعهما الآن، من استمرار ذبح المسلمين، ولم يوافق على تسليح الأخيرين، وهو حقهم الشرعي للدفاع عن أنفسهم، بل يسمح باستمرار المذبحة، وترك الأمر الواقع ماضياً، يفرض نفسه بقوة السلاح، حتى تتحقق الأهداف النهائية للمؤامرة.

ولقد حاول كلينتون أن يخفي حقيقة الموقف الأمريكي، وما طالب به بعض منتقدي سياسة الإدارة الأمريكية، من العودة لإستراتيجيتها السابقة، التي كانت قائمة على أساس رفع الحظر عن إرسال السلاح إلى البوسنة، والدفاع عنها بشن هجمات جوية، إذا اقتضى الأمر ذلك، وهو ما عبر عنه السيناتور ريتشارد لوجر، من ولاية إنديانا، عندما قال: "إن خيار رفع الحظر، وشن الضربات، لا يزال هو الخيار المفضل". كذلك الموقف المشرف للسيناتور بايد، الذي صاح بأعلى صوته، موجهاً اللوم إلى الأوروبيين: "هل لديكم الجرأة أن تجيبونى عن السؤال التالي: ماذا كان يمكن أن يكون موقفكم في أوروبا، إذا كان المعتدون من المسلمين؟ عندئذ، كانت الأرض ستهتز كلَها، فَلِمَ لا تعطون المسلمين سلاحاً، حتى يكون لهم شرف الموت والسلاح في أيديهم؟". عند ذلك، صرح كلينتون، مدافعاً عن سياسة إدارته: "إن نقطة الخلاف الوحيدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والأوروبيين، هي أننا لم نصل إلى تفاهم كامل حول موضوع معالجة مشكلة البوسنة. وقد أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من 300 مليون دولار، كمساعدات إنسانية للبوسنة. كما طبقنا العقوبات والحظر على صربيا. كذلك اتّبعنا إجراءات أكثر صرامة مع الصرب. ونعتقد، والألمان معنا، أنه ينبغي رفع الحظر عن الأسلحة المرسلة إلى البوسنة. ولكن فرنسا وبريطانيا وروسيا تعارض ذلك. ولكن هذا الخلاف، لا يعني أننا لا نستطيع العمل معاً، أو التفاهم على كل شئ، أو يكون سبباً لهجر التحالف، وهجر حلف شمال الأطلسي، وهجر مجموعة الدول السبع الصناعية".

والغريب في الموقف الأمريكي، أن كريستوفر، بينما كان يهدد بشن هجمات جوية ضد الصرب، بتعليمات من سكرتير عام الأمم المتحدة، نجده يكرر الموقف المتميع السابق عينه، حين قال: "إنه ليس هناك موعد محدد لانسحاب قوات الصرب، يتم بعده القيام بعمل عسكري، إذا لم ينسحبوا. وإن عودة مجلس حلف شمال الأطلسي للاجتماع، مرة أخرى، لاتخاذ قرار نهائي بتوجيه ضربة جوية إلى الصرب، سوف يتوقف على سلوك الصرب، وإن الولايات المتحدة الأمريكية، تتطلع إلى تحسّن في سلوكهم". هذا، على الرغم من اعترافه بأن الإدارة الأمريكية، توصلت، أخيراً، إلى قناعة بأن مصلحتها القومية، تقتضي رفع الحصار الخانق، المضروب على سيراييفو، بالتنسيق مع حلفائها. وأن الرئيس كلينتون، يصر على رفع الحصار عنها، ومنع سقوطها، لأن سقوط العاصمة، سيعزز قوة الصرب بشكل يجعل من العسير للغاية، احتواء الصراع. أفلا يُعَدّ الموقف المتناقض والمتميع للإدارة الأمريكية، إزاء الحرب الأهلية في البوسنة، التي استمرت حوالي أربع سنوات، وقتل فيها أكثر من ربع مليون نسمة، وتشرد حوالي مليونين من البشر، وتهدد أمن أوروبا، هو الذي عبّر عنه، بصدق، كل منتقدي السياسة الأمريكية، داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، ووصفوه بالضعف والتخاذل؟

وإذا كان الموقف الأمريكي، طوال سنوات الحرب، وحتى اتفاق "دايتون"، يمثل عزوفاً عن التدخل لوقف المذبحة، التي دارت في البوسنة أربع سنوات،  فإن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة: لماذا وافقت الإدارة الأمريكية على نشر حوالي 300 جندي، على الحدود بين مقدونيا وصربيا وألبانيا؟ وهل كان يرمى هذا القرار إلى مجرد ذرّ الرماد في عيون المنتقدين للسياسة الأمريكية من السياسيين والإعلاميين والرأي العام العالمي، وهو عدد من الجنود لا يكفي حتى لمراقبة الأحداث على هذه الحدود، ناهيك من عدم القدرة على التدخل لردع التجاوزات والانتهاكات المحتملة لهذه الحدود؟ أو أن إرسال هؤلاء الجنود جاء تحسباً لاحتمالات تدهور الموقف مستقبلاً، إذا ما وسّعت صربيا عدوانها، ليشمل إقليمَي كوسوفو ومقدونيا، وحيث استهدفت الإدارة الأمريكية منع وقوع ذلك، حتى لا يشتعل كل البلقان، ويصبح من الصعب تدارك الموقف؟ وإذا كان هذا الإدراك وارد في حسابات الإدارة الأمريكية، أفلا كان ذلك يتطلب منها العمل بجدية، من أول يوم، لوقف الحرب الأهلية في البوسنة، حتى لا يستفحل شرها، وتهدد الأمن العالمي، بدلاً من الانتظار حتى يقع ما لا يمكن تداركه؟  أفلمْ يدرك المسؤولون في الإدارة الأمريكية، أنه إذا اندلعت حرب أوسع في البلقان، فإنها من الممكن أن تهدد إمدادات النفط لأمريكا، وأن أمن الولايات المتحدة الأمريكية، يرتبط بأمن أوروبا؟  لقد صرح الرئيس الأمريكي السابق، بوش، مراراً، بأنه: "إذا سُمح للعدوان بالاستمرار، فإنه سوف ينتشر حتى يهدد السلام العالمي كله. وأنه ينبغي على المجتمع الدولي فرض القانون، حتى لو تطلّب الأمر اللجوء إلى بعض الانتهاكات الطفيفة نسبياً". ولقد كان ذلك هو المحور الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية، منذ عهد ترومان.

ولقد قال العديد من السياسيين الأمريكيين، الذين انتقدوا الموقف الأمريكي في البوسنة، إن فرض القانون الدولي ضد العدوان، لا يتطلّب، بالضرورة، أن ترسل الولايات المتحدة الأمريكية مشاة بحريتها، عبْر الأطلسي، في كل مرة، وفي كل مكان يحدث به انتهاك للشرعية الدولية. ولكن على القوى العظمى والكبرى في العالم، والتي عدّت نفسها مسؤولة عن المحافظة على الأمن الدولي، أن تأخذ كافة الأعمال والنيات العدوانية مأخذ الجد، وأن تتحرك بصورة حاسمة، ضد أولئك الذين يهددون الاستقرار والأمن، على المستويين الإقليمي والدولي. إن العدوان الصربي ضد جمهورية البوسنة، يفوق تلك المعايير كثيراً، نتيجة للأعمال الوحشية والتطهير العرقي، التي مارسها الصرب ضد المسلمين، حتى تم توقيع اتفاق "دايتون". ومن ثم، فإن الموقف كان يتطلب تدخلاً سياسياً حاسماً، يحمل في  طياته إنذاراً جاداً باستخدام القوة. وعند ذلك فقط، كان سيرتدع المعتدون وينسحبون إلى مواقعهم الأصلية، ويستوعبون الدرس، حتى ينتهوا عن نياتهم وممارساتهم العدوانية. أما السياسات المتناقضة والمواقف  المتميعة، التي كشف عنها الدبلوماسيون الأمريكيون، المستقيلون احتجاجاً عليها، فإنها تشجع، بلا شك، المعتدي على الاستمرار في عدوانه، وتزيد حجم المآسي، وتهدد بنشوب مواقف مستقبلية خطيرة، لا يمكن السيطرة عليها، تهدد الأمن والسلام العالميين.

ومما يؤكد وهم التهديد بالتدخل العسكري، الذي تحدث عنه قادة الغرب كثيراً، أنه في الوقت الذي حذّر فيه كريستوفر صرب البوسنة من مواجهة عمل عسكري، إذا استمروا في خنق العاصمة سيراييفو، كان البيت الأبيض الأمريكي، يعلن أن الولايات المتحدة الأمريكية، طلبت من حكومة البوسنة استئناف المفاوضات، والتسليم بمطالب الصرب في تقسيم البوسنة، وإلا تأجلت الضربة الجوية الأمريكية. وتكشف صحيفة "واشنطن بوست"، بوضوح، عن حجم التناقض في الموقف الأمريكي، عندما أكدت أن الطريق المسدود، الذي وصلت إليه محادثات جنيف، لا بد أن يؤخر أي عمل عسكري، يعتزم حلف شمال الأطلسي القيام به في البوسنة. ثم تعود الصحيفة لتعلن على لسان مسؤول أمريكي: "أنه إذا سارت محادثات السلام على ما يرام، فلن تصبح هناك حاجة إلى عمليات القصف الجوي على الإطلاق". فهذه التصريحات، تؤكد أن تلك التهديدات بعمل عسكري، لم تكن أكثر من وهم. فهي، حسب ما نشرته الصحيفة الأمريكية، لن تتم إذا رفض المسلمون الموافقة على توقيع صك الاستسلام، كعقاب لهم. أما إذا وقَّعوا، فلن تكون هناك حاجة أصلاً إلى تلك العملية. وهو تناقض واضح، ومناورات مكشوفة، من أجل كسب مزيد من الوقت، تكرس فيه نتائج العدوان الصربي على مسلمي البوسنة. وهو وهم كان يباع لتهدئة أصوات المعارضة داخل الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، وإعطاء بعض المبررات لحكومات الدول الإسلامية، أمام شعوبها الغاضبة.

ولقد كان هذا الموقف المتناقض بين المعلن والحقيقي، في السياسة الأمريكية تجاه الصراع الدائر في البوسنة، وراء استقالة عدد من موظفي وزارة الخارجية الأمريكية، مثل جورج كينى، المسؤول عن شؤون يوغسلافيا في تلك الوزارة، الذي أثبت، في خطاب استقالته، تحيُّز الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصرب، حيث قال: "إن الولايات المتحدة الأمريكية، أعطت الضوء الأخضر للصرب، ليضربوا المسلمين، دون خوف من تدخل الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك عندما حذّرت المخابرات المركزية الأمريكية، في عام 1991، من تفكك يوغسلافيا، واحتمال نشوب صراع دموي فيها، فأوضح البيت الأبيض لوزارة الخارجية، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تتدخل عسكرياً في أي صراع في يوغسلافيا. وكان ذلك الضوء الأخضر للصرب، لتنفيذ خطتهم لإنشاء جمهورية الصرب الكبرى، الخالية من كل الأجناس غير الصربية. ومن هنا، بدأت المذابح في كرواتيا أولاً، وبعدها في البوسنة والهرسك، بينما وقفت أمريكا تتفرج، لأنها هي التي أشعلت النيران". ويستطرد الدبلوماسي الأمريكي المستقيل، كيني، فيقول: "إن إدارة بوش، اتخذت قراراً على أعلى مستوى، أنها سوف تكسب سياسياً أكثر، إذا هي لم تتدخل في البوسنة. وقد دافعت الإدارة عن قرارها، بزعم أنها لا تريد أن تخوض حرب عصابات  ضد جيش الصرب القوي، أو تضيع أرواح الأمريكيين هناك، دفاعاً عن حفنة من المسلمين". ويرد كيني على هذه المزاعم بقوله: "إن الأمر لا يستدعى تدخلاً على مستوى حرب الخليج. وإنما يكفي تحريك الأسطول الأمريكي في مياه الأدرياتيكي، والقيام بعدة ضربات جوية لمواقع الصرب، التي تضرب المدنيين الأبرياء في البوسنة، وإذا لم يرتدع الصرب، فإنه يمكن تهديدهم بضرب خطوط الإمدادات ومخازن السلاح والذخيرة، داخل الصرب نفسها". ويعتقد كيني، الدبلوماسي الأمريكي المستقيل، أن التهديد بهذه الضربة، "سيجعل الصرب يُولون الأدبار، ويتركون البوسنة لأهلها، بعد كل هذا الخراب". ولم يكتفِ هذا الدبلوماسي الأمريكي المستقيل بذلك، بل طالب أيضاً بالإعداد لإجراء محاكمة دولية لمجرمي الحرب من الصرب، الذين قتلوا النساء والأطفال، والذين صوَّبوا أسلحتهم إلى المستشفيات والمساجد والكنائس في البوسنة، وعلى رأسهم "جزار الصرب الأكبر، كارادازي تش، وزميله في بلجراد، الرئيس العنصري، سلوبودان ميلوسيفيتش" يقول كيني: "أتمنى أن يأتي يوم، أرى فيه على شاشة التليفزيون هذين الجزارين وصبيانهما في القفص، يحاكمون على جرائمهم، مثلما حدث مع زعماء النازية، في محاكمات نورمبرج".

وكما استيقظ ضمير الدبلوماسي الأمريكي المستقيل، جورج كيني، استيقظ أيضاً ضمير دبلوماسي أمريكي آخر، هو مارشال هيس، الخبير بشؤون البوسنة في الخارجية الأمريكية، الذي أوضح سبب استقالته بقوله: "… لأن الإدارة الأمريكية، تدفع الحكومة البوسنية إلى التخلي عن أراضيها وسيادتها للمعتدين الصرب، في حرب عدوانية، فإنه بات لا يحتمل الخدمة في وزارة، تقبل بتقطيع أوصال دولة عضو في الأمم المتحدة، ولا تتحرك لوقف حرب الإبادة الدائرة هناك". كما اتهم هيس السياسة الأمريكية "بالتردد والتخاذل الشديدين"، وبممارسة الكثير من الالتواءات والانحناءات، تجاه قضية خطيرة، مثل قضية البوسنة. في حين أن أبسط إجراء، يمكن أمريكا اتخاذه، هو رفع الحظر على تسليح مسلمي البوسنة، ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، وتوجيه ضربات جوية للمعتدين الصرب. وأضاف هيس: "إذا كان كريستوفر، قد ادعى، في الماضي، أن واشنطن قامت بكل ما في وسعها تجاه البوسنة، فهذا كذب". وكشف هيس عن ضغوط، تمارسها الإدارة الأمريكية على مسلمي البوسنة، فقال: "إن الإدارة الأمريكية تضغط على مسلمي البوسنة للتوصل، بسرعة، إلى اتفاق في جنيف. وتهدد المسلمين بأن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تقدِم على أي توصية بتوجيه أي ضربات ضد الصرب، ما لم يواصل المسلمون التفاوض. في حين أنه من الخطأ إرغام حكومة شرعية لدولـة مستقلـة (حكومـة البوسنة)، أن تقبل بتمزيق أوصالها، تحت وطأة عدوان وحشي، كان في الإمكان وقفه، ولا يزال".

وكما استقال الدبلوماسيان الأمريكيان، جورج كيني ومارشال هيس، استقال ثلاثة آخرون، احتجاجاً على سياسة الإدارة الأمريكية تجاه الصراع الدائر في البوسنة. كذلك، احتج عدد آخر من السياسيين الأمريكيين والأوروبيين، منهم مَن هو خارج كراسي الحكم، مثل الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان، ووزير خارجيته، جورج شولتز، وهنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، الذين نادوا بضرورة تسليح المسلمين للدفاع عن أنفسهم، وقيام طائرات حلف شمال الأطلسي بقصف مواقع الصرب المعتدين. ورأوا في مواقف حكومتهم عاراً يبرأون منه. وربما اختلفت مواقفهم عن ذلك، لو كانوا في السلطة، إذ يخضعون لتعليمات الحكومة العالمية الخفية، التي تدير العالم من وراء الستار. ويبدو أن قولة الحق والسلطة لا تجتمعان. فالوزير الألماني، كريستيان شوارتز، استقال، أيضاً، من الحكومة الألمانية، وقال في أسباب الاستقالة إنه "يشعر بالعار من الانتماء إلى حكومة، تصر على فعل لا شيء".

وقال ليسلى جليب، في صحيفة "نيويورك تايمز": "قريباً، سيأتي اليوم الذي تُتَّهم فيه مجموعتان من القادة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، قادة الصرب وقادة الغرب. لأنهم لم يفعلوا شيئاً لوقف المذابح الوحشية للمسلمين في البوسنة والهرسك. وهو موقف يمثل تنازلاً عن إنسانيتنا، ويؤدي إلى الاستهزاء بكل القِيم وحقوق الإنسان. وبينما الغرب يرفض تسليح المسلمين للدفاع عن أنفسهم، فإنه يرفض، في الوقت عينه، تولى الدفاع عنهم بنفسه. وبينما يحظر طيران الصرب، فإنه لا يلزمه بالخضوع لهذا الحظر. وبينما يرفض قبول اللاجئين، فإنه لا يقيم لهم مناطق آمنة في ديارهم. لذلك، فإن الغربيين مشتركون اشتراكاً فعلياً في كل ما يحدث في البوسنة والهرسك، من أعمال إجرامية".

وقد تعرض وارين كريستوفر، وزير الخارجية الأمريكية، لحملة انتقادات عنيفة لسياسته في معالجة الأزمات المتفجرة في البوسنة، من جانب أقطاب الحزب الديموقراطي الحاكم، في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ، بسبب تعثر المعالجة الأمريكية لأزمتَي البوسنة والصومال. ووصلت حملة الانتقاد إلى ذروتها، عندما طالب النائب الديموقراطي، فرانك ماكلوسكي، بإقالة كريستوفر، بعد أن ثبت عجزه عن رسم سياسة خارجية واضحة لإدارة كلينتون. واتهم النائب ماكلوسكي، الذي كان قد عاد لتوّه من زيارة البوسنة، إدارة كلينتون بانتهاج سياسة، تتناقض مع تعهداتها السابقة في البوسنة، مع حرمان شعب البوسنة من حقه المشروع للدفاع عن النفس. وقال ماكلوسكي: "إن كريستوفر، هو الذي أعلن من هذا المكان نفسه، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لها مصالح إستراتيجية في البوسنة، تنطلق من التزامها بعدم السماح بتدمير دولة عضو في الأمم المتحدة، والعمل على تجنب تفجر حرب واسعة في منطقة البلقان". وأضاف: "إن إدارة كلينتون، تراجعت، للأسف، عن التزامها باستخدام القوة والقصف الجوي، إذا لم يتوقف الصرب عن حرب الإبادة، التي يمارسونها ضد شعب البوسنة". واتهم الإدارة الأمريكية بالصمت، إزاء عمليات التطهير العرقي للمسلمين، وقتل الآلاف من الأبرياء منهم. وقال: "إن مأساة كبيرة، تنتظر المسلمين في موسم الشتاء القادم. وذلك في ظل تجاهل أمريكي للمأساة المروعة. فقد تحولت سيراييفو إلى ما يشبه معسكرات الاعتقال، في ظل الحكم الهتلري، الذي يمارسه ضدها الصرب".

وقد انتقد الكثيرون هذا المنطق الغريب، الذي حكم إدارة الرئيس كلينتون في أزمة البوسنة، حيث أوضحوا أنه أصبح يحكم سياستها، بعد أن أصبحت مهيمنة إلى درجة مرتفعة على النظام الدولي الجديد. وهو المنطق الذي يقول إن انهيار الاتحاد السوفيتي، قد جعل عملية تنفيذ القانون الدولي ضد العدوان، في المستوى الإقليمي، أقلّ أهمية، بالنسبة إلى الحلفاء الغربيين، مما كان عليه الوضع في زمن توسع الاتحاد السوفيتي. ومن ثم، وطبقاً لهذا المنطق الخاطيء، فإن هذا القانون، في العرف الأمريكي الجديد، يعد أمراً اختيارياً، بعد التغيرات الحادة، التي طرأت على السياسة الدولية. ووجْه الخطأ في هذا المنطق الغريب، والتصور الشاذ، أن التدقيق والإصرار على احترام القانون الدولي، وتنفيذه في مواجهة أي عدوان، تعد أكثر أهمية، بالنسبة إلى التحالف الغربي، مما كان عليه قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، عام 1989. ذلك أن انهيار هذه القوة العظمى، شأنها شأن سقوط كافة الإمبراطوريات الأخرى في التاريخ، قد أدى إلى زعزعة السياسات العالمية بصورة جذرية. كما هدد بظهور تآلفات بين الدول المعادية، أو غير الصديقة، يمكن أن تكون مسيطرة، بدلاً من الاتحاد السوفيتي، مثل تآلف قد يحدث بين روسيا وألمانيا، أو بين الصين واليابان، أو بين روسيا والصين.