إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الخامس عشر

المبحث الخامس عشر

الموقف الأوروبي وبعض مواقف الدول الأوروبية

أولاً: الموقف الأوروبي

لا يمكن أن ندعي تماماً، أن ساسة أوروبا لا يعون دروس الماضي. إنما يمكننا القول أن لبعض هؤلاء الساسة خبايا وأسرار استراتيجيات دولهم، التي تعكس مصالحها الخاصة، وهو تعبير عن تنافس خطير في توزيع مناطق النفوذ في أوروبا. ألم تكن ألمانيا، التي أعيد توحيدها مؤخراً، هي التي طالبت المجتمع الدولي، بإلحاح، أن يعترف بالدويلات الجديدة المتفككة من يوغسلافيا السابقة؟  فما هي نياتها، في منطقة البلقان؟  خاصة أن فرنسا، قد شككت، منذ قرون، في نيات ألمانيا، حتى توصل منتجاتها إلى بلدان الشرق الأوسط. ولا شك أن تدهور العلاقة بين ألمانيا وفرنسا، كان مدعاة لسعادة بريطانيا، التي أبدت تخوفاً شديداً من محور باريس ـ برلين، الذي يوجه سياسة أوروبا حالياً. لذلك، فإن السياسات، التي تنفذ، اليوم، في البلقان، وما سيترتب عليها من أحداث، إنما تعكس بدرجة كبيرة الصراع الخفي حول إعادة توزيع القوة والنفوذ، اليوم، بين القوى الأوروبية.

وعن الدور الألماني في الأزمة، فكما عمل النازي، في الأربعينيات إبّان الحرب العالمية الثانية، على إضعاف أعدائه، من خلال إذكاء المشاعر العرقية، التي تؤدي إلى الانقسامات السياسية، ونشوب الصراعات الساخنة، وهو ما انعكس في قيام الرايخ الثالث بإنشاء دولة كرواتية عميلة للنازي، وفي تقسيم مقاطعة سلوفينيا، وفصل مقاطعتَي صربيا والجبل الأسود عن باقي يوغسلافيا، فقد تكرر الأمر عينه، بواسطة ألمانيا في التسعينيات بعد سقوط يوغسلافيا، إذ جرى اللعب أيضاً بالورقة العرقية، اعتقاداً من ألمانيا أن التقسيم العرقي لدول أوروبا الشرقية، بعد انهيار النظم الشيوعية فيها، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، إلى جانب أنه سيضعف هذه الدول، فإنه سيساعد أيضاً على استعادة النظام فيها، بعد أن تدهورت الأحوال السياسة والاقتصادية والاجتماعية في دول أوروبا الشرقية، ومنها يوغسلافيا، وافترست شعوبها الصراعات السياسية، وعمَّتها الفوضى، الأمر الذي يُمكِّن دول أوروبا القوية، وعلى رأسها ألمانيا الموحدة، من بسط هيمنتها السياسية والاقتصادية على هذه الدول.  وقد نجح النفوذ الألماني القوى في أوروبا، إبّان الأزمة، في بداية التسعينيات، في إقناع باقي حكومات أوروبا الغربية بهذه السياسة، والسير نحو تنفيذها.

وقد برز ذلك التوجه في السياسة الأوروبية نحو الأزمة اليوغسلافية، في ما أصبحت تردده وسائل الإعلام الغربية، حول حقوق الأقليات العرقية في يوغسلافيا والقوقاز وآسيا الوسطى، إذ أعطت لهذا المجال الأولوية في الإظهار الإعلامي، وكأنه لا يوجد في أوروبا مشاكل تستدعي الاهتمام، سوى مشاكل الصرب والكروات والمسلمين والأرمن والأتراك والأذربيجانيين ... وما إلى ذلك من عرقيات وطوائف، لها مشاكل كامنة في أوروبا منذ زمن طويل. وهكذا، تم إحياء ذكريات الماضي، وقامت لهذا الغرض "منظمات إنسانية" لخدمة الخطة الألمانية، القائمة على خدمة التفتيت العرقي، والتي تستهدف تحويل شرق أوروبا إلى أمريكا لاتينية جديدة، وذلك تحت دعاوى "الدفاع عن حقوق الشعوب".

وكان من الواضح، أن أجهزة الحكومة الألمانية، هي التي تدير هذه العملية، إذ حرَّضوا كلاًّ من سلوفينيا وكرواتيا على الاستقلال، وذلك باستخدام إغراءات كثيرة، منها قبولهما في الجماعة الاقتصادية الأوروبية، ودعم اقتصاديهما الوليدين بمنح ألمانية، وفتح السوق الألمانية أمام منتجاتهما وبما يُمكِّن شعوبهما من العيش في مستوى الرفاهية نفسه، الذي تتمتع بها شعوب أوروبا الغربية. كما أمدّت الحكومة الألمانية الميليشيات الانفصالية في سلوفينيا وكرواتيا بالأسلحة والأموال. وكان ذلك يجري في تحدٍّ سافر للسلطة الاتحادية اليوغسلافية الموجودة في بلغراد، التي دعت إلى التفاوض حول التحول نحو الكونفدرالية، بدلاً من الفيدرالية. ولكن الانفصاليون في كرواتيا وسلوفينيا، أصموا آذانهم عن كل ذلك، ولم يرضوا عن الانفصال والاستقلال بديلاً. ولقد أدى ذلك التشجيع على وقوع التجزئة العرقية في يوغسلافيا، من قبل دول أوروبا الغربية، خاصة ألمانيا وفرنسا، إلى قيام المظاهرات أمام السفارة الألمانية في بلغراد، تُردِّد هتافات السقوط للنازية الجديدة، وأمام السفارة الفرنسية، تردد: "لتسقط حكومة فيشي"، وذلك إعراباً عن الاستنكار للدور الأوروبي في تفتيت يوغسلافيا. إلا أن الجمهوريات الوليدة، الناشئة عن تفتيت الاتحاد اليوغسلافي السابق، أصبحت تركز كل جهودها وتتطلع نحو أمل واحد، هو الاندماج داخل نظام أوروبي، تهيمن عليه ألمانيا، التي استهدفت إحياء تقاليد الطبقة الحاكمة منذ عهد بسمارك، والتي كانت تتطلع دائماً إلى التوسع نحو الشرق، وتحويل شرقي أوروبا وجنوبيها إلى "أمريكا لاتينية" أخرى، تابعة لألمانيا.

وسرعان ما سارت باقي بلدان أوروبا الغربية وراء الخطة، التي قررت حكومة ألمانيا في بون فرضها، والتي تتمثل في تجزئة يوغسلافيا، عرقياً. فلم تتردد فرنسا، التي تربطها صداقة قديمة بالصرب، سوى أسابيع قليلة، حتى اعترفت بواقع هذه التجزئة، إذ غلبها على هذا التردد مساندة المارك الألماني للفرنك الفرنسي. كما تذكرت إيطاليا، أنها كانت حليفة، يوماً، لألمانيا النازية، وتناست الخلافات بينهما. وكذلك تنكرت أسبانيا لهويتها الاشتراكية، وتذكرت دورها، أيام الكتائب القديمة. أما بريطانيا الملكية، التي ترفض مبدأ انفصال أيرلندا الشمالية، وحاربت في فوكلاند ضد انفصال هذه الجزر عنها وانضمامها إلى الأرجنتين الأم، فقد ظلت فترة في موقف اللامبالاة، من حيث الظاهر، إلا أنها كانت، في حقيقة الأمر، مشغولة بإعداد خططها التنفيذية، التي سيطرحها وسطاؤها لوقف الصراع الدموي، الذي سينشب قريباً، وحينما تصبح الحاجة ماسة إلى التدخل الأوروبي لإيقاف نزيف الدم، وحيث تكون ثمار الصراع قد دنت قطوفها، حينذاك تتدخل بريطانيا بواسطة وسطائها، بخطط جاهزة للتقسيم العرقي، وهو الأمر الذي وقع، بالفعل، بواسطة الوسيط البريطاني كارنجتون ومن بعده اللورد أوين.

ولقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية سعيدة بما يجري في أوروبا، حيث ترى مشروع الوحدة الأوروبية، الذي يهدد هيمنتها على الأحادية القطبية في العالم، غارقاً في بحر المتاهات و التقسيمات العرقية. وكان الهدف الذي يجمع الأوروبيين، شرقيهم وغربيهم على السواء، مع الأمريكيين والروس، رغم اختلاف وتناقض المصالح والأهداف بينهم جميعاً، هو منع قيام دولة إسلامية ذات مقومات كاملة في وسط أوروبا، يمكن أن تشكل تحالفاً مع الدولتين الإسلاميتين الأخرى في أوروبا وهما تركيا وألبانيا، أو يكون لها أتباع من الأقليات المسلمة، الموجودة في بلغاريا والمجر، وغيرهما من الدول الأوروبية.

وعلى عكس الموقف الأوروبي الموحد من قضيتي سلوفينيا وكرواتيا، لم يحظَ الصراع في البوسنة والهرسك بمواقف موحدة من قبل الجماعة الأوروبية، وذلك لاتساع نطاق التأييد، الذي يلقاه الصرب من الدول الأوروبية، وعدم وجود دول أوروبية، يمكن أن تتعاطف مع موقف المسلمين المضطهد في البوسنة، ومن ثم لم تتخذ موقفاً متشدداً من المعتدين الصرب، حتى بعد أن استفحل الموقف، نتيجة ممارسات التطهير العرقي ضد المسلمين، والتي أدانها الرأي العام العالمي، والأوروبي خاصة، بل أدان، في الوقت عينه، التهاون الأوروبي في التعامل مع الصرب المعتدين، إذ وقفت اليونان ضد أي محاولة لإدانة الصرب. أما روسيا، فقد هددت باستخدام النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، ضد أي مشروع لقرار يقضي باستخدام القوة ضد جمهورية الصرب، أو يلغى الحظر المفروض على إمداد جمهوريات يوغسلافيا السابقة بالسلاح، والذي يتضرر منه المسلمون وحدهم.

ولم يختلف موقف بريطانيا، في ما يتعلق بتسليح البوسنة، كثيراً عن كل من فرنسا وألمانيا، فقد أصرّت الحكومة البريطانية على منع رفع حظر الإمداد بالسلاح عن البوسنة، وعارضت، كذلك، توجيه ضربات جوية، بواسطة حلف شمال الأطلسي، ضد المدفعية الصربية. وأعلن دوجلاس هوج، وزير الدولة البريطاني، استبعاد بلاده لذلك، ولكنه شدد على ضرورة استمرار المفاوضات، من أجل التوصل إلى حل سياسي. وعلى الرغم من أنه اعترف بأن المجموعة الأوروبية، لم تتعامل بالشكل الملائم مع أزمة يوغسلافيا السابقة، وخاصة مسألة البوسنة والهرسك، واضعاً اللوم على أجهزة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية الأخرى، فإن كل ما حرص على تأكيده ذلك الوزير البريطاني، هو أن النشاط الدبلوماسي لبريطانيا، في شأن أزمة البوسنة، إنما يهدف إلى تأكيد حضور لندن في أوروبا والعالم، كقوة مؤثرة، وأن بريطانيا تساهم، مثل دول قليلة أخرى، في قوات عسكرية على الأرض داخل البوسنة، ضمن قوات حفظ السلام الدولية. كما طالب بإرسال مزيد من القوات الدولية، وبصلاحيات أوسع، بدلاً من القيام بعمل عسكري محدد، لن يكون، في زعمه، مضمون النتائج ضد قوات صربيا. ودافع عن قرار بلاده بعدم استخدام القوة ضد الصرب، قائلاً: "إن أي حل سياسي، هو أفضل ألف مرة من إرسال جندي واحد إلى أرض القتال في البوسنة، التي تشهد، كما زعم، حرباً أهلية بين ثلاثة أطراف".  وبالطبع، فإنه يعني بالحل السياسي ضرورة استسلام مسلمي البوسنة لمطالب التقسيم، التي عرضتها خريطة الوسيط الدولي أوين، والتي تحصر المسلمين في منطقة وسط البوسنة، أشبه بالحي اليهودي (الجيتو)، وعلى مساحة 30 % من أراضيهم، بلا منافذ بحرية أو نهرية، وتجبرهم على التنازل عن أراضيهم للصرب والكروات، بأن تمنحهما 70 % من أراضي البوسنة.

وكان هذا هو نفسه موقف رئيس الوزراء البريطاني ميجور، عندما وجّه الرئيس كلينتون النقد للسياستين البريطانية والفرنسية اللتين تعارضان التوجه الأمريكي برفع حظر توريد السلاح إلى البوسنة.

ولقد بادرت مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة إلى الإعراب عن رأيها، مُفجِّرة فضيحة في قلب مجلس العموم، حين قالت: "إنها تشعر بالخزي من تخاذل الغرب عموماً، وأوروبا وبلدها وحزبها وخليفتها في الحكم". وطالبت كل من تحمل المسؤولية، بضرورة أن يتخذ الخطوات اللازمة لحسم هذه المهزلة، والتي تتطلب التدخل عسكرياً، لوضع حد للعدوان الصربي، ورفع الحظر المفروض على توريد السلاح إلى المسلمين. ولكن بعد أن استمع الجميع، بمنتهى الوقار، إلى حماسة المرأة الحديدية؛ إذ بالحكومة البريطانية ترفع صوتها، لتعلن، صراحة، أنها ضد فكرة التدخل في البوسنة، سواء كان جوياً أو برياً، كما أنها ضد فكرة تزويد مسلمي البوسنة بالسلاح، حتى لا تتسع رقعة الصراع !!

وعندما أرسلت بريطانيا وفرنسا قواتهما إلى البوسنة، في إطار الأمم المتحدة، كان الهدف المعلن، هو حماية قوافل الإغاثة الدولية، وضمان وصولها إلى المسلمين الضحايا. إلا أن الحقيقة، التي يعلمها الجميع، أنه لا دواء ولا غذاء، كان يصل إلى الضحايا، بل كانت القوات الصربية والكرواتية، تستولى على الكثير منهما، ويباع الباقي في السوق السوداء. أما الهدف الحقيقي من وراء وجود القوات الدولية، التي لم تطالب بها حكومة البوسنة، فهو توفير العذر والمبرر لسحب أسلحة المسلمين، بدعوى أن القوات الدولية، ستتولى الدفاع عنهم، فلا هم دافعوا عن المسلمين، ولا تركوهم يدافعون عن أنفسهم، بل أصبح مجرد وجود القوات الدولية ذريعة، تحُول دون توجيه ضربات جوية أو تدخل عسكري ضد القوات الصربية، حتى لا تتعرض تلك القوات الدولية للخطر وتصبح رهائن لدى الصرب. باختصار، كان وجود هذه القوات الدولية معرقلاً لإمكانية دفاع المسلمين عن أنفسهم، بسبب قيامها بتجريدهم من سلاحهم، استجابة لشروط الصرب لوقف إطلاق النار، وكان وجودها، في الوقت نفسه، مبرراً لعدم توجيه ضربات جوية (مزمعة) ضد الصرب.

ومن مظاهر الخداع الأوروبي، ذلك المؤتمر، الذي عقد عام 1992، في هلسنكي، عاصمة فنلندا، لتدارس أزمة البوسنة، وحضره أكثر من خمسين رئيس دولة في العالم. وكان المطلوب وقف اعتداءات جيش الصرب على البوسنة بأي وسيلة. إذ لم يحترم الصرب أبداً قرارات الأمم المتحدة، كما لم يكفوا عن هجماتهم على المسلمين على الرغم من إجراءات الحظر والتهديد بالعقوبات، وحتى الطرد من الأمم المتحدة. وقد كان مطلوباً، في ذلك المؤتمر، تشكيل قوة دولية تحت علم الأمم المتحدة، تردع عدوان الصرب المتمادي، إلا أن خلافاً وقع بين الزعماء الأوروبيين، حول مبدأ التدخل العسكري في البوسنة. ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تريد غير هذا الخلاف، لتعلن رفضها المطلق للتورط العسكري في جمهوريات يوغسلافيا السابقة. وبالطبع، كانت هذه الخلافات أفضل نتيجة ينتظرها الصرب، فاستمروا في زحفهم على مناطق المسلمين ليبتلعوها، متبعين أفظع أساليب الإرهاب والتنكيل والتعذيب، للاستيلاء على المزيد من الأراضي، وقتل أكبر عدد من المسلمين، وتشريد من ينجو من الموت. ولم تكن ردود الفعل الأوروبية، سوى الاستنكار والشجب.

ولقد تأثر الفكر الأوروبي، في تعامله مع مشكلة البوسنة، بعدة عوامل، منها تلك الدراسة الموجَّهة، التي أعدها رئيس كرواتيا، توديمان، وأرسلها إلى جميع قادة أوروبا. ويشير فيها إلى أن قيام جمهورية إسلامية قوية في قلب يوغسلافيا، سيكون خطراً على أوروبا بأسرها، لأن المسلمين البوسنيين، سيستقطبون إلى جمهوريتهم كل المسلمين في منطقة البلقان. ثم يتساءل عمن سيقف في وجههم بعد ذلك؟ هذا في الوقت الذي يخاطب فيه توديمان المسلمين، بأن من مصلحتهم الاكتفاء بدولة صغيرة في البوسنة، حتى لا يثيروا مخاوف الغرب ضدهم.

منذ بداية الصراع في البوسنة، أعطت الأمم المتحدة المجموعة الأوروبية (الاتحاد الأوروبي)، دوراً رئيسياً في وقف هذا الصراع، الدائر في قلب القارة الأوروبية، وذلك على أساس قدرة دول المجموعة على ضبط التطورات في المنطقة، كما سبق وفعلت تجاه الصراع بين بلجراد وسلوفينيا، ودورها المساعد على وقف الصراع بين بلجراد وكرواتيا. وهكذا، صدر قرار مجلس الأمن الرقم 749، في 7 يناير 1992، الذي ناشد الأحزاب المعنية، في البوسنة، التعاون مع المجموعة الأوروبية، من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، والتفاوض من أجل الوصول إلى حل سياسي للصراع.

وعندما باشرت المجموعة الأوروبية دورها، اصطدمت بانقسام أعضائها ، ففي حين بادرت ألمانيا والنمسا إلى مساندة كرواتيا وامتداداتها العرقية، في البوسنة تكفلت اليونان بالدفاع عن بلجراد وامتدادات الصرب في البوسنة، بينما لم يكن هناك من يدافع عن الحكومة البوسنية، داخل المجموعة الأوروبية. وقد أفضى ذلك إلى حالة من العجز التام، في أداء المجموعة الأوروبية، تجاه الصراع الدائر في قلب القارة، وكل ما ترتب عليه من تداعيات، ومساس بحقوق الإنسان.

وفي هذا السياق العام، يمكن استجلاء الدور الأوروبي في البوسنة، على النحو التالي:

1. جهود وفد الترويكا الأوروبية

جاءت أول مشاركة للمجموعة الأوروبية في الأزمة اليوغسلافية، بإرسال وفد الترويكا، للعمل على فض النزاع، المتعلق بانتخاب رئيس لمجلس الرئاسة اليوغسلافي. ثم جاء الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية دول المجموعة الأوروبية، في لاهاي، في 5 يونيه 1992، الذي قررت فيه المجموعة ما يأتي:

أ. إيفاد ترويكا مزدوجة إلى يوغسلافيا، تتشكل من مدنيين وعسكريين، يصل عددهم إلى 50 عضواً للإشراف على احترام وقف إطلاق النار. فضلاً عن وفد آخر من الترويكا، يضم وزراء خارجية كلٍّ من هولندا ولوكسمبورج والبرتغال، ويعني بالنواحي، القانونية والتقنية، التي من شأنها إعادة فتح باب الحوار بين الأطراف المتنازعة.

ب. فرض حظر بيع الأسلحة، من جانب المجموعة، إلى يوغسلافيا، ومناشدة العالم أجمع، أن يطبق هذا الحظر.

ج. تعليق المساعدة الاقتصادية، التي كانت المجموعة تزمع تقديمها إلى يوغسلافيا، والمقدَّرة بــ 6 مليارات فرنك، حتى عام 1996. وفي بريوني، توصل، في 8 يوليه 1992، الأطراف المتصارعة في يوغسلافيا، وفي حضور وفد الترويكا، إلى اتفاق، وضعت مسودته المجموعة الأوروبية. ويقضي بأن تبدأ إجراءات السلام في سلوفينيا، وأن تشرف الشرطة على المراكز الحدودية، وأن تقتسم مع بلجراد عائدات الجمارك.

2. اجتماع وزراء خارجية المجموعة الأوروبية

وعلى الرغم من تصاعد حدّة الاشتباكات المسلحة، بين الصرب والكروات، في جمهورية كرواتيا، وتدخّل الجيش الاتحادي إلى جانب الصرب، اجتمع وزراء خارجية المجموعة الأوروبية، في بروكسل، في 27 أغسطس 1992، وأصدروا بياناً حول ضرورة إيجاد حل سلمي للأزمة، من دون ممارسة أي ضغوط فعلية على الأطراف المتصارعة لحثها على إنهاء القتال. وقد أعلن البيان خطة لتسوية الأزمة، تضمنت ما يلي:

أ. عقد مؤتمر للسلام، شرط إيقاف أعمال العنف، قبل أول سبتمبر، موعد انعقاد المؤتمر.

ب. مطالبة الحكومة الفيدرالية بالكف عن استخدام القوات المسلحة في مصلحة الصرب، وتأكيد عدم اعتراف المجموعة بأي تغيير للحدود، من طريق العنف.

ج. دعوة اللجنة التابعة لمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيَّين إلى تقديم موعد اجتماعها، إلى أول سبتمبر، والذي يمكن أن يرغم صربيا على وقف اعتراضها على مهمة قوات المراقبة، التي كانت المجموعة ترغب في إرسالها إلى كرواتيا.

كما نص البيان على أن تجري المفاوضات على أساس المبدأَين التاليَين:

أ. عدم المساس بالحدود، الداخلية والخارجية، ليوغسلافيا .

ب. توفير الضمانات لحقوق الأقليات، في جميع الجمهوريات .

3. مؤتمر سلام المجموعة الأوروبية

صياغة إعلان المبادئ لجمهورية البوسنة المستقلة

في 18 مارس 1992، صدر إعلان المبادئ، تحت رعاية مؤتمر سلام المجموعة الأوروبية. ووافق عليه قادة الأحزاب الثلاثة في البوسنة؛ إذ يضع أُسُساً دستورية جديدة للبوسنة والهرسك، تتضمن تنظيم العلاقة القانونية بين المجموعات العرقية، المسلمة والصربية والكرواتية. وستتألف الدولة، بموجبه، من ثلاث مقاطعات، قائمة على المبادئ الوطنية، ناهيك بأخذه في الحسبان المعايير الاقتصادية والجغرافية. بيد أنه بعد عشرة أيام على هذا الإعلان تنصل قادة الصرب منه، وأندلعت أعمال العنف في إقليم الجمهورية، وكان الهدف منها الحيلولة دون الاعتراف الخارجي بالبيان الصادر، ومع ذلك، فإن المجموعة الأوروبية، اعترفت بقيام دولة البوسنة والهرسك، في 6 أبريل 1992.

وعلى أثر ذلك، تحركت الميليشيات الصربية، المدعومة من القوات المسلحة للسلطات المركزية اليوغسلافية، والمشتملة على قوات سلاح الجو. واستطاعت الميليشيات أن تُحكم سيطرتها على مناطق حيوية في الإقليم.

وحري الدراسة المعمقة للجهود الأوروبية، في شأن مشكلة البوسنة والهرسك، لا بدّ من التعرض بإيجاز لأهم بنود هذا الاتفاق، الذي تناول شكل الدولة بعد الاستقلال، والمبادئ العامة، التي تحكمها، وذلك على النحو التالي:  

أ. الاستقلال

وبناء على هذا المبدأ، تتألف دولة البوسنة والهرسك من ثلاث وحدات تأسيسية، تقوم على المبادئ الوطنية، وتأخذ في الحسبان المعايير الاقتصادية.

(1) ثبات الحدود المعترف بها في البوسنة والهرسك، مع رفض حكومتها أي مطالبة بأي جزء من أراضيها، من قِبَل دول الجوار.

(2) تمتع كلٍّ من المواطنين، المسلمين والصرب والكروات، بالسيادة، ويتحقق ذلك عبْر المشاركة المدنية في الوحدات التأسيسية الثلاث.

ب. المبادئ العامة

(1) حكم البوسنة والهرسك والوحدات التأسيسية الثلاث، وفقاً للمفاهيم الديموقراطية الليبرالية.

(2) احترام حقوق الإنسان، وتأكيد الملكية الخاصة واقتصاد والسوق، وتكوين المؤسسات التجارية.

(3) مساواة الحق العام في التصويت وإجراء الانتخابات الحرة.

(4) حرية الأنشطة، السياسية والتجارية.

(5) إتّباع النظام العلماني، مع كفالة حرية دينية تامة، وانتهاج مبدأ الفصل بين سلطات الدولة، وتأكيد دور القانون والنظام الديموقراطي الفعال في مراقبة الشرعية الدستورية وحمايتها.

(6) قبول المراقبة، الدولية والقضائية، لحماية حقوق الإنسان والحرية في البوسنة.

ج. مجلس النواب والدولة في البوسنة

(1) يتكون مجلس النواب من مجلسين، يضُمان مواطني الجمهورية، الذين ينتخبون بالاقتراع المباشر، إلى جانب مجلس آخر مكون بالتساوي من ممثلين لوحدات الجمهورية الثلاث.

(2) يمثل مجلس النواب مجلس المواطنين ومجلس ممثلي الوحدات، وتنظم الحكومة، عبْر الإجراءات التنفيذية، مقترحات الوحدات الثلاث، فيما يتعلق بالسياسة التنفيذية، والعلاقات الخارجية، والدفاع، والسياسة الاقتصادية العامة، والعلاقات الاقتصادية، إضافة إلى مختلف المجالات المتداخلة بين غير وحدة من الوحدات الثلاث، التي تشكل الجمهورية[1]. ويؤخذ بأغلبية الأربعة أخماس من إجمالي أصوات مجلس ممثلي الوحدات الثلاث، عند مناقشة عدد من القضايا المهمة.

(3) أمّا فيما يتعلق بالخدمة المدنية والإدارة القضائية، فتشكلان، وفقاً لهذا الإعلان، بطريقة نسبية، تبعاً للتركيبة القومية للجمهورية.

(4) تؤسَّس محكمة دستورية لتحديد سلطات الجمهورية، في مواجَهة الوحدات التأسيسية الثلاث وتستمر، مدتها خمس سنوات، وتضم عضواً من كل وحدة تأسيسية، في وحدات الدولة الثلاث، وعدداً مماثلاً من خارج الجمهورية، وتتخذ قرارها بالأغلبية البسيطة.

د. الوحدات التأسيسية في البوسنة، طبقاً لإعلان مبادئ جمهورية البوسنة والهرسك

طبقاً لهذا الإعلان، شكلت وحدات تأسيسية، من خلال مجموعة عمل، من أجل تخطيط أراضي الوحدات التأسيسية، تقوم على المبادئ القومية، وتأخذ في الحسبان الأمور الجغرافية والاقتصادية وسواها، وتقوم الخريطة على أساس الأغلبية السكانية، المطلقة أو النسبية، في كل مجلس بلدي بحيث يكون ذلك على أساس مهمة مجموعة العمل، ويخضع هذا العمل للتعديل من قِبل المستويات الأعلى فقط، كما تلحق نسخة من الخريطة بهذا الإعلان.

أمّا مجلس النواب، والحكومة، فيتمتعان بالسلطة، على المستوى التشريعى للدولة، وفقاً للإجراءات المتفق عليها، وذلك لسن القوانين، وإدارة الشؤون، الخدمية والرسمية للوحدات التأسيسية الثلاث[2].

وتستطيع الوحدة التأسيسية إرساء أو الإبقاء على العلاقات والروابط بجمهوريات ومنظمات أخرى بشكل يتسق مع استقلال جمهورية البوسنة والهرسك ووحدة أراضيها.

كما نص إعلان مبادئ جمهورية البوسنة والهرسك على أن كل المؤسسات، التي أقامها نظام الوحدات التأسيسية، تعكس، بطريقة نسبية، التشكيلة الوطنية لهذه الوحدات.

أمّا أعضاء الشعوب، الذين يمثلون أقليات في الوحدة التأسيسية، فيتمتعون بالحماية.

هـ. الخطوات الانتقالية

يُعَدُ قانون دستوري، لتعديل الدستور، من أجل إضفاء قوة التأثير على هذه المبادئ، مما يتيح للوحدات التأسيسية إجراء ترتيبات مستقبلية، بما يتفق مع بقية مكونات الإعلان. وعلى هذا النحو، اكتمل التحضير لوثيقة إعلان مبادئ جمهورية البوسنة، في 18 مارس 1992، ليكون أساساً للمفاوضات اللاحقة. ووافق عليها قادة الأطراف الثلاثة، المسلمين والصرب والكروات، في الجولة الخامسة من المحادثات، حول الترتيبات الدستورية المستقبلية للبوسنة والهرسك، تحت رعاية مؤتمر سلام المجموعة الأوروبية.

و. مشروع كارينجتون

بينما استمر القتال بين الكروات والصرب، بمساندة الجيش الفيدرالي، ومع إعلان جمهوريتَي سلوفينيا وكرواتيا وإنهاء تجميد إعلان الاستقلال، واتخاذ سلوفينيا إجراءات تنفيذية، تترتب على إعلان الاستقلال، بدأ مؤتمر السلام، الذي دعت إليه دول المجموعة الأوروبية، في 7 سبتمبر 1992، في لاهاي، برئاسة اللورد كارينجتون، وزير خارجية بريطانيا السابق، وفي حضور دول المجموعة الأوروبية وممثلي كافة الجمهوريات اليوغسلافية، والحكومة الاتحادية.

وعلى الرغم من انعقاد المؤتمر في موعده، إلاّ أنه عكس عدة أمور من بينها:

(1) فشل المجموعة الأوروبية في تصعيد إجراءاتها ضد الأطراف المتنازعة، إذ بقيت الإجراءات على السرعة نفسها والدرجة عينها، في التفاعل مع الأحداث، مما عكس، بدوره، اختلاف وجهات النظر بين أعضائها، تجاه الأزمة وأبعادها وكيفية إنهائها.

(2) إخفاق المجموعة الأوروبية، والترويكا، في تمهيد الطريق لمفاوضات جادّة، من أجل التوصل إلى حل سلمي للأزمة، وذلك لافتقاد آلية محددة، لمواجهة الأزمات مع افتقار المجموعة إلى عامل الوقت، في ظل تصاعد الأزمة وتعقُّدها.

وتجدر الإشارة إلى أن أول مشروع حقيقي لتسوية شاملة للأزمة، كان في 18 أكتوبر 1992، حينما استأنف مؤتمر لاهاي اجتماعاته، بمشاركة سيروس فانس، المبعوث الخاص لسكرتير عام الأمم المتحدة، وأسفر عن توقيع اتفاق للوقف غير المشروط لإطلاق النار، تقدم به اللورد كارينجتون، نيابة عن المجموعة الأوروبية، ووافق عليه، مبدئياً، خمس جمهوريات. وتضمن المشروع ما يلي:

(1) حصول الجمهوريات اليوغسلافية على صفة الجمهوريات المستقلة ذات السيادة، وتتمتع بالشخصية الدولية، إذا ما رغبت في ذلك.

(2) تحوُّل يوغسلافيا إلى اتحاد، يضم كل الجمهوريات، وله شخصية دولية.

(3) إيجاد آليات للإشراف على احترام حقوق الإنسان والأقليات.

(4) تعاون الجمهوريات، في المجالات، الاقتصادية والعسكرية، والسياسة الخارجية.

(5) تعاون الجمهوريات مع الدول الأوروبية، في المجالات كافة.

ولم يحظَ هذا المشروع بموافقة الأطراف الأساسية في النزاع؛ إذ أبدى رئيس سلوفينيا تحفظاً من هذه الصيغة، لما تضمنته من قيود على الشخصية القانونية ليوغسلافيا. ولم يقبلها رئيس صربيا، كذلك، لأنها تضع نهاية فعلية ليوغسلافيا، واقترح أن يجري التغير في إطار دستوري. ولم يوافق على المشروع سوى رئيس كرواتيا؛ إذ وجد فيه فرصة لتحقيق استقلال جمهورية كرواتيا، والحصول على الاعتراف الدولي بها.

أمّا على المستوى الدولي، فلم يكن هناك أي تحرُّك من قِبل المجموعة الأوروبية، حتى 18 أكتوبر 1995، سوى البيان المشترك الصادر عن الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة الأوروبية، والذي لم يكن إلاّ نداء للقوى المحبة للسلام في يوغسلافيا، أعربت فيه هذه القوى الدولية عن قلقها لاستمرار العنف وسفك الدماء، في يوغسلافيا، وعن رغبتها في إيجاد تسوية عادلة، وشاملة، للأزمة، تستند إلى مبادئ ميثاق الأمن والتعاون الأوروبيَّين، حول حقوق الأقليات والتعددية السياسية.

ربما كانت أول محاولة إيجابية، من قِبل المجموعة الأوروبية، لتكثيف الضغوط الدولية على يوغسلافيا، هي تلك التي أعقبت اجتماع وزراء خارجية المجموعة، في روما، على هامش اجتماعات حلف شمال الأطلسي، في أوائل نوفمبر 1992، بفرض عقوبات اقتصادية ضد يوغسلافيا. وهو ما عكس الإحباط والاستياء العامّين، اللذين أصابا دول المجموعة، من الطريق المسدود، الذي وصلت إليه الأزمة، والفشل المتكرر لمؤتمر لاهاي، واستمرار المعارك الطاحنة، بين كل من الصرب والكروات والمسلمين. وقد نصت قرارات المجموعة على ما يلي:

(1) التعليق الفوري لاتفاق التجارة والتعاون، المعقود مع يوغسلافيا، عام 1980، وبدء الإجراءات القانونية لإنهائه كلية. مما يعني إيقاف بروتوكولات التعاون، الاقتصادي والمالي، التي كانت تحصل يوغسلافيا، بموجبها، على أكثر من بليون دولار. ويُعَدّ ذلك سابقة في تاريخ المجموعة، تنهي فيها اتفاقاً للتعاون مع دولة ما. مما ترتب عليه فقدان يوغسلافيا للشروط التفضيلية، التي كانت تتمتع بها صادرات السوق الأوروبية، التي قدِّرت بنحو 45% من صادراتها، عام 1991، و60% من صادراتها، عام 1992، بخسارة فعلية، تبلغ 60 مليون دولار.

(2) إعادة فرض نظام التحديد الكمي على صادرات يوغسلافيا، من المنسوجات، إلى المجموعة الأوروبية، التي تمثل نحو 200% من الصادرات اليوغسلافية. ووقف الاستفادة من نظام الأفضليات، الذي كانت تتمتع به يوغسلافيا، في تجارتها مع المجموعة.

(3) إيقاف المساعدات الاقتصادية، التي نص عليها برنامج إعادة بناء النظُم المصرفية لدول شرقي أوروبا، الذي كانت تحصل يوغسلافيا، بموجبه، على 120 مليون دولار. وقد درست المجموعة إمكانية إتخاذ الإجراءات الإضافية، مثل تجميد الأرصدة اليوغسلافية في مصارف دول المجموعة.

وقد عقد نائب وزير العلاقات الاقتصادية الاتحادي مؤتمراً صحفياً، تناول فيه النتائج المترتبة على قرار المجموعة، وأكد ما يلي:

·   فقدان النية الحسنة لدى دول المجموعة الأوروبية، بسبب هذه العقوبات، التي سيكون لها آثار سلبية في الاقتصاد اليوغسلافي، المتردي بسبب الحرب.

·   تأثر صادرات يوغسلافيا، التي تراوح بين 600 و700 مليون دولار، سنوياً، بسبب إلغاء اتفاق التعاون والتجارة مع المجموعة. كما أن إعادة تطبيق نظام التحديد الكمي على صادرات يوغسلافيا من المنسوجات، يعني أن تأتي كمية معينة ضمن الأفضلية التجارية.

وقد تزامنت هذه العقوبات مع تحوُّل معظم تجارة يوغسلافيا إلى أوروبا؛ إذ وصلت تجارتها مع الدول الأوروبية إلى 60% من إجمالى تجارتها الخارجية. وصعّدت المجموعة الأوروبية تلك العقوبات إلى المستوى الدولي، بمطالبتها مجلس الأمن باتخاذ إجراءات إضافية، لدعم فاعلية الحظر، المفروض من قِبَله على صادرات السلاح إلى يوغسلافيا. كما طالبت بفرض حظر نفطي شامل على يوغسلافيا، كسبيل إلى تعطيل القدرة القتالية للأطراف المتنازعة، خاصة الجيش الاتحادي. وكذلك إرسال قوات لحفظ السلام، بضمان وقف إطلاق النار.

بيد أن المجموعة، تركت الباب مفتوحاً، بإظهار المرونة، في شأن تخفيف هذه العقوبات، بل تفويض بعض الأطراف، التي تبدي تعاوناً، مع الجهود الأوروبية للتوصل إلى حل سلمي للأزمة. غير أنه يجب عدم المبالغة في آثار هذه المقاطعة؛ إذ إنها اقتصرت على دول المجموعة الأوروبية، ومن ثم، أمكن تلافي آثارها وتخطيها، من طريق دول أخرى، غير ملزَمة بقرارات المقاطعة.

وقد جاء قرار مجلس الأمن الرقم 721، في 27 نوفمبر 1991، بحث إيفاد قوات لحفظ السلام، وتأجيل فرض الحظر النفطي على يوغسلافيا، حلاً وسطاً بين الدول الغربية، الداعية إلى فرض هذا الحظر، حتى يتوقف الجيش الاتحادي عن القتال ضد الكروات، وبين دول عدم الانحياز، المعارضة هذا الحظر، على أساس أنه يضر بالشعب، وليس بالجيش الذي استهدفه الحظر على صادرات السلاح، بالفعل، بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 721.

وقد مثل هذا القرار نجاحاً لمجلس الأمن، الذي أثبت مقدرته على العمل الجماعي، بعيداً عن عرقلة القرارات، باستخدام النقض (الفيتو). وأثبتت الدول الكبرى، ودول عدم الانحياز قدرتها على تخطي الخلافات، من أجل إيجاد الحلول الوسط للأزمات الدولية. كما أن القرار بإرسال قوات لحفظ السلام، يمثل سابقة جديدة لتدخل المنظمة الدولية في أزمة داخلية، تهدد الأمن الإقليمي والدولي.

إلاّ أن هذا القرار، اعترضته عراقيل، ناجمة عن تضارب موقفَي كرواتيا وصربيا، حول الخطوط الحدودية، التي ستُنشر قوات حفظ السلام حولها.

وقد انحصرت مهمة قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في يوغسلافيا، في الإشراف على عملية وقف إطلاق النار؛ إذ إن إعادة الحدود المشروعة، أو فرض تسوية سلمية للأزمة، لا يقع في دائرة عمل هذه القوات.

وفي هذا السياق، تبدّى أن جهود المجموعة الأوروبية لحل الأزمة، جاءت، في معظمها، كردود فعل لتصاعد الأزمة، فلم تزِد المحاولات الأوروبية لحل مشكلة البوسنة، في بدايتها، على عقد الاجتماعات الطارئة، وإصدار البيانات، الفردية والجماعية، التي لم تتسم بأي درجة من الجدية.

حتى في حالة إصدار قرار، لفرض العقوبات الاقتصادية على يوغسلافيا، فلم تذكر جمهورية صربيا، المعنية، أساساً، بهذه العقوبات، حتى لا تعد ذلك اعترافاً باستقلالها.

وفي كل الأحوال، لم تستطع الدول الأوروبية الاستمرار في فرض هذا الحظر الاقتصادي. وعندما وصل الأمر إلى مجلس الأمن، أُجِّل بَتّه.

وقد اتّبعت المجموعة الأوروبية، في تناولها لأزمة البوسنة، الأسلوب عينه الذي اتّبعته إبّان أزمة الخليج، على الرغم من اختلاف الظروف، الإقليمية والدولية، المحيطة بالأزمة. وذلك على النحو التالي:

·   ففي الوقت الذي أدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية دوراً جوهرياً في أزمة الخليج، لم يكن لها دور فاعل، في بداية أزمة البوسنة، ربما لعدم وجود مصلحة مباشرة لواشنطن في هذه المنطقة، على عكس الحال في منطقة الخليج الزاخرة بالموارد النفطية، الحيوية، بالنسبة إلى الاقتصاد الأمريكي.

·   لقد أوجدت أزمة الخليج نوعاً من الإجماع، على المستويَين، الدولي والأوروبي، في شأن أسلوب معالجتها. فكان قرار إرسال قوات أوروبية لحفظ السلام، تحت إشراف دولي من الأمم المتحدة، وهو ما لم يتأتَّ في بداية الأزمة البوسنية، لاختلاف مصالح الدول.

والواقع أن قرارالمجموعة الأوروبية، عرض حظر اقتصادي على يوغسلافيا، لم يعكس أي تغيير حقيقي في أسلوب معالجة المجموعة للأزمة؛ إذ إن هذا القرار لم يطبق. وعلى ذلك، فلا يمكن عد هذا الوضع تكثيفاً من قبل المجموعة لجهودها تجاه الأزمة، بل كان محاولة لإقناع الأطراف المتنازعة بالتخلِّي عن سياسة العنف، وفرض الأمر الواقع، وحثها على اللجوء إلى التفاوض، في إطار مؤتمر لاهاي للسلام في يوغسلافيا.

ح. مفهوم الأمن الأوروبي الجديد، في ظل الأزمة البوسنية

عكست أزمة البوسنة، بصفة خاصة، إحدى بؤر الصراع السياسي، التي هددت الأمن الإقليمي الأوروبي، في معناه الواسع. فقد كانت الجهود الأوروبية، في بدايتها، جامدة، وقاصرة عن تتبّع الأزمة وملاحقتها، إلى حدّ كبير، نظراً إلى ما لها من آثار سلبية عديدة، وتأثير أكيد في الدول المجاورة؛ إذ أوجدت توازناً جديداً للقوى السياسية في المنطقة، بانضمام كلٍّ من كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة إلى التجمعات الإقليمية القائمة.

لقد أثبتت أزمة البوسنة، أن من أهم التحديات، التي تواجهها الوحدة الأوروبية المرتقبة، هى كيفية استيعاب دول وسط أوروبا وشرقيها، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعِرقياً، في البناء الأوروبي الجديد. وهو ما طرحته قمة حلف شمال الأطلسي، من خلال ما أسمته مجلس التعاون الأطلسي (Atlantic Cooperation Council)، الذي ضم إلى جانب دول التحالف الغربية، دول شرقي أوروبا، وجمهوريات البلطيق إلاّ أن تغيير الحلف نظام الانضمام إليه، استوجب أن يسبقه تقديم الدول الغربية ضمانات أمنية إلى الدول الأوروبية الشرقية، مما يساعدها على توجيه مواقفها الإقليمية إلى النواحي الاقتصادية، والتخفيف من اهتماماتها العسكرية.

أمّا أزمة البوسنة، فقد عكست، بدورها، رغبة الدول الأوروبية عن بروز دولة إسلامية في القارّة، يمكن أن تمثل، على نحو ما أعلن قادة الصرب، تهديداً للدول الأوروبية.

من جانب آخر، فشل ميثاق الأمن والتعاون الأوروبيَين في إثبات مصداقيته، في أول اختبار حقيقي له، على الساحة الأوروبية الإقليمية. ففي الوقت الذي دعا فيه ميثاق باريس إلى ضرورة احترام حقوق الأقليات، وحق تقرير المصير للجميع، فإن دول المجموعة الأوروبية، بعد أزمة البوسنة، واجهت مشكلة التفكك العرقي، الذي أصاب وسط القارة الأوروبية وشرقيها، ويهدد بظهور عشرات الجمهوريات، بما يمكن أن يشكله ذلك من عائق دون الوحدة الأوروبية المنتظرة.

لقد أثبت طول امتداد أزمة البوسنة افتقار المجموعة، خاصة أجنحتها، السياسية والعسكرية، إلى الآلية المحدودة لحل الأزمات الإقليمية، مما يؤكد عدم مواكبة اتحاد غربي أوروبا، وحلف شمال الأطلسي، للتغيرات الإقليمية الجديدة، التي شهدتها الساحة الأوروبية، خاصة مع تفاقم مشكلة الهجرة، بين دول أوروبا الشرقية والمنازعات الحدودية، بما يهدد بحدوث مواجَهة عسكرية بين هذه الدول، ويشير إلى أهمية إعادة رسم الهوية الأوروبية، أمنياً ودفاعياً لتستوعب المتغيرات، السياسية والاقتصادية والعِرقية الجديدة، التي تشهدها أوروبا. هكذا، يثبت أن فشل المجموعة الأوروبية في إيقاف التدهور، الذي شهدته أزمة البوسنة، يرجع أساساً، إلى قصور في المعالجة الأوروبية نفسها، إلى جانب القصور البَيِّن في استيعاب التناقضات، السياسية والعِرقية، التي تعانيها دول شرقي أوروبا، في مفهوم الأمن الجديد لأوروبا الموحدة، وافتقار المجموعة الأوروبية إلى خبرة معالجة الأزمات، مما يؤكد أن انتهاء مشكلة البوسنة، كان مرهوناً، إلى حد كبير، بالتعاون، الإقليمي والدولي، أي أن يكون هناك عمل جماعي، يضم الأمم المتحدة، كتجمع دولي، إلى جانب المشاركة الإقليمية للمجموعة الأوروبية، بمختلف مؤسساتها. كما أصبح يتعين على دول أوروبا الغربية تقديم الدعم الاقتصادي، كمقابل لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة اللذين يؤثران تأثيراً مباشراً في الأمن الداخلي لكل دولة.

ط. موقف الأمين العام للأمم المتحدة وإحالة القضية للمجموعة الأوروبية

لقد كان موقف الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالي، في تحويل قضية البوسنة والهرسك إلى المجموعة الأوروبية، وإبعادها عن الأمم المتحدة، متوافقاً تماماً مع الرغبة الأوروبية لتسوية أزمة البلقان، من خلال المنظور الأوروبي، أو من خلال السياسة الأوروبية الثابتة، والمعروفة، والتي كانت تهدف، في جملة ما تهدف، إلى إبعاد قضية البوسنة والهرسك عن المجال، الذي تستطيع فيه مجموعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ممارسة دور فيه، وهو مجال هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. كذلك، يمكن المجموعة الأوروبية، من خلال أساليبها التعطيلية المعروفة، أن تعطي الوقت الكافي للصرب والكرواتيين، لكي يحققوا أهدافهم التوسعية على حساب المسلمين في البوسنة والهرسك، ولا سيما أن القوى الرئيسية في المجموعة الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تمتلك القدرة على التحكم في الأطراف المتصارعة، وتوجيهها نحو الحل، الذي تريده تلك القوى ذات الاتجاهات المعروفة، وكلها تقريباً معادية للإسلام والمسلمين.

وكانت المجموعة الأوروبية قد أتقنت، عبر تجاربها الطويلة، أساليب تسوية المشكلات في إطار ازدواجية بين ما يتمّ تنفيذه فعلاً على أرض الواقع، وبين ما يتم إعلانه في وسائل الإعلام. وبوضوح أكثر، تستطيع أوروبا إعلان دعمها للمسلمين في البوسنة والهرسك، وتعاطفها معهم، في الوقت نفسه، الذي تترك فيه للصربيين تنفيذ ما هو مطلوب منهم. ولقد ظهر ذلك واضحاً، منذ البداية. ففي منتصف مايو 1992، أعلن زعماء الصرب في البوسنة والهرسك وقفاً لإطلاق النار، من جانب واحد، اعتباراً من 13/5/1992، ولمدة خمسة أيام. وحثّوا المجموعة الأوروبية على استئناف المحادثات بين الصرب والكروات والمسلمين. وكان برلمان صرب البوسنة، غير الرسمي، قد اجتمع في بلدة بانيالوكا، معقل صرب البوسنة في شمال غرب سيراييفو، ووجّه تحذيراً إلى المجموعة الأوروبية باستئناف المحادثات يوم 19 مايو، وإلا فإن صرب البوسنة سيدعون جماعات الصرب في شتى أنحاء العالم للانضمام إليهم في نضالهم من أجل البقاء !! وكان برلمان الأقلية الصربية في البوسنة والهرسك، قد أرسى، في الوقت نفسه، أسُس دولته الخاصة، واعتبر بانيالوكا عاصمة لهذه الدولة في غرب البوسنة، وعيّن رادوفان كارادازيتش رئيساً للدولة ومهد الطريق لترسيم جديد لحدود دولة صرب البوسنة، التي لم يعترف بها أحد.

وعلى الرغم من اقتراب بؤرة الصراع في البوسنة والهرسك من أوروبا الغربية، وتأثيرها المباشر في جنوب وشرق أوروبا والبلقان، إلا أن الموقف الأوروبي، ممثَّلاً في الجماعة الأوروبية، ومؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين، ومنظمة حلف الأطلسي، اتسم بالتردد والحذر والتضارب الجزئي، وإن كان في ثناياه موقف أوروبي واحد، لا يختلف حول المضمون. فلم تكن هناك اختلافات حادة في الموقف الأوروبي، لا من حيث تكييف الأزمة، ولا من حيث أسلوب التصدي للعدوان الصربي. فلقد دعت الجماعة الأوروبية، في اجتماعاتها العديدة، إلى وقف القتال بين الأطراف المتصارعة، وتصرفت، في بداية الأزمة، كما لو أنها ترى الصراع على أنه حرب أهلية داخلية بين الأطراف المتصارعة الثلاثة في البوسنة، دون الإشارة إلى العدوان الصربي.

وفي اجتماع بروكسل، قررت الجماعة الأوروبية سحب سفراء دول الجماعة من بلجراد، على وجه السرعة، وعدم الاعتراف بما يسمى الاتحاد الجديد، بين صربيا والجبل الأسود، وتوجيه نداء إلى الاتحاد اليوغسلافي، لسحب القوات الصربية النظامية وغير النظامية في البوسنة، وإعادة فتح مطار سيراييفو، وإرسال رسالة إلى هلسنكي، لتعليق عضوية يوغسلافيا في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين، واستبعادها من عضوية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وتجميد جميع ممتلكات يوغسلافيا السابقة في الخارج.

أما في اجتماع هلسنكي لمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين، فقد أدانت القمة الاعتداءات الصربية على البوسنة، ودعت الهيئات الأوروبية إلى عمليات إغاثة إنسانية، وفرض حصار دبلوماسي وتجاري واقتصادي ضد صربيا، مع الاعتراف بجمهورية البوسنة والهرسك. وأوفدت الجماعة الأوروبية مبعوثها إلى يوغسلافيا اللورد كارينجتون. كما قام الرئيس الفرنسي، ميتران، في 28 يونيه 1992، بزيارة مفاجئة إلى العاصمة سيراييفو، في محاولة لكسر الحصار المفروض على سكان المدينة منذ ثلاثة أشهر. كذلك، قامت بريطانيا باستضافة مباحثات السلام بين الأطراف المتصارعة، في لندن، والتي لم تحقق نجاحاً يذكر.

ويمكن تلخيص الموقف الأوروبي، في هذه المرحلة من الصراع في البوسنة، في رفض القيام بعمل عسكري ضد صربيا، إلا لتأمين عمليات الإغاثة الإنسانية فقط. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، أبرزها أن انتصار أي من القوميتين، الصربية أو الإسلامية في هذا الصراع، ونجاحها في تحقيق أهدافها في بسط هيمنتها كاملة على البوسنة، يثيران المخاوف والشكوك لدى الدول الأوروبية، بالنظر إلى الخلفية التاريخية لكل منهما. سواء بالنسبة إلى رغبة الصرب في إقامة دولة صربية كبرى، تنهض على التوسع على حساب دول البلقان، وبما يؤجج الصراعات داخل جميع هذه الدول، التي يوجد في معظمها أقليات صربية، ويؤدي إلى تغيير موازين القوى في أوروبا. كما أن قيام دولة إسلامية في البوسنة والهرسك، سيعيد للأذهان الحملات التي شنتها الإمبراطورية العثمانية لتوسيع رقعتها في الدول الأوروبية، خاصة أن هناك مخاوف لدى الأوروبيين من تبنّي الدولة الإسلامية في البوسنة لخط إسلامي متشدد، تصبح معه موطئ قَدَم للأصولية الإسلامية، حسب المفهوم الغربي، ونقطة ارتكاز تعيد إلى الأذهان الجهاد الإسلامي والحروب الصليبية، ولا سيما مع وجود نموذج قائم لذلك في إيران، ومع اقتراب البوسنة والهرسك من البلاد العربية الإسلامية في شمال أفريقيا، وتزايد نشاط الجماعات الإسلامية في بلدان المغرب العربي، وهو ما أثار شكوك الدول الأوروبية ومخاوفها من أن تصبح البوسنة مجالاً للنشاط الإسلامي، في جنوب أوروبا، ومركزاً لتصدير المبادئ الإسلامية إلى باقي دول القارة.

وإلى جانب هذه الاعتبارات، السياسية والأيديولوجية، التي قررت معها المجموعة الأوروبية عدم اللجوء إلى الخيار العسكري لوقف الصراع الدائر في البوسنة، فقد كان هناك أسباب أخرى، تمثلت في الخلافات القائمة بين دول هذه المجموعة، حول معالجة قضية البوسنة عسكرياً. فبينما رفضت كل من ألمانيا واليونان الخيار العسكري، لأسباب ودواعٍ تاريخية، فإن فرنسا علقت مشاركتها في عمل عسكري على الموقف الأمريكي. أما إيطاليا والنمسا، فقد عارضتا، لاقترابهما من بؤرة الصراع واحتمالات الانعكاسات السيئة له، مع عدم قدرتهما على استيعاب اللاجئين، ناهيك من انشغال الحكومة الإيطالية بصراعها مع المافيا، وتخوفها على تجارتها في الأدرياتيكي. إلى جانب اتساع نطاق التأييد للصرب، من جانب بلدان بلقانية، اليونان، بلغاريا، رومانيا، وقوة كبرى فاعلة، هي روسيا، وهو ما حال دون اتخاذ مواقف متشددة تجاه الصرب، سواء في إطار الأمم المتحدة، حيث تكفلت روسيا باستخدام الفيتو ضد أي قرار في مجلس الأمن، لاستخدام القوة العسكرية ضد الصرب، أو في إطار الجماعة الأوروبية، بسبب موقف اليونان، وهو الأمر الذي شل قدرة المجموعة الأوروبية على القيام بدور فاعل في هذه الأزمة.

أما بالنسبة إلى تركيا، ورغم أن مسلمي البوسنة والهرسك يشكلون بقايا الإمبراطورية العثمانية على هذه الأرض، وعلى الرغم من أن تركيا أقرب الدول الإسلامية، جغرافياً، إلى البوسنة، فإنها لم تستطع اتخاذ موقف حاد إلى جانب مسلمي البوسنة، حتى لا تتَّهم من جانب الدول الأوروبية، بأنها تساند بقايا إمبراطوريتها القديمة، وأنها تحتضن "الأصولية الإسلامية"، الأمر الذي يفاقم من المصاعب أمام احتمالات ضمها إلى المجموعة الأوروبية. وكانت تركيا قد استوعبت في عام 1992، النتائج التي ترتبت على إعلانها الاستعداد للتدخل العسكري إلى جانب أذربيجان، ضد أرمينيا، في صراعهما حول إقليم ناجورنو كاراباخ، إذ ردت روسيا بالاستعداد للدخول في حرب ضد تركيا، مما دفع تركيا إلى إصدار بيان لتوضيح موقفها، أكدت فيه أن تدخلها العسكري لن يتمّ، إلا في إطار المجتمع الدولي، وتحت مظلة الأمم المتحدة. لذا، حرصت تركيا على أن يكون دورها، في صراع البوسنة والهرسك، داخل إطار حلف شمال الأطلسي ومجلس الأمن، في محاولة للدفع في اتجاه القيام بعمل عسكري، لوقف العدوان الصربي. لذلك، قدَّمت تركيا، في أغسطس 1992، "مشروع قانون" إلى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ينص على قيام طائرات عسكرية بقصف مواقع المدفعية حول سيراييفو.

خلاصة القول في الموقف الأوروبي، أن المجموعة الأوروبية، قد أثبتت عجزها عن إيجاد حل لهذه الكارثة، التي تدور رحاها على عتبة بابها، وبسبب هذا الفشل فقدت مصداقيتها. كما لم يستطع حلف شمال الأطلسي، الذي ظلت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها يصبون فيه موارد ضخمة، على مدى أربعين عاماً، بغية الحفاظ على السلام في أوروبا، أن يُعمِل إرادته في الاضطلاع بالدور المنوط به. فقد كرَّس زعماء دول حلف شمال الأطلسي كل جهودهم، في ابتكار واختراع الأكاذيب، من أجل التغطية على اشتراكهم في هذه المؤامرة. وعندما لاحت فرصة ربيع 1993، لقيام حلف شمال الأطلسي بعمل مؤثر في البوسنة، تم وأدها في المهد، نتيجة ضعف إدارة كلينتون، التي كان في مقدورها أن تقود الحلف، لكي ينفذ سياستها الرامية إلى رفع حظر الأسلحة المفروض على البوسنة، وتوجيه ضربات جوية ضد المعتدي الصربي، إن لم يمتثل لإرادة المجتمع الدولي. ولكنْ لا الأوروبيون أرادوا ذلك، ولا الأمريكيون كانوا جادين وصادقين في ما يعلنونه. والأسوأ من ذلك، ما ثبت من أن الأوروبيين، لا يزالون يعتمدون على قيادة الولايات المتحدة الأمريكية لهم، حتى في ما يتعلق بالتعامل مع المشاكل الأمنية، التي تخص القارة الأوروبية.

وقد أكدت ثلاث مؤسسات بحثية سياسية، في ألمانيا، أنه لم يكن للمجموعة الأوروبية الغربية، في أي وقت مضى، مخطط سياسي مشترك، إزاء يوغسلافيا السابقة. وأن هذه المجموعة، كانت "تفتقر، من البداية، إلى الإرادة في التصدي بحزم للعدوان". وقد أوضح التقرير السنوي لمعهد بحوث الأمن والسلام، الذي نشر في بون، عام 1993، أن الآمال التي كانت معقودة على زوال المواجهة بين الشرق والغرب، قد تقلصت. وأضاف التقرير، "أن الحقيقة، الجديدة القديمة، للحضارة الأوروبية، في نهاية القرن العشرين، هي الاغتصاب الجماعي، والتطهير العرقي، وقصف المدن الآمنة بالمدفعية، وتدمير الحضارة الإسلامية، القديمة والعصرية".


 



[1] من بين هذه الموضوعات ما يتعلق بالمواصلات والإمدادات والطاقة وخطوط الأنابيب وترتيبات المياه

[2] من بين هذه الأمور نزع الملكية للاستخدام العام، تسجيل الأراضي، الوقاية من الحرائق، الغرف التجارية، الإشراف على المنظمات التجارية التعاونية، بنوك الادخار ومؤسسات الإقراض، الإشراف على المؤسسات الخيرية، الضمان الاجتماعي، التأمين، الحفاظ على التراث التاريخي والثقافي والفني والمؤسسات الثقافية مثل المكتبات والمعاهد والمتاحف واستخدام الأراضي، الإسكان، الأسواق، الطرق، وخدمات الطاقة، التعدين، الصيد البري والبحري، خدمات الطبيعة، أنابيب النقل عبر الوحدات التأسيسية، السياحة، الزراعة والغابات، الرعاية الاجتماعية، التعليم، المدارس، الشرطة، التجارة، مظاهر السياسة الاقتصادية الأخرى، الأمن والأعمال العامة، الصحة والرياضة