إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الخامس عشر

ثانياً: مواقف بعض الدول الأوربية من أزمة البوسنة

على الرغم من اقتراب بؤرة الصراع في البوسنة والهرسك، من أوروبا الغربية، وتأثيرها المباشر في جنوبي أوروبا وشرقيها، وفي البلقان، إلاَّ أن الموقف الأوروبي، ممثلاً في الجماعة الأوروبية، ومؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيَّين، ومنظمة حلف شمال الأطلسي، اتسم بالتردد والحذر، والتضارب الجزئي، وإنْ كان في ثنايا موقف أوروبي واحد، لا يختلف حول المضمون؛ فليس هناك اختلافات حادّة في الموقف الأوروبي، لا من ناحية تكييف الأزمة، ولا من ناحية أسلوب التصدي للعدوان الصربي. وقد تبدى الموقف الأوروبي في رفض أي مشروع لدولة إسلامية في أوروبا.

فقد دعت الجماعة الأوروبية، في اجتماعاتها العديدة، إلى وقف القتال بين الأطراف المتصارعة. وتصرفت، في بداية الأزمة، كما لو أن الصراع حرب أهلية داخلية بين الأطراف المتناحرة في البوسنة، من دون الإشارة إلى العدوان الصربي.

وفي اجتماع بروكسل، قررت الجماعة الأوروبية سحب سفراء دولها من بلجراد، على وجه السرعة، وعدم الاعتراف بما يسمى الاتحاد الجديد، بين الصرب والجبل الأسود، وتوجيه نداء إلى الاتحاد اليوغسلافي، لسحب القوى الصربية، النظامية وغير النظامية، من البوسنة، وإعادة فتح مطار سراييفو المغلق، وإرسال رسالة إلى هلسنكي، لتعليق عضوية يوغسلافيا في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيَّين، واستبعادها من عضوية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وتجميد جميع ممتلكاتها السابقة، في الخارج.

وفي اجتماع هلسنكي لمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيَّين، دانت القمة الاعتداءات الصربية على البوسنة، ودعت الهيئات الأوروبية إلى عمليات إغاثة إنسانية، وفرض حصار، دبلوماسي وتجاري واقتصادي، ضد صربيا، مع الاعتراف بجمهورية البوسنة والهرسك.

وقد أوفدت الجماعة الأوروبية مبعوثها إلى يوغسلافيا، اللورد كارينجتون. وبادر الرئيس الفرنسي، ميتران، إلى زيارة مفاجئة، إلى سراييفو. واستضافت بريطانيا مباحثات السلام بين الأطراف المتصارعة، ولكنها لم تحقق نجاحاً يذكر.

وقد تلخص الموقف الأوروبي، مع بداية الأزمة، في رفض أي عمل عسكري ضد صربيا، إلاَّ لتأمين عمليات الإغاثة الإنسانية فقط. وعلى الرغم من تعبير الجماعة الأوروبية عن استيائها من الوضع المأساوي في البوسنة والهرسك، إلاَّ أنها تجاهلت التركيز في اعتداء جمهورية صربيا، والجيش الاتحادي، على المسلمين في البوسنة والهرسك. حتى إن العديد من المسؤولين الأوروبيين، والوسيط اللورد كارينجتون، كثيراً ما هددوا بوقف الوساطة، أو عمليات الإغاثة، وسحب قوات حفظ السلام، إنْ لم تراجع الأطراف في البوسنة مواقفها.

وقد صرح اللورد كارينجتون، حينما عبّر عن استيائه وإخفاقه في وقف إطلاق النار، بأنه لن يحاول التفاوض حول وقف إطلاق النار في البوسنة، إلى أن يصطدم المتنازعون في هذه الجمهوريات بطريق مسدود، أو يقوموا بالقضاء على أنفسهم.

وصرح في حديث آخر بأنه من أجل التوصل إلى فرض احترام وقف إطلاق النار، يجب على الصرب، أن يكتفوا بما ضموه من أراضٍ، أو أن يرى بعض الأطراف المتنازعة (المسلمون على الأرجح)، أنه ضعيف إلى حدّ، لا يستطيع معه مواصلة المعارك. وبطبيعة الحال، كان للمواقف الأوروبية أبلغ الأثر في استمرار الاعتداء الصربي، خاصة مع عدم فاعلية العقوبات الدولية على صربيا.

وتجدر الإشارة إلى أنه لم يوجد، مع بداية أزمة البوسنة، أي خلاف كبير في الموقف الأوروبي، في صددها، بل كان ثمة نوع من التوافق الأوروبي الضمني، حول كيفية الأوضاع في البوسنة والهرسك والنظر إليها. وربما عاد هذا الموقف إلى أن كلاًّ من القوميتَين المتحاربتَين، المتمثلتَين في الصرب والمسلمين، آثارت مخاوف الدول الأوروبية وشكوكها.

إذ إن نشوء دولة صربية توسعية، ذات خلفية تاريخية غير مقبولة في البلقان، قد يؤدي إلى تغيير موازين القوى في أوروبا. كما أن نشوء دولة إسلامية في البوسنة والهرسك، قد يعني تبنّي نهج إسلامي متشدد، ربما تصبح معه البوسنة والهرسك مركزاً وموطئ قَدَم للأصولية الإسلامية، بحسب المفهوم الغربي، ونقطة ارتكاز، تعيد إلى الأذهان الجهاد الإسلامي والحروب الصليبية، خاصة أن البوسنة والهرسك، قريبة من البلاد العربية الإسلامية، في الشمال الأفريقى، وتزايد النشاط الحالي للجماعات الإسلامية في بلاد المغرب العربي، وهى التي تثير العديد من المخاوف، من أن تصبح البوسنة مجالاً للنشاط الإسلامي، في جنوبي أوروبا، ومع قرب البوسنة من دولة الفاتيكان، في روما، يتضح تخوف الغرب من هذه الدولة الوليدة. وعلى هذا النحو، استبعد الموقف الأوروبي الخيار العسكري.

كما أن الجماعة الأوروبية، على الرغم من اتفاقها، ضمناً، حول عدم اللجوء إلى الخيار العسكري ضد صربيا، اختلفت في أسباب استبعادها هذا الخيار. فبينما فرض كلٌّ من ألمانيا وروسيا الخيار العسكري، لأسباب ودواعٍ تاريخية، فإن فرنسا، علقت مشاركتها في عمل عسكري، على الموقف الأمريكي. وقد عارضه كلٌّ من النمسا وإيطاليا، لقربهما من بؤرة الصراع، واحتمالات الانعكاسات السيئة له، مع عدم قدرتهما على استيعاب اللاجئين. ويمكن إضافة انشغال إيطاليا  بالصراع مع ألمانيا، كسبب آخر لذلك، مع خوفها على تجارتها في البحر الأدرياتيكي.

وعلى الرغم من أن التباين في مواقف الدول الأوروبية، هو طفيف، إلاّ أنه لا بدّ من توضيح موقف كلٍّ من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا الاتحادية.

1. الموقف الفرنسي

حرصت فرنسا، منذ بداية الأزمة، على التصريح على لسان رئيسها، ميتران، بأن فرنسا ليست معادية للصرب، ولكنها تؤيد مبدأ حق تقرير المصير، بالنسبة إلى البوسنة.

ومما يذكر أن موقف فرنسا تجاه الأزمة اليوغسلافية، بصفة عامة، قد شهد تدرجاً، خلال فترة الصراع. فبعد أن كان مبنياً على مبدأَين أساسيَّين، هما الحفاظ على وحدة يوغسلافيا، وحق تقرير المصير للأقليات، أصبح مقتصراً على المبدأ الأخير فقط. وعلى الرغم من اعتراف باريس بجمهوريات يوغسلافيا، بما فيها البوسنة، إلاَّ أن السياسة الفرنسية بنيت على أساس تناول كل حالة على حِدة، وبطريقة منفردة.

وتجدر الإشارة إلى أن الموقف الفرنسي، كان من أكثر المواقف الأوروبية ميلاً إلى الموقف الألماني، الذي رأى ممارسة ضغوط على الصرب، بسبب عملياتهم ضد كروات البوسنة. بيد أن الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، عاد ليأخذ موقفاً صريحاً، مؤيداً لخطة فانس ـ أوين، حتى لو كان قد تقرر تعديلها. وقال الرئيس ميتران، في حديث إلى جريدة "لوموند" الفرنسية، إن فرنسا لا تخطط التدخل، بمفردها، في البوسنة والهرسك، وتكتفي بالمشاركة في تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي. وأشار إلى أن فرنسا لم تكن معادية للصرب، ولن تكون كذلك، وإنما هى ضد التعذيب، وستكون كذلك، كما أنها ضد معسكرات الاعتقال، وضد الحرب البوسنية.

كما أعلن رولان دوما، وزير الخارجية الفرنسي، أن بلاده، ستطلب من الأمم المتحدة تشكيل محكمة دولية، لمحاكمة يوغسلافيا السابقة.

وفي 24 أكتوبر 1996، أعلن الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، تشككه في إمكانية إقرار سلام دائم في البوسنة، خلال عام واحد. وأشار إلى صعوبة تجاهل دور روسيا، في عملية إحلال هذا السلام. ودعا إلى إيجاد صيغة، من شأنها منح موسكو جزءاً من مسؤولية صنعه. وحذر واشنطن من إهانة موسكو، عبر وضع قواتها تحت قيادة حلف شمالي الأطلسي، وهو ما أعلنت روسيا رفضها القاطع له. وقد أكد شيراك أنه في حالة سحب الولايات المتحدة الأمريكية لقواتها، التي تعهدت بإرسالها، فإن فرنسا وبريطانيا، ستسحبان قواتهما، من الفور، موضحاً أن ذلك من شأنه أن يساعد على تجدد القتال.

2. الموقف الألماني

على الرغم من أن الموقف الأوروبي الجماعي، ساند خطة السلام الدولية ودعم خطة فانس ـ أوين، إلاَّ أن الموقف الألماني، مال إلى ممارسة مزيد من الضغوط على الصرب، بسبب اعتداءاتهم على كروات البوسنة.

ففي حين أعلن المستشار الألماني، هلموت كول، تأييده، عام 1993، إلغاء حظر تصدير السلاح إلى البوسنة والهرسك، بشروط معينة، وإعطاء المقاتلين الفرصة للدفاع عن أنفسهم، طالب "فولكر روها"، وزير الدفاع الألماني، خلال لقاء دولي لرجال السياسة والأعمال، برفع الحظر المفروض على البوسنة والهرسك، وقال: "أنا مع رفض حظر توريد الأسلحة، لأن توازن القوى، غالباً ما يوقف الحروب".

وكانت ألمانيا أول من اعترف باستقلال كرواتيا وسلوفينيا عن الاتحاد الفيدرالي اليوغسلافي، بعد قمة ماستريخت، التي ضمت رؤساء دول وحكومات "السوق الأوروبية المشتركة"، الإثنتي عشرة، لمناقشة التكامل الأوروبي. بيد أنها لم تكن، وحدها، بين الدول الأوروبية، وذلك لأن هجوم الجيش الوطني اليوغسلافي على فوفوكار، ومدينة دوبوفنيك، ذات الآثار التاريخية، ومدن وقرى كرواتية أخرى، وعلى وجه الخصوص "أوسيك"، كان له تأثير كبير في القضاء على معارضة بعض دول السوق لاستقلال كرواتيا.

واللافت أن الموقف الأوروبي، تضمن اتجاهين: الأول مع التقسيم أو التفتيت، والثاني يخشاهما التقسيم والتفتيت. وتقود الاتجاه الأول ألمانيا والنمسا، وتؤيده، على استحياء، إيطاليا. إذ وجدت بون، التي انكسر حلمها القديم، الفرصة سانحة أمامها، بعد أن صارت القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، كي تعيد إمبراطوريتها المفقودة، بطريقة جديدة، وذلك بأن ترث هي الدول التي خلفها الاتحاد السوفيتي وراءه.

لذلك، كانت ألمانيا هي أول دولة أوروبية تعترف بكرواتيا، التي تربطها علاقات قديمة بها، والتي ستكون رأس السهم، الذي ستوجهه ألمانيا إلى دول أوروبا الشرقية. "فهناك رغبة ألمانية قديمة، تهدف إلى التوسع نحو الشرق، وتحويل الشرق والجنوب الأوروبيَّين إلى أمريكا لاتينية تابعة لها". لذلك، كان موقف ألمانيا، المؤيد للكروات، والمتعاطف مع البوسنة، والداعي إلى استخدام القوة ضد الصرب، متسقاً مع مصالحها وطموحاتها، وعدائها التقليدي للصرب، بوصفهم القوى المنافسة للطموحات الألمانية، والساعية إلى السيطرة على شعوب يوغسلافيا السابقة، خاصة أنهم حلفاء روسيا الجديدة، الراغبة، كذلك، في استعادة مجدها المفقود في أوروبا الشرقية، من خلال الحرب.

بهذا الاعتراف المبكر، خرجت ألمانيا على الإجماع الأوروبي، الذي كان لا يزال ينتظر قرار لجنة التحكيم، التي تبحث مدى التزام الجمهوريات اليوغسلافية بالشروط، التي وضعتها المجموعة الأوروبية للاعتراف بهذه الجمهوريات. وقد وضع هذا الاعتراف أوروبا أمام واقع جديد، "ساعد على إذكاء الصراع"، كما قال كريستوفر، فيما بعد.

وما بين قوة ألمانيا ورغبة بعض الدول في التعلق بها، مثل فرنسا، حيث يلعب المارك الألماني دوراً كبيراً في دعم الفرنك الفرنسي، انحازت باريس إلى جانب بون. وإن كانت، أحياناً، تنسق مع لندن، وتؤدي دوراً كابحاً، في اللحظات الفاصلة، خاصة زيارة الرئيس ميتران مطار سيراييفو، ليؤكد أنه مفتوح، ويقطع الطريق أمام محاولة ألمانيا دفع الدول الأوروبية، والأمم المتحدة، إلى اتخاذ قرار التدخل، عسكرياً، في البوسنة، لحماية الكروات، أساساً. إضافة إلى لقائه ميلوسيفيتش، في محاولة منه لدفع عمليات السلام، بالضغط على صرب البوسنة، وإثبات عدم عدائه للصرب، وتجميل وجه ميلوسيفيتش.

3. الموقف الروسي

كان من الواضح، ولا يزال، أن سياسة الحكومة الروسية، برئاسة يلتسين، إزاء النظام الدولي الجديد، تنهض على عدم الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو أي من الدول الغربية الكبرى. إذ حرص يلتسين على ضرورة وجود تناغم وتناسق في المواقف مع الدول الغربية، إزاء القضايا الدولية والإقليمية. وهي السياسة التي سبقه إليها سلفه، جورباتشوف. وكان ذلك واضحاً تماماً في التعاون، الذي جرى بين واشنطن وموسكو، إزاء أزمة الخليج. وإذا كان البعض يرى، أن هناك تعارضاً بين سياسة كل من واشنطن وموسكو، إزاء مشكلة البوسنة، وذلك بسبب ما يلقاه الصرب من دعم سياسي وعسكري من جانب روسيا، بينما تريد واشنطن معاقبة الصرب على عدوانهم وعدم مكافأتهم، فإن حقيقة الأمر، تشير إلى عدم وجود أدنى تعارض، في الموقف السياسي بين الدولتين.

فكل منهما لم تكن تريد دولة مسلمة في البوسنة، وكل منهما توافق على تقسيم البوسنة، وكل منهما تحبذ إعطاء أكبر مساحة من الأراضي للصرب والكروات، مع إبقاء المسلمين داخل إقليم منعزل، محدود، ومحاصر، ومسيطر عليه من قبل الصرب والكروات. وكل من واشنطن وموسكو، لم تعمل على منع الجرائم البشعة، التي ارتكبها الصرب والكروات، في إطار سياسة التطهير العرقي ضد المسلمين. وكل منهما لا تحبذ استخدام القوة ضد الصرب. ولكن الفرق يبدو فقط في شدة وضوح الموقف الروسي، المؤيد تماماً للعدوان الصربي، بينما الموقف الأمريكي، المتميع، يحرص على أن يبدو أمام الرأي العام متحفظاً، إزاء الممارسات العدوانية الصربية. أما الأهداف والسياسات في كلا البلدين، إزاء هذه المشكلة، فهي واحدة، وكانت تجرى بينهما في تنسيق وتعاون كاملين، بل في توزيع جيد وواضح للأدوار، خاصة عندما كانت تعرض مشروعات القرارات أمام مجلس الأمن، حيث تُظهر أمريكا عدم معارضتها لتوجيه ضربات عقابية ضد الصرب، بينما يتشدد الروس، ويهددون باستخدام حق النقض (الفيتو). وبذلك، كانت تجري عرقلة أي مشروع لقرار جدّي يستهدف إيقاف العدوان الجاري على أرض البوسنة، ومعاقبة المعتدين. وأبرز مثال على ذلك، ما صرح به فيتالي تشوركين، مبعوث روسيا الخاص إلى مباحثات السلام في البوسنة، في جنيف، حين قال: "إن التهديد الأمريكي، بتوجيه ضربات عسكرية ضد الصرب في البوسنة، قد جاء في وقت سيئ جداً. وإن ذلك سيكون له تأثير ضارّ في سير المفاوضات". كما صرح أيضاً: "إن انفراد أمريكا بأي عملية في البوسنة، قد يقوّض التعاون بين القوى الكبرى، الذي أعقب انتهاء الحرب الباردة".

ولقد عبّر الرئيس الروسي يلتسين عن حقيقة الموقف الروسي من قضية البوسنة، حين صرح: "إنه لا يوجد سوى حلَّين فقط، لحسم أي نزاع، ينشب في العالم. فإما أن يحل النزاع بالحرب، أو بالتفاوض. وعلى أصحاب المشكلة أن يفاضلوا بين أحد هذين الحلين". ويتضح من هذا التصريح، أن بوريس يلتسين، الذي كان ثلث أعضاء برلمانه، يقفون إلى جانب السلافيين الصرب، قد استفاد من تردد موقف الدول الغربية، فقرر وجوب تفاوض الكروات والمسلمين مع الصربيين. ومن الناحية العملية، فإن الصرب، لم يكونوا في حاجة من يلتسين إلى أكثر من هذا التصريح، بعد أن وضعوا أيديهم، فعلاً، على 70 % من أراضي البوسنة، لكي يؤجج تعصبهم الأعمى، في حربهم ضد مسلمي البوسنة.

لذلك كانت مشكلة البوسنة ورقة سياسية مهمة، تلعب بها كل من الحكومة الروسية والمعارضة المتشددة لها. فقد اتهمت المعارضة حكومة يلتسين، بانتهاج سياسة خارجية موالية للغرب. وشن المتشددون، في المؤتمر السابع لنواب الشعب، الذي عقد في ديسمبر 1992، هجوماً عنيفاً على السياسة الخارجية الروسية، واتهموا مخططي ومنفّذي هذه السياسة بموالاتهم للولايات المتحدة الأمريكية، في سياستها المعادية للصرب في البوسنة، "الذين يُعَدّون أصدقاء روسيا وحلفاءها القدامى، وهم المرتبطون بالروس بروابط عرقية ودينية قديمة". وكان من نتيجة هذه الضغوط، التي تعرضت لها حكومة يلتسين، أن تبنّت موقفاً سياسياً تجاه مشكلة البوسنة، عُدَّ، بجميع المقاييس، منحازاً إلى الصرب. وتمثلت أبعاده في الآتي:

أ. تأييد حكومة بلجراد، في سياستها إزاء البوسنة، مع السعي إلى تخفيف العقوبات المفروضة عليها.

ب. استخدام حق الاعتراض (الفيتو) في مجلس الأمن، لمنع توجيه ضربات عسكرية ضد مواقع الصرب في البوسنة، ولمنع رفع الحظر المفروض على إرسال السلاح إلى الأطراف المتصارعة هناك. وإذا ما صدر قرار من مجلس الأمن، يقضي برفع الحظر المفروض على إرسال السلاح، وتمكنت الدول الإسلامية من تقديم يد العون العسكري إلى مسلمي البوسنة، فإن موسكو يجب أن تكون مستعدة لتقديم مساعدات مماثلة إلى صرب البوسنة.

ج. تشجيع المنظمات والهيئات الدولية الخاصة على إرسال المتطوعين الروس، ومن دول سلافية أخرى، للقتال مع صرب البوسنة، ضد المسلمين والكروات.

د. العمل على إرضاء الدول الإسلامية، من خلال إقناعها باستعداد روسيا لإرسال قوات كبيرة لحفظ السلام في البوسنة، في إطار الأمم المتحدة، ولكن بعد أن تتوصل الأطراف المتنازعة إلى اتفاق حول خريطة تقسيم البوسنة.

وعندما وضعت موسكو هذه السياسة موضع التنفيذ،كان واضحاً لكل المراقبين، أن روسيا تتصرف في المحافل الدولية، وكأنها وكيل الصرب، وأنها الشقيق الأكبر المدافع عن الشعوب السلافية، وذات الالتزام التاريخي بحمايتها، والدفاع عنها. وإلى جانب تزايد العلاقات السياسية والاقتصادية بين الحكومة الروسية وحكومة صربيا والجبل الأسود وصرب البوسنة، فإن الدعم العسكري الروسي لصرب البوسنة بالسلاح وبالمتطوعين، لم يتوقف، إذ كان ينقل المتطوعون الروس من مطار بطرسبرج إلى بلجراد جواً أو بالقطار. كما كان في بطرسبرج، وبعض المدن الروسية الأخرى، نقاط تجميع لهؤلاء المتطوعين، وأغلبهم ضباط في الجيش السوفيتي السابق، حيث يتلقون إعداداً عسكرياً خاصاً، في قواعد سرية في روسيا، وتدريباً مركّزاً لمدة أسبوع. وتتكفل دولة الصرب بمصاريف نقل المتطوعين إليها من روسيا، والتي تصل إلى 100 دولار للفرد. ويتقاضى المتطوع الروسي 25 دولاراً في الشهر، خلاف طعامه، وعندما يُقتَل أحدهم في الحرب، ترسل دولة الصرب معاشاً شهرياً لأسرته في حدود 20 دولاراً. كما أبرمت صربيا صفقة أسلحة مع حكومة روسيا، قيمتها 360 مليون دولار، تشمل بطاريات صواريخ أرض/جو، ودبابات روسية، تـ 55، لمصلحة صرب البوسنة.

على الرغم من أن روسيا، في هذه المرحلة من الأزمة، حافظت على دورها في النظام الدولي، كما حدده جورباتشوف، قبل تفكك الاتحاد السوفيتي، إذ التحرك يأتي في إطار عدم الصدام مع السياسة الأمريكية، ومحاولة توظيف هذا التعاون، مع مكونات السياسة الخارجية الروسية، في الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية. وعلى الرغم من ذلك، فإن الموقف الروسي من الصراع الدائر في البوسنة، جاء ليمثل استثناء من هذه القاعدة، وذلك بفعل ضغوط الجناح المحافظ، كما بدا واضحاً في المؤتمر السابع لنواب الشعب، الذي عقد في مطلع ديسمبر 1992. في هذا المؤتمر، شن رموز الجناح المحافظ هجوماً شديداً على مخططي ومنفذي السياسة الخارجية الروسية، مع اتهامهم بانتهاج خط موال للولايات المتحدة الأمريكية، بل اتهام الحكومة الروسية بـ "التوجه الأمريكي"، والمبالغة في إرضاء الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أجبرت هذه التطورات الرئيس الروسي، يلتسين، على مطالبة مجلس الأمن القومي الروسي، بمراجعة المنهج السياسي، من خلال دراسة معمَّقة لشؤون البلقان. وطرح يلتسين على هذا المجلس سؤالاً مفاده: "هل الصرب يتحملون المسؤولية كاملة عما يجري في البوسنة، كما يقول الغرب؟". وسافر فيتالي تشوركين، نائب وزير الخارجية الروسية إلى بلجراد، وأعدّ تقريراً، قدّمه إلى مجلس الأمن القومي الروسي، أوصى فيه بأن تعمل روسيا على اتخاذ موقف أكثر توازناً من بلجراد، والسعي إلى تخفيف العقوبات المفروضة عليها. وهو التقرير الذي وافق عليه الرئيس يلتسين، وعقد اجتماعات مع مستشاريه، لبحث الوضع في يوغسلافيا، وانتهي إلى تأكيد تزايد خطر التدخل السافر للغرب في النزاع، إلى جانب المسلمين، وتزايد المساعدات العسكرية، التي يحصلون عليها من دول إسلامية، مثل إيران. وتم الاتفاق على استخدام حق الفيتو، إذا بحث مجلس الأمن موضوع التدخل العسكري في يوغسلافيا. كما تم بحث إمكانية قيام روسيا بتقديم مساعدات عسكرية إلى بلجراد، إذا ما تم إلغاء الحظر على تزويد البوسنة بالسلاح.

وكانت مصادر المخابرات الغربية، قد أشارت إلى أن روسيا الاتحادية، تزوّد صربيا والجبل الأسود بالسلاح. كما أن العلاقات الاقتصادية بين روسيا وصربيا في تزايد، وهو أمر لم يكن مستغرباً في ضوء تصاعد القوى، التي ترى في روسيا "الشقيق الأكبر" للشعوب السلافية، وذات الالتزام التاريخي بحمايتها والدفاع عنها.

ارتبطت روسيا، تاريخياً، كما هو معروف، بصلات وثيقة بالصرب الأرثوذكس. ولذلك، اتخذت موقفاً مسانداً لصرب البوسنة، ضد كلٍّ من المسلمين والكروات. ومما يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية، حرصت على إشراك روسيا في عملية إحلال السلام في البوسنة، لتأكدها من استخدام روسيا حق النقض (الفيتو)، في مصلحة الصرب. ومن ناحية أخرى، طالب بعض الصربيين، بالفعل، بالتدخل الروسي في البوسنة، لمساندتهم ضد كلٍّ من المسلمين والكروات، بحكم الرابطة الدينية بينهم وبين روسيا، فكلاهما ينتمي إلى المذهب  الأرثوذكسي. وفي هذا السياق، يمكن القول إن الموقف الروسي، قد اتسم، من البداية، بتعاطف واضح مع الصرب، وهو تعاطف يمتد إلى العهد القيصري الروسي، وإلى فترة القضاء على الإمبراطورية العثمانية، حين وُزِّعت الأدوار على أسُس عرقية أو طائفية.

وكان الروس يؤيدون مسيحيي الإمبراطورية ضد السلطة العثمانية، وفي ظل الحكم الفيدرالي الإشتراكي، بزعامة تيتو، ظلت روسيا قريبة من صربيا، التي قاتلت مع الحلفاء، في الحرب العالمية الثانية. وهو السبب نفسه للتعاطف، البريطاني والفرنسي، مع صربيا. في الوقت الذي مالت فيه كرواتيا وسلوفينيا إلى دول المحور، وكانت البوسنة والهرسك ضحية لهذه الحرب.

وفي الأزمة الحالية للبوسنة، ظاهرت روسيا صربيا، وحرص الرئيس يلتسين على إبراز موقف روسي مميز عن الموقف الأمريكي، في هذا الخصوص. وقد تعمد يلتسين أن يعلن هذا الموقف، صراحة. وعندما أعلن الوسيطان، سايروس فانس، الأوروبى، وديفيد أوين، خطتهما الجديدة، في خصوص تحقيق السلام في البوسنة والهرسك، ألقت روسيا بثقلها وراء الخطة، وحث نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافورف، مجلس الأمن على دعم الخطة، وعارض رفع حظر السلاح عن البوسنة والهرسك، كما دعا إلى رفع الحصار عن سراييفو التي كانت محاصرة.

وحرص يلتسين، من جانبه، على بلورة موقف روسي متميز عن الموقف الأمريكي؛ إذ أيد خطة فانس ـ أوين، واستمر في معارضة رفع حظر السلاح عن البوسنة والهرسك.

وكان الموقف الروسي أكثر المواقف وضوحاً وفاعلية، في دعمه للصرب، وفي خرقه لقرارات الحظر، المفروضة على الصرب، حتى أن جريدة "بوليكا" اليوغسلافية، قالت: "إن هناك ضغوطاً روسية قوية على أمريكا وفرنسا، لوقف التهديد بالتدخل العسكري، إلى درجة أن ميتران عدل عن موقفه، بعد الضغط الروسي، وندد بمثيري الحروب، الذين يطالبون فرنسا بالتدخل العسكري في البوسنة". وأكد دبلوماسي روسي "أن يلتسين يعد يوغسلافيا خطاً أحمر. وهو مستعد للقبول بتكدر علاقاته مع أمريكا، إذا طالبت بتدخل عسكري ضد الصرب". وأضاف "أن جولات وزير الخارجية الروسي في يوغسلافيا، فتحت عينيه على مصالح روسيا الفعلية هناك".

لقد أدركت روسيا أهمية الصرب، بالنسبة إليها، في إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية، واستعادة نفوذها المفقود، مرة أخرى، في دول المعسكر الاشتراكي السابق. وفي ظل منافسة ألمانية، فإن إعادة ترتيب يوغسلافيا، مرة أخرى، تحت زعامة الصرب، ستؤدي إلى نجاح هذا التوجه الروسي الجديد، إضافة إلى استخدام الصرب ودعم الروس لهم، كورقة، للمساومة مع القوى الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما حدث. فقد وصل الأمر إلى حدّ استخدام البوسنة، بكل ما فيها من جرائم ومذابح، ورقة في دعم موقف يلتسين، داخلياً، في مواجَهة خصومه، الذين يتهمونه بالخيانة القومية، والسير في فلك واشنطن. وأُرجئ التصويت على قرار بتشديد العقوبات ضد الصرب، إلى ما بعد الاستفتاء، داخل روسيا، دعماً ليلتسين، "الذي يواجه ضغوطاً متزايدة، من جانب البرلمان الروسي، من أجْل معارضة فرض عقوبات أخرى على جمهورية الصرب".

وقد جرى ذلك "في إطار الصفقة الأمريكية ـ الروسية؛ إذ وافق الرئيس كلينتون على طلب الرئيس الروسي، تأجيل، التصويت على القرار أثناء لقائهما، في فانكوفر، حتى لا تتأثر شعبية يلتسين أمام منافسيه في البرلمان". وكان الرئيس الأمريكي قد صرح بـ "أن روسيا هي التي تقف وراء عدم التدخل العسكري في البوسنة، نتيجة للعلاقات التاريخية بينها وبين الصرب". وأشار إلى أن "التدخل العسكري ضد صربيا، يعرض موسكو للخطر".

لقد استطاعت روسيا أن تؤدي دوراً فعالاً في الأزمة اليوغسلافية، في مصلحة الصرب، عموماً، مستغلة تخبط الغرب وتردده وخوفه من وجود دولة بوسنية موحدة، ذات أغلبية إسلامية. ولم تكن موافقة موسكو على فرض عقوبات اقتصادية على بلجراد، إلاَّ موافقة شكلية؛ إذ واصلت دعمها للصرب، وأبقت على الاتصال الدائم بالعالم الغربي. وبذلك، تمكنت من أداء دور أفضل، في مصلحة الصرب، واستثمرت هذه الأزمة جيداً، لتؤكد التزامها التاريخي تجاههم، فضلاً عن تأكيدها أهمية دورها في النظام العالمي الجديد، وضرورة عدم تجاهلها في أي تسوية، تخص يوغسلافيا، أو دول أوروبا الشرقية.

من أجْل ذلك كله، هذا أصبح الصراع في البوسنة، بكل ما فيه من وحشية ولاإنسانية وجرائم، خاضعاً لصراعات روسيا الداخلية، والتفهم الأمريكي لكل ذلك، ومراعاة المصالح الأمريكية ـ الروسية المشتركة، من خلال دعم طرف في مواجَهة طرف آخر. باختصار، أصبحت المشكلة اليوغسلافية، ومحنة شعب البوسنة، فرصة لاستعادة روسيا دورها، كقوة عظمى، ولو في هذه المنطقة فقط. وانحصر الهدف الأمريكي في مساعدة يلتسين على الحدّ من نفوذ الشيوعيين والقوميين، وإن كان ذلك على حساب البوسنة، وفناء شعبها.

4. الموقف البريطاني

عكس الموقف البريطاني، تجاه أزمة البوسنة، أكثر المواقف الأوروبية تشدداً. إذ تمسك، في البداية، بمساندة خطة فانس ـ أوين، ورفض ممارسة أي نوع من الضغوط على الصرب. لقد مثل الموقف البريطاني نقيض الموقف الألماني؛ إذ ذكرت جريدة "صنداي تايمز" البريطانية، أن جون ميجور، رئيس الوزراء البريطاني، كتب إلى الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون، يحذره من أي قرار متسرع، ولا سيما قراراً عسكرياً، يمكن أن تتخذه واشنطن. وأشار ميجور إلى معارضته بعض الخيارات، مثل قصف المدفعية الصربية أو إمكانية حصول البوسنيين المسلمين على أسلحة، مما يمكن أن يؤدي إلى تزايد حِدّة المعارك، فتفاقم الخسائر، خاصة في الكتيبة البريطانية، العاملة في إطار قوة الجماعة الدولية.

كما أكد دوجلاس هيرد، وزير الخارجية البريطاني، عام 1993، أمام اجتماع وزراء خارجية المجموعة الأوروبية، في بروكسل، أن التسوية في البوسنة والهرسك، يجب التوصل إليها من خلال المفاوضات فقط، وأن القرارات الأساسية، ترجع إلى السكان المحليين وزعمائهم.

أمّا مارجريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، فقد رفضت موقف بريطانيا المتخاذل تجاه مسلمي البوسنة. ودعت إلى تسليح البوسنيين، وإلغاء الحظر العسكري المفروض عليهم.

ومما يذكر أن بريطانيا، عند بداية أزمة البوسنة قد تباطأت في الاعتراف بالجمهورية المستقلة، إذ رأت أن الإسراع في هذا الاعتراف، يمكن أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، كما أن هذا الاعتراف، لن يؤدي، بالضرورة، إلى وقف إطلاق النار.

5 . الموقف البريطاني ـ الفرنسي، في نهاية 1992

بينما كان الرأي العام العالمي يهتز لما نزل بالمسلمين في البوسنة والهرسك، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان، في كلمته السابق الإشارة إليها ـ اتصف الموقف البريطاني بالجمود، الذي كان عليه منذ بداية الأزمة. فها هو رئيس وزراء بريطانيا، جون ميجور، يلقي كلمة أمام البرلمان البريطاني، يقول فيها: "إننا نعارض استخدام قوة عسكرية خارجية، لإنهاء النزاع في البوسنة والهرسك. كما أصرّت بريطانيا على منع رفع حظر الإمدادات بالسلاح للبوسنة، وهو الموقف نفسه لفرنسا وألمانيا. كذلك رفضت توجيه ضربات جوية بواسطة حلف شمال الأطلسي ضد المدفعية الصربية، وأعلن دوجلاس هوج، وزير الدولة البريطاني، رفض بلاده لهذه الخيارات. ولكنه شدد على ضرورة استمرار المفاوضات من أجل التوصل إلى حل سياسي. ورغم أنه اعترف بأن المجموعة الأوروبية، لم تتعامل بالشكل الملائم مع أزمة يوغسلافيا (السابقة)، وخاصة في مسألة البوسنة والهرسك، واضعاً اللوم كله على أجهزة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية الأخرى، فإن كل ما حرص على تأكيده هذا الوزير البريطاني، هو أن النشاط الدبلوماسي لبريطانيا في شأن أزمة البوسنة، إنما يستهدف ويؤكد إثبات الحضور البريطاني في أوروبا والعالم، كقوة مؤثرة في إدارة مثل هذه الأزمات، وأنها تسهم، مثل دول قليلة أخرى، في قوات حفظ السلام الدولية على أرض البوسنة. كما طالب بإرسال مزيد من القوات الدولية وبصلاحيات أوسع، بدلاً من القيام بعمل عسكري محدود، لن يكون، في زعمه، مضمون النتائج، ضد قوات صربيا الأقوى. وقد دافع الوزير دوجلاس هوج عن موقف بلاده بعدم استخدام القوة قائلاً: "إن أي حل سياسي هو أفضل ألف مرة من إرسال جندي واحد إلى أرض القتال في البوسنة، التي تشهد حرباً أهلية بين ثلاثة أطراف".

ولقد عبرت مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، عن رأيها، مفجِّرة موقفاً معاكساً للموقف الرسمي البريطاني، حين قالت في مجلس العموم إنها تشعر "بالخزي من تخاذل الغرب عموماً وأوروبا وبلدها وحزبها وخليفتها في الحكم". وطالبت كل من تحمّل المسؤولية بضرورة أن يتخذ الخطوات اللازمة لحسم هذه المهزلة، والتي تتطلب، في رأيها، تدخلاً عسكرياً غربياً، يضع حداً للعدوان الصربي، ورفع الحظر المفروض على توريد السلاح للمسلمين هناك. ولكن رغم هذا الموقف من جانب تاتشر، وربما لم تكن لتتخذه، لو كانت في الحكم، تحت ضغط القيود العديدة التي تحكم القرار السياسي الغربي ـ فقد أصرت الحكومة البريطانية على موقفها في عدم التدخل العسكري، ومنع تزويد المسلمين بالسلاح، بزعم أن ذلك يوسع رقعة الصراع.

ولم يختلف الموقف الفرنسي كثيراً عن الموقف البريطاني، في نهاية 1992، فعلى الرغم من المظاهرة الإعلامية المكشوفة، التي واكبت زيارة الرئيس ميتران إلى سيراييفو، أثناء حصارها، والتي وُصفت بأنها "مغامرة إنسانية"، لكونها جرت تحت أخطار القصف المدفعي الصربي للمدينة. وصرح، يومها، ميتران بأنه شاهد مشاهدة العين حجم المأساة الدموية، التي يحياها مسلمو البوسنة، ثم عاد إلى باريس، معلناً تحمسه للتدخل الفرنسي والأوروبي، لإنقاذ مسلمي البوسنة من المذابح التي تجري لهم، وحماية الآثار التاريخية من التدمير ... وبعدها عاد الصمت إلى قصر الأليزيه من جديد. وقد كشفت مصادر البوسنة، بعد ذلك، أن الرئيس الفرنسي، ميتران، فاجأ خلال تلك الزيارة الرئيس بيجوفيتش، بقوله: "إننا نشتم منكم رائحة الأصولية، وإننا لن نرضى بقيام دولة أصولية في أوروبا. لذلك، لم يكن غريباً، عندما أرسلت فرنسا قواتها للعمل في البوسنة، تحت راية الأمم المتحدة، أن تبدى انحيازاً واضحاً إلى الجانب الصربي. وهو ما تمثل، بوضوح، في منعها مسلمي سيراييفو الفارين من جحيم القصف الصربي، من استخدام طريق المطار للنجاة، حيث كانت تسلط عليهم الأنوار الكاشفة، لتسهل على قناصة الصرب اصطيادهم ومنعهم من الفرار. كما عملت القوات الفرنسية على سحب أسلحة المسلمين المحاصرين في المناطق الأمنية بعد ذلك، وتمكين القوات من احتلال المناطق التي يخليها المسلمون، كذلك، كثيراً ما كانت تتلكأ القوات الفرنسية في إرسال قوافل الإغاثة إلى السكان المحاصرين في المدن المسلمة، بحجة تعرضها لنيران المقاتلين. ولكن الحقيقة التي يعلمها الجميع، أن لا دواء ولا غذاء، كان يصل إلى الضحايا، بل كانت القوات الصربية والكرواتية تستولي على الكثير منه، ويباع الباقي في السوق السوداء. أما الهدف الحقيقي من وراء وجود هذه القوات الدولية، فهو توفير المبرر والذريعة لسحب أسلحة المسلمين، بدعوى أن القوات الدولية ستتولى الدفاع عنهم، فلا هم دافعوا عن المسلمين، ولا تركوهم يدافعون عن أنفسهم. بل أصبح مجرد وجود القوات الدولية ذريعة تحول دون قيام حلف شمال الأطلسي بتوجيه ضربات جوية أو المبادرة إلى عمل عسكري ضد الصرب، بزعم التخوف على هذه القوات الدولية من أن تتعرض للخطر، وتتحول إلى رهائن في أيدي الصرب. كما هدد كرادازيتش بذلك فعلاً. بل لقد وصل الأمر إلى قيام هذه القوات الدولية بتجريد المسلمين من أسلحتهم، استجابة لشروط الصرب لوقف إطلاق النار.

وظلت بريطانيا، في الظاهر، غير مبالية وإن كانت تؤدي دوراً في مصلحة الصرب، حلفائها القدامى، وذلك بهدف الحد من الطموح الألماني، من خلال الوسيطَين البريطانيَّين، اللورد كارينجتون واللورد أوين، اللذين كان دورهما الأساسي، هو تحذير الطرف البوسني وتهديده والضغط عليه، في مصلحة الصرب، عادة. فكثيراً ما هدد اللورد كارينجتون بالانسحاب من الوساطة، ووقف عمليات الإغاثة، إذا لم يغيّر الطرف البوسني موقفه. وهو ما فعله اللورد أوين، طوال فترة وساطته، إنما بشكل أكثر حدَّة ووضوحاً؛ إذ عارض فكرة رفع الحظر عن إرسال السلاح إلى البوسنة، وأعلنها واضحة: "ليس أمامكم إلاّ القبول، أو الموت". لقد كان الصرب يمهدون، بالسلاح، لفرض الأمر الواقع على البوسنة والعالم. وكان أوين يواصل، هو الآخر، تأكيد هذا الواقع وتثبيته، من خلال الضغوط على المفاوض البوسني لقبوله.

وطالما عارضت بريطانيا فكرة التدخل العسكري، بحجة حماية أفراد قوات الأمم المتحدة في البوسنة. وهو ما جعل رئيس البوسنة يطالب بسحب هذه القوات. والمرجح أن هذا الموقف البريطاني، في جوهره، ما هو إلى محاولة بريطانية لعرقلة المشروع الألماني في المنطقة، خاصة أن الحرب، تفجرت أثناء محاولة عقد مؤتمر لزعماء البلقان (1991)، لوضع أُسس السوق البلقانية المشتركة، والاتفاق على النظام والقواعد، التي تحل مشاكل النزاع بين الأقليات وحقوقها، وما يتفرع منها وهي سوق لو تشكلت، لكان للألمان، بوصفهم القوة الاقتصادية، النصيب الأكبر والفعال فيها. إضافة إلى أنها ستخلق مصلحة مشتركة بين دول البلقان، قد تدفعها إلى حل الخلافات بينها بطريقة أخرى، غير السلاح والتوسع. هذا الموقف البريطاني، وصفه نائب رئيس البوسنة بقوله: "إن الإنجليز يرغبون في خلق فوضى في البلقان. لذا، فهُم يحتاجون إلى الصرب، لإعادة المنطقة، من جديد، إلى حظيرة الاستعمار الاقتصادي.

وهكذا، كان لاختلاف مصالح الأطراف الأوروبية وتوجهاتها دور حاكم في مواقفها. إضافة إلى نظرتها إلى الحرب الدائرة على أنها حرب أهلية داخلية، وليست عدواناً من صربيا، وأحياناً، من كرواتيا على البوسنة. يُضاف إلى كل ذلك وجود خوف حقيقي، لدى الأطراف الأوروبية، من نشوء دولة صربية كبرى، أو دولة إسلامية، في قلب أوروبا. وكانت الحرب الدائرة فرصة لوأد الاثنتين معاً، إذا أمكن، وإنْ كان الطرف الكرواتي، هو المستفيد الأول من ذلك.


 



[1] من بين هذه الموضوعات ما يتعلق بالمواصلات والإمدادات والطاقة وخطوط الأنابيب وترتيبات المياه

[2] من بين هذه الأمور نزع الملكية للاستخدام العام، تسجيل الأراضي، الوقاية من الحرائق، الغرف التجارية، الإشراف على المنظمات التجارية التعاونية، بنوك الادخار ومؤسسات الإقراض، الإشراف على المؤسسات الخيرية، الضمان الاجتماعي، التأمين، الحفاظ على التراث التاريخي والثقافي والفني والمؤسسات الثقافية مثل المكتبات والمعاهد والمتاحف واستخدام الأراضي، الإسكان، الأسواق، الطرق، وخدمات الطاقة، التعدين، الصيد البري والبحري، خدمات الطبيعة، أنابيب النقل عبر الوحدات التأسيسية، السياحة، الزراعة والغابات، الرعاية الاجتماعية، التعليم، المدارس، الشرطة، التجارة، مظاهر السياسة الاقتصادية الأخرى، الأمن والأعمال العامة، الصحة والرياضة