إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث السابع عشر

المبحث السابع عشر

الرأي العام العالمي وعودة إلى المتاهة الدولية

أولاً: موقف الأمم المتحدة

اتخذ مجلس الأمن الدولي قراره (743)، في 21 فبراير 1992، بإرسال قوات لحفظ السلام في (الجمهوريات اليوغسلافية)، بعد قتال عنيف بين الكروات والصرب، استمر نحو ستة أشهر. وتضمن القرار، طلباً إلى جميع الأطراف المتصارعة في يوغسلافيا، "التعاون تعاوناً كاملاً على تطبيق خطة الأمم المتحدة لحفظ السلام". وتضمنت الخطة المشار إليها نشر القوات الدولية في ثلاث مقاطعات هي سلوفينيا الغربية وسلوفينيا الشرقية وكرايينا، لتصبح منزوعة السلاح، وتشرف عليها قوات الأمم المتحدة. كما طلب قرار مجلس الأمن التعاون الكامل مع "المؤتمر الدولي حول يوغسلافيا، الذي يرأسه البريطاني، اللورد كارينجتون".

وذكر أن نفقات هذه العملية، التي عُدَّت أضخم عملية، تضطلع بها الأمم المتحدة، بعد عملية الكونغو، عام 1960، قدرت بمبلغ 634 مليون دولار، لمدة سنة؛ ستدفع الولايات المتحدة الأمريكية منها ما نسبته 30%. وطلب إلى 31 دولة المشاركة في قوات هذه العملية، منها الأرجنتين وأستراليا وبلجيكا وبنجلاديش والبرازيل وكندا وكولومبيا وتشيكوسلوفاكيا والدانمارك ومصر وفنلندا وفرنسا وغانا ونيجيريا والبرتغال وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وسنغافورة والسويد وسويسرا وبريطانيا وفنزويلا. وتقرر تنظيم القوة من (10400) رجل من المشاة، في 12 فرقة، إضافة إلى 2840 رجلاً، للدعم والعمل في القيادة والأجهزة الإدارية (اللوجيستية)، علاوة على مائة مراقب عسكري، ووحدة جوية واحدة، من أربع طائرات، وست وعشرين طائرة عمودية.

تجدر الإشارة إلى أن تدخّل الأمم المتحدة، قد جاء بناء على جهود أوروبية ـ أمريكية مشتركة؛ واستناداً إلى تقارير المكلف بالملف اليوغسلافي في الأمم المتحدة، سايروس فانس. ولهذا، أمكن، دونما جهد كبير، القضاء على معارضة بعض الأطراف، ومنها الكرواتي والصربي، عند صدور قرار مجلس الأمن بالتدخل. وما لبثت قوات الأمم المتحدة أن انتشرت في مناطق القتال، بين الكروات والصرب.

وقد يكون في المستطاع، تجاوزاً، القول إن ثمة أسباباً للاقتتال بين الطرفَين، الكرواتي والصربي. منها ما يتعلق بالصناعة الحربية، والجيش، والاقتصاد وسواها؛ إذ يسيطر الصرب على كل إدارات الدولة ومؤسساتها، ناهيك أن موقع كرواتيا البحري، يغريهم بالمحافظة على نوع من الهيمنة عليها. فالمعروف أن يوغسلافيا (سابقاً)، كانت تمتلك بحرية قوية، تضم عشر غواصات، وخمسة زوارق صواريخ، وأربع عشرة صائدة ألغام، وخمساً وثلاثين سفينة برمائية، إضافة إلى عدد آخر من سفن الإمداد والنقل، والسفن المتنوعة الأخرى. وهذه القوة كانت مخصصة للدفاع عن ساحل، يمتد بطول ستمائة كيلومتر، ويصل إلى 2300 كم، إذا ما أُضيف إليه كل الجزر والخلجان، التابعة ليوغسلافيا (سابقاً). وعند استقلال كرواتيا، فإن طول الساحل الصربي، لن يتجاوز مائة كيلومتر، في حين يكون الشريط الساحلي الكبير من نصيب كرواتيا، التي تنتشر على مسافة 80 % من الساحل اليوغسلافي القديم. وهكذا، فإن استقلال كرواتيا، سيجعل منها دولة، تمتلك بحراً، ولكن من دون قوة بحرية. بينما تكون صربيا والجبل الأسود دولة، تمتلك قدرة بحرية كبيرة، ولكن من دون بحر. وقد كان لذلك دوره في الصراع الكرواتي ـ الصربي. 

ولكن، هل هناك سبب للاقتتال بين الصرب والمسلمين، أو حتى بين الكروات والمسلمين، غير التعصب الصليبي الأعمى؟

وهل يمكن أن يقع مثل هذا الاقتتال، بعد أن ألقى مجلس الأمن الدولي بثقله، فاتخذ قراره، في 21 فبراير 1992، وأرسل قواته للمحافظة على وقف إطلاق النار؟

ما إن هدأ الاقتتال بين الصرب والكروات، على جبهة كرواتيا، حتى توجه الصرب نحو الجهة الأخرى، جهة المسلمين، في البوسنة والهرسك. ولئن عجز الصرب عن تحقيق نصر حاسم، أو كبير، على جبهة الكروات؛ بسبب توافر الدعم الألماني ـ النمساوي، بخاصة للكروات، فقد كانوا يتوقعون تحقيق نصر حاسم على الجبهة الجديدة؛ بسبب افتقار الطرف الآخر إلى القوات والأسلحة. ولم يكن من الصعب إشعال فتيل الحرب، ما دامت نسبة من الصربيين موجودة في البوسنة والهرسك. وهكذا، ومع مطلع شهر أبريل، بدأت العصابات، الميليشيات، الصربية استفزازاتها وأعمالها العدوانية ضد المسلمين والكروات، في البوسنة والهرسك.

ويمكن التوقف عند ما تناقلته وكالات الأنباء، بعد شهر ونصف، تقريباً، من بداية الاقتتال على هذه الجبهة: استؤنفت المعارك في عاصمة البوسنة والهرسك (سيراييفو) بعد ساعات قليلة من إعلان الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالي، أنها أصبحت مكاناً خطراً جداً؛ على كونها مقراً للقيادة العامة للقوات الدولية في يوغسلافيا. وذكر أن قتالاً ضارياً تدور رحاه في شوارع وضواحي سيراييفو وأحيائها، منها المنطقة المحيطة بمبنى القيادة العامة للقوات الدولية. ويصد المدافعون عن المدينة، ببسالة، الهجوم المدعوم بالمدرعات، الرامي إلى توسيع منطقة نفوذ الصرب في العاصمة، والذي يؤكد أن وقف إطلاق النار، الذي أعلنه الصرب، لم يكن أكثر من خدعة. ورافق الهجوم قصف عنيف بقذائف المدفعية الثقيلة والدبابات ومدافع الهاون، مما أدى إلى اشتعال الحرائق، وتدمير مبانٍ أثرية ومنشآت مهمة كثيرة، من بينها المقر الرئيسي للإذاعة والتليفزيون، ودار المتقاعدين، التي تتخذ منها القوات الدولية مقراً عاماً؛ والتي أُصيبت بعدد من القذائف، وعمارة الغرفة التجارية، حيث يقع المركز الصحافي الدولي للبوسنة ـ الهرسك، إضافة إلى مصانع ومباني شركات كبيرة. وسقطت خمس قذائف هاون على الفندق، الذي تستخدمه قوات الأمم المتحدة مقراً لها، فأُصيب جندي كندي من قوة حفظ السلام الدولية، بجروح، كما اشتعلت النار في 12 سيارة تابعة للمنظمة الدولية.

وعلى أثر ذلك، وجّه رئيس الجمهورية، علي عزت بيجوفيتش، نداءً إلى المواطنين، من تليفزيون سيراييفو، دعاهم فيه إلى الدفاع عن العاصمة ودحر العدوان. كما طلب عضو قيادة الدفاع المحلي في البوسنة، العقيد بوفان ديفياك، في بيان بثته الإذاعة، من كل المواطنين القادرين على حمل السلاح، الالتحاق بمراكز الدفاع المحلي، من الفور. وبثت إذاعة سيراييفو، كذلك، نداءً، وجّهه مدير الإعلام في مجلس رئاسة جمهورية البوسنة والهرسك، خيرالدين سايمون، دعا فيه الأطراف المتحاربة إلى تمكين الصحافيين الأجانب، المحتجزين في الفنادق، التي تتعرض للقصف، من الانتقال إلى أماكن أخرى أكثر أماناً.

أمّا الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالي، فقد صرح بأن الصرب يتحملون المسؤولية الكبرى عن الحرب الدائرة في البوسنة. وأعلن بعد اطّلاعه على تقرير مبعوثه إلى يوغسلافيا، مارك دولدينج، أنه لا يمكن إرسال قوات دولية إلى البوسنة؛ بسبب غموض الموقف. كما أنه ليس في المستطاع استجابة طلب المسؤولين في البوسنة، نشر هذه القوات، ما دام القتال مستمراً.

وتبعاً لذلك، فقد جرى تخفيض عدد العاملين في مقر القيادة العامة للقوات الدولية، في سيراييفو، حتى الثلث، فلم يبق منهم أكثر من مائتي جندي، بسبب الأخطار المحدقة بهم، نتيجة المعارك الضارية حول مبنى القيادة. وذكر أن المعارك الضارية، تدور رحاها، كذلك، في سبع مدن أخرى، في البوسنة، معظم سكانها من المسلمين، وبينها موستار وبنجاتش وخاجيتش وزينيتسا.

كذلك، اقترح بطرس غالي، أن تترك جهود المفاوضات، والبحث عن تسوية سلمية في البوسنة والهرسك، للمجموعة الأوروبية، وليس لمجلس الأمن، والأمم المتحدة. ولكن المجموعة العربية، لدى الأمم المتحدة، طلبت، بعد ساعات من صدور هذا الاقتراح، انعقاد مجلس الأمن، رسمياً، لبحث الموقف. فكانت أول مواجَهة سياسية بين المجموعة العربية والأمين العام للأمم المتحدة. وذكر أن رئيس المجموعة العربية في الأمم المتحدة، لتلك الفترة، سفير دولة الإمارات العربية المتحدة، محمد جاسم سرحان، قد اجتمع إلى رئيس مجلس الأمن، وسلمه رسالة من أمين عام الجامعة العربية، عصمت عبدالمجيد، تضمنت رغبة المجموعة العربية في عقد جلسة لمجلس الأمن، من أجْل النظر في الممارسات ضد شعب البوسنة والهرسك. وتتلخص رغبة المجموعة العربية إلى مجلس الأمن، في إصدار قرار رسمي، أو بيان سياسي تحذيري، إلى الصرب، لسحب قواتهم العسكرية، والسماح للأمم المتحدة بتقديم المساعدات الإنسانية، وإدانة الممارسات اللاإنسانية، والتوقف عن تدمير الآثار الإسلامية. وذكر أن الأمين العام للجامعة العربية، عصمت عبدالمجيد، قد أظهر استياءه الكبير من موقف بطرس غالي، ولا سيما أن المملكة العربية السعودية، قد أعلنت استعدادها، في منظمة المؤتمر الإسلامي، للمساهمة في توفير الإمكانات المالية، اللازمة لعمليات الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك.

ويبقى الجيش الاتحادي هو السبب الرئيسي في معاناة المسلمين في هذا الإقليم، نظراً إلى مساندته الصرب المسيطرين عليه. وعلى الرغم من اتخاذ قرار بسحب أفراده من غير مواليد البوسنة والهرسك، فإن بقاء الألوف من أفراده وعُدده في الجمهورية؛ على أساس أنهم من مواليدها؛ وتحت الأوامر الصربية، يكوّن خطراً على استقلال البوسنة وأمنها. ويعمل الجيش الاتحادي على دعم صرب البوسنة، لإحكام سيطرتهم، بهدف تقسيم هذه الجمهورية، بعد الاستيلاء على 65 % من أراضيها، مع العلم أن نسبتهم السكانية، لا تتجاوز 33 %.

إن موقف الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالي، في إلقاء قضية البوسنة والهرسك على عاتق المجموعة الأوروبية، وإبعادها عن الأمم المتحدة، قد توافق مع الرغبة الأوروبية في تسوية أزمة البلقان، وفقاً للرؤية الأوروبية، أو من خلال السياسة الأوروبية الثابتة، والمعروفة، والتي تهدف، في جملة ما تهدف، إلى:

1. إبعاد قضية البوسنة والهرسك عن المجال، الذي تستطيع فيه مجموعة الدول العربية، ومنظمة الدول الإسلامية، ممارسة دور فيه، وهو مجال هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن.

2. إعطاء الوقت الكافي للصرب، بل للكروات، كذلك، من أجل تحقيق أهداف المجموعة الأوروبية، على حساب المسلمين في البوسنة والهرسك.

3. القدرة على التحكم في الأطراف المتصارعة، وتوجيهها نحو الحل الذي تريده الدول الرئيسية في المجموعة الأوروبية، ذات الاتجاهات المعروفة.

إن المجموعة الأوروبية، قد أتقنت، عبر تجاربها الطويلة، أساليب تسوية المشكلات، في إطار ازدواجية بين ما تنفذ وما تقول. وبوضوح أشد، تستطيع أوروبا إعلان دعمها للمسلمين في البوسنة والهرسك، وتعاطفها معهم. بينما تترك للصرب، بل للكروات، كذلك، تنفيذ ما تطلب منهم تنفيذه. ولقد ظهر ذلك واضحاً، منذ البداية. ففي منتصف مايو 1992، كان الموقف في البوسنة والهرسك، وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد، بدءاً من 13 مايو 1992، لمدة خمسة أيام، وحث زعماء الصرب المجموعة الأوروبية على استئناف المحادثات بين الصرب والمسلمين والكروات. وذكر أن برلمان الصرب، غير الرسمي، قد اجتمع في بلدة بانيالوكا، شمال غرب سيراييفو، ووجه تحذيراً إلى المجموعة الأوروبية، باستئناف المحادثات في البوسنة، في 19 مايو الحالي، وإلاّ فإن صرب البوسنة، سيدعون جماعات الصرب، في شتى أنحاء العالم، إلى الانضمام إليهم، في نضالهم من أجل البقاء.

وأرسى برلمان الأقلية الصربية، في البوسنة والهرسك، في الوقت عينه، أُسُس دولته الخاصة، خلال اجتماع بانيالوكا، التي قرر اتخاذها عاصمة لدولته، في غربي البوسنة والهرسك. كما تقرر تعيين رئيس للدولة، والتمهيد لترسيم الحدود. وجاء إعلان وقف إطلاق النار، من جانب صرب البوسنة والهرسك، بعد يوم من القتال الضاري، بالقرب من سيراييفو، ومدن أخرى في البوسنة. كما تعرضت قرى المسلمين، خارج العاصمة البوسنية، للحصار والقصف العنيف؛ فور انسحاب مراقبي المجموعة الأوروبية من عاصمة البوسنة، احتجاجاً على تعرضهم لهجمات، من جانب الأطراف المتصارعة.

وقرر وزراء خارجية المجموعة الأوروبية، إحكام طوق العزلة السياسية على يوغسلافيا، واستدعاء سفرائهم لدى بلجراد. وحذت حذوهم الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب عدوان الصرب على البوسنة. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، مارجريت تاتوايلر: "لقد اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الخطوة، بالتنسيق مع المجموعة الأوروبية، وفي ضوء العدوان، الذي ارتكبه مدنيون صرب، وقادة الجيش، ضد البوسنة والهرسك، واستمرار انتهاك كل مبادئ مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا". ووصف وزراء خارجية المجموعة الأوروبية، الجيش اليوغسلافي "بأنه قوة احتلال، وطالبوا بانسحابه، أو حلّه، ووضع أسلحته تحت إشراف دولي".

ولم يكن من الصعب على حكومة الصرب والجبل الأسود، الالتفاف من حول مسألة إقحام الجيش الاتحادي في القتال، وسحبه من سيراييفو، والاقتصار على دعم صرب البوسنة والهرسك، بالسلاح والعتاد والإمدادات المختلفة، تظاهراً بالحرص على العلاقات بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتجنباً للضغوط السياسية، وقد أعلنت ذلك حكومة بلجراد، في 13 مايو 1992. وعلى الرغم من إعلان الصرب وقف إطلاق النار، من جانب واحد، فقد استمروا في إطلاق النار، وتواصلت المعارك العنيفة في سيراييفو، وعدد من مدن البوسنة والهرسك. أمّا الجيش الاتحادي، فقد عمد إلى تدمير الثكنات، التي قرر الانسحاب منها، بعد أن وجهت إليه سلطات البوسنة إنذاراً للجلاء عن الثكنتَين الرئيسيتَين في سيراييفو، وإلاّ فإنه سيواجه هجوماً شاملاً. كما عمل الجيش الاتحادي على تدمير القاعدة الجوية، في مدينة بيخاتش، ذات الغالبية الإسلامية، والقريبة من الحدود مع كرواتيا، وذلك بعدما قرر الانسحاب منها، بسبب بُعدها عن مناطق الغالبية الصربية. وكانت هذه القاعدة من أحدث القواعد الجوية اليوغسلافية، وأكثرها تطوراً، ويوجد معظم منشآتها في الجبال، واستمر العمل في بنائها عشرين عاماً. كما فككت الأجهزة التي يمكن نقلها، والإفادة منها، ودمِّر ما بقي، حتى لا تفيد منه حكومة البوسنة والهرسك وشعبها.

وأثناء ذلك، استعرت المعارك، ووجَّه رئيس الجمهورية، علي عزت بيجوفيتش، نداءً إلى مواطنيه، حضهم فيه على الصمود والتضحية الكاملة، لدحر العدوان. وذكرت الإذاعة، "أن القصف المدفعي مستمر، والمعارك لا تزال تدور في شوارع عدة من سيراييفو. ويحاول السكان الهرب من المدينة على الرغم من الأخطار، حتى بات من المتوقع، ألاّ يبقى فيها، بعد أيام، سوى المقاتلين. ويقضي السكان لياليهم، ومعظم ساعات النهار، في الملاجئ؛ إذ يطلق القناصة رصاصهم من دون رحمة". وتحدث المستشار الرئاسي للبوسنة والهرسك، خيرالدين سايمون، عن معاناة سيراييفو بعد الهجمات الضارية، التي واصلها الصرب ضدها، في الفترة السابقة، والتي أدت إلى قطع المساعدات الإنسانية عن سكانها المتضررين، الذين أصبحوا يعيشون بلا ماء، ولا كهرباء، ولا مواد تموينية. وأبدى قلقه بخاصة "على مصير آلاف من سكان ضاحية أليجا، الذين يريدون مغادرتها، بعدما احتلها الصرب، ولكن المحتلين احتجزوهم. ويقدر عدد السكان بحوالي سبعة آلاف شخص، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ". وبثت إذاعة سيراييفو، "أن الطرف الصربي، وافق، في 20 مايو 1992، على السماح للمحتجزين بالمغادرة، إلاّ أن المقاتلين الصرب، تراجعوا عن الاتفاق، مُدَّعين أن قوات البوسنة والهرسك، لم تلتزم، من جانبها، بهذا الاتفاق، الذي يقضي بتسليم جثث القتلى الصرب في الاشتباكات الأخيرة، ورفع الحصار عن ثكنات الجيش الصربي ـ الاتحادي في سيراييفو".

مضت ثلاثة أشهر، تقريباً، على بداية تدخّل قوات الأمم المتحدة في جمهوريات يوغسلافيا السابقة، غير أنها لم تتمكن من عمل شيء لإيقاف الاقتتال، أو التخفيف من معاناة المسلمين في البوسنة والهرسك، بل لم تستطع حماية قوافل الإغاثة، أو إيصالها إلى المناطق المنكوبة، وأولها العاصمة، سيراييفو، التي وقعت تحت الحصار الشديد للقوات الصربية.

وكان الموقف في 18 يونيه 1992، أن استمر القصف المدفعي، وقتال الشوارع في عاصمة البوسنة والهرسك، سيراييفو. وتمكنت قافلة تابعة لقوات حفظ السلام الدولية من الوصول، بسلام، إلى وسط المدينة، بعد أن أمضت 36 ساعة تحت الحصار، قرب حامية صربية. وصرح الناطق باسم مقر قوة السلام الدولية في سيراييفو، عدنان عبدالرازق، أن القافلة وصلت تحت حراسة أربع آليات مدرعة، تابعة للأمم المتحدة، وتضم 60 مراقباً عسكرياً، مهمتهم هي المساعدة على إعادة فتح مطار المدينة، لاستقبال شحنات جوية من إمدادات الإغاثة للسكان، الذين يتضورون جوعاً.

وكان القصف المدفعي، والمعارك من جانب الصرب قد استمر طوال 48 ساعة، مما عاق خطة الأمم المتحدة تأمين المجال الجوي في سيراييفو، بوساطة قوة لحفظ السلام، تضم 1100 جندي. وقالت ناطقة باسم المنظمة الدولية، في نيويورك، إن الخطة أرجئت، ريثما يُتَوصل إلى هدنة جديدة. وبثت إذاعة سيراييفو بياناً، جاء فيه أن جثث القتلى تملأ الشوارع المهجورة، وأن النيران تطلق بشكل عشوائي. ذلك أن الصرب، المتحصنين في التلال الوعرة، المطلة على سيراييفو، قصفوا وسطها وضواحيها القديمة. وأن ضاحية دوبرينيا، البالغ عدد سكانها 40 ألف نسمة، هي الأكثر تضرراً في القتال؛ إذ تعرضت لقصف الدبابات الصربية. واشتبكت الميليشيات الصربية، كذلك، مع قوات المسلمين والكروات، في ضاحية هراسنو. وإذاً، فإن استطالة أمد الصراع، هو من صنع الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية. وهذا ما عبر عنه العضو الكرواتي في الرئاسة البوسنة، ستيبان كلويتش، بقوله: "إن الغرب هو المسؤول عن إطالة أمد النزاع في البوسنة والهرسك، بسبب تمهله في دعم استقلالها. إن المئات يقتلون يومياً وعيونهم شاخصة إلى الغرب. إن السياسيين الغربيين يشاركون في العدوان على بلادنا بعجزهم عن تنفيذ شروط مؤتمر لندن للسلام. فقد تم اتخاذ قرار في مؤتمر لندن، في أغسطس 1992، يقضي بجمع الأسلحة الثقيلة من الصربيين، والإشراف عليها، ونشر مراقبين على طول حدود البوسنة مع الصرب لإنهاء القتال، وجاء الوسيطان الدوليان، سايروس فانس وديفيد أوين إلى سيراييفو، وحصلا على موافقة الأطراف على هذه الإجراءات، إلاّ أنها لم تطبق. إني لا أفهم السياسيين الذين يأتوا إلينا: فهم إمّا لا يريدون استيعاب الوضع، وإمّا أنهم يضللون أنفسهم فما المطلوب أن نفعله؟ هل نعترف بالهزيمة، أم نواصل القتال؟".

ونظراً إلى تعارض الصراع وتشابكه، وتصادم مواقف أعضاء المجموعة الأوروبية، فإن المجموعة عادت لتلقي بالمسؤولية، من جديد، على عاتق الأمم المتحدة، إذ استصدرت قراراً من مجلس الأمن، يسند مهمة الإشراف على تجميع السلاح الثقيل لدى الأطراف المتحاربة، إلى قوات حفظ السلام. وهو ما عجزت عنه هذه القوات، لعدم توافر القدرات العسكرية لديها على تنفيذه. وأسفرت مشاورات الأمين العام للأمم المتحدة، د. بطرس غالي، مع قائد القوات الدولية في البوسنة، عن أن هذه القوات لا يمكنها القيام بذلك. وبدا الموقف، وكأن الأمين العام لا يرغب في قيام قوات الأمم المتحدة بهذه المهمة، في حين أن الحقائق الموضوعية، أكدت أن المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، قد تنصلتا من مسؤولياتهما، وألقتا بها على عاتق الأمم المتحدة، دون توفير الإمكانات والقوات اللازمة لتنفيذ هذه المهمة. هذا، فضلاً عن الانقسام، الذي كان موجوداً بين القوى الفاعلة في النظام الدولي، حول هذه المهمة. وهو ما أشار إليه الأمين العام، في رسالته إلى مجلس الأمن، التي جاء فيها: "لو كانت الدول الكبرى، التي وافقت على القرار، جادة في موقفها، لكانت وفّرت للأمم المتحدة، من القوات والعتاد والمواقف السياسية، ما يسمح بتنفيذ هذه المهمة".

وقد انتهي الخلاف باقتناع مجلس الأمن، في 25/7/1992، برؤية الأمين العام، إذ أصدر بياناً أعرب فيه عن تقديره لما جاء في تقريره، ومفهومه لعمل قوة الحماية الدولية في البوسنة. وكان الأمين العام قد برر موقفه هذا، بوجود مناطق صراع عالمية أخرى، تتطلب جهوداً من الأمم المتحدة، وبعدم وجود إرادة سياسية للأطراف المتنازعة في البوسنة. وقد أوضح ذلك في خطاب له، في نادي الصحافة الوطنية، في نيويورك، في 13 مايو 1992، حين قال: "لا يمكننا العمل من دون الإرادة السياسية للأطراف المتنازعة. إن قدرنا هو صيانة السلم، ولكن إذا لم توجد إرادة السلم، فإننا لن نتمكن من أداء هذه المهمة". وقد واجه بطرس غالي انتقادات كثيرة، بسبب عدم تمييزه بين موقف المُعتدَي والمعتدى عليه. وفي 5/8/1992، سافر الأمين العام إلى ألمانيا، آملاً أن يحصل على مشاركتها في قوات حفظ السلام في البوسنة، إلا أن الحكومة الألمانية، أعربت عن عدم استطاعتها التجاوب مع هذا المطلب، بدعوى أن الدستور الألماني يحظر ذلك.

يتبين من ذلك ضعف الإرادة السياسية الدولية، الذي تبدَّى في قرارَيْ مجلس الأمـن، (770) في 13 أغسطس 1992، و(771) في 13 أغسطس 1992، ونصا على اقتصار التدخل العسكري على حماية قوافل الإغاثة الدولية فقط. وهو ما تعترضه عقبات جسيمة، إضافة إلى السماح للِّجان الدولية المختصة بزيارة معسكرات الاعتقال الصربية لمواطني البوسنة.

لذلك، فإن دور الأمم المتحدة، في هذه المرحلة من الصراع في البوسنة، انحصر في إصدار مجموعة من قرارات مجلس الأمن، تطالب بوقف القتال فوراً، ووقف أي شكل من أشكال التدخل الخارجي في شؤون الجمهورية، وكذلك أي محاولات لتغيير التركيبة العرقية، وانسحاب وحدات الجيش الاتحادي والجيش الكرواتي (القرار 752 في 15 مايو 1992)، وتدريجياً، اتجه مجلس الأمن إلى توجيه الاتهام إلى يوغسلافيا الجديدة، وهي، فعلياً، جمهورية صربيا، بالفشل في اتخاذ إجراءات فاعلة لتنفيذ القرار 752، فأصدر قراراً جديداً (757 في 30/5/1992)، بفرض عقوبات شاملة وملزمة ضد يوغسلافيا الجديدة، تشمل عقوبات اقتصادية، بما فيها الحظر التجاري على الاستيراد والتصدير، وحظر جوي شامل، بمنع وصول وإقلاع الطائرات من بلجراد وإليها، وخفض عدد البعثات الدبلوماسية إلى أقل عدد ممكن، ومنع فرقها الرياضية من المشاركة في المسابقات العالمية، ونقل مقعد يوغسلافيا في الأمم المتحدة إلى جمهوريتَي صربيا والجبل الأسود. ومن الواضح أنه ليس من بينها أي قرار، أو حتى تهديد باستخدام القوة، في حالة عدم تقيُّد صربيا بوقف إطلاق النار. ثم أصدر مجلس الأمن، بعد ذلك، عدة قرارات بإرسال قوات دولية لحفظ السلام في البوسنة (758 في 8 يونيه 1992، و761 في 29 يونيه 1992، و764 في 13 يوليه 1992). إثر ذلك، أصدر القرار (770، في 13 أغسطس 1992)، الذي دعا فيه إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة، من أجل حماية وصول المساعدات الإنسانية إلى سيراييفو. ومع استمرار الصراع، وتأكُّد إصرار الصرب على سياسة التطهير العرقي، التي تنفّذها القوات الصربية، المدعومة من الجيش الاتحادي، أصدر مجلس الأمن القرار 780، في 6 أكتوبر 1992، والذي نص على إنشاء لجنة تحقيق تابعة للمنظمة الدولية، للنظر في جرائم الحرب، التي ارتكبت وترتكب في البوسنة. واستمر مجلس الأمن في إصدار القرارات، بغرض المزيد من العقوبات على صربيا، مثل القرار 781، في 9 أكتوبر 1992، القاضي بفرض منطقة حظر جوي فوق البوسنة، لمنع الطيران الصربي من المشاركة في العمليات العسكرية، بعد قيامه بقصف أهداف مدنية تابعة لمسلمي البوسنة، والقرار 787، في 16 نوفمبر 1992، الذي نص على تعزيز مراقبة الحظر، وتشديد العقوبات على صربيا، لإجبارها على وقف الحرب في البوسنة. ولم تختلف قرارات مجلس الأمن، ب عد ذلك، في سياقها العام، عن القرارات السابقة، إذ هدفت جميعها إلى ممارسة الضغوط على صرب البوسنة وحكومة بلجراد، من أجل وقف القتال والدخول في مفاوضات التسوية السلمية للصراع.

كل هذه القرارات وغيرها، والتي كانت تسير في اتجاه تصعيد الضغوط على صرب البوسنة وصربيا، وتهديدهما باللجوء إلى عمل عسكري، لفرض وقف إطلاق النار، والتلويح بإمكانية تخويل قوات دولية، أمريكية أو من حلف شمال الأطلسي، شن غارات جوية على مواقع المدفعية الصربية حول البوسنة ـ ظلت على مستوى الحديث فقط، دون أن يصاحبه أي إجراءات عملية. وهو ما تأكد بشكل واضح في المناقشة التي أجرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 18 ديسمبر 1992، حول مشروع القرار الذي قدَّمته الدول الإسلامية، ودعت فيه الجمعية العامة إلى حض مجلس الأمن على إنذار جمهوريتَي صربيا والجبل الأسود بأن عليهما أن تضعا حدّاً للعدوان على البوسنة، وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، في موعد لا يتجاوز 15 يناير 1993، وأنه في حالة عدم الامتثال، فإن الجمعية العامة تحض مجلس الأمن على أن يأذن للدول الأعضاء، بموجب الفصل السابع من الميثاق، وبالتعاون مع حكومة البوسنة والهرسك، باستخدام كل الوسائل اللازمة لنصرة جمهورية البوسنة واستعادة سيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها، ويستثنى مجلس الأمن البوسنة من الحظر المفروض على شحنات الأسلحة إلى يوغسلافيا السابقة بموجب القرار 713.

ولكن من الملاحظ أن هذا القرار، لم يحظَ برضى 57 دولة امتنعت عن التصويت، ومن بينها روسيا، التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن، وبريطانيا وفرنسا، ولكل منهما أيضاً حق استخدام الفيتو، إذ اعترضتا على تحديد موعد محدد، يمكن بعده اللجوء إلى القوة، مؤكدة أن الحل لا بد أن ينحصر في الجهود الدبلوماسية، وهو المعنى نفسه الذي أكده حلف شمال الأطلسي، في 18/12/1992، حينما أعلن اتفاق أعضائه على احتواء النزاع في البوسنة، بوسائل سلمية بدلاً من اعتماد الخيار العسكري. وهكذا تراجع الحديث الجدي عن استخدام القوة، وتم إفساح المجال أمام جهود الوساطة الدبلوماسية، التي اضطلع بها ممثلون عن الأمم المتحدة، بمعاونة المجموعة الأوروبية.

ثانياً: الرأي العام العالمي يستنكر العدوان الصربي

لقد تجاهل الصرب الرأي العام العالمي، والتحذيرات الأوروبية، الألمانية والفرنسية خاصة، اعتماداً على الدعم الروسي العلني، والتأييد البريطاني الضمني، والصمت الأمريكي. ويمكن في هذا المجال التوقف عند زيارة رئيس وزراء اتحاد جمهورية الصرب والجبل الأسود، ميلات بانيش، إلى العاصمة الألمانية، بون، حيث أُعلن ما يلي: "تحدث المستشار الألماني هيلموت كول إلى بانيش، صراحة، وقال له: "إننا انتظرنا منك الأعمال، وليس الوعود. وإن على رئيس الوزراء الاتحادي لصربيا والجبل الأسود، ممارسة تأثيره في القيادة الصربية لوقف العدوان على البوسنة والهرسك، ووضع حد للمعاناة الرهيبة الناتجة منه. وإن ألمانيا تحمل الصرب مسؤولية الحرب وفظائعها في البوسنة. ولن تتخلى ألمانيا عن تأييد استمرار العقوبات الدولية على جمهورية الصرب والجبل الأسود، حتى يعيد الصرب أراضي البوسنة، التي استولوا عليها بالقوة، ويسمحوا بعودة النازحين إلى ديارهم، ويعترفوا بالبوسنة والهرسك دولة مستقلة، يتمتع فيها المسلمون بكافة الحقوق التي تتيحها لهم غالبيتهم السكانية ... إننا نطالب بوقف عمليات اغتصاب النساء المسلمات والكرواتيات، التي تثير سخطاً كبيراً لدى الرأي العام الألماني. وإن ألمانيا، مثلها كمثل أي بلد أوروبي آخر، لا تنتهج سياسة معادية للصرب، ولكنها لا يمكن أن تغض الطرف عن تصرفات المسؤولين الصرب".

وقد اجتمعت الأحزاب الألمانية مع رئيس الوزراء الاتحادي لصربيا والجبل الأسود، وكان لقاءً فاتراً، إذ أبلغوه: "أنهم يؤيدون التدخل الخارجي لوقف الإبادة الجماعية، التي يقوم بها الصرب في البوسنة". وكان عدد كبير من الألمان و المسلمين والكروات، قد نظموا مظاهرة أمام مبنى المستشارية الألمانية، نددوا خلالها بزيارة بانيتش، ووصفوه بأنه "يكذب أكثر من الآخرين في شأن صرب البوسنة، إلى حد أنه أصبح يمثل الوجه الآخر للرئيس الصربي ميلوسيفتش".

وكانت تركيا قد وجهت تحذيراً من مغبة استمرار العدوان الصربي على البوسنة. ووجهت دعوة إلى عشر من دول البلقان وأوروبا، للاجتماع في إستنابول يوم 25/11/1992. وتضمن البيان الختامي ما يلي: "إن على المنظمة الدولية، الأمم المتحدة، إرسال القوات والمراقبين إلى إقليم كوسوفو، ذي الأغلبية الألبانية المسلمة، والتابع لجمهورية الصرب. وكذلك إقليم فوفودين ذو الأغلبية المجرية؛ مع إقامة مناطق آمنة داخل البوسنة، لحماية السكان المسلمين والكروات من الانتهاكات الواسعة ضدهم، والتي تقوم بها قوات العدوان الصربي. ونشر قوات لحفظ السلام في المناطق القريبة من جمهورية البوسنة والهرسك، لمنع انتشار الحرب الدائرة هناك، وتحولها إلى صراع إقليمي شامل".

أما على مستوى الرأي العام العالمي، والأوروبي خاصة، فالمظاهرات التي اجتاحت عواصم الغرب، احتجاجاً على الممارسات الصربية، قد شكلت في حدّ ذاتها تعبيراً عن الاستنكار العالمي للجرائم الصربية. ولقد نشرت وسائل الإعلام العالمية، والصحافة في كل عواصم العالم، ما يُبرز التحديات الصربية ضد الرأي العام العالمي. ويمكن توضيح ذلك كمثال فيما جاء في صحيفة "لوموند" الفرنسية، تحت عنوان "لو سقطت سيراييفو"، للكاتب باسكال ـ بروكيز، جاء فيه: "لو سقطت سيراييفو قبل عيد الميلاد أو بعده، وقُضي على المدافعين عنها، كما حدث في فوكوفار منذ عام، فإننا سنكون جميعاً مسؤولين عن هذه الجريمة الكبرى ضد الحضارة الأوروبية. فكل ما تجسده هذه المدينة الرمز، من تسامح وتعايش بين مختلف الطوائف الدينية، وما تزهو به من عمران، سينهار تحت ضربات البربرية الصربية. ولسوف نتحمل، نحن الأوروبيين، مسؤولية مجازر المسلمين، كما تحمّل آباؤنا من قبل مسؤولية المجازر ضد اليهود والغجر. لو سقطت سيراييفو، فإن ذلك يعني إعطاء الضوء الأخضر لكل المتطرفين في أوروبا: النازيون الجدد في ألمانيا، الذين يجاهرون بنظرية "التطهير العرقي"، والقوميون الشوفينيون في روسيا وهنجاريا وبلـدان البلطيـق، وسائر المتطرفين الذين يجدون في ميلوسيفتش الصربي كاهنهم الأكبر ومرشدهم وقائدهم … لو سقطت سيراييفو، وجرت معها النهاية للبوسنة المستقلة، فإن ذلك سيقود إلى إذكاء الأصولية، وسيمكن للأصوليين، وعن حق، أن يتهموا الأوروبيين بشن الحروب، حين يتعلق الأمر بالدفاع عن آبار النفط، وبالتضحية بالمسلمين على مذابح العنصرية والتطهير العرقي، حين يتعلق الأمر بالدفاع عن شعوب وحضارة. لو سقطت سيراييفو، فإن ذلك سيكشف عن انهيار خلقي رهيب في أوروبا ... أوروبا التي تتحدث باستمرار عن الحق والديموقراطية، لكنها تعجز عن تقديم يد المساعدة إلى أولئك الذين يطالبونها بالتدخل للدفاع عن هذه القيم، وانتصاراً للحرية ضد الهمجية والعنصرية. وسيكون ذلك دليلاً على أن المتطرفين الصرب هم على صواب في احتقارهم الشديد للقيم الأوروبية، فنحن منحطون ومتبلّدو الذهن، وأنانيون، ومتواطئون، ومستسلمون، ومستعدون للتخلي عن كل شيء، مقابل المحافظة على سلامنا، كأناس استهلاكيين. لو سقطت سيراييفو، فسأخجل أن أسمِّى جورج بوش أو هيلموت كول، أو جون ميجور، أو فرنسوا م يتر ان؛ لأن هؤلاء سيُقوَّمون على أنهم متواطئون مع المجازر، لكونهم لم يفعلوا شيئاً لإيقافها. سأخجل لأولئك الذين من أعالي مواقعهم، وبصفتهم قادة لقوات الأمم المتحدة في سيراييفو، لم يتوقفوا يوماً عن تحقير الضحايا ومعاملتهم وجلاديهم على قدم المساواة، ومطالبتهم لهم بالاستسلام لمصيرهم الأسود. سأخجل أن أكون فرنسياً أو أوروبياً، لأن ذلك سيكون، بعد اليوم، مرادفاً للجبن والنذالة. لو سقطت سيراييفو، كما يتوقع كل المراقبين، مع الأسف، فإن نبوءة جورج أورويل، سوف تتحقق: "إذا أردتم معرفة المستقبل، فتخيلوا حذاءً يدوس على وجه يعافر التراب ... إلى الأبد".

وثمة مقالات أخرى وأبحاث مماثلة كثيرة، تتشابه مع النموذج السابق. طابقت بين المواقف الصربية والمواقف الإسرائيلية، وتشابه المواقف الدولية في الحالتين، خاصة في التعامل مع مجرمي الحرب في الدولتين. فرغم إدراك الدول الكبرى، أن قادة الصرب تنطبق عليهم مواصفات مجرمي الحرب، وأن الحق والواجب يقتضيان محاكمتهم، دولياً، بسبب جرائمهم الثابتة والمسجلة، ورغم الإدانة العالمية لهؤلاء المجرمين، فقد استمرت العواصم في الدول العظمى والكبرى والهيئات الدولية، تستقبل هؤلاء "المجرمين" باعتبارهم قادة وزعماء، مما يضاعف من حجم المسؤولية الواقعة على كاهلهم.

ثالثاً: الرئيس الأمريكي الأسبق، ريجان، يطالب بتدخل حلف شمال الأطلسي

ألقى الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان، في 4 ديسمبر 1992، خطاباً في جامعة أكسفورد، جاء فيه: "إنني أدعو إلى تدخل حلف الأطلسي في البوسنة والهرسك. فالشر لا يزال متفشياً في هذا الكوكب، وينبغي توجيه إنذار إلى الصرب بالتوقف عن قصف المدنيين، وإلا واجهوا قصف مواقعهم العسكرية .. لقد صوتت الأمم المتحدة لمصلحة نقل المساعدات الإنسانية إلى المدنيين بكل الوسائل الضرورية، ويمتلك حلف شمال الأطلسي هذه الوسائل، فهو يمثل هذه الحقيقة حقاً. إن منظماتنا المتعددة الأطراف يجب أن تعلن رفضها عمليات "التطهير العرقي" والمجازر التي ترتكب ضد المدنيين، التي تنفذها قوى عسكرية. يجب أن نكون مستعدين لدعم كلامنا بالسلاح. إن يوغسلافيا السابقة هي "مرجل من الكراهية"، ويشعر المواطن الأمريكي العادي بالحيرة، إزاء الأعمال البغيضة التي تجري هناك، في ما تتجنب أوروبا المتجهة صوب الوحدة الأوروبية، القيام بأي تحرك. لقد كان الاتحاد السوفيتي يمثل إمبراطورية الشر، وإن نهاية الحرب الباردة لا تعني أن خطراً واحداً قد زال ليحل محله مجموعة من بؤر التوتر. وإني أدعو لتأسيس قوة دائمة للأمم المتحدة، تكون جيشاً للضمير".

رابعاً: عودة إلى المتاهة الدولية

مع اقتراب عام 1992 من نهايته، عقد في جنيف، يوم 16/12/1992، المؤتمر الدولي الخاص ببحث السُّبُل الكفيلة بوضع حد للحرب في البوسنة والهرسك؛ بمشاركة وزراء خارجية ورؤساء وفود 29 دولة. وكان مما قاله وزير الخارجية البريطاني، دوجلاس هيرد، في هذا المؤتمر: "علينا أن ننجز ثلاثة أشياء هي: أن نقنِع أولاً الزعماء الصرب بالتوصل إلى اتفاق، وأن نضغط بعقوبات فاعلة يجب تعزيزها، وأخيراً توفير المساعدة الإنسانية". أما وزير الخارجية الألماني، كلاوس كينيكيل، فقد صرح: "إن في الإمكان توقع وقف عمليات التطهير العرقي، التي تمارسها القوات الصربية، نتيجة ما تم، حتى الآن، في لندن وجنيف، في إطار المؤتمر حول يوغسلافيا السابقة".

أمّا الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالي، فقد وجّه رسالة إلى هذا المؤتمر، قال فيها: "يتعين على المؤتمر الإبقاء على الثقة بالمفاوضات، وتجنب أي أعمال قد تصعد العنف. وإني أعارض الإجراءات التي يمكن أن تجر قوى خارجية إلى التدخل العسكري في حرب البوسنة والهرسك. إن الطريق إلى الأمام يكمن في استقرار المفاوضات، والإيمان بروح ميثاق الأمم المتحدة، وليس في إجراءات قد تسهم في تصعيد العنف".

كذلك، وجّه الوسيط الدولي، سايروس فانس، دعوة إلى الدول العظمى، طالب فيها بـ "عدم استخدام القوة ضد الطائرات الصربية، التي تخرق الحظر الجوي فوق البوسنة، لأن ذلك سيعرض جنود الأمم المتحدة وأعمال الإغاثة للخطر على الأرض. وإن مفاوضات جنيف تمثل الفرصة الوحيدة من أجل تحقيق السلام في يوغسلافيا السابقة. وليس هناك أي بديل آخر من الحل السياسي من طريق التفاوض. ولقد اكتسبت الجهود الدولية لإحلال السلام في البوسنة والهرسك، قوة دفع عندما قدمت الأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي، وروسيا، ومسلمو البوسنة، مبادرات جديدة لمناقشتها في اجتماع جنيف".

وخلافاً لهذا التوجه بعدم اللجوء إلى الخيار العسكري، صرح وزير دفاع النرويج، جوهان يورجين، بما يلي: "لقد بدأ حلف شمال الأطلسي بالتخطيط فعلاً، بصورة غير رسمية، في ثلاثة مجالات، وهي : استخدام الطائرات لتطبيق حظر الأمم المتحدة لتحليق الطائرات العسكرية فوق البوسنة، وتشكيل ملاذ آمن للمدنيين، ومنع الحرب من الانتشار إلى مناطق أخرى، مثل مقدونيا وكوسوفو".

أمّا الموقف الروسي، فقد عبّر عنه وزير خارجية روسيا، أندريه كوزيريف، حين فاجأ، في يوم 14 ديسمبر 1992، ممثلي 51 دولة في الأمم المتحدة، طالبوا الهيئة الدولية برفع العقوبات عن البوسنة والهرسك، بأن رد عليهم بقوله: "أطالب الأمم المتحدة برفع العقوبات الاقتصادية عن يوغسلافيا، وإلا فإن موسكو ستقدِم على رفعها من جانب واحد. إن دول حلف شمال الأطلسي والمجموعة الأوروبية، تخطط لتعزيز وجودها العسكري في البلطيق ومناطق أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق، متدخلة في البوسنة والشؤون الداخلية ليوغسلافيا. إننا نطالب برفع العقوبات، وإذا لم يتم ذلك، فإننا سنضطر إلى اتخاذ إجراء من جانب واحد، دفاعاً عن مصالحنا". وقد أكدت روسيا موقفها هذا، في الرسالة التي وجّهها الرئيس بوريس يلتسين، بعدئذ، إلى رئيس صربيا والجبل الأسود، ميلان بانيتش، في 18 /12 /1992، أشار فيها إلى احتمال رفع العقوبات عن بلجراد، إذا تفاهمت مع المجتمع الدولي، وأن ثمة قلقاً من تطور الأوضاع في يوغسلافيا السابقة؛ وأن اتخاذ خطوات ديموقراطية لإنهاء القتال في البوسنة، والتفاهم مع المجتمع الدولي، هو شرط لرفع العقوبات. وقد كان هذا الموقف تعبيراً عن القرار الذي اتخذه البرلمان الروسي، والذي طالب فيه وزارة الخارجية الروسية: "باستخدام حق الفيتو، لمنع التدخل العسكري في يوغسلافيا السابقة، إذا اقتضى الأمر ذلك، وفرض العقوبات بصورة متوازنة على جميع الأطراف، واستمرار الحظر على شحنات الأسلحة إليهم، مع اتّباع سياسة متميزة، تخدم مصالح روسيا قبل كل شيء".

وقد ذُكر أيضاً أن (يلتسين) قد اتخذ موقفه هذا بدعم الصرب، بناء على تقرير أعدَّه له مكتب الأمن القومي، جاء فيه: "يتزايد خطر التدخل السافر للغرب في النزاع إلى جانب البوسنيين، وتتزايد المساعدات العسكرية التي يحصلون عليها من دول إسلامية، وخاصة إيران". وبناء على ذلك تمت دراسة إمكانات تقديم مساعدة عسكرية إلى الصرب، في حالة إلغاء قرار الحظر على تزويد البوسنة بالسلاح. كذلك قرار استخدام الفيتو، إذا بحث مجلس الأمن موضوع التدخل العسكري ضد الصرب.

ولقد انعكس موقف روسيا بقوة على التحركات الأوروبية والأمريكية، وظهر ذلك واضحاً في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين، في استوكهولم، الذي أصدر بيانه الختامي يوم 17 /12 /1992، والذي كانت قضية البوسنة والهرسك هي المحور الرئيسي فيه. وقد ضم المؤتمر 51 دولة أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وذُكر أن حكومة البوسنة، قد فشلت في الحصول على طلب من المؤتمر إلى مجلس الأمن، باستثنائها من حظر السلاح الدولي على جمهوريات يوغسلافيا السابقة. وقد ناشد بيان "مؤتمر الأمـن والتعاون الأوروبيين" مجلس الأمن، بإلحاح، النظر في فرض الحظر الجوي على البوسنة بالقوة، بعد ما أكدت واشنطن أنها سجلت 200 خرق على الأقل للحظر، قامت بها الطائرات الصربية.

وقد جاء هذا النداء بعد جهود مكثفة، بذلها وزير الخارجية الأمريكي، لورنس ايجلبرجر، في وجه تحفظ شديد من بريطانيا، وتحفظ أخف من فرنسا. وتبع ذلك عقد "المؤتمر الدولي حول يوغسلافيا السابقة"، في جنيف، يوم 16/12/1992، وحضره إضافة إلى ممثلي الدول الغربية، ممثلون عن الدول الإسلامية. وأعلن أن الهدف منه هو: "عرض نتائج اجتماع لندن، الذي عقد قبل ثلاثة أشهر، وأصدر، آنذاك، عدداً كبيراً من القرارات والتوصيات لوقف القتال في البوسنة.

ولكن هذه القرارات والتوصيات، لم تجد طريقها إلى التنفيذ، نتيجة موقف الصرب، الذين يستغلون تفوّقهم العسكري لحسم الموقف في مصلحتهم". وشارك في المؤتمر وزير الخارجية الأمريكية، لورنس ايجلبرجر، الذي قال في كلمته: "إن على المجتمع الدولي إجبار القياديين الصرب على إعطاء إيضاحات كاملة، عن دورهم في الانتهاكات الوحشية لحقوق الإنسان، التي ترافق حرب البوسنة. وهناك عدد كبير من الصرب متهم بالتورط المباشر في المجازر والانتهاكات، ولا تستطيع القيادات السياسية التهرب من المسؤولية، ويجب على قادة مثل سلوبودان ميلوسيفتش، رئيس جمهورية الصرب، ورادوفان كارادازيتش، الذي أعلن نفسه رئيساً لجمهورية صرب البوسنة، والجنرال راتكوملاديتش، قائد قوات الصرب في البوسنة والهرسك، أن يشرحوا كيف حاولوا أن يضمنوا، كما يفرض عليهم القانون الدولي، التزام قواتهم بهذا القانون. وإضافة إلى ذلك، فهناك قائد ميليشيات "النمور"، زيليكو رازناياتوفيتش، المسؤولة عن قتل ثلاثة آلاف من المسلمين في مدينة بريتشكو، وقائد ميليشيات "النسور البيض"، فوبسلاف سيسلي، المسؤولة عن المجازر في عدد من مدن البوسنة وقراها. كذلك قائد معسكر أومارسكا، دراجوبرتشاتش، حيث قضى مئات من المسلمين نحبهم".

كذلك وجّه الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، حامد الغابد، الذي حضر المؤتمر، كلمة جاء فيها: "أناشد المجتمع الدولي عدم التهرب من مسؤولياته إزاء المجازر البشعة، التي يتعرض لها شعب البوسنة والهرسك. وعلى مجلس الأمن أن يتحرك بسرعة من أجل المحافظة على السلم في العالم. لقد احترمت البلدان الإسلامية الشرعية الدولية، حتى الآن، إلا أن تمادي الصرب في عدوانهم، قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. إن البلدان الإسلامية باتت غير قادرة على أن تفهم بسهولة تردد المجتمع الدولي في تعامله مع العدوان الصربي على البوسنة والهرسك، والذي أصبح يشبه الهرب. ولقد ترك هذا التردد شعوراً بالمرارة والغضب لدى العالم الإسلامي، بسبب ازدواجية المعايير المتبعة داخل مجلس الأمن، من جانب بعض الدول. وإن التردد والارتباك هما اللذان شجعا الصرب على المضي قدماً في أعمالهم الإجرامية. في حين لا يزال المجتمع الدولي ينكر على شعب البوسنة والهرسك حقه الطبيعي المشروع في الدفاع عن نفسه، وفق مضمون ميثاق الأمم المتحدة".

ولم يكن حامد الغابد، هو أول من وجّه الإدانة إلى المجتمع الدولي بالتردد، بل إن زعيم حزب الأحرار الديموقراطيين البريطاني، باري إشداون، قام بزيارة إلى عاصمة البوسنة، سيراييفو، صرَّح على أثرها: "إن الوقت لا يسمح بالتردد، وأناشد الغرب ألا يحسب فقط الثمن المحتمل للتدخل، بل الثمن الأكيد لعدم التدخل، وهو ثمن أعظم وأفدح".

وكان موقف وزير المواصلات الألماني، كريستيان شوارتس، أكثر وضوحاً، وأشد حزماً؛ إذ قدَّم هذا الوزير استقالته من منصبه، يوم 14/12/1992، بعد أن شغله بكفاءة طوال عشر سنوات، وجاء في خطاب استقالته أنه يشعر "بالعار من الانتماء إلى حكومة تُشاهد، بلا حراك، مأساة يوغسلافيا السابقة، إذ تمادت في عدم القيام بشيء". وندد بشدة "بسلبية الذين يراقبون المأساة من دون التدخل، في الوقت الذي يموت فيه آلاف الأشخاص من الجوع والبرد في المعتقلات. لقد تحدثت الحكومة الألمانية كثيراً عن المشكلة، من دون أن تتخذ أي قرار ملموس".

ولأن الحكومات في الدول الغربية خاصة، بدأت تتحرك بتأثير ضغط الرأي العام في بلادها، المطالب بضرورة التدخل المسلح لوضع حد للمأساة الإنسانية الدائرة في البوسنة، نجد، على النقيض من هذا التوجه، الأمين العام للأمم المتحدة، بطرس غالي، يوجه رسالة إلى "المؤتمر الدولي حول يوغسلافيا السابقة"، يطالب فيها الدول بعدم الاستجابة لضغوط الرأي العام في بلادها، إذ قال في رسالته: "يجب معارضة الاتجاه المتزايد إلى تدخل عسكري في النزاع اليوغسلافي. وإن على الدول الداعية إلى التدخل العسكري، مقاومة ضغوط الرأي العام عليها، إذ إن التدخل سيؤدي إلى تصعيد الحرب، وإلى تعريض القوات الدولية في البوسنة للخطر، وإلى إيقاف أعمال الإغاثة للمسلمين والكروات المهددين بالمجاعة. وليس هناك مجال للتقدم، إلا من طريق التفاوض الدائم، بنوايا مخلصة، ووفق روح ميثاق الأمم المتحدة. وليس من طريق إجراءات تؤدي إلى استمرار العنف أو تصعيده. ويجب موازنة العواطف المشروعة بالتقدير الحقيقي للأخطار والفوائد التي يحققها أي تدخل".

ولكن كثيراً من قادة العالم، لم يشاركوا بطرس غالي رأيه. ومنهم شخصيات سياسية غربية مهمة، أعربوا عن اعتقادهم بأن الوقت أمسى لا يسمح بالتردد، وهذا ما عبّر عنه دبلوماسي من حلف شمال الأطلسي، عندما تساءل: "عما إذا كانت القوى العسكرية الكبرى في العالم، تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء عمليات القتل والتشريد وخطر نشوب حرب شاملة في البلقان، عقب انهيار سلسلة من قرارات وقف النار، وإهمال عشرات التعهدات بإقرار السلام. إذ إن هذا الوضع يشكل سابقة مفزعة للسلوك الدولي، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ولذلك، فإن طلب الصرب بوقف القتال قد جاء بعد أن حققوا، تقريباً، أهدافهم العسكرية. وهذا يشكل سابقة خطيرة، إذ يمكن أن يسير على هديها أي دكتاتور مجنون، يظهر في أي نقطة ساخنة أخرى من أوروبا. فهل نريد، حقيقة، أن نقول للناس أن في وسعهم ممارسة عمليات القتل والنهب والاغتصاب، ثم بعد ذلك يتفاوضون، بعد أن يكونوا حققوا أهدافهم كلها؟".