إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الثامن عشر

المبحث الثامن عشر

جهود الوساطة المبذولة خلال عام 1993

أولاً: خطة فانس ـ أوين

مع بداية عام 1993، تولت إدارة الرئيس كلينتون، الديموقراطية، السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، فبدأت محاولاتها بفتح قنوات التفاهم والتعاون مع روسيا، من أجل الوصول إلى حل للحرب الناشبة في البوسنة والهرسك، وكان خلال حملته الانتخابية، في نهاية 1992، قد وعد إذا ما انتخب بحل عادل يكفل للمسلمين حقوقهم. فأرسلت الإدارة الأمريكية إلى موسكو، يوم 12/2/1993، بعثة رفيعة المستوى لبحث القضية، في محاولة للوصول إلى حل مناسب. وكان قد أعلن من قبل، في 24/1/1993، في مقر مفاوضات جنيف في شأن البوسنة والهرسك، أن الأطراف الثلاثة: الصربي والكرواتي والإسلامي، قد وافقت على خطة الوسيطين الدوليين، فانس ـ أوين، القاضية بجعل البوسنة دولة لا مركزية، مقسمة إلى عشرة أقاليم: ثلاثة منها للصربيين، وثلاثة للكرواتيين، وثلاثة للمسلمين، في ما يبقى إقليم "مدينة سيراييفو" مدينة مفتوحة، تحت إشراف دولي. وليس لهذه الأقاليم شخصية قانونية أو دولية. وللدولة دستور موحد، تشارك في صياغته المجموعات الثلاث، وتعديله يتطلب إجماعها. كما أن للأقاليم برلماناتها المنتخبة، وسلطتها التنفيذية، وقضاءها المستقل. وتكون رئاسة الدولة من ثلاثة ممثلين عن الأطراف الثلاثة. مع نزع سلاح تدريجي من كافة الأطراف، تحت إشراف الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية. وكانت الدول الإسلامية قد أعربت عن اعتراضها على هذه الخطة، وتساءلت لماذا لم يطبق هذا التقسيم على جمهوريتَي صربيا والجبل الأسود وكرواتيا وكلتاهما تضم مجموعات إسلامية؟ (اُنظر شكل خطة فانس ـ أوين إبريل 1993).

ولقد أجابت عن هذه التساؤلات تحقيقات صحافية كثيرة، منها على سبيل المثال، ما ضمه البحث الذي نشرته صحيفة "الحياة" في 5 يناير 1993، والذي جاء فيه: "يرى الصرب المعتدلون في بلجراد، أن مشروع أقاليم الحكم الذاتي العشرة، الذي قدمه الوسيطان الدوليان، فانس وأوين، في إطار محادثات جنيف الحالية، يشكل ترسيخاً للتقسيم العرقي للبوسنة والهرسك على الرغم من ادعاءات اعتمادها الأسُس التاريخية والاقتصادية والاجتماعية. وأن الخريطة المرفقة بالمشروع، والتي وُصفت بأنها تنظيم جغرافي ـ سياسي، قد تم وضعها على أساس الوجود العرقي، وأن الشيء الوحيد فيها لإرضاء المسلمين، هو تأكيدها بقاء البوسنة والهرسك موحدة في حدودها الحالية. وإن الاعتراض الوحيد لصرب البوسنة على الخريطة، يرتكز على عدم وجود اتصالات برية كاملة بين أقاليمهم الثلاثة مع جمهورية صربيا. ومن المعلوم أن الخريطة تخصص نحو نصف أراضي البوسنة والهرسك للصرب. أما الطرف الكرواتي، فيشعر بالارتياح نظراً إلى محاذاة إقليميه الاثنين لجمهورية كرواتيا، وإلى كون إقليم ترافنيك، الذي يشترك فيه الكروات مع المسلمين، مجاوراً لإقليم موستار الجنوبي الكرواتي. ولقد حظيت هذه الخطة بموافقة المجموعة الأوروبية. أما بالنسبة إلى المسلمين، فعلى الرغم من الخسارة التي تلحقها الخريطة بهم، فإنه يتعذر عليهم رفضها، بسبب الضغط الذي يمارسه الوسيطان، فانس وأوين، ولهذا تتركز جهود الوفد المسلم، برئاسة علي عزت بيجوفيتش، على تحقيق أكبر قدر ممكن من مركزية السلطة، من خلال ربط الأقاليم ومجالسها المحلية بالعاصمة سيراييفو. ولقد توافرت معلومات في بلجراد بأن قيادة جمهورية الصرب، تدعم جهود الوسيطين، فانس ـ أوين، وأن الرئيس الصربي، ميلوسيفتش، أكد ذلك لوزير خارجية روسيا، كوزيريف، في اتصال هاتفي بينهما. ويبدو أن المجتمع الدولي يريد التخفيف من لهجته العنيفة تجاه الصرب، بعد ما اتضح فشلها في إخضاعهم، خصوصاً بعد ما أفرزته الانتخابات الأخيرة من انتصارات لقادة التطرف الصربي، وتعزيز موقف ميلوسيفتش، بفوزه الكبير في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة في جمهورية الصرب. وكان أوين قد اجتمع مع ميلوسيفتش في بلجراد، قبل محادثات جنيف، وصرح بأن "الرئيس الصربي قوي إلى درجة كافية، حتى لا يمكن تجاهله. مما يعني أن تجاوز التطلعات الصربية، هو أمر غير ممكن أثناء البحث عن حل للم شاكل اليوغسلافية. ويشير المراقبون إلى أن الصرب مستعدون، حالياً، لتقديم بعض التنازلات في شأن البوسنة، لأنهم واثقون من أن "التطهير العرقي"، الذي نفذوه، هو من القوة إلى درجة أنه يحُول دون عودة غالبية المسلمين إلى المناطق التي نزحوا منها".

لم يتمكن الوسيطان الدوليان من إقناع الصرب والكروات والمسلمين، بفضل مخطط التقسيم. ولم يكن أمامهما من خيار إلا تحويل الملف اليوغسلافي إلى مجلس الأمن. وفي يوم 1/2/1993، أعلن الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، أنه لن يحضر محادثات الأمم المتحدة في نيويورك، حول السلام في يوغسلافيا السابقة، وأنه سينوب عنه وزير خارجيته حارس سيلاذريتش. وأكد أن حكومته لن توقع اتفاق هدنة في البوسنة، إلا بعد وضع المدفعية الثقيلة للصرب، التي تقصف سيراييفو، تحت إشراف الأمم المتحدة. كما أكد رفضه للخريطة المقترحة لتقسيم البوسنة إلى عشر مناطق عرقية، مشمولة بالحكم الذاتي، ذلك لأن هذه الخريطة تكافئ المعتدين الصرب، ولا سيما في مناطق انتزعوا فيها السيطرة، وطردوا سكاناً مدنيين في ممارسة فظيعة معروفة باسم التطهير العرقي. وإن المستقبل سيبرهن أن خريطة الوسيطين الدوليين، لا يمكن أن تظهر إلى حيز الوجود، لأن هناك نحو مليون لاجئ نتيجة عمليات التطهير العرقي، لا يستطيعون العودة إلى ديارهم.

وفي اليوم عينه، كان اللورد أوين يصرح: بـ "أن الرئيس الصربي، ميلوسيفتش، قد أدرك أنه ارتكب أخطاء فادحة، إلا أنه أصبح مستعداً الآن لإعادة صربيا إلى الأسرة الأوروبية، وأن صربيا، التي عملت على حماية الصربيين في كل مكان، قد أدركت أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم بقوة السلاح". وذكر أن التقرير الذي أعدَّه الوسيطان الدوليان، قد تعرض للصراع في البوسنة والهرسك، وما وقع من انتهاكات لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ومعاهدات الحروب بشكل لا يمكن للذهن تخيّله. فيما ذكرت الصحف الفرنسية: "يبدو أمام عجز الأمم المتحدة عن تنفيذ قراراتها، أنه لا يوجد حل إلا بالعودة إلى نقطة الصفر، والبدء بمباحثات جديدة. وأن المعارك في البوسنة والهرسك، لن تتوقف إذا لم يتم التوصل إلى موقف أوروبي موحد".

شرع الوسيطان الدوليان، فانس وأوين، يجريان الاتصالات لدعم مشروعهما، وكان عليهما قبل كل شئ إقناع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا "بفضائل التقسيم". ولكن واشنطن وموسكو تمهلتا في دراسة المشروع. وأعلن وزير الخارجية الأمريكي، وارين كريستوفر، يوم 2/2/1993: "أن لدى الرئيس كلينتون حساسية خاصة من الانتقادات الموجهة إلى خطة أوين ـ فانس. ذلك أن اقتراح تقسيم البوسنة والهرسك إلى عشرة أقاليم منعزلة، يتمتع كل منها بالحكم الذاتي، يرقى إلى درجة تقسيم دولة مستقلة ذات سيادة. وأن الإدارة الأمريكية تعارض بشدة خطة سلام تصادق، إلى حد ما، على المكاسب التي حققها صرب البوسنة، عبْر سياسات التطهير العرقي والاستيلاء على الأراضي، التي مارسوها". أما موسكو، فقد أظهرت، بدورها، رغبة في التريث، قبل أن تتخذ موقفها النهائي. ولقد أكد هذا الموقف الرئيس كلينتون، يوم 5/2/1993، عندما أعلن، للمرة الأولى، أن خطة الوسيطين الدوليين فانس ـ أوين، التي تتضمن تقسيم البوسنة، لا تتفق مع موقف بلاده الرافض للموافقة عليها، وأن أمريكا لن تدعم هذه الخطة، ولا يمكن للبيت الأبيض أن يوافق عليها، إلا إذا وافقت عليها حكومة البوسنة والهرسك، التي كانت قد أعلنت رفضها لها، لأنها تزيل حكومة البوسنة والهرسك، وتعمل على تقسيمها وتجزئتها. ولكن ديفيد أوين تصدى للرئيس الأمريكي، كلينتون، وهاجمه، واتهمه، صراحة، بالعمل على إحباط الخطة، من خلال إشارته إلى المسلمين بالدعم الأمريكي الذي يدفعهم إلى التصلب.

وكان من الواضح أن خطة فانس ـ أوين لتقسيم البوسنة، قد تم ترتيبها من قبل مع رئيسَي صربيا وكرواتيا. والذي يؤكد ذلك أن توديمان، رئيس كرواتيا، كان قد صرح، في 26 أكتوبر 1992، بأنه يريد "تقسيم البوسنة على أساس قومي". كما شدَّد الضغط على الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، عندما قال في حديث له مع وكالة رويتر: "إن لدينا برنامجاً سياسياً، ومن لا يوافق عليه فليتنحَّ وليرحل بطريقة أخرى". أما الصرب، فقد كانوا يفضلون تقسيم البوسنة إلى أقاليم منعزلة مستقلة. وهو ما رفضه المسلمون والأوروبيون. ولكن المسلمين طالبوا بتقسيم إداري، دون تقسيم عرقي أو ديني، في صورة مجالس بلدية، ترتبط بحكومة مركزية واحدة في البوسنة، على أن يكون نصيب المسلمين 64 بالمائة على الأقل، والصرب 26 بالمائة، والكروات 10 بالمائة. وكان الصرب في مؤتمر جنيف، يستعجلون إقرار خطة التقسيم، بعد أن حققوا أهدافهم على أرض الواقع في البوسنة، باستيلائهم، فعلياً، وسيطرتهم على 70 بالمائة من أراضيها، وبدأوا يتململون من هذه الحرب، خوفاً من حدوث تغيير في الموازين العسكرية في غير مصلحتهم بعد ذلك، يجعلهم يفقدون بعض ما في أيديهم من أراضي أو كله، وهم لا يريدون أن يموتوا بعد هذا الإنجاز.

ولم تكن خطة التقسيم تتعلق فقط بالأطراف المتصارعة، ولكن، في الأساس تتعلق بمراكز صنع القرار في الدول الكبرى. وهذا ما أبرزه التحرك السياسي للإدارة الأمريكية. فقد أُعلن في واشنطن قيام وزير الدفاع الأمريكي، ليس أسين، بمناقشة الحلفاء في اجتماعهم، في ميونخ، مسألة إنهاء الحرب في البوسنة، حيث صرح بأنه يحاول "مع زملائه وضع أسُس "صفقة" تنهي الحرب، كما ننظر في عدة خيارات، مع الوضع في الحسبان، ضرورة موافقة روسيا على ما سيتقرر". وقد ظهر آنذاك أن الأمم المتحدة قد تبنّت خطة فانس ـ أوين، باعتبارها محاولة حقيقية لإنهاء الحرب، يجب أن تطبق بسرعة حال الموافقة عليها من كافة الأطراف المتحاربة، خاصة مسلمي البوسنة، وهو ما اشترطته إدارة كلينتون، لكي تعطي الموافقة الأمريكية على الخطة.

إلا أن رئيس البوسنة، بيجوفيتش، الذي أعلن أنه لن يحضر محادثات السلام في نيويورك، رفض هذه الخطة، في تصريح له، قال فيه: "إن خطة السلام التي طرحها الوسيطان الدوليان، سايروس فانس واللورد أوين، هي خطة تتحدى قرارات الأمم المتحدة في شأن البوسنة، وتمنع اللاجئين من العودة إلى ديارهم. وإن الخريطة التي تقسم الجمهورية إلى عشرة أقاليم، تضفي الشرعية على العمليات الوحشية، التي قام بها الصرب، منذ تفجر القتال في أبريل 1992. وإني أطلب تعديل هذه الخطة". أما نائب رئيس وزراء البوسنة، فقد وصف الخطة التي تقسم البوسنة على أسُس عرقية، بأنها ستؤدي إلى اندلاع موجة جديدة من التطهير العرقي في البوسنة.

وقد تأكد هذا التخوف، عندما أعلنت المفوضية العليا للاجئين، التابعة للأمم المتحدة، في زغرب، أن هناك 5000 من غير الصرب، معظمهم من المسلمين، قد أُخرجوا من ديارهم حول مدن سربرنيتشا، تشيريسكا، وزيبيا، وأنهم اتجهوا إلى مدينة سولا، التي يسيطر عليها البوسنيون. كما أرغم الصرب العائلات المسلمة على مغادرة مدينة تيربيني. وأفادت وكالات الأنباء أن نشر خريطة فانس ـ أوين، قد أعطى متطرفي الصرب والكروات الضوء الأخضر لوضعها موضع التنفيذ، لكونها قائمة على مبدأ التقسيم العرقي.

وفي 8/12/1993، أعلن الوسيطان الدوليان، فانس ـ أوين، أنهما فشلا في إقناع الأطراف المتحاربة بقبول خطتهما. وأنهما يرغبان في أن تمارس روسيا ضغطاً على الصرب، في ما تمارس الولايات المتحدة الأمريكية ضغطاً على المسلمين لقبولها.

ثانياً: خطة أمريكية ذات ست نقاط (مبادرة كلينتون عام 1993)

كان موقف إدارة بوش السابقة من التدخل العسكري، معروفاً بأنه سيحدث، إذا ما تخطت صربيا الخط الأحمر، الموضوع لها في كوسوفو. ولكن الإدارة الديموقراطية الجديدة، التي كانت قد وجهت انتقادات حادة إلى إدارة بوش في شأن تعاملها مع الأزمة، أكدت أنها سوف يكون لها نهج آخر أكثر حسماً. إذ أعلن لي آسبن Les Aspin، وزير دفاع كلينتون: "أنه إذا لم يفعل العالم شيئاً تجاه ما يحدث في البوسنة، فإن ذلك قد يغري بتكرار هذه الأحداث في مناطق أخرى، كالاتحاد السوفيتي سابقاً". وأضاف أن المصلحة الأمريكية مهددة بالخطر في البوسنة، أكثر من التهديدات التي تتعرض لها في الصومال.

وبناء على ذلك، توقع العالم اتخاذ خطوات عملية حادة، في اتجاه وقف المأساة. إلا أن الرئيس كلينتون أوضح أن إرسال قوات أمريكية برية إلى منطقة البلقان، هو أمر مستبعد، وإن كان قد أكد استعداده لاتخاذ إجراءات صارمة، ضد مرتكبي عمليات التطهير العرقي، ثم عاد وأعلن أن بلاده لن تقوم بعمل عسكري منفرد لوقف عمليات التطهير العرقي . وقدم، في المقابل، خطة أمريكية من ست نقاط، أعلنها وزير الخارجية الأمريكية، وارين كريستوفر، في 11/2/1993، لإنهاء النزاع في جمهورية البوسنة والهرسك، وإقرار السلام فيها، تتلخص في:

1. المشاركة مشاركة ناشطة، ومباشرة، في جهود الوساطة الدولية، بقيادة الوسيطين، سايروس فانس وديفيد أوين، وتأكيد دعم واشنطن الدبلوماسي لجهودهما.

2. تعيين الدبلوماسي الأمريكى، ريجنالد بارثولوميو، السفير لدى حلف شمال الأطلسي، آنذاك، موفداً خاصاً، ليشارك في جهود الوساطة الدولية.

3. تشديد العقوبات على صربيا.

4. مطالبة جميع الأطراف بالتوقف عن أي أعمال عدائية، والعمل على تشديد إجراءات فرض الحظر الجوي، فوق البوسنة.

5. العمل على إنشاء محكمة جرائم حرب، تحت سلطة الأمم المتحدة.

6. رد الولايات المتحدة الأمريكية على أي عمل عسكري صربي، في كوسوفو.

وقد أثارت هذه المبادرة ردود فعل إيجابية واسعة. وأيدها معظم الأطراف. فقد رحب بها البوسنييون، على لسان الرئيس البوسني، بيجوفيتش، والذي قال إن بلاده ترحب بالقرار الأمريكي، المشاركة في الجهود الدبلوماسية، الرامية إلى وضع حدٍّ للقتال. كما قبلها زعيم صرب البوسنة، رادوفان كرادزيتش، الذي رحب بعودة الأمريكيين إلى البلقان، وبمشاركتهم في حل الأزمة. كذلك، رحب ماديونيبلو، السفير الكرواتي لدى الأمم المتحدة، في تلك الفترة (فبراير 1993)، بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في حل أزمة البوسنة. وقد حظيت المبادرة الأمريكية بقبول كلٍّ من جون ميجور، رئيس الوزراء البريطاني، ووزير خارجيته، دوجلاس هيرد. أمّا وزير الخارجية الألماني، كلاوس كينكل، فقد صرح بأن الخطة الأمريكية، أكدت استعداد الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة في القضية، وتأييد الوسيطَين الدوليَّين. ولاقت المبادرة ترحيب كلٍّ من فرنسا وروسيا، ومعظم الدول، الإسلامية والعربية. وقد تساءل المراقبون عن الجديد في هذه المبادرة، التي جاءت وسطية، توفيقية، وخلت من الدعوة إلى رفع حظر الأسلحة عن البوسنة، أو التهديد بعمل عسكري، كما كان يتوقع الكثيرون! فقد كانت المبادرة تراجعاً عن الوعود، التي أعلنها كلينتون، أثناء حملته الانتخابية. كما اتسمت بالعمومية والبعد عن التصدى الفعال للمشكلة، علاوة على تضاربها مع التصريحات الأمريكية السابقة، في خصوص انتقاد خطة السلام، التي أعدها فانس وأوين وعدم تأييدها.

فقد أكدت المبادرة دعم هذه الخطة، واستطراداً، فقد أقرت بالمكاسب الإقليمية، التي حققها الصرب، على حساب المسلمين، مما عنى، آنذاك، أن الموقف في البوسنة، يمكن أن يظل كما هو، من دون تغيير. إضافة إلى أنها، عندما تحدثت عن ضرورة فرض حظر الطيران فوق البوسنة، لم تشِر، من بعيد أو قريب، إلى كيفية تحقيق ذلك. ولم تشِر، بالتحديد، إلى ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة الأمريكية للمعاونة على فرض هذا الحظر، بالقوة.

وعلى هذا النحو، عكست الأوضاع، خلال عام 1993، تراجعاً في الموقف الأمريكي، إلى جانب اهتمام الوسيط الأمريكى، بارثولوميو، بالذهاب إلى موسكو، والتأكيد أن واشنطن وموسكو، ستعملان معاً على حل نزاع البوسنة.

وقد ألقى التراجع الأمريكي، في بداية الصراع، الضوء على الأوضاع الدولية الراهنة، وحدود دور كل قوة دولية، ولا سيما الدور الأمريكي، وحدود العلاقات والتحالفات.

ويعكس التراجع الأمريكي عن المواقف المتشددة، ضد الصرب، وتأييد الخطة، التي سبق الاعتراض عليها، حرصاً أمريكياً على عدم التورط في أوروبا، واعترافاً بأن قضية البلقان، بصفة عامة، والبوسنة، بصفة خاصة، قضية أوروبية، في الدرجة الأولى، وأن القرار الحاسم في شأنها، قرار أوروبي.

وقد برز هذا المعنى واضحاً في تصريحات وزير الخاريجية الأمريكي، التي قال فيها أن الولايات المتحدة الأمريكية، لا تنوي إدارة المفاوضات حول البوسنة، وأن مبعوثه الخاص للتعامل مع الأزمة، ربما لا يجلس حول طاولة المفاوضات، مع سائر الأطراف والوسيطَين الدوليَّين، سيروس فانس وديفيد أوين.

وقد أعلن كريستوفر، أن الدور الأمريكي، لن يتولى المفاوضات، وسيقتصر على المساعي الحميدة، ومحاولة أداء دور بناء.

أمّا الوسيط الأمريكي، بارثولوميو، فقد أكد، بدوره، ضرورة التعاون الوثيق، مع الوسيطَين، فانس وأوين، ونفى الأنباء، التي ترددت، آنذاك، أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل على تعطيل دورهما. ولعل تعليق الصرب علىالمبادرة، وعلى ما أعقبها من تعليقات، يؤكد تقبُّل مختلف الأطراف لها.

ثالثاً: خطة التقسيم الثلاثية

بعد أن فشلت خطة فانس ـ أوين، وبعد ما فشلت أيضاً الخطة الأمريكية، ثم فشلت كذلك إستراتيجية "احتواء الحرب"، في وقف الحرب الأهلية في البوسنة، واستبدل بالوسيط الدولي، فانس، آخر جديد، هو ثورفالد شتولتنبرج ـ طرحت كرواتيا خطة لتقسيم البوسنة إلى ثلاثة أقاليم على أسس عرقية، على أساس أن تقام الدويلتان الكرواتية والصربية داخل البوسنة أولا على الأقاليم التي يسيطرون عليها فعلياً، الكروات والصرب، ثم يجرى استفتاء بعد ذلك، حول انضمام كل منهما إلى الدولة الأم، فتنضم الدويلة الكرواتية في البوسنة إلى جمهورية كرواتيا، وتنضم دويلة صرب البوسنة إلى جمهورية صربيا والجبل الأسود، وهو ما يعني إقامة دولتَي الصرب الكبرى وكرواتيا الكبرى. على أن يُترك للمسلمين منطقة في وسط البوسنة، تشكل 30 بالمائة من مساحتها، على هيئة جيوب معزولة ومحشورة بين الجبال، بلا محاور تربطها، ولا منفذ بحري، ولا إمكانات اقتصادية، فلا تهيئ كياناً لقيام دولة مستقلة في المستقبل، تستطيع أن تؤمن نفسها وتعتمد على قدراتها. بينما تعطي الخطة للصرب 52 بالمائة، والكروات 18 بالمائة من أراضي البوسنة. ولم يكن بعيداً عن الأذهان أن التصعيد العسكري، الذي شهدته المناطق المسلمة في شرق وغرب البوسنة ووسطها، في أواخر شهر يونيه وبداية يوليه من عام 1993، كان يستهدف الضغط على المسلمين لكي يقبلوا بهذه الخطة.

وإذا استعرضنا مسار المخططات، التي وضعها الوسيطان الدوليان بالاشتراك مع الدول الغربية، فسوف نجدها استهدفت، في البداية، دعماً من أجل يوغسلافيا الموحدة. ثم عُدِّلت لتكون من أجل بوسنة مستقلة. ثم عُدِّلت، مرة ثالثة، لتكون مناطق آمنة للمسلمين. وهاهي في هذه المرحلة، في النصف الثاني من عام 1993، تُعدَّل من أجل تقسيم البوسنة إلى ثلاث دويلات، شبه مستقلة عرقياً. وقد دافع قادة الغرب عن الخطة الأخيرة، باعتبارها من أقل الخيارات التي يمكن الاعتراض عليها. أما ما كان يطالب به المسلمون من خيارات أخرى أكثر فاعلية، مثل التدخل العسكري، أو تسليح المسلمين، أو إغلاق الحدود بين كل من صربيا وكرواتيا ودويلتيهما العملية في البوسنة، فقد رفضها قادة الغرب، باعتبارها "حلولاً غير عملية وغير ممكنة". وقد أثارت هذه الخطة اعتراض بعض السياسيين والإستراتيجيين الغربيين، ليس باعتبارها تحول مناطق المسلمين في البوسنة إلى وضع أشبه بمعسكرات اللاجئين في فلسطين، بل لأنها قد توحي للأقليات العرقية الكثيرة، المنتشرة في دول أوروبا وروسيا، بإمكان مطالبتها بالانفصال، أو الانضمام إلى دول، تعتبر، بالنسبة إليها "الدولة الأم". وهو ما يشكل خطراً على استقرار الدول الأوروبية، ويهدد أمنها، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وقد لقيت هذه الخطة معارضة شديدة من جانب حكومة البوسنة، إذ رفضها مجلس الرئاسة البوسني، في 9/7/1993، وفضّل عليها العودة إلى خطة فانس ـ أوين المعدلة. إلا أن اللورد أوين رفض ذلك، مؤكداً أن الخطة قد ماتت، بعد المكاسب الجديدة التي حققها الصرب والكروات على أرض الواقع، خلال شهري مايو ويونيه، كما أعلن أوين، في 17/6/1993، أن خطة التقسيم الثلاثية، التي وافق عليها الرئيسان، الصربي والكرواتي، في اجتماع جنيف، والتي تدعو لإقامة ثلاثة كيانات عرقية، في ظل شكل من أشكال الحكومة المركزية، يجب أن تكون أساساً للتسوية. وكان الرئيس كلينتون قد أعلن أن بلاده مستعدة لبحث قبول هذا التقسيم، تنفيذاً لمطالب الصرب والكروات. واعترف بأنه كان يفضّل دولة واحدة متعددة الأصول العرقية، وأن التقسيم هو مكافأة للمعتدي، وألقى بالمسؤولية على الأمم المتحدة، التي فرضت حظر السلاح على المسلمين، بينما الصرب والكروات ينالان ما يحتاجان إليه. ثم عادت واشنطن وأكدت رفضها لأي تقسيم للبوسنة، وفرض أي حل سياسي بالقوة.

وكان الرئيس البوسني، بيجوفيتش، يفضّل أن تؤيد الدول الكبرى والأمم المتحدة قيام دولة غير عرقية في البوسنة، أو دولة مختلطة الأعراق، وهو ما دأب على ترديده، وكان متفائلاً بذلك إلى حد بعيد، لأنه كان يعتقد أن العواصم الغربية، تبغض العرقية والتقسيم. كما كان بيجوفيتش يرى أن "قيام الدول على أسُس عرقية، ليس بالشيء الذي نرغب فيه، ولقد قاتلنا ضده، ولكننا نواجه، اليوم، خياراً صعباً. فإنه ينبغي علينا إما أن نقبل التقسيم على أسُس عرقية، أو القتال ضده حتى النهاية. ولقد فكرت بالمنطق التالي: دعونا نقبل التقسيم مؤقتاً، لأنه، كما أرى، أمر لا يمكن أن يستمر، نريد إحلال السلام في البوسنة والهرسك أولاً. ولذا، فهي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا الموقف. إن العالم لا يبالي بما يحدث لنا. لذا، دعونا ننقذ ما نستطيع من البوسنة والهرسك كدولة، استطعنا أن نحافظ على اسمها داخل حدودها الحالية حتى اللحظة الراهنة".

وكان تصريح الرئيس البوسني انعكاساً لإدراكه بأن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية قد تخلّيا تماماً عن مسلمي البوسنة، الذين كانوا، في ذاك الوقت، ممزقين بين واقعية اليأس والاستسلام، وبين ذلك التفاؤل البائس المعلق بمفاوضات جنيف، وهي الحالة التي وصفها الرئيس بيجوفيتش بعبارة: "البحث المتواصل عن اللامتوقع". والأمر الخطير، الذي لم تدركه القوى الكبرى، التي كانت تلحّ على الاستمرار في المفاوضات تحت ضغط حصار المسلمين، وكان يحكم، في الوقت نفسه، قرار الرئيس البوسني ـ أن توصيل الماء والغذاء والدواء إلى المسلمين المحاصرين، والذين يحصدهم الموت بالآلاف يومياً، سواء بفعل القصف المدفعي أو نتيجة الجوع والبرد، وهو الأمر الذي لم يعطِه مجلس الأمن، ولا الدول الكبرى الاهتمام الواجب ـ هو أهم عنده من قمم الجبال ومحاور الاتصال بين المدن، التي كانت تحوز اهتمام الآخرين بمن فيهم الدول الكبرى والوسيطان الدوليان، وهو الدافع الرئيسي الذي اضطره إلى قبول خطة التقسيم.

وعندما استؤنفت مفاوضات جنيف، أعلن المتحدث باسم المؤتمر، يوم 18 أغسطس، أنه أمكن التوصل إلى اتفاق حول وضع سيراييفو، ولكنه لن يصبح نافذ المفعول، إلا بعد توقيع اتفاق سلام شامل. وقد نص هذا الاتفاق على وضع العاصمة البوسنية تحت إدارة الأمم المتحدة، خلال فترة انتقالية، تستمر لمدة عامين، تتعهد خلالها الأطراف المتحاربة بإيجاد "حل دائم". كما نص الاتفاق على منح سيراييفو وظائف حكومية، على غرار الجمهوريات الثلاث، التي سيتألف منها "اتحاد جمهوريات البوسنة"، لكنها لن تمثَّل في الرئاسة الجماعية للاتحاد. ويشرف على العاصمة ممثل الأمم المتحدة ولجنة استشارية، تضم أربعة ممثلين عن المسلمين، وثلاثة عن الصرب، واثنين عن الكروات، وممثلاً واحداً عن الأقليات الأخرى، وتتخذ اللجنة توصياتها بالتراضي. كما يتضمن الاتفاق تشكيل لجنة للحدود، تأخذ في الحسبان، عند تعيين حدود البلديات، الحدود التي كانت قائمة في أول يناير 1991، وما جرى من محاولات تغيير، ورغبات المعنيين، وآراء اللجنة الاستشارية، والحاكم الإداري باسم الأمم المتحدة. كما قضى الاتفاق أن تنظم كل بلدية قوات الشرطة التابعة لها، التي يجب أن تتشكل وفق "تمثيل متوازن"، وتوضع تحت إشراف شرطة مدنية من الأمم المتحدة، تسهر على احترام حقوق الأقليات. كذلك، نص الاتفاق على حق اللاجئين والمهجَّرين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، التي تخلوا عنها تحت الإكراه. وقد وقّع هذا الاتفاق المتعلق بسيراييفو، زعماء الأطراف الثلاثة: علي عزت بيجوفيتش عن البوسنة، ورادوفان كارادازيتش عن صرب البوسنة، ومات بوبان عن كروات البوسنة.

وبعد ذلك بيومين، تقدم ديفيد أوين وثورفالدستولتنبرج، بخطة سلام البوسنة، وتقوم على تقسيم البوسنة والهرسك إلى ثلاث جمهوريات، موزعة على 12 إقليماً، وأعطت الخطة الصرب 52% من مجمل أراضي البوسنة، في الوقت الذي يشكل فيه الصربيون 39% من السكان، وللمسلمين 30% من الأراضي، بينما هم يشكلون غالبية تقدر نسبتها بـ 44% من السكان، وللكروات 18% من الأراضي، في حين أنهم يشكلون 17% فقط من السكان. وقد اعتبر الوسيطان الدوليان أن المساحة التي أعطيت للمسلمين، تشكل إنجازاً حقيقياً، لأن الصرب يسيطرون، بالفعل، على 70 % من مجمل أراضي البوسنة والهرسك، نتيجة انتصاراتهم في معارك الإبادة العرقية ضد المسلمين، الذين لا يسيطرون، فعلياً، إلا على 10% من أراضي البوسنة. وتتوزع الأراضي المخصصة للمسلمين ضمن هذه الخطة، على خمسة أقاليم، إضافة إلى جزء من منطقة سيراييفو العاصمة. وتشمل جزءاً واسعاً من وسط البوسنة والمناطق المحصورة بين بيهاتش في الشمال الغربي، وسربرنيتشا في الشرق، وجورازدي في الجنوب الشرقي، وترتبط بطريق يشرف عليه المسلمون، داخل أراضي الصرب، وطريق آخر يربط جورازدي بسيراييفو. وقضت الخطة بتمتع جمهورية البوسنة بمنفذ إلى نهر سافا في الشمال، من طريق ممر يصل إلى مدينة بروتشو، التي سيوضع القسم الأكبر منها تحت سلطة الجمهورية المسلمة. كذلك، نص الاتفاق على وضع مدينة جورني فاكوف "قدر الإمكان"، ضمن أراضي المسلمين، شرط احتفاظ الكروات بمنفذ إلى بروراور. وفي محاولة لإغراء مسلمي البوسنة والهرسك بقبول المشروع، قال الوسيط الدولي، ديفيد أوين: "إنه أفضل عرض قُدِّم إلى المسلمين، الذين كانوا يشكلون 44% من سكان البوسنة، قبل الحرب، ولكنهم لا يسيطرون، اليوم، إلا على 10% من الأراضي"!!.

ومن الواضح، أن مدينتي توزلا وزينتا، في وسط البوسنة، كانتا تشكلان، في الخطة، قلب الدولة الإسلامية الجديدة. كما أعطت الخطة للمسلمين جيباً منعزلاً في الشمال الغربي، في بيهاتش، وجيياً منعزلاً آخر في الشرق، يضم مدينتَي سربرينيتشا وزيبا، إضافة إلى لسان في الشرق، يصل إلى جورازدي. وهي جيوب متباينة في الحجم، والموقع الجغرافي، كان من المتوقع أن تسبب مشاكل للدولة الإسلامية، في المستقبل، بسبب انعزالها الجغرافي ومحاصرة الصربيين لها من كافة الجهات. وقد اقترح كارادازيتش تخلّيه عن أطماعه في العاصمة سيراييفو، وتركها كاملة للمسلمين، في مقابل تخلّي المسلمين عن مدينتي سربرينيتشا وزيبا. كذلك عرض تقديم ممر، بعرض ميلين، بدلاً من الطريق السريع، الذي اقترحته الخطة لربط جيب سربرينيتشا ـ زيبا مع مدينة جورازدي، والذي كان يسيطر عليه المسلمون. أما الزعيم الكرواتي، مات بوبان، فقد رفض إعطاء ميناء نيوم، على الأدرياتيكي، للمسلمين، واقترح، في المقابل، أن يشتري المسلمون أرضاً في هذه المدينة الساحلية، ليبنوا عليها مرفأ خاصاً بهم.

إلا أن بيجوفيتش أبلغ ممثله في المؤتمر، بضرورة الحصول على ممر واسع، يضمن له الوصول إلى مدينة نيوم على الأدرياتيكي، الواقعة ضمن حدود الدولة البوسنية، كما وعد اللورد أوين في المفاوضات. ولكن الرئيس الكرواتي توديمان رفض ذلك، وأوضح أن بلاده لن تسمح للمسلمين بالحصول على منفذ بحري إلى الأدرياتيكي، وأكد أن هذا البحر أصبح كله في يد الكروات، معتبراً أن سيطرة الكروات على مدينة نيوم يعَد قدراً أبدياً، لا رجعة فيه، واقترح في المقابل، السماح للمسلمين باستخدام ميناء بلوشا الكرواتي، لأغراض التجارة، تحت مراقبة الكروات وبإذن منهم، بل أضاف، في صلف، أن على المسلمين، في دويلتهم الجديدة، ضمن خطة التقسيم المقترحة، أن يسمحوا للكروات بإنشاء خط سكة حديد داخل أراضيهم، يسمح للكروات بالعبور من ساحل الأدرياتيكي إلى شرق كرواتيا !

ومن الواضح أن توديمان، الذي كان أول من نادى بالتقسيم العرقي لدولة البوسنة، لم يقترح دمج صرب البوسنة في الكروات، في كيان موحد إلى جانب البوسنيين، ذلك لأنه كان، ولا يزال، يعيد قراءة التاريخ الحافل بالحروب العرقية بين الصرب والكروات، كما أن الصرب في جمهورية كرواتيا يكررون طلب الالتحاق بجمهوريتهم العرقية. وليس مصادفة أن تكون ألمانيا النازية، هي التي أ قامت دولة كرواتيا، في عام 1941، ثم تكون ألمانيا الموحدة، في عام 1991، هي أيضاً أول دولة تعترف بجمهورية كرواتيا الجديدة، التي استقلت وخرجت مع سلوفينيا من الاتحاد اليوغسلافي المنهار. والعجيب، أن الولايات المتحدة الأمريكية حمَّلت ألمانيا مسؤولية المصير، الذي انتهت إليه الجمهوريات اليوغسلافية. ولكن كرواتيا لم تكن في حاجة إلى من يشجعها على الانفصال والاستقلال في حدود مرسومة مسبقاً بخطوط من دم.

وبالطبع، قبل زعيما الصرب والكروات مشروع التقسيم، الذي عرضه ديفيد أوين، لأنه مقدم منهما إليه في الأصل. وقال ميلوسيفتش إنه "يؤيد الاتفاق تماماً. وهو حل وسط، نزيه وعادل، بالنسبة إلى الأطراف الثلاثة، وسيوصى برلمان صرب البوسنة بقبوله". كما وصف الطرف الذي سيرفضه، بأنه سيكون مسؤولاً عن استمرار الحرب. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس الكرواتي، تودمان. فقد أيد، بدوره، الخطة، وأكد استعداده للإلقاء بثقله من خلفها، وقال إن الصيغة المعروضة، تعتبر متكاملة، وتشكل حلاً وسطاً، يمثل أفضَل ما يمكن في ظل الظروف الحالية. أما في البوسنة، فقد كان الوضع مختلفاً. ذلك أن خطة التقسيم المعروضة، كانت تتضمن اعترافاً صريحاً باستيلاء الصرب على أراضي المسلمين بالقوة، بل تضفي عليه الشرعية.

فقد أعلن بيجوفيتش، أنه غير مرتاح لما ورد في الخطة، لأنها لا تنص على انسحاب الصرب من الأراضي، التي شهدت تصفيات عرقية، والتي استولوا عليها بالقوة. ولكنه وعد بعرض المشروع على برلمان بلاده، وطالب برفع حصار الصرب عن سيراييفو التي تضم 55 ألف مسلم، حياتهم مهددة، وإيقاف قصف الكروات وحصارهم للقطاع المسلم من موستار. ومن جهته، وصف وزير خارجية البوسنة، حارس سيلاديتش، مشروع التسوية بأنه غير مقبول، ويعتبر إنذاراً مرفوضاً بشكل كامل، لأنه يقضي بإعطاء مناطق، ارتكبت فيها عمليات إبادة جماعية، إلى من ارتكبوها. وأوضح أن المدنية الحديثة، لا يمكن أن تقبل بهذا. وأكد أنه لن يوصى برلمان بلاده بالموافقة على هذا المشروع. وبالفعل رفض برلمان البوسنة مشروع خطة التقسيم، لأن الدويلة المسلمة المقترحة، محاصرة من الأعداء من كل ناحية، وهناك تداخل في الأراضي، يمكن، ببساطة، أن يعيد أجواء الحرب من جديد، وطالب البرلمان بالاستمرار في المفاوضات، ومحاولة كسب ما يمكن كسبه.

وعندما نتحرى وجه الحقيقة في خطة تقسيم البوسنة، التي عرضت على المسلمين، نجد أن الوسيطين الدوليين، عندما قررا تعليق مفاوضات تقسيم البوسنة لمدة عشرة أيام، قالا في قرارهما إنهما يعطيان بهذا التعليق مهلة، كي تتمكن الأطراف الثلاثة ـ الصرب والكروات والمسلمون ـ من دراسة خطة السلام الشاملة الجديدة. غير أنهما ما لبثا أن اعترفا بأن هذه المهلة لم تعط إلا للمسلمين فقط، إذ وجّها إنذاراً صريحاً إلى القيادة البوسنية، بأن رفض التسوية الجديدة، التي ما هي إلا مشروع صربي كرواتي مشترك للتقسيم، يعني تصعيد العدوانين الصربي والكرواتي ضد ما تبقى من المسلمين. وقد تبعهما زعماء الصرب والكروات بإعلان موافقتهما المسبقة على الخطة، وهددا أيضاً بإبادة المسلمين، إذا رفض قادتهم التسوية المقترحة. في حين أن هذه الخطة، لم تأتِ بجديد لمصلحة المسلمين، فقد اعترفت بسياسة انتزاع الأراضي بالقوة، وبالتطهير العرقي، وتجاهلت حصار سيراييفو، وتدهور الأوضاع في المناطق المسلمة الأخرى، والظروف اللاإنسانية التي فرضها الصرب والكروات على المسلمين، بل لم تطالب الخطة، ولو لمجرد إثبات موقف، مثل الخطط السابقة، بوقف عمليات القتال وفك الحصار عن سيراييفو.

ولهذا، فإن هذه الخطة التي أصرت جميع الأطراف، باستثناء قيادة البوسنة، على أنها أفضل المتاح في ظل الأمر الواقع، تنهض دليلاً جديداً على أن الوساطة الأوروبية، ممثلة في اللورد أوين، والدولية، ممثلة في ثورفالد استولتنبرج غير نزيهتين. فقد تعمد الوسيطان تجاهل الوضع في البوسنة، حتى يضعا قيادتها أمام خيار وحيد، هو قبول ما يقدم إليها. كما تعمدا أيضاً أن يقتصر مشروعهما على الخطوط العريضة للتسوية، مما يجعل موافقة رئاسة البوسنة عليها مجرد خطوة على طريق الحل، وبداية لسلسلة أخرى من المفاوضات حول التفاصيل، ليستكمل الصرب والكروات، بالمفاوضات، ما بدأوه بالحرب.