إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الثامن عشر

رابعاً: جولة جديدة فاشلة من المفاوضات في جنيف

وإزاء تهديد الرئيس كلينتون بتأجيل قصف المواقع الصربية بطائرات حلف شمال الأطلسي، إذا لم يحضر الرئيس البوسني مؤتمر جنيف، وما قدمه من إغراءات بتقديم مساعدات لإعادة إعمار البوسنة، اضطر الرئيس بيجوفيتش إلى الحضور إلى جنيف، في 31/8/1993.

وفي هذا التاريخ، بدأت جولة جديدة من المفاوضات، في جنيف، لإنهاء الحرب المدمرة، وتحسين وضع الدويلة المقترحة لمسلمي البوسنة والهرسك. ووصف الرئيس بيجوفيتش العودة بأنها "أفضل على أي حال من الحرب". وقد تقدم المسلمون بمطالب، في الجولة الجديدة، تقلّ عن مطالبهم في الجولة التي انتهت في 17 أغسطس، إذ بدلاً من مطالبتهم بـ 40 % من الأراضي طالبوا بـ 35 % فقط، بنقصان 5 %، تشمل ثلاث مدن في الشرق يحاصرها الصرب، وبعض المناطق الغربية التي كانت تتمتع بأغلبية مسلمة، قبل بدء حملة التطهير العرقي، وبميناء خاص لهم على الأدرياتيكي.

وخلال زيارته إلى تركيا، في 2 سبتمبر، أعلن بيجوفيتش أن الصرب والكروات رفضا مطالب المسلمين، وهي في مستوى الحد الأدنى، وأكد أنه لا يستطيع قبول خطة السلام المعروضة، لأنها تعني أنه لن يعود لشعب البوسنة وجود. أما وزير خارجية البوسنة، فقد علق على الخطة قائلاً: "لم يعترف أحد بمطالبنا العادلة والبسيطة. إنهم يريدون تقسيم الأراضي كما يحلو لهم، دون النظر إلى المناطق ذات الأغلبية المسلمة". وشدد على أن المسلمين المفاوضين، لن يتخلوا عن وجود منفذ لهم إلى البحر، يتيح للدولة الجديدة أن تتصل بالعالم. وأوضح أن هذا المنفذ حق طبيعي لها. ثم أوجز وزير خارجية البوسنة الوضع في البوسنة بقوله: "نحن ندور في حلقة مفرغة، مفاوضات، ثم الفشل في التفاوض، والعودة إلى أرض المعركة، وارتفاع حدّة القتال. ثم يجد الطرفان الكرواتي والصربي، أن لا حل إلا بالعودة إلى مائدة المفاوضات".

وكان من رأى وزير خارجية البوسنة، أن توجيه ضربة جوية ضد الصرب، يمكن أن يقلب الموازين على أرض الواقع، وأن يقنع الصرب بالحل السلمي، وأن يحد من أطماعهم. ولكن كان السؤال: من يوجه الضربة؟ لقد كان هناك أكثر من دولة تعارض ذلك، وفي مقدمها روسيا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية، التي ترتبط بمصالح اقتصادية واسعة مع الصرب ... لعل أبسطها إمدادهم بالسلاح. وكان وزير خارجية البوسنة يرى أيضاً، أن فك حصار السلاح المفروض على بلاده، يمكن أن يُحسِّن من وضع المسلمين. ثم تساءل، عن حق: "ولكن من يرفع هذا الحظر؟ لا أحد من بين الدول الفاعلة مستعد لطرح الموضوع وتبنّيه حتى إنجاحه".

وهكذا أبقى وزير خارجية البوسنة، في تقديره، جميع الأوضاع مفتوحة لكافة الاحتمالات، وأرجحها اندلاع القتال، ا لذي لن تكون نتائجه أفضل مما سبق. إذ سيحاول الصرب والكروات الإجهاز على ما تبقى من دولة البوسنة والهرسك، وممارسة سياسة التطهير العرقي والإبادة الجماعية، التي ستكتوي أوروبا بنارها في يوم من الأيام. وعندما يقع ذلك، فإن العالم سيتأكد من أن المسلمين لم يبدأوا بالحرب، فلا يجب أن يحملهم أحد مسؤولية عدم الوصول إلى السلام".

أما على الجانب الآخر، فقد صرح كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، أنه على استعداد للتفاوض حول تعديلات على خرائط تقسيم البوسنة والهرسك. ولكنه ليس على استعداد للتنازل عن أي أراضٍ جديدة، وأضاف: "إن صرب البوسنة، سيكون لهم الكلمة الأخيرة في ما يتعلق بخطة السلام. وإنه إذا كان قد قبل الخطة المعروضة، فإن رفض المسلمين لها يعني استمرار الحرب. وإن الصرب يمكنهم التمسك بجميع الأراضي لمدة ثلاثين عاماً قادمة، لكن ذلك سيعني ثلاثين عاماً أخرى من الحرب".

كما صرح موسيلو كرايسنيك رئيس برلمان الصرب: "إذا استجبنا لكل مطالب المسلمين، فإن جمهورية الصرب ستكون جمهورية مشوهة، مملؤة بالفجوات". وهدد بسحب ما أسماه بالتنازلات، التي قدمها الصرب في جنيف من أجل ولادة مشروع السلام، الذي طرحه ديفيد أوين. ومن وجهة نظر الكروات، فإن تأمين شكل التسوية وحصولهم على 17% من مجموع الأراضي،وقبول طرفي المفاوضات من الصرب والمسلمين إعلان موستار عاصمة لهم، وهو ما يرفضه المسلمون، تعتبر كلها إجراءات على الطريق لإقرار دويلة الكروات، التي سوف يعترف بها العالم، في نظرهم. وكان الرئيس الكرواتي، توديمان، قد انسحب من المؤتمر، احتجاجاً على إصرار المسلمين على الحصول على منفذ على الأدرياتيكي. وبذلك، سحب الصرب والكروات التنازلات، التي كانا قد أعطياها للمسلمين.

عندئذ، تجمدت المفاوضات، مرة ثالثة. وعادت الأطراف من جديد إلى محاولة تحسين مواقعها على أرض المعارك. وإذا كان الصرب قد نجحوا في الحصول على ما أرادوه (52 بالمائة من مساحة البوسنة)، فإن الكروات اتجهوا إلى مزيد من التصعيد العسكري، والذي أخذ شكل دعم تأسيس جمهورية هرسك البوسنة، التي أعلنوها جمهورية كرواتية مستقلة في البوسنة، وأكدوا أنها تشكل جزءاً من الاتحاد المزمع إقامته في البوسنة. كما ركزوا على إحكام السيطرة على مدينة موستار. ومن هنا، عادت الجهود الدبلوماسية من جانب الوسيطين الدوليين، من جديد، لإقناع الأطراف الثلاثة بالعودة إلى مائدة المفاوضات، مع تأكيد أنها البديل الوحيد من استئناف المعارك. (اُنظر شكل خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993).

ولمواصلة الضغط على مسلمي البوسنة، رفض البرلمان الصربي السماح بإقامة جسر جوي، تستخدمه الأمم المتحدة، بين زغرب والمدن الإسلامية المحاصرة، وهي: توزلا، ديرفينتشا، بوسانسكا، و جراديسكا، لنقل المصابين منهم، كما رفض البرلمان أيضاً، طلباً من قائد الأمم المتحدة في البوسنة، بالسماح لمراقبي الأمم المتحدة بالعمل حول مدينتَي ماجلاي وسيساني، مما أفقد المسلمين منفذاً لهم على نهر سافا في شمال البوسنة. كذلك شدد الصرب قصفهم ضد المسلمين المحاصرين في ماجلاي، حيث سقط منهم عشرات القتلى والجرحى، وعجزت القوات الدولية عن الوصول إلى المدينة، التي كانت محاصرة منذ عدة أشهر، لإمدادها بالمواد الغذائية والأدوية.

ورفض برلمان الصرب أيضاً نشر مراقبين للأمم المتحدة في مدينة دوبوي شمال البوسنة، للإشراف على منطقة الحدود، بين الأراضي التي يسيطر عليها الصرب، وأراضي مسلمي البوسنة بين ماجلاي وتيساني. كما واصلت القوات الصربية هجومها، الذي شنته منذ يوليه 1993، لتوسيع ممر بوسافينا الإستراتيجي في شمال البوسنة، وكان الصرب قد شقوه ليربط الجزءين، الشرقي والغربي، الخاضعين لسيطرتهم، والذي حاولوا عدة مرات توسيعه إلى أن أصبح عرضه حوالي خمسة كيلومترات.

وفي سبيل تحقيق ذلك، واصلوا قصفهم للمناطق، التي كان يسيطر عليها المسلمون والكروات في مدن برتشكو وبركا وسليتش وبوكافاتش، المتحكمة في هذا الممر. ومن المفارقة، أن الدفاع عن مدينتَي سربرنيتشا وجورازدي، اللتين أعلنتهما الأمم المتحدة من المناطق الآمنة، أصبح، في هذا الوقت، غير ممكن ولا طائل تحته، إذ أفادت تقارير الأمم المتحدة، أن عدد الأبنية المهدمة في جورازدي، هو أكبر من أي دمار لحق بالمنطقة، فأصبحت الحياة فيها شبه مستحيلة، كما أن القوات الدولية، التي كان يتعين أن تدخلها، لتنفيذ عملية الملاذ الآمن، لم تستطع أن تصل إليها. وكانت القوات الصربية، قد سمحت بدخول القوات الكندية فقط، بعد تضييق مساحة المدينة إلى أقل من عشرة كيلومترات، الأمر الذي دفع قوات الأمم المتحدة إلى التفكير في الانسحاب من هاتين المنطقتين، بعد أن شعرت بعدم وجود إمكانية للضغط على الصرب.

هذا على الرغم من امتلاك قوات الأمم المتحدة السلطة، بموجب صلاحيتها، لتقديم المساعدات الإنسانية، والتهديد باستخدام القوة واللجوء إليها، إذا دعت الضرورة لذلك. بل لقد كان في مقدور الأمم المتحدة، أن تأمر لجنة المقاطعة التابعة لها بقطع الغاز، الذي يصل إلى الصرب من روسيا عبر أنبوب بين البلدين، وذلك حتى يعيد الصرب الغاز إلى سيراييفو، ويسمحوا بإدخال قوافل الإغاثة إلى المدن المحاصرة. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث من جانب الأمم المتحدة وممثليها في البوسنة. وبذلك، فقدت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الفرصة، التي كانت سانحة لتأكيد أن المساعدات الإنسانية، يجب أن تصل إلى المحتاجين إليها.

وعلى الرغم مما ادعاه المدافعون عن خطة التقسيم، من أنها كانت تحقق مطلب المسلمين في دولة فيدرالية موحدة، تحفظ للدولة شخصيتها الدولية والقانونية، إلا أن حقيقة الأمر تؤكد أن هذه الخطة، كانت تلبّى مطامع الصرب والكروات الانفصالية، وذلك لكون النظام الفيدرالي المقترح صورياً، ولا دور له سوى الاحتفاظ بالاسم القديم "البوسنة"، كما يمنح الحكومة المركزية صلاحيات ضئيلة، لإنجاز الشؤون الخارجية والتجارة الخارجية، الأمر الذي يضعف سيطرتها على الدول الأعضاء في الاتحاد، ويجعل القرار الأخير في الأمور المهمة في يد حكومات الدويلات العرقية، وليس حكومة المركز.

هذا إلى جانب كون الدستور المقترح لهذا الاتحاد، ينص على جواز حصول المواطن البوسني، الصربي أو الكرواتي، على جنسية أخرى إلى جانب جنسيته البوسنية، والمعني بذلك، طبعاً، دولتَي صربيا وكرواتيا، أي أن كروات وصرب البوسنة سيشكلان امتداداً لدولتي كرواتيا وصربيا. وبذلك، تُحقق هاتان الدولتان هدفهما السياسي والإستراتيجي من العدوان على مسلمي البوسنة. ومن هنا، يمكن أن نفهم مغزى إصرار الصرب والكروات على عدم تجميع المناطق، التي خصّ بها المسلمون في منطقة واحدة، بل توزيعها على ثلاث مقاطعات متناثرة، تحيط بها إما مقاطعات صربية أو كرواتية، حتى يستحيل على القيادة المسلمة في سيراييفو السيطرة عليها، ونفهم وندرك، من ثم، أهمية معارك الممرات، التي دارت طويلاً لربط المقاطعات المتناثرة بعضها ببعض، حتى يكتمل لكل دولة عرقية شكلها السياسي والجغرافي.

لذلك، فإن واقع الأمر في خطة التقسيم، التي اقترحت في أغسطس 1993، أنها كانت تستهدف تحويل البوسنة إلى دولة كونفدرالية، وليس فيدرالية. ومن هنا، يمكننا أن نفسر الضغوط التي تعرض لها بيجوفيتش لقبول خطة التقسيم، إذ استهدفت هذه الخطة، في حقيقتها، ليس تفكيك جمهورية البوسنة والهرسك فقط، ولكن تحويل المسلمين أيضاً، الذين يملكون التفوق البشري والنفوذ السياسي في الحكومة الحالية، إلى مجرد جماعة أو أقلية دينية داخل الجمهورية الكونفدرالية، ليس لها أي تأثير في صنع القرار السياسي، مغلوبة على أمرها تعيش تحت حكم الآخرين، وتحاكَم طبقاً لقوانينهم، وأمام قضاتهم، وهو ما يتماشى مع إصرار كل من الحكومتين البريطانية والفرنسية على تأييد الكونفدرالية. لأن هذا معناه أن يتنازل المسلمون، الذين يمثلون نصف سكان الجمهورية، عن 20% من سلطاتهم وصلاحياتهم، وتوزيعها على الكروات والصرب. وبذلك، يكون هناك رئاسة جماعية، يمثلها ثلاثة أشخاص عن كل قومية. وبهذه الطريقة، يحصل الكروات، الذين يمثلون 17% فقط من السكان على 33% من السلطة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصرب، ويصبح من حق أي منهما استخدام الفيتو ضد أي قرار، لا يتناسب مع نزعاتهما القومية. هذه هي أبعاد لعبة التقسيم الكونفدرالي وخفاياها. فإذا ما وافق المسلمون على ذلك، فمعناه أنهم باختصار قد قبلوا بالموت. لأن معنى ذلك أنه بعد القبول بالكونفدرالية، سيعطي حق تقرير المصير للكروات والصرب، وسوف يطالبان بلا شك، بالانضمام إلى كرواتيا وصربيا.

وبذلك، يبقى المسلمون، بعد نزع سلاحهم، أقلية ضعيفة تحت رحمة الصرب والكروات، ويصبح وجودهم في الحكومة ممثلاً في رموز العملاء والمنافقين، أمثال فكرت عبيدتش، الذي أعلن الحكم الذاتي في إقليم بيهاتش. أما في ما يتعلق بمستقبل الوضع في سيراييفو، فقد حرص الصرب على إظهار تخفيف حصارهم لها، حتى لا يعطوا المبرر لحلف شمال الأطلسي لتوجيه ضربة عسكرية إليهم. كما حرصوا على التعامل مع مراقبي الأمم المتحدة وقوافل الإغاثة بحذر، وذلك للسبب عينه. وقد اقترح كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، أن يُفتح محوران إلى سيراييفو، لتعمل عليهما قوافل الإغاثة، بعد أن يتم نزع سلاح مسلمي سيراييفو، وأن توضع العاصمة تحت الإدارة الدولية، لمدة عامين. وهو ما يعني، ببساطة، ترك المسلمين في العاصمة، بلا حماية، تحت رحمة الصرب.

وعندما طالب بيجوفيتش بالربط بين سيراييفو وجورازدي وسربرنيتشا، وهما من الجيوب المحاصرة في شرق البوسنة، وبين مدينة توزلو الصناعية، التي تخضع لسيطرة المسلمين ـ رفض طلبه بواسطة الوسيطين الدوليين، بدعوى عدم الحاجة إلى ذلك ما دامت الأمم المتحدة ستكفل لبعثات الإغاثة أن تصل إلى هذه الجيوب المحاصرة !! هذا في الوقت الذي حاول فيه الكروات شق كل من مدينتَي بريشكو وموستار إلى نصفين، بهدف فتح طريقين أمام المرور التجاري، يؤديان إلى سيراييفو، الأول إلى الشمال الغربي من سيراييفو إلى زينيتشا، والثاني إلى الجنوب الغربي من العاصمة نحو الأدرياتيكي.

ولا شك أن الضغوط، التي كان يتعرض لها الطرفان، الصربي والكرواتي، في مفاوضات جنيف، من قبل واشنطن والجماعة الأوروبية والأمم المتحدة، من خلال الوسيطين الدوليين، هي أقل بكثير من تلك التي تعرض لها المسلمون. فبعد أن حقق الصرب طموحاتهم في الاستيلاء على70 % من أراضي البوسنة، تمكنهم من إقامة دولة "الصرب الكبرى"، وبعد ما قبلوا بإعادة 20% للمسلمين، فإن الضغوط عليهم للتنازل عن 4% أخرى من الأراضي، ليست بضغوط بقدر ما هي إغراءات، تتمثل في تعهد واشنطن والجماعة الأوروبية برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على الصرب حالما يتم تنفيذ الاتفاق. كذلك حماية زعماء الصرب والكروات من تقديمهم إلى العدالة أمام محكمة دولية، ليدفعوا ثمن ما ارتكبوه في حق الإنسانية من جرائم حرب. مع التعهد بتقديم معونات اقتصادية، لإعادة بناء ما هدمته الحرب.

أما المسلمون، فقد كانوا يأملون الحصول على التنازلات، من خلال الضغوط والإغراءات السياسية، التي كانوا يأملون أن يواصلها الغرب ضد الصرب والكروات، واستمرار الصمود العسكري للمسلمين في المناطق الباقية التي يدافعون عنها، وذلك لعدم قدرتهم على تغيير الميزان العسكري لمصلحتهم، نتيجة حرمانهم من الحصول على حاجاتهم التسليحية، بسبب الحظر المفروض عليهم. (اُنظر شكل تعديل الخطة).

وإدراكاً من قادة الصرب والكروات لحتمية التوصل، في النهاية، إلى هذا الحل، وحتى يحققوا لأنفسهم أكبر قدر من الميزات الجغرافية والإستراتيجية والسكانية، عقدت عدة اجتماعات بين كارادازيتش زعيم الصرب، وماتى بوبان، زعيم الكروات في البوسنة، تم خلالها الاتفاق على إحداث نوع من التبادل السكاني يُنقل بموجبه الكرواتيون من المناطق التي يعيشون فيها، ويشكل المسلمون فيها أغلبية، إلى مناطق أخرى تكون أكثر أهمية للجانب الكرواتي، من الناحية الإستراتيجية، خاصة منطقة الهرسك، التي كانوا يسعون إلى جعلها ذات أغلبية كرواتية مطلقة، في حين أن هذه المنطقة، تعتبر المخرج الوحيد لجمهورية البوسنة نحو العالم الخارجي والبحر.

من هنا، يبرز مغزى وأهمية المعارك التي دارت في إقليم السنجق بمنطقة الهرسك ! وبذلك، ومن خلال هذا المخطط، يستطيع الصرب والكروات السيطرة الكاملة على منافذ البوسنة نحو الجنوب، وعزلها عن العالم. وهذا المخطط للتبادل السكاني، لم ينجح في سيراييفو وبعض المناطق الأخرى. لذا، جاءت الاشتباكات المفتعلة، بعد ذلك، في وسط البوسنة، معقل المسلمين، وبعض المناطق الأخرى، لإجبار السكان الكروات على الهجرة والرحيل إلى المناطق المستهدفة. هذا إلى جانب إصرار الجانب الكرواتي على إخلاء المسلمين من مدينة موستار، ذات الأغلبية المسلمة، وذلك لاتخاذها عاصمة لدويلة كروات البوسنة. وهناك الكثير من كروات البوسنة، الذين رفضوا الخضوع لمخطط الترحيل السكاني، على رأسهم رئيس الكنيسة الكاثوليكية في البوسنة، الذي رفض أوامر ماتى بوبان بالانتقال من سيراييفو إلى الهرسك، من أجل تركيز الكرواتيين هناك. وقال: "إن ما يتحمله بقية سكان سيراييفو، يجب أن نتحمله نحن أيضاً"، وهو موقف بطولي منه.

خامساً: رئيس البوسنة يستغيث بالأمم المتحدة

وعندما توقفت مفاوضات جنيف، توجه علي عزت بيجوفيتش إلى نيويورك، ليشرح لأعضاء مجلس الأمن قضية بلاده، حيث أوضح أهمية تلبية الحد الأدنى من مطالب مسلمي البوسنة، حتى لا يتكرر اندلاع القتال مستقبلاً، لأن مشروع خطة التقسيم بوضعه الذي كان عليه، يشكل دعوة لاستئناف القتال مرة أخرى. وقرر أن مجلس الأمن لم يفعل شيئاً ذا قيمة من أجل مساعدة مسلمي البوسنة، وأن أعضاء المجلس اتخذوا عدداً كثيراً من القرارات الإيجابية، وقالوا الكثير من العبارات الجميلة، ولكن لم يكن هناك أي عمل لوضعها موضع التنفيذ. وأكد أن مجلس الأمن قد اتخذ موقفاً سلبياً، بفرضه حظراً على إمدادات السلاح إلى مسلمي البوسنة. وطالب مجلس الأمن بضرورة رفع هذا الحظر، حتى يتمكن مسلمو البوسنة من الدفاع عن أنفسهم، لأن مجلس الأمن، بذلك، لا هو دافع عن المسلمين المحاصرين في مدنهم وقراهم، في مواجهة سياسة التطهير العرقي التي تستهدف إبادتهم، ولا هو سمح للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم.

وأوضح أن مجلس الأمن بتصرفه هذا، لم يخرق ميثاق الأمم المتحدة فقط، ولكن تدخل أيضاً بشكل سلبي في الصراع. حتى إن أعضاءه لم يفعلوا شيئاً من أجل تطبيق القرار 836 في شأن المناطق الآمنة للمسلمين. وقد ذكَّر بيجوفيتش أعضاء مجلس الأمن بالمبادئ الأساسية، التي يجب أن يقوم عليها أي اتفاق مستقبلي بين أطراف الصراع، والتي تتمثل في إبقاء البوسنة والهرسك كدولة، وعودة اللاجئين إلى المناطق التي اضطروا إلى مغادرتها، وإعطاء المسلمين حقهم في استعادة الأراضي، بما يعادل نسبتهم من سكان البوسنة، وفي الحصول على منفذ بحري إلى الأدرياتيكي، ومحاور تربط مناطقهم المتناثرة التي خصُّوا بها، وبضرورة إنزال العقوبات بجميع مجرمي الحرب، الصرب والكروات، الذين ارتكبوا جرائم التطهير العرقي ضد مسلمي البوسنة، والتي شهدت بها لجان التحقيق الدولية.

كذلك، طالب مجلس الأمن بأن يضمن أي اتفاق محتمل، تتوصل إليه مستقبلاً الأطراف المتنازعة في البوسنة، وأن تمارس الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة حلف شمال الأطلسي مسؤولياتهما في هذه الضمانات، واستخدام القوة ضد الأطراف التي تمنع قوافل المساعدات الإنسانية من الوصول إلى وجهتها. كما طالب بوقف فوري وغير مشروط للنار في بلاده.

سادساً: لقاء بيجوفيتش وكلينتون

وفي مقابلة رئيس البوسنة للرئيس كلينتون، في 9 سبتمبر 1993، بالبيت الأبيض، طالبه بأن يوجه إنذاراً نهائياً لصرب البوسنة برفع الحصار عن سيراييفو، وبالانصياع إلى قرارات مجلس الأمن الخاصة بوقف الأعمال القتالية، وإلا واجهوا أخطار شن غارات جوية من قبل طائرات حلف شمال الأطلسي. إلا أن كلينتون رفض الاستجابة لهذا الطلب، قائلاً: "أعتقد أن كل شيء يجب أن يكون جزءاً من عملية التفاوض. ولا أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تفرض ذلك ببساطة". أي أن على مسلمي البوسنة، في مفهوم كلينتون، أن يبقوا محاصرين داخل سيراييفو، محرومين من الماء والغذاء والوقود في شتاء 1994، وأن يتحملوا القصف المدفعي المستمر، وأعمال القناصة من قبل قوات الصرب التي تحاصر المدينة، حتى يستجيبوا لشروط خطة تقسيم البوسنة، التي يفرضها ميلوسيفيتش وكارادازيتش وتوديمان، ولو كانت تنص على حصار المسلمين في جيوب منعزلة مغلقة، بلا منافذ بحرية أو محاور تربطها.

أما أقصى ما يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تقدمه، فهو ما ذكره كلينتون خلال اللقاء نفسه، بقوله إن حكومته "مستعدة للمشاركة بقوات مساعدة على ضمان تسوية في البوسنة والهرسك، وستؤيد أي اتفاق يتوصل إليه أطراف النزاع، في إطار العمل مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي للمحافظة على السلام هناك". بمعنى أن دور الولايات المتحدة الأمريكية سيبدأ بعد التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتنازعة على خريطة التقسيم، التي تعكس واقع استيلاء الصرب والكروات على أراضي المسلمين، وتفرضه بالقوة المسلحة، والتي يتعين على المسلمين أن يقبلوا بها ويوقعوها. وعند ذلك فقط، ستتكفل الولايات المتحدة الأمريكية بالمشاركة مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي، بضمان تنفيذ الاتفاق، وهو ما يعني، في النهاية، تكريس وتقنين نتائج العدوان الصربي ـ الكرواتي على مسلمي البوسنة.

والغريب في موقف الرئيس كلينتون، أنه كان يناقض نفسه، عندما صرح في اللقاء عينه: "إن اتفاق السلام، الذي يتم التوصل إليه، يجب ألا يكون مفروضاً على شعب البوسنة، وأن يفعله البوسنيون بمحض إرادتهم" !! وهو في ذلك، يتجاهل أن منطق القوة، التي يمتلكها الصرب والكروات، بدعم من الدول الغربية، هو الذي فرض نفسه على مشروع التقسيم المطروح على مائدة المفاوضات في جنيف، لغير مصلحة المسلمين. لذلك، اعتبر المراق بون أن موقف كلينتون الرافض لإعطاء إنذار نهائي للصرب، إذا لم يرفعوا الحصار عن سيراييفو، والرافض لتوجيه ضربة جوية إلى مواقع مدفعية الصرب، والرافض لرفع حظر تصدير السلاح إلى مسلمي البوسنة، حتى يبقيهم على موقف الضعف العسكري الذي هم عليه ـ إنما يعدّ تعبيراً عن انغماس الولايات المتحدة الأمريكية، حتى النهاية، في المؤامرة، التي حددت أهدافها، وحاكت خيوطها الدول الكبرى ضد مسلمي البوسنة، منذ سقوط يوغسلافيا في مستنقع التجزئة العرقية، ووظفت الأمم المتحدة ومجلس الأمن لتنفيذها.

سابعاً: تثبيت الأوضاع على الأرض

وقد اعتبر كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، أن توجُّه بيجوفتش إلى الأمم المتحدة مضيعة للوقت. وهدد بإعلان دولة صربية مستقلة في البوسنة، إذا تأخر المسلمون أكثر من ذلك، في توقيع اتفاقية جنيف، كما هي، دون إضافة مساحة الـ 4% من الأراضي التي يطالبون بها. وهدد أيضاً بالتراجع عن التعهدات الخاصة بإعادة 20% من الأراضي إلى المسلمين، بمقتضى مشروع التقسيم، الذي رفضه برلمان البوسنة.

أما في كرواتيا، فقد تظاهر آلاف اللاجئين الكروات، ضد الأمم المتحدة. واتهموا المنظمة بالعجز عن إعادتهم إلى قراهم، الخاضعة لسيطرة الصرب داخل الحدود الكرواتية. وقد أنذرت حكومة كرواتيا الأمم المتحدة، إذ طالبتها بتحديد موعد نهائي لنزع سلاح القوات الصربية الموجودة في القرى الكرواتية، وإلا فإنها ستطالب بسحب قوات حفظ السلام التابعة لها، بحلول 30 نوفمبر 1993. وكان حوالي 250 ألف لاجئ كرواتي، قد طردتهم القوات الصربية من أراضيهم، بعد أن استولت عليها، عندما احتجت الصرب على انفصال كرواتيا عن يوغسلافيا السابقة، في عام 1991، الأمر الذي أدى إلى نشر قوات حفظ السلام في كرواتيا.

كما رفض برلمان كروات البوسنة تقديم تنازلات إقليمية إلى المسلمين أو إعطاءهم منفذاً بحرياً على الأدرياتيكي. وأعلن مات بوبان، زعيم كروات البوسنة، التعبئة بين قواته، رداً على رفض المسلمين الموافقة على خطة التقسيم. كما صعد تودمان، رئيس كرواتيا، من الضغوط على بيجوفيتش، وأكد أن الكروات لن يعطوا المسلمين شريطاً صغيراً على الأدرياتيكي، يضم منتجع نيوم. وأوضح، في مؤتمر صحفي، في زغرب، أن الأطراف الثلاثة ستكون جزءاً من دولة البوسنة والهرسك الموحدة، ومن ثم، فسيكون للصرب والمسلمين الحق في الوصول إلى نيوم، كما هو للكروات.

وكان برلمان البوسنة قد وافق على خطة التقسيم، شريطة تعديلها باستعادة الأراضي، التي تعرضت للاحتلال بالقوة المسلحة، بما في ذلك منفذ لهم على البحر الأدرياتيكي. كما أعلن بيجوفيتش أن لديه ثمانية أسباب لقبول الخطة، مقابل أربعة عشر سبباً منطقياً تدعوه لرفضها. وقد ألمح بعض مسؤولى حكومة البوسنة إلى احتمال إسقاط البرلمان لشرط استعادة كل الأراضي، التي استولى عليها الصرب، إذا ما ضمنت الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي تنفيذ الصرب والكروات اتفاق السلام.

إلا أن مانفريد تيرنر، أمين عام حلف شمال الأطلسي، أعلن أن الحلف لن يضمن تنفيذ أي اتفاق للسلام في البوسنة، ما لم يعلن أطراف النزاع التزامهم الكامل به أولاً، مع الحصول على تفويض واضح من الأمم المتحدة للحلف، للإشراف على مثل هذا الاتفاق، كذلك تحديد أجل لبقاء القوة المتوقع نشرها في البوسنة، وقوامها حوالي 50 ألف جندي. وقد عقب كلينتون على رفض برلمان البوسنة لخطة التقسيم، بقوله: "إن هذا الرفض سيؤدي إلى مزيد من معاناة المسلمين على الرغم من حقهم في الحصول على مزيد من الأراضي، إلا أن ثمن رفض هذا السلام قد يكون باهظاً". (اُنظر خريطة ترسيم حكومة البوسنة للحدود).

ثامناً: موقف غير محايد لقوات الأمم المتحدة

يرى بعض المحللين أن الأمم المتحدة أسهمت في خنق مسلمي البوسنة. ويبرهنون حكمهم بمواقفها المؤيدة للصرب، ولا سيما حين ووجِهت بإمكان قيام حلف شمال الأطلسي بتوجيه ضربات عسكرية ضد مواقع صرب البوسنة، وبرفض بيجوفيتش العودة إلى مفاوضات جنيف، حتى يقوم الصرب بإخلاء المرتفعات الإستراتيجية المحيطة بسيراييفو ـ عملت قيادة الأمم المتحدة في البوسنة على إبرام اتفاق مع قادة صرب البوسنة، لتحريك قوات الأمم المتحدة في اتجاه هذه المرتفعات الإستراتيجية، في الوقت الذي تقوم فيه القوات الصربية بالانسحاب تدريجياً، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان الانسحاب الصربي شكلياً، واستمر احتلال القوات الصربية لمواقع إستراتيجية في جبل إيجمان.

لذلك، يمكن القول إن تحركات قوات الأمم المتحدة، في مناطق كثيرة من البوسنة، كانت لمصلحة الصربيين، وذلك في الوقت الذي قتل فيه أعداد كثيرة من قوات الأمم المتحدة وموظفيها بنيران القوات الصربية. ناهيك من قيام بطرس غالي، سكرتير عام الأمم المتحدة، وقائد قواته في البوسنة، بإحباط جميع المحاولات التي استهدفت توجيه ضربات جوية، أو أي شكل من أشكال التدخل العسكري الدولي، لإجبار الصرب على الخضوع لقرارات الأمم المتحدة، خاصة في ما يتعلق بفك الحصار عن سيراييفو. وهو الوضع الذي جعل الكثيرين من المراقبين الدوليين، يحكمون بأن قوات الأمم المتحدة في البوسنة، تشارك الصرب، صراحة، في تحقيق أهدافهم، حتى بعد أن قامت القوات الصربية بإطلاق 68 قذيفة مدفعية عمداً، في أقل من 45 دقيقة، على موقع للأمم المتحدة في مطار سيراييفو، في يوليه 1993، مما أدى إلى إصابة 20 جندياً فرنسياً، ولم تردّ الأمم المتحدة على ذلك العدوان الصارخ على جنودها، بدعوى عدم تعريض محادثات السلام في جنيف للفشل !!

لعل ما اصطُلح على تسميته "نزع السلاح من جميع المقاتلين"، كان وبالاً على البوسنة. إذ حينما شب القتال حول مدينة سربرنيتشا المسلمة، والتي كان الصرب يحاصرونها منذ يونيه 1992، عملت قوات الأمم المتحدة على إجلاء سكانها، خشية أن يصيبهم ما أصاب سكان مدينة فوكفار الكرواتية، الواقعة في سلوفينيا، حينما سقطت في أيدي الصرب، في نوفمبر 1991، بعد أن سويت بالأرض، في إثر ثلاثة أشهر من المعارك الشرسة.

ولئن كان إجلاء السكان عملاً إنسانياً في ظاهره، إلا أنه كان يعني، في الوقت عينه، إتاحة الفرصة للصرب لاحتلال مدن البوسنة وقراها، من دون عناء؛ وهو ما لم يكن يحلم الصربيون بأكثر منه.

بيد أن قوات الأمم المتحدة لم تكتفِ بخطواتها تلك، بل بادرت إلى طرح فكرة "نزع السلاح من جميع المقاتلين"، الموجودين في سربرنيتشا. ولكنها بدل أن تنزع سلاح المحاصِرين، عمدت إلى نزع سلاح المحاصَرين.

ولقد عبَّر أحد قادة التشكيلات الفرنسية، العاملة في البوسنة والهرسك في إطار القوات الدولية، عن مدى ظلم القرارات التي تصدرها قيادة هذه القوات الدولية، إذ قال: "لقد أرسلونا لاحتواء الصرب في منطقة استولوا عليها بالكامل، بمعنى أننا، تحت شعار احتوائهم، أسهمنا بشكل فعال في ترسيخ أقدامهم في المواقع الجديدة التي استولوا عليها".

ولقد دفعت كل هذه المواقف، التي اتخذتها الأمم المتحدة إزاء أزمة البوسنة، وزير خارجية البوسنة، حارس سيلادزيتش إلى التصريح علناً: "إن منظمة الأمم المتحدة تعدّ عاراً على مجتمعنا العصري، وإننا ننوي ملاحقتها قضائياً، برفع شكوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد هذه المنظمة الدولية العاجزة، وذلك لمشاركتها في المجازر المرتكبة في البوسنة". وأضاف قائلاً: "إن الأمم المتحدة سلبت منا الحق الأساسي في الحياة، وحق الدفاع عن أنفسنا".

كما وجّه أيضاً انتقادات شديدة إلى الدول الغربية، التي ترفض حتى مجرد الرد على الاتصالات الهاتفية، التي تجريها معها حكومة البوسنة!! وأردف قائلاً: "بتنا لا نأمل شيئاً من كل هؤلاء، وإنه لا يصدِّق أن دول حلف شمال الأطلسي، ستتدخل عسكرياً لضرب مواقع الصرب، بزعم محاولة مساعدة البوسنة، وإنه ما لم يتم معاقبة الفاشية الصربية، فإن المجازر ستستمر". كما انتقد ما سبق أن قرره حلف شمال الأطلسي، بعد 12 ساعة مفاوضات، من أن الحلف سيتخذ إجراءات أكثر صرامة في حالة حدوث أي عدوان جوي من قبل الصرب. وقال: "إنها صيغة لا معنى لها على الإطلاق". وقد تأكد عدم مصداقية قيادة حلف شمال الأطلسي في ذلك، لأن الصرب استخدموا، فعلاً، بعد ذلك الطائرات العمودية الهجومية في قصف مواقع المسلمين، ولم يبدِ حلف شمال الأطلسي أي تدخل.

تاسعاً: تكريس الانفصال

وفي 20/9/1993، اجتمع الوسيطان الدوليان مع زعماء الأطراف المتحاربين في البوسنة، على متن سفينة حربية بريطانية، في البحر الأدرياتيكي، في محاولة لإنقاذ اتفاق السلام، وتضييق الفجوة التي تفصل بين أطراف النزاع. وأعلن وزير خارجية البوسنة أنه تم التوصل إلى اتفاق في شأن مطلب المسلمين بالحصول على منفذ إلى البحر الأدرياتيكي، وتسوية بعض نقاط الخلاف. وفي 23/9/1993، أصدرت كرواتيا إنذاراً للأمم المتحدة بتحديد موعد أقصى لنزع سلاح الانفصاليين الصرب، الذين يسيطرون على ثلث أراضي البلاد، أو سحب قوات حفظ السلام من زغرب بحلول 20 نوفمبر 1993. وفي 2/10/1993، أطلقت القوات الكرواتية النار على 400 لاجئ مسلم، بعد طردهم من مدينة موستار. ولكنها فشلت في زحزحة الخطوط الدفاعية للمسلمين هناك. كما نشرت الصحف، في 6/10/1993، استخدام القوات الكرواتية للأسرى المسلمين، كدروع بشرية ملغمة لاختراق صفوف البوسنيين. في الوقت نفسه الذي كان فيه الصرب يكثفون قصفهم المدفعي والصاروخي لسيراييفو ومدن وسط البوسنة، ويشددون من حصارهم على مدينة ماجلاي المسلمة، كانت الأمراض والمجاعة تهدد حياة مسلمي البوسنة.

وخلال هذه الفترة، دعت الصحف الأمريكية الرئيس كلينتون إلى شن ضربات جوية، لوقف الهجمات الصربية الوحشية في البوسنة. وهو ما دفع وزير الخارجية الأمريكية، كريستوفر، إلى تحذير الصرب من أن خيار توجيه الضربة الجوية بواسطة حلف شمال الأطلسي ضد مواقع الصرب، لا يزال قائماً. كما أكد ضرورة انسحابهم من سيراييفو المتنازع عليها. أما الرئيس كلينتون، فقد تعهد بإرسال قوات أمريكية إلى البوسنة للمساعدة على فرض تسوية سلمية، وحدد لذلك أربعة شروط. أن يكون السلام عادلاً، ألا يتم فرض الاتفاق بقوة على مسلمي البوسنة، وأن يتم تطبيقه على الأرض، وأن تضمنه قوة من حلف شمال الأطلسي، وليس من الأمم المتحدة. وكان لي آسبن، وزير الدفاع الأمريكي، قد أعلن أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها في حلف شمال الأطلسي، بحثوا إمكانية إرسال 50 ألف جندي للاشتراك في قوات حفظ السلام في البوسنة، في حالة الوصول إلى اتفاق سلام بين الأطراف المتصارعة هناك.

وكما فشلت المؤتمرات السابقة، فشلت، في منتصف سبتمبر 1993، فكرة طرحها الوسيطان الدوليان لعقد مؤتمر لقادة الأطراف الثلاثة في مطار سيراييفو، يتم الاتفاق فيه على وقف إطلاق النار. وفي 27/10/1993، هددت القوات الكرواتية باستخدام القوة العسكرية لمنع القوات الدولية من مواصلة التحقيق في وضع قرية ستويني دو المسلمة، وسط البوسنة، بعد أن أحرقها الكروات بالكامل. وكان مجلس الأمن قد أصدر إدانة شديدة للمذبحة التي تعرضت لها هذه القرية، كذلك لتعطيل الصرب الملاحة في نهر الدانوب وفرض رسوم على السفن الأجنبية.

وخلال شهر أكتوبر 1993، كشفت مصادر بوسنية عن قيام الطائرات الأمريكية بإسقاط أطعمة فاسدة ودواء فاسداً انتهت فترة صلاحيتهما، مما أدى إلى إصابة المسلمين المرضى والجرحى بمضاعفات خطيرة، كذلك تورط الحكومة البريطانية في تقديم الأسلحة والمعونات إلى الصرب. كما أذاع راديو إسرائيل أن الحكومة الإسرائيلية، تعتزم منح الجنسية الإسرائيلية لـ 77 لاجئاً بوسنياً مسلماً بمجرد إقامتهم سنة كاملة بإسرائيل.

وفي نهاية شهر أكتوبر 1993، فشلت المحادثات السرية التي جرت في أوسلو بين مسؤولى الكروات، وممثلين عن صرب إقليم كرايينا، الموجود داخل كرواتيا، بسبب إصرار الكروات على اعتباره جزءاً من كرواتيا، وليس دولة مستقلة، كما يرغب الصرب.

وللمرة الأولى يهاجم الرئيس كلينتون الدول الأوروبية، وبريطانيا وفرنسا تحديداً، بأنهما كانتا السبب في ما وصل إليه الحال في البوسنة. وهو ما اعتبره المراقبون محاولة أمريكية لتغطية فشل السياسة الأمريكية الخارجية في البوسنة، وردّوه إلى حدوث خلافات بين الحلفاء الغربيين. إلا أن جون ميجور، رئيس وزراء بريطانيا، أصرّ على التمسك بالموقف البريطاني، الرافض تسليح مسلمي البوسنة، بزعم أنه سيضاعف من حدّة القتال وإراقة الدماء. كما لم ينسَ ميجور أن يدافع عن نفسه، ويتهم كلينتون بالكذب لإنقاذ ماء وجهه. ونفي أنه أبلغ كلينتون بمخاوفه من سقوط حكومته، إذا وافق على رفع حظر التسلح عن المسلمين.

وفي 10/11/1993، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها جمعت معلومات عن انتهاكات حقوق الإنسان وارتكاب جرائم حرب في الاتحاد اليوغسلافي السابق، وسوف تقدم هذه المعلومات إلى المحكمة الدولية، المعنية بمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا. وفي 17/11/1993، بدأت هذه المحكمة مباشرة مهامها في مدينة لاهاي، لمعاقبة مرتكبي جرائم التطهير العرقي في البوسنة، بعد ما انتخب القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيس رئيساً لها.

وبعد توقف دام شهرين لمباحثات السلام في البوسنة، أُعلن في الأمم المتحدة أن رؤساء الأطراف الثلاثة، قد اتفقوا على استئناف المباحثات لإنهاء الحرب في البوسنة، في 29/11/1993، في جنيف. وأنهم اتفقوا "بشكل مبدئي" على خطة سلام، اقترحها وزراء خارجية المجموعة الأوروبية، بمبادرة من ألمانيا وفرنسا، تضمنت تخفيف العقوبات المفروضة على جمهورية الصرب والجبل الأسود، في مقابل تنازلها عن 3 بالمائة من أراضي البوسنة للمسلمين، مع السماح بمرور قوافل الإغاثة. إلا أن الصرب رفضوا التنازل عن أي أراضٍ للمسلمين، مما تسبب بفشل هذه الجولة من المفاوضات. على الرغم من أن دول أوروبا تعهدت بنحو 80 بالمائة من قيمة المساعدات الإنسانية التي تحتاج إليها البوسنة.

وقد أكد دوجلاس هيرد، وزير الدولة البريطاني، أنه ليس هناك مجال لرفع العقوبات عن حكومة بلجراد، قبل انصياعها لقرارات الأمم المتحدة في شأن البوسنة". وأعرب عن تشككه في إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام في وقت قريب. أما اللورد أوين، فقد أكد، بلا مواربة، في محاضرة ألقاها في لندن: "أن قيام دولة مسلمة مستقلة في البوسنة، سيصبح أمراً حتمياً، بسبب تخلي واشنطن عن دعم خطته لتقسيم الجمهورية إلى ثلاث دويلات عرقية، في إطار اتحاد هش". وعن مستقبل البوسنة، أشار إلى وجود خيارين فقط أمام أطراف النزاع. هما قبول خطة التقسيم، ثم تفكيك الاتحاد المرتقب في ما بعد، بسبب رغبة الصرب والكروات الواضحة في الانضمام إلى صربيا وكرواتيا، أو الاعتراف بدولة مستقلة للمسلمين في قلب أوروبا.

وفي 13/11/1993، أفادت وكالات الأنباء عن تجهيز الصرب لحشود عسكرية ضخمة، في منطقة فوجوسكا، استعداداً للهجوم على سيراييفو، وذلك في محاولة لقطع اتصالاتها بالعالم الخارجي ، وذكرت مصادر قوات حفظ السلام، أن اندلاع القتال في وسط البوسنة، يهدد بإغلاق مستشفيات المدينة التي تتعرض لقصف عشوائي شديد من المدفعية الصربية. وهو الأمر الذي دفع كلينتون إلى التهديد بشن غارات جوية على المواقع العسكرية الصربية، إذا لم يتوقف القصف الموجه ضد سيراييفو.

وفي تعليق لوزير الخارجية الأمريكية على المبادرة الأوروبية الأخيرة وموقف الولايات المتحدة الأمريكية، ذكر أن واشنطن تنظر بتحفظ شديد إلى مسألة إلغاء العقوبات، كما تعارض فكرة الرفع التدريجي للعقوبات المفروضة على صربيا. كما أكد أن بلاده لا توجد لها مصالح حيوية في البوسنة، تستدعي أن ترسل جنودها إلى هناك!! وبينما هدد أوين بفرض عقوبات جديدة ضد الصرب والكروات، نجده يهدد المسلمين، في الوقت نفسه، بانسحاب القوات الدولية، إذا استمروا في إعاقة جهود الإغاثة.

عاشراً: محاولة انفصالية لـ "فكرت عبيدتش"

ولكن تطوراً مفاجئاً ومؤسفاً، وقع على الساحة البوسنية الداخلية، حيث وقع انشقاق داخلي، هدد وحدة مسلمي البوسنة في مواجهة الصرب والكروات. وذلك حين أعلنت منطقة بيهاتش، الواقعة في شمال غرب البوسنة، انفصالها عن الحكومة المركزية، وذلك بسبب اعتراض زعيم هذه المنطقة، فكرت عبيدتش، على تحفظ حكومة البوسنة وبرلمانها على مشروع التقسيم، ورغبته في سرعة توقيع خريطة التقسيم ووقف القتال. ويتكون إقليم بيهاتش من أربع بلديات، عدد مسلميها نحو ربع مليون نسمة، إضافة إلى 40 ألف آخرين من البلديات الثلاث المجاورة.

وقرر عبيدتش قطع كل اتصال أو تفاهم مع حكومة البوسنة. وطالب سكان المنطقة بمقاومة ما وصفه بالدكتاتورية العسكرية لحكومة بيجوفيتش. كما ناشد الوسيطين الدوليين والمجموعة الأوروبية إنقاذ شعب بيهاتش مما وصفه بـ "الفاشية". ولم يكتفِ بذلك، بل أعلن الاستقلال الذاتي لإقليم بيهاتش، ونصَّب نفسه رئيساً للبوسنة، خلفاً لبيجوفيتش، واعتبار هذا الإقليم جمهورية رابعة ضمن جمهوريات البوسنة. وبالطبع، رحب الصرب والكروات والوسيطان الدوليان بهذا التصدع في الجبهة الإسلامية، وعدّوه دليلاً على قرب انهيار الصمود الإسلامي. إلا أن حكومة بيجوفيتش واجهت هذا الموقف الانشقاقي بكل حزم. فقد رفض بيجوفيتش هذا الموقف من حاكم إقليم بيهاتش، وأرسل قوات من الجيش البوسني لقمع متمردي الإقليم، الموالين لفكرت عبيدتش، في محاولة لسد الثغرات الإسلامية التي أوجدها في غرب البوسنة. 

وقد نجحت قوات بيجوفيتش في إعادة لحم الثغرة التي أحدثها حاكم إقليم بيهاتش. وكان من الواضح لكل المراقبين، أن عبيدتش هو أداة الغرب والصرب والكروات لضرب حكومة بيجوفيتش من الداخل، ولإحداث تصدّع في صفوف المسلمين، بل يعده الكثير من مسلمي البوسنة شخصاً محسوباً عليهم، على الرغم من كونه عضواً بالمجلس الرئاسي للبوسنة، وذلك لموالاته للصرب والكروات، ودعواته الانهزامية المستمرة، إذ طالب مراراً بالاستجابة لكل مطالب الصرب والكروات حتى يمكن وضع نهاية للحرب. وهو الأمر الذي دفع قادة المسلمين إلى تكرار المطالبة بإقالته من منصبه، بعد أن ثبتت عمالته للكروات الذين يدعمونه علناً ويضفون عليه هالة إعلامية كبيرة، وأصبح يتحدث علناً بكل ما يرضى الجانب الأوروبي والكرواتي. وفكرت عبيدتش، شيوعي سابق، لا يحظى بأي دعم من المسلمين، بعد أن كثرت زياراته إلى مدينة زغرب، عاصمة كرواتيا، ومحاولته الاستيلاء على السلطة، في مايو عام 1992، حينما اعتقلت القوات الصربية الرئيس بيجوفيتش، بدلاً من أن يسعى إلى الإفراج عنه. وكان يأمل أن يقتل الصرب بيجوفيتش، فيعلن نفسه رئيساً لجمهورية البوسنة. وأعد، بالفعل، بياناً بذلك، ليذاع من خلال محطتَي تلفزيون البوسنة وزغرب في وقت واحد.

وفي ديسمبر 1992، حاول عبيدتش الاستيلاء على السلطة، عندما طرح قضية إنهاء رئاسة بيجوفيتش للبوسنة. ولكن الرئيس البوسني، تجاوز المؤامرة، ونجح في وَأدِها، وذلك على الرغم من الأضواء التي سلطها الغرب على عبيدتش، قائلاً: "إن بيجوفيتش لا يملك وحده هذا الحق". ومن الواضح أن عبيدتش يحظى بدعم مستتر، كي يكون رئيساً بديلاً من الرئيس علي عزت بيجوفتس في رئاسة الجمهورية الجديدة للمسلمين، وذلك في إطار التقسيم العرقي لجمهورية البوسنة.  وقد ولد عبيدتش في مدينة بيهاتش، شمال غرب البوسنة، بالقرب من كرواتيا. وهو رجل أعمال سبق اتهامه بقضايا اختلاس، وحكم عليه بالسجن عامين، قبل تفتيت يوغسلافيا. كما أنه مطلوب للمحاكمة أمام السلطات النمساوية، بتهمة السطو على الأموال والمعونات التي يتم إرسالها دعماً للاجئين.  إضافة إلى حصوله على أموال من البوسنيين المسلمين، بدعوى التدخل لدى الصرب، نتيجة لعلاقته الطيبة بهم. وتربطه بالكروات علاقات قديمة. ودوره في المؤامرة يتمثل في استمرار توجيه النقد إلى الرئيس بيجوفيتش، بهدف تركيعه وجعله يقر بخطة التقسيم العرقي، التي تمهد لإخفاء البوسنة والهرسك والإسلام من وسط أوروبا. ولم تقف التداعيات عند هذا الحد، بل بدأت تحركات في منطقة توزلا، في الشمال الشرقي، لإعلان الحكم الذاتي، بعيداً عن سلطة سيراييفو، وهو الأمر الذي لاقى دعماً من عبيدتش.

وكان قد سبق محاولة عبيدتش لإحداث تصدع في الحكومة البوسنية، محاولة كرواتية أخرى، تمثلت في قيام الرئيس الكرواتي، توديمان، بتغيير العضو الكرواتي في مجلس الرئاسة، والذي كان موالياً لبيجوفتش ويعارض السياسة الكرواتية نحو البوسنة، بشخص آخر، هو فراينوبوراس المشارك في مفاوضات جنيف. ومن جانبه، أجرى الرئيس البوسني، في 22/10/1993، تعديلاً شاملاً في مجلس الرئاسة، بعد استبعاد عبيدتش، شمل ثلاثة أعضاء، إذ عيَّن دوراكوفيتش بدلاً من عبيدتش، وإيفوكومستيش الكرواتي بدلاً من فراينوبوراس الذي عينه تودمان. وقد ردَّ عبيدتش على إبعاده بالتهديد بإعلان التحالف بين قواته والميليشيات الكرواتية، وتطبيع العلاقات بصرب البوسنة، وتبادل الاعتراف بين جمهورية صرب البوسنة وإقليم الحكم الذاتي، بيهاتش. كما برزت، في الفترة عينها، تمردات أخرى بين صفوف القوات البوسنية المقاتلة، مثل إعدام قائد اللواء العاشر، واعتقال نائب قائد اللواء المدرع التاسع بتهمة "التمرد على القيادة".

حادي عشر: استمرار الموقف كما هو في نهاية عام 1993

على صعيد الجهود السياسية، فشلت جميع المفاوضات التي جرت بين الأطراف الثلاثة، خلال شهر ديسمبر 1993، في تحقيق أي تقدم نحو إنهاء الأزمة. سواء المفاوضات التي جرت في مطار سيراييفو، في 27/12/1993، أو التي دعت لها المجموعة الأوروبية في بروكسل، في 22/12/1993. كذلك التي جرت في فيينا وبلجراد، في 18/12/1993. وذلك بسبب إصرار الصرب والكروات على عدم زيادة الرقعة المخصصة للمسلمين من أراضي البوسنة على 33.3 بالمائة من مساحة البوسنة. وفي قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة ـ غير ملزم ـ صدر بأغلبية 109 أصوات، طالب مجلس الأمن بسرعة الموافقة على رفع حظر السلاح عن مسلمي البوسنة، وحماية المناطق الآمنة.

أما على صعيد المعارك، فقد شهد شهر ديسمبر 1993 تعرض مدن موستار وتوزلا وبانيالوكا، لمعارك عنيفة وقصف مدفعي شديد من قبل الكروات والصرب. كان من نتائجه نسف أحياء بأسرها في توزلا، وجميع مساجد بانيالوكا. وإن كان المسلمون قد نجحوا في استعادة مناطق مهمة في وسط البوسنة، مما جعل الكروات يهددون بنسف مصنع متفجرات في مدينة بوسط البوسنة، كان يحاصرها المسلمون. وقد ترتب على اشتداد المعارك، أن توقفت عمليات الإغاثة، وفي المقابل، أوقفت الأمم المتحدة قوافل إمدادات الوقود إلى صرب البوسنة، كما بدأت عمليات إخلاء للمدنيين من سيراييفو.