إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الثالث

المبحث التاسع عشر

جهود الوساطة المبذولة خلال عام 1994

أولاً: التحركات السياسية

لم يختلف الأداء الدولي الغربي في عام 1994 كثيراً، سواء من حيث التخاذل والتخبط والتردد، أو من حيث استمرار التصريحات والتهديدات الجوفاء من قبل حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة، عمّا كان سائداً في عام 1993. إذ واصلت القوى الدولية الكبرى تحركها في إدارة الأزمة، وهو ما انعكس في الخلافات وتصارع الأدوار في ما بينها، خاصة من جانب روسيا، التي أرادت أن تستعيد دورها على الصعيدين الأوروبي والدولي، بصفتها الأم الراعية لأبنائها من السلاف، الذين يمثلهم الصرب في البوسنة، وهو ما حرص الصرب دائماً على تذكير الروس به. وقد انعكس ذلك في قيام العقيد الروسي المتطرف، فلاديمير جيرينوفسكى، زعيم الحزب الديموقراطي الليبرالي، الذي استحوذ على 25 بالمائة من مقاعد البرلمان الروسي، بجولة في منطقة البلقان، في يناير 1994، شملت صربيا والقطاع الصربي من البوسنة، أعلن خلالها أن بلاده طوَّرت سلاحاً صوتياً جديداً، قد تستخدمه إذا تعرض صرب البوسنة لهجوم من قبل القوات الدولية. كما حرص جرينوفسكي، بعد انتهاء جولته، على حشد التأييد للصرب داخل روسيا، واندفع في إطلاق التحذيرات ضد الجميع، وهو الأمر الذي بدا واضحاً، بعد تحذير حلف شمال الأطلسي للصرب، حين وحَّدت روسيا صفوفها مع الصرب، واتجهت إلى التصدي لمحاولات حلف شمال الأطلسي توجيه ضربات جوية ضد صرب البوسنة.

ثانياً: مجموعة الاتصال الدولية (28 أبريل 1994)

عند هذا الحد من التعقيد والتشابك، الذي وصلت إليه الأزمة في البوسنة، تم في 28/4/1994، إعلان تشكيل مجموعة اتصال دولية، من الاتحاد الأوروبي و روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، مدته أربعة أشهر، والبدء في محادثات بهدف الوصول إلى خطة لتقسيم البوسنة إلى كيانين، أحدهما صربي، ويحصل على49 بالمائة من الأراضي، والآخر يضم الكروات والمسلمين، ويحصل على 51 بالمائة الباقية. وعقدت هذه المجموعة محادثات في جنيف مع أطراف الصراع، ولكنها لم تحرز أي تقدم يذكر، وشارك ممثل الأمم المتحدة في البوسنة، ياسوسي أكاشي، في هذه المحادثات، وأعلن أن صرب البوسنة على استعداد للتخلي عن جزء كبير من الأرض، بينما وصف بيجوفيتش الخطة بأنها "خيانة ومكافأة للمعتدى"، خاصة أن هذه الخطة لم تتحدث عن وحدة أراضي البوسنة، وعدم جواز انضمام صرب البوسنة إلى صربيا، وعودة اللاجئين، وطالب بزيادة حصة المسلمين من الأرض إلى 58 بالمائة. إلا أن الجنرال مايكل روز، قائد القوات الدولية في البوسنة، رد على مطلب بيجو فيتش بقوله: "لا أمل للمسلمين في استرجاع الأراضي التي فقدوها من طريق الحرب".

وقد أرجع بعض المراقبين التشدد، الذي اتصف به موقف الرئيس البوسني، إلى شعوره بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية له، بعد أن وافق في واشنطن على خطة أمريكية لاتحاد فيدرالي، يضم البوسنة وكرواتيا. ولقد أظهرت المحادثات، التي رعتها مجموعة الاتصال الدولية، وجود فجوة واسعة بين مواقف أطراف الصراع، ليس حول نسب توزيع الأراضي بين الأطراف الثلاثة فقط، ولكن حول شروط تنفيذ الهدنة أيضاً. ومن الأسباب التي أسهمت في تعزيز موقف الرئيس البوسني، أن مجلس الشيوخ الأمريكي كان، آنذاك، على وشك اتخاذ قرار برفع الحظر المفروض على تصدير السلاح إلى البوسنة.

بحلول شهر مايو 1994، وبحلول فصل الربيع وتحسن الجو، استؤنفت العمليات العسكرية بين الصرب والمسلمين في البوسنة. ففي الوقت الذي شن فيه الصرب قصفاً مدفعياً عنيفاً ضد مدينة توزلا المحاصرة، يوم 11/5/1994، وهي إحدى المناطق الآمنة، شن المسلمون هجوماً عنيفاً على مدينة براتشكو الصربية. كما تعرضت مدن وقرى أخرى للمسلمين، في وسط البوسنة، يوم 15/5/1994، لقصف مدفعي عنيف. إلا أن القوات البوسنية نجحت في إجبار القوات الصربية على إبعاد عدد من وحداتها المدفعية، في منطقة إستراتيجية، شمال البوسنة. وفي 24/5/1994، تصاعدت حدّة القتال بين القوات البوسنية وقوات صرب البوسنة، وامتدت إلى مدن دوبري، يتسليتش ويتساني، في شمال البوسنة. وهو الأمر الذي دفع مجلس الأمن إلى أن يطلب من أطراف الصراع في البوسنة، أن يوقفوا القتال، ويستأنفوا المفاوضات فوراً، دون شروط مسبقة، من أجل إبرام تسوية شاملة. كما أشار المجلس إلى احتمال إلزام حلف شمال الأطلسي بشن غارات جوية ضد الصرب والمسلمين والكروات، الذين ينتهكون وقف إطلاق النار. وكانت الأمم المتحدة قد نشرت 14 مراقباً في ممر بوسانسكي الإستراتيجي الصربي، شمال البوسنة، للحيلولة دون تحويله إلى مسرح عمليات جديد في الحرب البوسنية.

وفي 31 مايو، صدق برلمان البوسنة على دستور المشروع الفيدرالي، الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أعطى الاتحاد 58 بالمائة من أراضي البوسنة، وترك الباقي (42 بالمائة) للصرب. وتم انتخاب كريشمير زوياك ـ كرواتي ـ رئيساً للاتحاد، وأيوب جانيتش ـ مسلم ـ نائباً للرئيس، وحارس سيلاديتش ـ مسلم ـ رئيساً للحكومة، وذلك لمدة 6 أشهر، كمرحلة انتقالية. كما حصل الكروات على 6 وزارات، هي: الدفاع والمالية والعدل والتجارة ووزارة دولة. في حين حصل المسلمون على إحدى عشرة وزارة. كذلك، تم الاتفاق على حدود الأقاليم التي يتشكل منها الاتحاد، وتوزيع باقي المناصب الإدارية الأخرى في الاتحاد.

وقد شجع هذا الاتفاق، إضافة إلى قرار الكونجرس برفع حظر السلاح، الرئيس بيجوفيتش على الحديث، مجدداً، عن الحل العسكري لحسم الصراع الناشب. ففي 24 مايو، أعلن أن البوسنيين يريدون القتال لاستعادة الأراضي، التي استولى عليها الصرب بدلاً من قبول تقسيم بلادهم على أساس غير عادل، وأضاف: "إن حكومة البوسنة مستعدة للتفاوض في إطار تأييدها للسلام الشامل. ولكن، إذا اقتضت الضرورة، فسنحارب من أجل الحفاظ على سيادة أرض البوسنة والهرسك".

إلا أنه بينما كانت تجري المفاوضات بين المسلمين والكروات حول توزيع المناصب الوزارية، كان القتال يدور متفرقاً بين المسلمين والكروات، الذين أرادوا أن يحسنوا أوضاعهم على الأرض، مستفيدين من الاتفاق الجاري توقيعه. كما أن قرار الكونجرس لرفع الحظر على السلاح للبوسنة، ظل حبراً على ورق دون تنفيذ، وهو ما انعكس في تصريح الرئيس كلينتون، يوم 26/5/1994، بأنه يعارض انفراد الولايات المتحدة الأمريكية برفع حظر السلاح المفروض على البوسنة، لأن ذلك، في رأيه، "سيكون ضارّاً بعملية السلام، لأنه سيشجع أطرافاً أخرى ـ يقصد المسلمين ـ على انتهاك القرارات الدولية التي اتخذت بالإجماع". ولقد استغل مجلس النواب الروسي هذا الموقف، وصدق على قرار يدعو روسيا للانسحاب من المشاركة في العقوبات الدولية، المفروضة على يوغسلافيا السابقة.

ومع إخفاق مجموعة الاتصال الدولية في إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار، أو إقناع الأطراف بالخطة التي تبنتها لتقسيم البوسنة على أسس عرقية، تزايدت المخاوف من اتساع نطاق الصراع، خاصة بعد أن أعلنت فرنسا ثم بريطانيا، في 20/5/1994، عزمهما سحب قواتهما العاملة ضمن صفوف القوات الدولية في البوسنة، بدعوى أنهما لا يمكنهما أن يتركا قواتهما في البوسنة إلى ما لا نهاية، في وقت لا تريد الأطراف المتصارعة التوصل إلى حل سلمى للأزمة. وقد ترافق ذلك مع رفض حكومة البوسنة تجريد منطقة جورازدي من أسلحتها. وعلى الرغم من ذلك، واصلت مجموعة الاتصال الدولية جهودها، بدءاً من 24 مايو، لإقناع الأطراف بقبول الخطة المعروضة عليهم، ووقف إطلاق النار لمدة أربعة أشهر. وبنهاية مايو 1994، بات واضحاً أن جميع الأطراف قد شحذت أسلحتها، استعداداً لخوض معارك حاسمة، تحدد الموقف النهائي على الأرض قبل الدخول في مفاوضات نهائية.

ثالثاً: فشل جهود لجنة الاتصال الدولية

وعلى صعيد الجهود الدبلوماسية للوصول إلى تسوية دائمة، أقرَّت مجموعة الاتصال الدولية، في 29/6/1994، الخريطة النهائية لعملية تقسيم البوسنة بين المسلمين والكروات من جانب، والصرب من جانب آخر. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، أعلن البيت الأبيض، في 10/6/1994، رفضه قرار مجلس النواب الأمريكي، الذي طالب برفع حظر السلاح عن البوسنة من جانب واحد، وتقديم معونة عسكرية قيمتها 200 مليون دولار لسيراييفو، وهو ما رحبت به حكومة البوسنة. بينما انتقدت روسيا، على لسان وزير خارجيتها، هذا القرار، في 14/6/1994، ورأته انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن. (اُنظر خريطة تقسيم البوسنة بين فيدرالية).

وبحلول شهر يوليه 1994، أعلن الطرفان الصربي والبوسني موافقتهما على خطة التقسيم، التي عرضتها مجموعة الاتصال الدولية، ولكن بعد تعديلها طبقاً لشروط كل طرف. وهو ما لم يتحقق. وأدى، من ثم، إلى سحبهما موافقتهما بضغط من برلمانيهما. كما حاولت روسيا الضغط على الصرب للقبول بالخطة، ولكنها أعلنت، في 29/7/1994، فشلها في ذلك. وفي استعراض للقوة، قام الصرب، في 22/7/1994، بمواصلة هجومهم على طائرات الإغاثة الدولية في مطار سيراييفو، وإغلاق جميع الطرق المؤدية إلى سيراييفو. وهو ما دفع بطرس غالي، في 26/7/94، إلى تقديم توصية بسحب القوات الدولية من البوسنة. وإزاء إصرار الصرب على رفض خطة السلام، واستمرار عدوانهم على سيراييفو وباقي المناطق الآمنة، اجتمع مسؤولو الأمم المتحدة مع القادة العسكريين لقوات حلف شمال الأطلسي، في قاعدة زغرب، يوم 16/7/1994، لتقويم خياراتهم العسكرية.

وفي بداية شهر أغسطس 1994، وإزاء استمرار تشدد الصرب في رفض خطة التقسيم، هددت الدول الأعضاء في لجنة الاتصال الدولية بالتوصية بفرض عقوبات إضافية على الصرب، وأنها ستوصي مجلس الأمن برفع الحظر عن تصدير السلاح إلى مسلمي البوسنة. وهو ما جعل صرب البوسنة يتراجعون عن موقفهم، ويعلنون رغبتهم في استئناف المفاوضات مع أعضاء لجنة الاتصال، في الوقت نفسه الذي كرر فيه قائد القوات الدولية تهديده بقصف مواقع المسلمين في البوسنة جواً، إذا لم يوقفوا القتال حول سيراييفو. وقد حاول صرب البوسنة الاستيلاء على أسلحة ثقيلة من مستودع خاضع لحراسة الأمم المتحدة بالقرب من سيراييفو، فقامت طائرات حلف شمال الأطلسي، في 5/8/1994، بقصف المواقع الصربية في هذه المنطقة. وقد رد صرب البوسنة على ذلك، في 9/8/1994، بمنع مرور قوافل الأمم المتحدة العسكرية داخل الأراضي التي يسيطرون عليها.

رابعاً: الخلاف بين صربيا وصرب البوسنة

مع مواصلة الصرب تحديهم لقرارات مجلس الأمن، ومواصلتهم حصار وقصف المدن المسلمة، في الوقت الذي يرفضون فيه التعاون مع القوات الدولية في ما يتعلق بتمرير قوافل الإغاثة، وعدم حسم موقفهم إزاء خطة التقسيم التي عرضتها لجنة التنسيق الدولية، اضطرت حكومة بلجراد، بالنظر إلى استمرار العقوبات الدولية المفروضة عليها، وزيادة تأثرها منها على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى عزلتها الدولية سياسياً، أن تعلن معارضتها لسياسة صرب البوسنة. وقد انعكس ذلك في قيام زوران لبليتش، رئيس يوغسلافيا الجديدة، بشن هجوم شديد ضد رادوفان كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، متهماً إياه بالسعي إلى الدخول في حروب مستمرة لتحقيق مآرب شخصية. ثم أعلنت بلجراد، بعد ذلك، قطع كافة روابطها مع صرب البوسنة، وفرض حصار عليهم، خاصة بعد أن أسفرت نتيجة الاستفتاء عن أن 96 بالمائة من صرب البوسنة رفضوا خطة التقسيم، التي عرضتها لجنة التنسيق الدولية.

وقد استغلت روسيا هذا الموقف في 30/8/1994. فمن جهة، طالبت مجلس الأمن برفع فوري لبعض العقوبات الدولية المفروضة على صربيا، مكافأة لها على موقفها الإيجابي بإغلاق حدودها مع صرب البوسنة. ومن جهة أخرى، أعلنت روسيا رفضها لموقف الرئيس الأمريكي كلينتون من رفع الحظر على تسليح مسلمي البوسنة. وأشار المتحدث الرسمي باسم الخارجية الروسية إلى أن رفع الحظر قد يدعم توجهات القوات البوسنية، التي تراهن على الحل العسكري للأزمة. وساندت فرنسا هذا التوجه الروسي، إذ طالبت باريس أيضاً بتخفيف العقوبات على بلجراد.

إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، رفضت المطالب الروسية، بدعوى عدم وجود دلائل تؤكد حدوث تغير في موقف بلجراد من مساندتها المستمرة لصرب البوسنة. وهنا، برز اقتراح بوضع مراقبين على الحدود بين صربيا وصرب البوسنة. وهو ما رفضه الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفتش، بدعوى أنه يشكل انتهاكاً لسيادة يوغسلافيا الجديدة. كما رفض كاردازيتش أيضاً هذا الاقتراح، خاصة بعد ظهور نتيجة الاستفتاء. ونتيجة للجهود الروسية، وافقت بلجراد على نشر 200 من المراقبين المدنيين على الحدود بين صربيا والبوسنة، على أن يواكب ذلك نشر العدد نفسه من المراقبين أيضاً على الحدود بين كرواتيا والبوسنة، لضمان وقف مساعدات كرواتيا لكروات البوسنة ولمسلمي البوسنة أيضاً، بالنظر إلى حصول المسلمين على معظم احتياجاتهم التسليحية من خلال كرواتيا. وتم إعداد مشروع قرار بذلك لعرضه على مجلس الأمن.

خامساً: الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها حول حظر التسليح

لم يقتصر الخلاف حول رفع حظر التسليح عن مسلمي البوسنة على الولايات المتحدة الأمريكية، التي أيدت رفع الحظر، وروسيا التي رفضت رفعه، بل امتد إلى حلفتَي واشنطن أيضاً ـ فرنسا وبريطانيا ـ اللتين رفضتا الاقتراح الأمريكي برفع حظر التسليح عن البوسنة، بدعوى أن ذلك يهدد سلامة قواتهما في البوسنة.

فقد أعلن وزير الدفاع الفرنسي، فرانسوا ليوتار: "إن فرنسا والدول الأوروبية الأخرى، ستسحب قواتها من البوسنة، إذا رفع الحظر عن الأسلحة". وأضاف: "إن الذين يريدون رفع الحظر حالياً، يقللون من شأننا، وإن أخطار كثيرة ستهدد قوة الحماية الدولية في البوسنة، وعندها سوف ننسحب، وسأتوجه شخصياً إلى واشنطن لإعلامهم بذلك ... إننا نعمل في البوسنة كقوة لحفظ السلام، فكيف يمكن قوة حفظ السلام أن تبقى في مكان تصله الأسلحة من كل حدب وصوب ؟".

وقد ماثل موقف بريطانيا موقف فرنسا في رفض رفع حظر بيع السلاح عن مسلمي البوسنة. وعارضت الاقتراح الأمريكي، على الرغم مما بين لندن وواشنطن من تحالف. فقد أعلن متحدث رسمي باسم الخارجية البريطانية أن: "علاقة بريطانيا مع الولايات المتحدة الأمريكية، ستتعرض للتوتر، إذا أصرت على مساعيها لرفع حظر التسلح عن مسلمي البوسنة". وإزاء الموقف الأوروبي الموحد لرفع الحظر، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في التراجع عن موقفها.

سادساً: سلاح البوسنة بين الكونجرس وكلينتون

في ظل الصراع بين الديموقراطيين والجمهوريين المسيطرين على الكونجرس، ورغبتهم في إحراج إدارة كلينتون، تم توظيف قضية رفع الحظر عن تسليح البوسنة في هذا الصراع. فقد واصل الكونجرس ضغطه وتصويته في اتجاه رفع الحظر، وصدرت قرارات كثيرة بذلك. إلا أن كلينتون واجهها بالرفض والاعتراض، خاصة وأنه يملك صلاحية ذلك، وإن كان قد أعلن أنه سيوافق على رفع الحظر، إذا رفض صرب البوسنة خطة السلام.

وعندما وافق مجلس الشيوخ على اقتراح بتوجيه دعوة إلى كلينتون برفع الحظر من جانب واحد، إذا ما رفض الصرب خطة السلام، أبلغ كلينتون المجلس أنه سيطلب ذلك من الأمم المتحدة. ومع استمرار ضغط الكونجرس في اتجاه رفع الحظر، خاصة وأنه يفضل ذلك على المشاركة بجنود أمريكيين في البوسنة، وقرب موعد الانتخابات لمجلس الشيوخ، أعلن كلينتون أنه سيعرض على مجلس الأمن، في نهاية أكتوبر، مشروع قرار لرفع الحظر عن البوسنة، وفي حالة الرفض ستتخذ أمريكا إجراءات من جانب واحد لتسليح البوسنة. ولأن الانتخابات على الأبواب، والكونجرس يواصل ضغوطه، بات من الصعب على كلينتون التراجع عما وعد به، كما وأنه يخشى رفض مجلس الأمن لاقتراحه، أو إغضاب حلفائه الذين أعلنوا رفضهم لاقتراحه. لذلك، اتخذ كلينتون قراراً وسطاً بوقف مشاركة أمريكا في تنفيذ الحظر على البوسنة، وأصدر أوامره بتحويل مسار السفن المتجهة إلى البوسنة وكرواتيا، لتشارك في الحظر.

ويتضح هذا التضارب في موقف كلينتون، عندما أعلن البيت الأبيض، في 19/10/1994، أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لرفع حظر السلاح عن البوسنة من جانب واحد، إذا ما رفضت الأمم المتحدة ذلك. وكانت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت، قد حاولت، في 20/10/1994، إقناع ممثلي الدول الكبرى بذلك، فرفضوا. ثم في 22/10/1994، تراجع الرئيس كلينتون، وأعلن أن بلاده لن تقدِم من جانب واحد على رفع الحظر، في حالة رفض مجلس الأمن ذلك. وفي 29/10/1994، تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بمشروع قرار إلى مجلس الأمن برفع الحظر على السلاح، في حالة عدم موافقة صرب البوسنة على خطة التقسيم، وهو ما رفضه كارادازيتش، في 31/10/1994. مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إصدار أوامرها، في 12/11/1994، إلى البحرية الأمريكية بعدم المشاركة في فرض حظر السلاح.

سابعاً: روسيا تسلح صرب البوسنة

على الرغم من ضعف القرار الأمريكي بعدم مشاركة البحرية الأمريكية في عملية حظر السلاح، وقلة تأثيره، لكون البوسنة تفتقد أصلاً سواحل أو منافذ بحرية، إلا أن هذا القرار أحدث رد فعل عنيفاً داخل روسيا. فأصدر البرلمان الروسي قراراً، دعا فيه الرئيس يلتسين إلى اتخاذ إجراءات لتحييد ما أطلقوا عليه "الخطوات المدمرة" التي اتخذتها أمريكا في البوسنة. وألمح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الروسي إلى أن بلاده، قد تقدِم على إرسال أسلحة إلى صرب البوسنة. وترددت، بالفعل، أنباء أن الجيش الروسي أفرغ كل المخازن التي كان يملكها في ألمانيا الشرقية، وأرسلها إلى الصرب، وأنهم حصلوا، أثناء الحظر أيضاً، على ما يقرب من 92 دبابة و 82 قطعة مدفعية وراجمة صواريخ. كما استخدمت روسيا النقض (الفيتو) ضد صدور بيان من مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين، يدعو الصرب إلى إنهاء القتال حول بيهاتش.

ثامناً: تشرذم الموقف الدولي

بذلت دول مجموعة الاتصال الدولية جهوداً مكثفة، من أجل وقف إطلاق النار في منطقة بيهاتش، والحيلولة دون اقتحام الصرب للمدينة، التي استبسل رجالها في الدفاع عنها. إلا أن الصرب رفضوا وقف إطلاق النار، وأعلنوا أن هدفهم هو تدمير القدرة العسكرية للفيلق الخامس البوسني. كما استأنف الصرب قصف المناطق الآمنة في جورازدي، وزيبا، سربرنيتشا، إلى جانب موستار وسيراييفو.

وعندما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تستعرض قوتها، بواسطة تحريك ثلاث سفن حربية صوب البحر الأدرياتيكي، رد الصرب بتوعد الولايات المتحدة الأمريكية بفيتنام أخرى في البوسنة، إذا ما قررت التدخل بقواتها. وهو الموقف الذي دفع وزير الدفاع الأمريكي، ويليام بيري، في 27/11/1994، إلى نفي أي نيات لبلاده للتدخل عسكرياً في البوسنة، مؤكداً: "أن الصرب أظهروا تفوقاً عسكرياً على الأرض، وليس لدى الولايات المتحدة الأمريكية أي خطط لإرسال قوات برية إلى البوسنة للمشاركة في الحرب. وأن إرسال السفن الأمريكية إلى البحر الأدرياتيكي، كان بهدف القيام بمهام إغاثة". واتجهت السياسة الأمريكية، بعد ذلك، إلى إحياء مفاوضات السلام بواسطة لجنة الاتصال الدولية.

أدى هذا الموقف الأمريكي إلى استياء حكومة البوسنة، خاصة عندما أبدت الولايات المتحدة الأمريكية تجاوباً، للمرة الأولى، مع مطالب صرب البوسنة في ما يتعلق باتحادهم فيدرالياً مع صربيا، عبر منح الصرب الأراضي اللازمة لربط مناطقهم في البوسنة بإقليم كرايينا في كرواتيا مع جمهورية صربيا الأم. وقد احتجت حكومة البوسنة على هذا الموقف الأمريكي، لما سيترتب عليه من تغيير كبير في التركيبة السكانية في المنطقة، على حساب مسلمي البوسنة وكرواتها. وقد أدى هذا الموقف إلى تشدد الموقف الصربي، خاصة بعد أن هددت دول أوروبا بسحب قواتها من البوسنة، وقد انعكس هذا التشدد في رفض زعيم صرب البوسنة، كارادازيتش، الاجتماع مع بطرس غالي في مطار سيراييفو، ودعاه للاجتماع معه في بالي، معقل صرب البوسنة، وهو الأمر الذي رفضه الأمين العام.

ومع استمرار الهجوم الصربي على مواقع القوات المسلمة في شرق البوسنة وغربها، ورفض الصرب محاولات الوساطة التي قام بها الأمين العام للأمم المتحدة وممثلي مجموعة الاتصال، واستمرار حكومة البوسنة في توجيه الانتقادات إلى قائد القوات الدولية بالانحياز إلى الصرب، وقيام القوات الصربية باحتجاز قوات دولية، إذ حاصرت، يوم 23/11/1994، حوالي 350 جندياً من القوة الدولية، يتولون حراسة النقاط التسع لتجميع الأسلحة الصربية الثقيلة في محيط سيراييفو، كرهائن حتى لا تتعرض القوات الصربية لهجمات جوية جديدة من قبل طائرات حلف شمال الأطلسي، دفعت كل هذه العوامل بعض الدول الأوروبية إلى طلب سحب قواتها العاملة في صفوف القوات الدولية في البوسنة. وقد كانت فرنسا وبريطانيا على رأس الدول التي تزعمت هذه الفكرة، بدعوى ما تتعرض له قواتها من أخطار وصعوبات، مع عدم بروز دلائل على نهاية لهذه الحرب.

ومن جانبه، أعلن حلف شمال الأطلسي عن انتهائه من خطة يشارك فيها حوالي 40 ألف جندي (من بينهم عشرة آلاف جندي أمريكي) لتأمين سحب القوات الدولية العاملة في البوسنة، والتي يقدَّر تعدادها بحوالي 25 ألف فرد. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلن أنتوني ليك، مستشار الرئيس للأمن القومي، أن بلاده ليس لديها الرغبة في التدخل عسكرياً في البوسنة، لأن القتال الدائر هناك، لا يشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة الأمريكية.

ومع تشرذم الموقف الدولي على هذا النحو، عاد الحديث إلى خطة التقسيم، مع ضرورة تشجيع صرب البوسنة وإغرائهم بقبولها، وذلك من خلال الموافقة على ربط مناطقهم فيدرالياً مع جمهورية صربيا، ومنحهم ممرات أرضية تربط مناطقهم في شرق البوسنة مع مناطقهم في وسط وغرب البوسنة، مع منطقة كرايينا ذات الأغلبية الصربية في كرواتيا، وربط كل هذه المناطق مع جمهورية صربيا. وهو الأمر الذي يقتضي حصول الصرب على منطقة كوبرس لربط شمال البوسنة، الخاضع للصرب، بساحل الأدرياتيكي الواقع تحت سيطرة صرب كرايينا، ومن ثم، تعديل خطة التقسيم التي وضعتها مجموعة الاتصال بما يخدم المطالب الصربية. وفي إطار التنازلات الدولية، التي قدمت إلى صرب البوسنة، تعهدت لجنة التنسيق الدولية بإيقاف هجمات طائرات حلف شمال الأطلسي ضد المواقع الصربية. وذلك مقابل تعهد من الصرب بعدم تصعيد هجماتهم ضد مواقع مسلمي البوسنة، حتى يمكن إقناعهم بقبول خطة التقسيم المعدلة، التي تلبي مطالب الصرب الجديدة، كذلك تعهد آخر من صرب البوسنة بعدم التعرض للقوات الدولية.

وكانت هذه الموضوعات محوراً لِلِّقَاء السري الذي عقده المبعوث الأمريكي الخاص، تشارلز توماس، مع زعيمَي كروات البوسنة وصربها، رادوفان كارادازيتش وميلان ماريتش، في حضور الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفتش. الذي أشار عقب اللقاء إلى أن: "الموقف الأمريكي يقترب من موقف صرب البوسنة، الداعي إلى سير العملية السلمية على مراحل".

وفي 8/12/1994، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، أن الرئيس كلينتون وافق، مبدئياً، على المساهمة بأعداد كبيرة من الجنود، في عملية محتملة لحلف شمال الأطلسي لتأمين انسحاب القوات الدولية من البوسنة. إلا أن ويلي كلايس، سكرتير عام حلف شمال الأطلسي، حذر من عملية سحب القوات الدولية، وذكر أنه ليس القرار الصحيح لحل أزمة البوسنة، وأن البديل الصحيح هو التوصل إلى اتفاق غير مشروط لوقف إطلاق النار، يشمل البوسنة كلها. وإزاء حالة القلق والخوف، التي عمت دولاً كثيرة إسلامية وأوروبية على مصير مسلمي البوسنة بعد انسحاب القوات الدولية، نفي بطرس غالي، في 10/12/1994، وجود نية، آنئذٍ، لسحب القوات الدولية من البوسنة. وكانت كرواتيا قد هددت، في 1/12/1994، بالتدخل إلى جانب القوات البوسنية، لمنع سقوط بيهاتش التي كانت لا تزال تتعرض لهجوم وقصف مدفعي من قبل الصرب، خاصة بعد أن أعلن حلف ش مال ا لأطلسي وقف هجوم طائراته، خوفاً من تعرضها للصواريخ الصربية، بعد أن هدد صرب البوسنة باستخدامها إذا ما تعرضوا لهجوم جوي.

تاسعاً: وساطة كارتر

أعلن كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، في 14/12/1994، أنه طلب من الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، مساعدته على تنفيذ خطته التي أعلنها في مقابلة مع شبكة CNN، وتتضمن التخلي عن بعض الأراضي التي يسيطر عليها الصرب، والإفراج عن الأسرى من أفراد الأمم المتحدة، والسماح لقوافل الإغاثة الدولية بالتحرك دون عقبات، مع وقف القتال فوراً في سيراييفو والمنطقة المحيطة بها وإعادة فتح مطارها، كذلك ضمان حقوق الإنسان في البوسنة.

وقد أبلغ كارتر كارادازيتش استعداده لقبول مهمة الوساطة، وأجرى، بالفعل، سلسلة من الاجتماعات مع الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، ثم أعلن كارتر في مؤتمر صحفي، عقده يوم 19/12/1994، عقب محادثات استمرت سبع ساعات مع كارادازيتش، أن صرب البوسنة وافقوا على وقف فوري لإطلاق النار في البوسنة لمدة أربعة أشهر، وبحث خطة السلام التي طرحتها مجموعة الاتصال. وفي ختام المباحثات، التي أجراها كارتر على مدى يومين، أعلن أنه حصل على موافقة حكومة البوسنة والقادة العسكريين البوسنيين على اتفاق لوقف إطلاق النار فوراً، في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك جيب بيهاتش. وأضاف أن الاتفاق يسري خلال 72ساعة، ويخضع لمراقبة الحماية الدولية.

وقبل يوم واحد من بدء سريان وقف إطلاق النار، أطلق الصرب، في 22/12/1994، نيران مدفعيتهم على سوق سيراييفو، مما أدى إلى تأجيل تنفيذ وقف إطلاق النار لمدة 24 ساعة، ليبدأ يوم 24/12/1994. ولما برزت خلافات نتيجة طلب الصرب إعادة النظر في البند الخاص بتبادل الأسرى وتوفير معلومات عن المفقودين في الحرب، وفي 25/12/1994، هددت الحكومة البوسنية بنسف اتفاق الهدنة، ما لم توقف ميليشيات صرب كرواتيا هجماتها على جيب بيهاتش. كما رفضت القوات البوسنية الانسحاب من مواقعها في جبل إيجمان الإستراتيجي، لأن ذلك خارج الاتفاق.