إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث العشرون

المبحث العشرون

جهود الوساطة المبذولة، خلال عام 1995

أولاً: حدود الخيار العسكري

بحلول عام 1995، أدرك أطراف الصراع الثلاثة، أن هناك حدوداً للإنجاز، من خلال الخيار العسكري، وذلك في ضوء حقائق الموقف، محلياً وإقليمياً ودولياً. فمن ناحية إذا كان صرب البوسنة، قد تمكنوا، في بداية الصراع، عبر المبادرة إلى الهجوم، في ظل بيئة إقليمية متعاطفة، وبيئة دولية غير مبالية، من السيطرة على 70% من مساحة البوسنة، فإن عودة المبالاة الدولية، وطائرات حلف شمال الأطلسي، حالتا دون السماح لهم بالسيطرة على المزيد من الأراضي. بينما حالت القدرات العسكرية، والبيئة الإقليمية، وحسابات الكروات المصلحية، دون تمكين البوسنة من استعادة أي قدر من الأراضي، التي سبق أن فقدتها أمام الزحف الصربي، فضلاً عن إشارات حلف شمال الأطلسي، في بعض المراحل، إلى إمكانية قصف طائراته القوات الحكومية البوسنية، والكرواتية، إذا ما حاولت تجاوز الحدود، الخاصة بتثبيت الوضع القائم.

وقد بدا واضحاً، أن الحظر المفروض على تصدير السلاح إلى مناطق يوغسلافيا السابقة، حتى مع بعض الاختلافات، التي سمح بها دولياً، يحول دون توافر القدرات العسكرية اللازمة لحكومة البوسنة، من أجل استعادة الأراضي، التي فقدتها، في بداية الصراع، وذلك بسبب القدرات العسكرية الضخمة لصرب البوسنة، والتعاون بينهم وبين صرب كرواتيا، إضافة إلى الحصول على السلاح من بلجراد، وعبر شبكة العلاقات الإقليمية، المستندة إلى مكونات، عِرقية ولغوية، وربما دينية، كذلك. إضافة إلى أن حسابات الكروات المصلحية، ومعايير التوازن المستقبلي، مع مسلمي البوسنة، في إطار الاتحاد الفيدرالي المقترح، حالت دون إقدام كرواتيا، وكروات البوسنة، على تقديم الدعم المفتوح للحكومة البوسنية، أو السير في طريق التعاون العسكري إلى أبعد من مدى معين حؤولاً دون ازدياد قدرات القوات الحكومية البوسنية، وقوفها حائلاً دون تمكن كروات البوسنة من التعامل مع خيارات مستقبلية، في علاقاتهم بمسلمي البوسنة، بما في ذلك احتمالات الصراع، وتفكيك أُطر الاتحاد المقترح.

لذلك، يُعَدُ عام 1995، هو عام اختيار حدود الاعتماد على الخيار العسكري، من جانب أطراف الصراع. كما أنه عام تبلور العجز، الإقليمي والدولي، عن وقف الصراع الدامي، في قلب القارّة الأوروبية، في ظل غياب الرغبة الأمريكية في إنهاء الصراع، تحت المظلة الدولية، وتعمد عدم المشاركة في جهود التسوية، ما دامت تحت المظلة الأوروبية. وجاءت المبادرة الأمريكية، بعد ذلك، مستفيدة من الرصيد، الإقليمي والدولي، الذي بذل على طريق التسوية، من دون أن يكون هناك وجود، رسمي أو فعلي، لمن اضطلعوا بالجهود الدبلوماسية، على الصعيدين، الإقليمي والدولي.

ثانياً: اتفاقية الهدنة (يناير ـ أبريل 1995) (مبادرة جيمي كارتر)

في ظل القيود، الإقليمية والدولية، على إمكانية التوصل إلى تسوية الصراع، عمد الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر إلى مبادرة، تدفع أطراف الصراع إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق نار، مدته أربعة أشهر، من أول يناير حتى نهاية أبريل 1995، ويتيح الفرصة أمام انطلاق المبادرات الدبلوماسية لتسوية النزاع. وقد أسفرت هذه المبادرة عن توقيع اتفاق الهدنة، الذي بدأ سريانه مع مطلع عام 1995 (اُنظر شكل أراضي أطراف الصراع).

وعلى الرغم من الانتهاكات العديدة للاتفاق، إلاّ أنه صمد. غير أن الشق الآخر من المعادلة، لم يتحقق، أي التوصل إلى تسوية سياسية للصراع؛ إذ فشلت محاولات مكثفة لتنشيط الاتحاد الكرواتي ـ المسلم في البوسنة. ولكن ضخامة العقبات والمشاكل، التي اعترضته، حالت دون بلورة أُسس هذا الاتحاد. كما ظلت الشكوك المتبادلة، تحكم مواقف طرفَيه. فالجانب الحكومي ـ المسلم، كان ينظر، بتوجس، إلى الاتصالات الكرواتية ـ الصربية، ويخشى من إبرام صفقة، على حسابـه، ولا سيما بعد أن دخلت كرواتيا، ذات الطموحات القومية، طرفاً في الاتصالات مع بلجراد، للتوصل إلى اتفاق يسمح لكرواتيا باستعادة سيطرتها على إقليم كرايينا، الخاضع لسيطرة صرب كرواتيا، مقابل تقليص تعاونها مع حكومة البوسنة، وتقديم تنازلات لصرب البوسنة، عبر الصفقة مع بلجراد. أمّا الجانب الكرواتي، فقد تزايدت لديه المخاوف من ضياع ملامح الهوية الكرواتية في البوسنة، في إطار اتحاد مع المسلمين، تكون لهم الغالبية العددية فيه، وهو ما يتنافي وطموحات الكروات القومية.

هكذا، اتجه الصرب، إبّان الهدنة، إلى فك التحالف بين البوسنيين، من خلال تذكير كروات البوسنة بطموحاتهم القومية. وتبلور ذلك في تحفظ الكروات من المبادرة الأمريكية، الرامية إلى تنشيط الاتحاد الفيدرالي مع المسلمين. وأشار بعض المصادر، في ذلك الوقت، إلى حدوث اتصالات سرية، بين الصرب والكروات، لإبرام صفقة، على حساب الحكومة البوسنية. وأثار غياب قوات مجلس الدفاع الكرواتي، "قوات كروات البوسنة" عن المعارك، التي دارت بين المسلمين والصرب، الريبة في احتمالات توصل الصرب والكروات إلى اتفاق سري، ينسحب الكروات، بموجبه، من الائتلاف مع حكومة البوسنة، مقابل تحقيق مطالبهم وتطلعاتهم القومية. وتحولت الريبة إلى يقين، في أعقاب هجوم القوات الكرواتية الخاطف على مواقع صرب كرواتيا، داخل إقليم كرايينا، في أغسطس 1995؛ إذ تمكنت القوات الكرواتية من السيطرة، بسهولة، على الطريق الرئيسي في سلوفينيا الغربية، ولم تتدخل بلجراد، بل منعت متطوعين من الصرب من نجدة صرب  كرواتيا.

وبعد انتهاء المعارك، ذكر بعض التقارير، أن المعارك جرت بناء على اتفاق سري، بين بلجراد وزغرب، يقضي بتوسيع كرواتيا لسيطرتها على مناطق صرب كرواتيا، في إقليم كرايينا، مقابل فك الائتلاف الإسلامي ـ الكرواتي، ووقوف الكروات على الحياد في أي معارك، يخوضها الصرب ضد مسلمي البوسنة.

ثالثاً: عودة التصعيد العسكري

بعد توقف القتال في كرايينا، وسيطرة القوات الكرواتية على مناطق رئيسية، داخل الإقليم، بدا واضحاً، أن صرب البوسنة سيتجهون إلى تصعيد القتال ضد القوات الحكومية البوسنية، وأن مفاتيح حل صراع البوسنة، توجد في بلجراد، وأن الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، على استعداد لإبرام صفقة، تُرفع، بموجبها، العقوبات المفروضة على بلاده، مقابل إنهاء الصراع المسلح، بصرف النظر عن موقف القيادة السياسية لصرب البوسنة، ممثلة في زعيمها، رادوفان كاراديتش.

ولم تشأ الولايات المتحدة الأمريكية وضع نهاية للصراع، نظراً إلى وجود جهود، أوروبية ودولية، تشارك فيها روسيا الاتحادية، أي أن المسرح، الإقليمي والدولي، لم يكن مهيأ بعد لإنفراد واشنطن بالتسوية. ومن ثم، اقتصرت الجهود الأمريكية على إيفاد ممثل واشنطن في مجموعة الاتصال الدولية، روبرت فريزر، إلى بلجراد، ليعرض على الرئيس الصربي الاعتراف بدولة البوسنة والهرسك، مقابل تعهد الولايات المتحدة الأمريكية بتعليق معظم العقوبات الدولية، المفروضة على يوغسلافيا الجديدة، صربيا والجبل الأسود، لمدة 200 يوم، على أن يُعاد النظر فيها، بعد ذلك، للتأكد من التزام بلجراد بهذا الاعتراف. أمّا الرئيس الصربي، ميلوسوفيتش، فقد طلب أن يتزامن اعترافه بالبوسنة مع الرفع الشامل، والنهائي، للعقوبات المفروضة، بما فيها النفط والعلاقة بالمؤسسات المالية الدولية، ورفض فكرة "التجميد" أو التعليق. وتواصلت الجهود الدبلوماسية الأمريكية، بالتوازي مع جهود، فرنسية وبريطانية، في هذا المجال، وجهود روسية، رَمَت إلى تعظيم مكاسب بلجراد من وراء الاعتراف بالبوسنة.

وقد أثارت هذه الجهود مخاوف القيادة السياسية لصرب البوسنة، فعقد برلمانهم جلسة، في 23 مايو 1995، واتخذ قراراً، بالإجماع، ينص على إعلان الوحدة بين صرب البوسنة وصرب كرواتيا، على أساس أن هذه الخطوة، ستغير ملامح الخريطة السياسية للمنطقة، وتقطع الطريق على اعتراف صربيا بالبوسنة.

وفي 24 مايو 1995، اندلع القتال، مرة أخرى، بإطلاق الصرب النار، من الأسلحة الثقيلة، التي استولوا عليها من بعض "نقاط تجميع الأسلحة"، وإطلاق القوات الحكومية النار من مواقع مختلفة، من داخل المدينة. كما استولت قوات صرب البوسنة على ثلاث قطع أخرى من "نقاط تجميع الأسلحة". وأُبلغ عن وجود دبابات وقواذف صاروخية، داخل "المنطقة الخالية من الأسلحة الثقيلة". وقد سقط ستة عشر مدنياً وعسكرياً قتلى، إضافة إلى ستين جريحاً، على أقلّ تقدير. ولفشل الإجراءات السابقة في إعادة الالتزام بتنفيذ "اتفاقية الأسلحة الثقيلة"، ولأن كلا الطرفَين لم يبديا استعدادهما لإيقاف القتال، قررت قوات الحماية استخدام كل الوسائل المتاحة، لإعادة الإذعان لاتفاقية فبراير 1994. (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995)

في 24 مايو 1995، قدم الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، بياناً، يؤكد فيه خطر الموقف. وتَبِعَ ذلك صدور إنذار من قائد قوات الحماية، إلى كلٍّ من الحكومة البوسنية، وصرب البوسنة، بأن قواتهما ستتعرض للهجمات الجوية، إذا لم تتوقف نيران كافة أسلحتهما الثقيلة، بدءاً من الساعة 1200، من اليوم التالي. كما وجَّه إنذاراً إلى الصرب، بضرورة الإسراع في إعادة أربع قطع من الأسلحة الثقيلة، في الموعد نفسه، كان الصرب قد استولوا عليها من "نقاط تجميع الأسلحة". وحُدِّدَ موعد ثانٍ، بعد 24 ساعة من الموعد الأول، لإبعاد كافة الأسلحة الثقيلة، التي أدخلها إلى المنطقة كلا الطرفَيْن المتصارعَين، خارج أقصى مدى لها، أو تسليمها إلى "نقاط تجميع الأسلحة". وكانت قوات الحماية، عندما وجَّهت هذا الإنذار، تُدرك أن عدم الإذعان له، سوف يتطلَّب رداً قوياً، ما سيتسبب بتعريض أفراد قوات الحماية لخطر محقَّق. (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444، بتاريخ 30 مايو 1995)

ومع اتخاذ كافة إجراءات الحماية الممكنة، لم يكن لدى قوات الحماية أي خيار سوى الاستمرار في أداء واجبات تفويضها. على أي حال، أٌقيمت عدة نقاط مراقبة، و"مراكز تجميع أسلحة"، في المناطق الواقعة تحت سيطرة الصرب، التي تخضع التحركات فيها لرقابة صارمة، ودقيقة، من جانب صرب البوسنة. وعلى الرغم من أنه كان من الممكن تحسين الدفاعات المحلية، وإيقاف قوافل الإمداد، إلاّ أن أعداداً كبيرة من الأفراد المعرّضين، كان يصعب إخلاؤهم، بسبب الحاجة الملحّة إلى استمرار المراقبة والاتصال. وليس من المنطق، كذلك، تنفيذ ضربات جوية، لتحقيق إعادة عددٍ قليلٍ من الأسلحة الثقيلة، إذا لم يكن للأمم المتحدة أفراد في "نقاط تجميع الأسلحة" لمراقبة إعادة هذه الأسلحة، وفي الوقت نفسه، تُترك مئات القطع من الأسلحة في مواقع أخرى (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995).

وعندما أدرك صرب البوسنة، أن بلجراد عازمة على الاعتراف بالبوسنة، وفرض ما تتوصل إليه من اتفاقات عليهم، بادروا إلى قصف عشوائي للعاصمة، سيراييفو، في 25 مايو 1995، مما أدى إلى مقتل وإصابة حوالي 70 شخصاً. وإزاء هذا التصعيد، وافقت الأمم المتحدة على إغارة طائرات حلف شمال الأطلسي على مواقع لقوات صرب البوسنة، حول العاصمة، سيراييفو، وعلى معقلهم، في مدينة بال (Pale).

حدثت أول ضربة جوية، في الساعة 1620، يوم 25 مايو 1995، نتيجة عدم التزام صرب البوسنة بالموعد النهائي، المحدَّد لإعادة الأسلحة الثقيلة. اختِير هدف الضربة الجوية، ليكون مستودعَين، داخل مخازن ذخيرة، بالقرب من مدينة بال (Pale)، لتحقيق ضربة مؤثرة، مع تقليل أخطار حدوث خسائر في الأرواح، أو أضرار إضافية. وعقب الضربة الجوية، حاصرت قوات صرب البوسنة عدداً من "نقاط تجميع الأسلحة"، كما قصفت جميع المناطق الآمنة، باستثناء زيبا (Zepa)، مما تسبب بإحداث خسائر فادحة في الأرواح، خاصة في توزلا (Tuzla)، حيث سقط 70 قتيلاً، وأكثر من 130 جريحاً، من المدنيين. ومع استخدام الصرب للأسلحة الثقيلة، حول سيراييفو، وعدم إذعانهم لقرار إعادة الأسلحة الثقيلة، التي استولوا عليها، إلى "نقاط تجميع الأسلحة"، وُجِّهت ضربة ثانية ضد المستودعات الستة، الباقية في مخازن الذخيرة، في بال، في الساعة 1030، يوم 26 مايو 1995. وردّت قوات صرب البوسنة بمحاصرة نقاط أخرى لتجميع الأسلحة، واحتجاز مراقبي الأمم المتحدة، واستخدام عدد منهم دروعاً بشرية، لمنع أي هجمات جوية أخرى ضد الأهداف الحيوية، كما قطعت الكهرباء عن المدينة (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995).

أدّت القيود على عمليات المراقبة، براً وجواً، إلى صعوبة التحقق من إذعان كلٍّ من الطرفَين لطلب إزالة الأسلحة الثقيلة من المنطقة العازلة، بحلول الساعة 1200، يوم 26 مايو 1995. وعاد الهدوء النسبي إلى المدينة. أمّا الموقف إزاء المحتجزين، من رجال الأمم المتحدة، فكان غامضاً وخطيراً. ولكل هذه الأسباب، تقرر مراجعة الموقف بأسْره، قبل التفكير في أي إجراء عسكري آخر(اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995).

وإزاء تهديد صرب البوسنة بقتل الجنود الدوليين، إذا ما حاولت طائرات حلف شمال الأطلسي شن غارات جديدة، أو أقدمت الأمم المتحدة على تعزيز وجودها في البوسنة، استعداداً لعمل عسكري ضد الصرب، ترددت الدول الغربية في مواقفها، وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رفضها القاطع لإرسال قوات برية إلى المنطقة، إلاّ إذا كان ذلك من أجل إجلاء قوات الحماية التابعة للأمم المتحدة، إذا ما تقرر بذلك، أو ضماناً لتنفيذ اتفاق التسوية، بعد التوصل إليه. وأكد وزير الخارجية الألماني، كلاوس كينكل، أن على المجتمع الدولي، أن "يجاهد من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للصراع في البوسنة، وألاّ يعتمد على التدخل العسكري، وحده". وهو الموقف نفسه الذي أكده رئيس الوزراء الفرنسي، آلان جوبيه. أمّا روسيا الاتحادية، فانتقدت غارات حلف شمال الأطلسي، وطالبت ببذل الجهود لإنهاء الصراع، عبر التفاوض مع بلجراد.

تقرير الأمين العام للأمم المتحدة (30 مايو 1995)

وفي ظل هذا الوضع المهين للأمم المتحدة، والدول الأوروبية على وجه التحديد، الذي أظهرها بمَظهر العاجز عن حماية المدنيين، ووقف الاعتداءات، بل العاجز عن حماية جنودها أنفسهم، قدم الأمين العام للأمم المتحدة، الدكتور بطرس غالي، تقريراً إلى مجلس الأمن، في 31 مايو 1995، حدد فيه أربعة خيارات، في شأن مهمة القوات الدولية في البوسنة، وهي: (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995)

1. سحب قوات الحماية، التابعة للأمم المتحدة، مع ترك مجموعة سياسية صغيرة، في حالة رغبة الأطراف في ذلك.

2. الإبقاء على الواجبات الحالية لقوات الحماية، والوسائل التي تستخدمها لتحقيق هذه الواجبات.

3. تغيير التفويض الحالي بما يسمح لقوات الحماية باستخدام القوة استخداماً أوسع.

4. مراجعة التفويض، ليشمل تلك الواجبات فقط، التي يمكن عملية حفظ السلام تنفيذها، بصورة واقعية، في ظل الظروف الحالية، السائدة في البوسنة والهرسك.

ووضح الدكتور بطرس غالي، أن الأحداث الأخيرة قد أظهرت أن أي بديل، يتضمن استمرار بقاء قوات الحماية في البوسنة والهرسك سيكون في حاجة إلى أن يصحبه قوات الحماية، والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، والهيئات المدنية الأخرى، العاملة معها. (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995)

إن مجلس الأمن، في مناقشته هذه الخيارات، سوف يأخذ في حسبانه، كذلك، ردود الأفعال، التي قد يسببها أي تغيير في ما يُفَوَّض إلى قوات الحماية، وفي أسلوب العملية، وتأثيرها في عمل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، والهيئات الإنسانية الأخرى، في البوسنة والهرسك. إن الدور المتواصل للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، كمنظمة إنسانية، رائدة في تقديم المساعدات الإنسانية، وحماية اللاجئين، والمشردين، والأشخاص الآخرين، الذين تأثروا بالصراع، والإعداد، في الوقت نفسه، لإعادة هؤلاء اللاجئين مستقبلاً إلى أوطانهم ـ هذا الدور، قد يتطلَّب إعادة تقييم، وربما إعادة التفاوض مع الأطراف، تبعاً للخيار، الذي يتبناه مجلس الأمن. (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995)

وأكد الأمين العام الدكتور بطرس غالي، أنه يهدف في هذا التقرير، إلى تقديم الاقتراح لمجلس الأمن في شأن الخطوات، التي يمكنه اتخاذها ليضمن بقاء قوات الحماية في البوسنة والهرسك، مع إتاحة فرصة أفضل لها، مما هو الحال الآن، لإنجاز التفويض الذي أُعطي لها من المجلس. (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995)

وذكر الأمين العام، أنه لا يفضل الخيار الأول، لأخطاره وكذلك يرفض الخيار الثاني لعجزه عن الوفاء بمقتضيات حفظ السلام والأمن في البوسنة. وأنه يفضل أحد الخيارين الثالث والرابع. (اُنظر ملحق تقرير الدكتور بطرس غالي، الرقم S/1995/444 ، بتاريخ 30 مايو 1995)

ويلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية، حرصت على عدم المبادرة إلى أي تحرك، في ذلك الوقت، حتى بعد أن أسقط صرب البوسنة طائرة وزير خارجية البوسنة، ثم طائرة أمريكية، من نوعF-16، في 2 يونيه 1995، كانت تحلق فوق منطقة بانيالوكا، شمالي البوسنة.

ونظراً إلى رضوخ المجتمع الدولي لمنطق القوة، الذي أخذ به الصرب، إلى التأكد من استبعاد فكرة التدخل العسكري الدولي، تواصلت المعارك، وتمكنت كرواتيا من إتمام خططها الرامية إلى استعادة السيطرة على إقليم كرايينا، وإنهاء استقلال كروات البوسنة بالإقليم، وذلك في أغسطس 1995، من دون السيطرة على سلافونيا الشرقية، الملاصقة لحدود صربيا. كما عاد صرب البوسنة، في أواخر أغسطس، إلى قصف العاصمة، سيراييفو. وعادت طائرات حلف شمال الأطلسي إلى الإغارة على المواقع الصربية، بالتعاون مع السفن الحربية، التي أطلقت صواريخ توماهوك كروز، على بعض مواقع القوات الصربية.

رابعاً: مبادرة أمريكية مستقلة

بعد أن بدا واضحاً العجز الدولي عن وقف المعارك الدائرة في البوسنة، وبعد أن مُنيت جهود الأمم المتحدة فيها بانتكاسات عديدة، وصلت إلى حدّ اتخاذ الجنود العاملين تحت رايتها رهائن، واستخدام بعضهم دروعاً بشرية، من دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم. وإزاء استمرار حالة الانقسام بين الدول الكبرى، بادرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانفراد بإتمام التسوية في البوسنة. وعلى الرغم من أن الأُسُس، التي انطلقت منها المبادرة، كانت حصيلة الجهود الدبلوماسية الدولية، إلاّ أن واشنطن، حرصت على أن تنفرد بإتمام التسوية، من دون مشاركة، أوروبية أو دولية.

وقد بدأت الجهود الدبلوماسية الأمريكية، في أواخر سبتمبر، بالجولات المكوكية لمساعد وزير الخارجية الأمريكي، ريتشارد هولبروك، بين بلجراد وسيراييفو وزغرب، من أجل إقناع، أو إجبار الأطراف الثلاثة على توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، تعقبه مفاوضات في الولايات المتحدة الأمريكية. وتمكن هولبروك من التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، في الخامس من أكتوبر، وبدأ سريانه في العاشر من الشهر نفسه. ثم دعا وزير الخارجية الأمريكي زعماء العواصم الثلاث، إلى مفاوضات متواصلة، في قاعدة عسكرية، في مدينة "دايتون"، في ولاية أوهايو. وهي المفاوضات، التي بدأت في 2 نوفمبر 1995.

والجدير بالذكر، أن الإدارة الأمريكية، أعلنت أنها لن تسمح بفشل هذه المفاوضات، وأنها ستتواصل إلى أن يعلَن التوصل إلى اتفاق تسوية، ويوقع بشكل مبدئي، إلى حين توقيعه، رسمياً، في احتفال دولي.

وقد أثار الانفراد الأمريكي بتسوية الصراع، ردود فعل سلبية لدى الدول الكبرى الأخرى. فقد أدركت فرنسا ما ترمي إليه الولايات المتحدة الأمريكية من رغبة في البناء على أنقاض الفشل الإوروبي، وما يعنيه ذلك من تأكيد مقولات رائجة، أن الاتحاد الأوروبي "عملاق اقتصادي، وقزم سياسي ـ عسكري". كذلك، رأت موسكو في انفراد واشنطن بالتسوية إهانة جديدة لها، ليس على الصعيد الدولي فحسب، بل على صعيد دورها الإقليمي في أوروبا، وعلاقاتها التاريخية بالصرب، الشريك الأصغر في العِرق السلافي.

هكذا، يمكن فهْم تأكيد الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، في أكتوبر 1995، "صعوبة تجاهل دور روسيا في عملية إحلال السلام في البلقان، وضرورة منح موسكو جزءاً من مسؤولية صنع السلام". بل إن شيراك، حذر واشنطن من إهانة موسكو، عبْر "التمسك بوضع قواتها تحت قيادة حلف شمال الأطلسي".

خامساً: اتفاق "دايتون" للسلام (اُنظر ملحق نص اتفاقية دايتون للسلام) و(ملحق نص اتفاقية دايتون للسلام، "النص باللغة الإنجليزية)

بعد أن وصل الصراع إلى مرحلة، شككت كثيراً في كل أطروحات انتهاء الحرب الباردة، وتسوية الصراعات بالطرق السلمية، وجعلت من الأمم المتحدة منظمة عاجزة عن حماية السكان المدنيين، أو وقف إطلاق النار، بل عن حماية قواتها نفسها، بادرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى بذل جهود دبلوماسية مكثفة، استندت، أساساً، إلى الرصيد الذي حققته مجموعة الاتصال الدولية، التي تضم، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، كلاًّ من روسيا الاتحادية وألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وعلى الرغم من انطلاق المبادرة الأمريكية من حيث انتهت جهود مجموعة الاتصال الدولية، إلا أن واشنطن، حرصت على الانفراد بإدارة عملية التسوية، وبحسابات تتعلق بعلاقاتها المستقبلية بأوروبا الموحدة، وبمصلحة دورها العالمي، بعد انتهاء الحرب الباردة .

وفي هذا الإطار، واصلت واشنطن جهودها الدبلوماسية، عبر النشاط المكثف، الذي بذله مساعد وزير الخارجية، ريتشارد هولبروك، على الرغم من احتجاجات موسكو، وبعض العواصم الأوروبية الغربية. واعتمدت التحركات الدبلوماسية الأمريكية على ما حققته الدبلوماسية الأمريكية من قبل، على صعيد الاتحاد الفيدرالي بين المسلمين والكروات.

وبعد جهود دبلوماسية مكثفة، توصل مساعد وزير الخارجية الأمريكية، هولبروك، إلى اتفاق مع رؤساء البوسنة وكرواتيا ويوغسلافيا الجديدة، في 5 أكتوبر 1995، لوقف إطلاق النار، مهد لبدء مفاوضات مكثفة، في مدينة دايتون الأمريكية، في ظل إصرار أمريكي على استمرار المفاوضات حتى توقيع اتفاقية، تنهي الصراع، وتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ جمهورية البوسنة والهرسك.

لقد بدأت المفاوضات، بمشاركة رئيس البوسنة، علي عزت بيجوفيتش، ورئيس كرواتيا، فرانجو تودجمان، والرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، في أول نوفمبر 1995. وبعد نحو 20 يوماً من المفاوضات المتصلة، أعلن الرئيس الأمريكى، في 21 نوفمبر 1995، توصل زعماء الدول الثلاث إلى اتفاق شامل، ينهي الحرب في البوسنة.