إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الحادي والعشرون

المبحث الحادي والعشرون

مفاوضات أوهايو ومشاكل تنفيذ اتفاق السلام

أولاً: مفاوضات أوهايو في أول نوفمبر 1995

بعد أن نجحت الجهود الدبلوماسية الأمريكية، خلال شهر أكتوبر 1995، التي كان يقودها الدبلوماسي الأمريكي، هولبروك، في ترسيخ اتفاق وقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة في البوسنة بدأت تتجه الجهود الأمريكية، في نوفمبر 1995، نحو تقريب وجهات النظر حول اتفاق سلام شامل يحل الأزمة. خاصة وأن حزب توديمان في كرواتيا، كان قد فاز في أول نوفمبر في الانتخابات، مما يوفر له قدرة أكبر على اتخاذ قرارات صعبة في إطار حل الأزمة.

بدأت، يوم 2 /11 /1995، أعمال مؤتمر السلام في قاعدة رايت باترسون، في مدينة دايتون، في ولاية أوهايو الأمريكية. وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أن الرؤساء الثلاثة، الذين يمثلون الأطراف المتصارعة، سيبقون في دايتون حتى يتم التوصل إلى اتفاق نهائي. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد هددت بأنها سترفع يدها من المشكلة، وستتراجع عن وساطتها في حالة الفشل، ومن ثم لم يبقَ أمام الأطراف المتصارعة إلا الوصول إلى اتفاق. ورغم أن الخارجية الأمريكية، أعلنت أنه ليس هناك ضمان بنجاح تلك المباحثات، فإن الرئيس البوسني، بيجوفيتش، صرح بأنه متفائل، مؤكداً أن النواحي الدستورية، المتعلقة بالأرض، ستشكل محور المفاوضات. وبالفعل، وفي غضون بضعة أيام، أعلن اتفاق بين الرئيسين الصربي والكرواتي، على استخدام الوسائل السلمية لحل الخلافات بينهما، في شأن منطقة سلافونيا الشرقية، التي يسيطر عليها الصرب.

كما اتفق الرئيسان البوسني والكرواتي على عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم. إلا أن الصرب، كعادتهم، لم ينفذوا الاتفاق الخاص بسلافونيا الشرقية، الأمر الذي هدَّد معه الرئيس الكرواتي، توديمان، في 4/11/1995، بأن بلاده ستمتنع عن قبول تمديد تفويض انتشار القوات الدولية في أراضيها، عندما تنتهي فترة التفويض، الساري المفعول في نهاية نوفمبر 1995، إذا لم يوافق الانفصاليون الصرب على العودة إلى النظام الدستوري الكرواتي. وهو ما أدى إلى تزايد المخاوف من نشوب حرب أخرى بين كرواتيا والانفصاليين الصرب،حول إقليم سلافونيا الشرقية،بعد مقاطعة الوفد الصربي للمباحثات، في 5/11/1995.

كما تعرض مؤتمر أوهايو للسلام لأزمة عنيفة أخرى، في 7/11/1995، هدَّدته بالتوقف، عندما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية تصميمها على محاكمة زعماء صرب البوسنة على جرائم الحرب التي ارتكبوها، وهو ما رفضه الرئيس الصربي، ميلوسيفتش، على أساس أن ذلك جزء من اتفاق التسوية النهائية. وفي تطور آخر إزاء هذا الموضوع، اقترحت مجموعة الاتصال الدولية على مجلس الأمن إصدار قرار، يلزم صرب البوسنة بإتاحة الفرصة للتحقيق في أعمال القتل والتطهير العرقي، ضد المسلمين في البوسنة، كما طالب مشروع القرار الحكومة الكرواتية بوقف انتهاكات حقوق الإنسان.

إلا أن الرئيس الكرواتي، في تحدٍّ لقرار محكمة جرائم الحرب في لاهاي، أعلن حمايته للجنرال يتخومبر فاسيتش، وهو من كروات البوسنة، الذين اتهموا بارتكاب جرائم ضد المسلمين، وأعلن، في 15/11/1995، أنه عيَّن هذا الجنرال في جهاز التفتيش العسكري بالجيش الكرواتي.  وفي المقابل، هدَّدت الولايات المتحدة الأمريكية، في 16/11/1995، بفرض عقوبات دولية ضد كرواتيا، واستبعادها من المنظمات الدولية، ما لم  تسلم الجنرال فاسيتش إلى محكمة جرائم الحرب، لمحاكمته على الجرائم التي ارتكبها ضد المسلمين، عندما كان قائداً لميليشيات كروات البوسنة. كما أدانت الولايات المتحدة الأمريكية بشدة قرار الرئيس الكرواتي بترقية هذا الجنرال.  وفي 17/11/1995، تراجع الرئيس توديمان عن قراره، وأعلن استعداد بلاده للتعاون الكامل مع محكمة جرائم الحرب في لاهاي، واشترط التزامها بالموضوعية. 

وعلى صعيد الجهود، التي كانت تبذلها روسيا من أجل رفع العقوبات عن صربيا، قررت لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة، في 11/11/1995، تخفيف نظام العقوبات المفروضة على جمهورية يوغسلافيا الاتحادية، وذلك بالسماح لها، مؤقتاً، بالتزود بالغاز الطبيعي الروسي والوقود المنزلي والغاز السائل. وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، أن هذا الإجراء ليس رفعاً جزئياً للعقوبات، ولا تعليقاً للحظر.

وعلى صعيد حل المشكلة، التي كانت قائمة بين الكروات والصرب، في شأن إقليم سلافونيا الشرقية، أمكن المفاوضين، في 13/11/1995، أن يتوصلوا إلى اتفاق في شأن إعادة هذا الإقليم إلى السيادة الكرواتية. وكان السفير الأمريكي في زغرب، بيتر جالبرايت، والوسيط الدولي، ثوفالد ستولتنج، قد بذلا جهودهما من أجل حل هذه المشكلة.

ثانياً: توقيع اتفاق "دايتون" للسلام (اُنظر ملحق نص اتفاقية دايتون للسلام) و (نص اتفاقية دايتون للسلام باللغة الإنجليزية)

بعد جهود مضنية من المفاوضات الشاقة بين الأطراف المتصارعة في البوسنة، استمرت نحو عشرين يوماً، في مدينة دايتون، أعلن الرئيس الأمريكي، كلينتون، في 21 نوفمبر 1995، توصُّل زعماء الدول الثلاث إلى اتفاق سلام شامل، ينهي الحرب في البوسنة، وأن التوقيع الرسمي على الاتفاق، سيجري في باريس، في شهر ديسمبر 1995. (اُنظر خريطة الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية).

ومن أبرز المبادئ التي ارتكزت عليها بنود هذا الاتفاق، الآتي:

1. الحفاظ على البوسنة والهرسك، كدولة واحدة، في حدودها الراهنة المعترف بها دولياً.

2. تقسيم الدولة إلى قسمين متساويين، تقريباً: الاتحاد الفيدرالي المسلم ـ الكرواتي، ويسيطر على 51% من الأراضي، ولطرفيه برلمان مشترك. وكيان مستقل لصرب البوسنة، يسيطر على 49% من الأراضي، وله برلمان محلي. إضافة إلى برلمان موحد، يضم الجميع، ورئاسة جماعية من ثلاثة أعضاء (صربي وكرواتي ومسلم).

3. الإبقاء على سيراييفو مدينة موحدة، منزوعة السلاح، إذ ستكون هناك حكومة مركزية فاعلة، تضم برلماناً ورئاسة ومحكمة دستورية، تتولى السياسة والتجارة الخارجيتين، كذلك السياسة المالية، والمسائل المتعلقة بالمواطنة والهجرة.

4. يتم اختيار الرئيس والبرلمان من خلال انتخابات ديموقراطية، وتحت إشراف دولي.

5. عدم السماح للمتهمين بارتكاب جرائم حرب، بالمشاركة في الحياة السياسية (وذلك في إشارة إلى زعيم صرب البوسنة السياسي، رادوفان كرادازيتش، والجنرال راتكوميلاديتش).

6. يؤجر الصرب لحكومة البوسنة ممر بوسافينا، في الشمال الشرقي، والذي يربط بين الأراضي الخاضعة لسيطرة صرب البوسنة شرقي البوسنة، وغربيها بعرض خمسة كيلومترات، لمدة 99 عاماً، في حين يتم اللجوء إلى التحكيم في شأن مدينة بريتشكو.

7. وقف جميع العمليات العسكرية في كل أنحاء البوسنة، وتحديد مناطق منزوعة السلاح، على أن يتم فصل القوات العسكرية، في مناطق النزاع المشتركة، لمسافة 4 كم، وعودة اللاجئين، وسحب القوات وإعادة انتشارها، مع الحد من التسلح، خاصة الأسلحة الثقيلة، ما لم يمكن منعها (وهذه نقطة خلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث تفضل الأولى تسليح البوسنة تدريجياً، حتى يمكنها أن تنهض بمسؤوليات الدفاع عن نفسها، بعد انسحاب القوات الدولية، المسؤولة عن تنفيذ الاتفاق. بينما تتحفظ أوروبا على ذلك).

كذلك تبادل الأسرى ونقل الصلاحيات من قوة الحماية الدولية إلى قوة الإشراف على تطبيق الاتفاق، والبالغ عددها 60 ألف جندي، تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بعشرين ألفاً، كما نص الاتفاق على ضرورة التخلص من المتطوعين العسكريين الأجانب الذين تسربوا إلى صفوف القوات المتحاربة (ويقصد بهم، في الأساس، المتطوعون المقاتلون من البلدان الإسلامية، الذين جاءوا إلى البوسنة. وتقدر أجهزة المخابرات الغربية والروسية، أن عددهم يصل إلى 4000 مقاتل. كان معظمهم من المقاتلين في صفوف الأفغان، أثناء الحرب الأفغانية، وتم تدريبهم، آنذاك، على أيدي عناصر أمريكية، ثم تمرسوا بفنون القتال هناك، والتحقوا، بعد ذلك، بالقوات البوسنية، وتدربوا معها).

كما أعلن الرئيس كلينتون عزمه إرسال حوالي 20 ألف جندي أمريكي إلى البوسنة، لتنفيذ اتفاق السلام الجديد وحمايته.  وفي 27/11/1995، وجَّه كلينتون خطاباً إلى الشعب الأمريكي، دافع فيه عن قراره بإرسال 20 ألف جندي أمريكي للمساعدة على تنفيذ اتفاق السلام.  وفي 29/11/1995، توصل حلف شمال الأطلسي وروسيا إلى اتفاق حول الجوانب، الخاصة بإشراك قوات روسية في قوة حفظ السلام. كما قرر مجلس الحلف، في 1/12/1995، إرسال قوة متعددة الجنسيات، قوامها 60 ألف جندي، للمساهمة في تنفيذ هذا الاتفاق. كما قرر مجلس الأمن، في اليوم عينه، إنهاء عملية حفظ السلام في البوسنة يوم 31/1/1996، وفي كرواتيا في منتصف الشهر نفسه.

ولدى إعلان كلينتون التوصل إلى هذا الاتفاق، بادر الأمين العام للأمم المتحدة إلى الإشادة به، مؤكداً على أن هذا الاتفاق، "يعطينا أملاً بأن السلام، يمكن أن يصبح واقعاً في أراضي يوغسلافيا السابقة، التي مزقتها الحرب". وأكد أن الأمم المتحدة، ستبذل أقصى جهدها، ضمن الصلاحيات التي خوَّلها إياها مجلس الأمن، للمساعدة على إنهاء المعاناة، والعودة إلى الحياة الطبيعية.

كذلك، رحَّب الاتحاد الأوروبي، من جانبه، بالاتفاق، وأعلن استعداده للمساعدة على تنفيذ الجوانب المدنية منه ومساعدة الجهود الدولية لدعم عملية البناء والاستقرار في المنطقة. كما قرر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي تقديم 1.4 مليار مارك، مساهمة في إعادة أعمار البوسنة.  وكانت فرنسا هي الدولة الأوروبية الوحيدة، من أعضاء مجموعة الاتصال الدولية، التي طالبت بإدخال بعض التعديلات على الاتفاق، لإعطاء صرب البوسنة ضمانات خاصة بالعاصمة سيراييفو، التي وضعت بالكامل تحت سلطة الحكومة البوسنية. وكان من الواضح، أن إشارة الرئيس الأمريكي إلى أن توقيع الاتفاق النهائي سيتم في باريس، هي محاولة منه لإبراز دور فرنسا، خاصة في الفترة الأخيرة، وحتى يُبقي لأوروبا دوراً ولو شكلياً، خلال حفلة التوقيع النهائي، ويخفف من مرارة فشلها السياسي، طوال الفترة الماضية، في حل الأزمة، والذي لعبت أمريكا دوراً فيه،  قبل أن تلقي بثقلها السياسي، وبعد أن نضجت الظروف، وأصبح في إمكانها التوصل إلى هذا الحل، الذي يمثل، ولا شك، لطمة للاتحاد الأوروبي، تؤكد فشله في حل أول أزمة سياسية كبرى، تواجهه بعد توحد أوروبا. كذلك يشكل هذا الاتفاق لطمة أخرى للأمم المتحدة، التي تحولت إلى جهاز يصدر بيانات، لا تتلاءم مع خطر الأزمة، ولا مع المسؤولية، التي وعدت بها العالم بعد حرب الخليج.

أمّا روسيا، فقد رحَّبت بالاتفاق، وطالبت برفع العقوبات عن بلغراد، فوراً، مع ضبط التسلح في المنطقة.

وبعد توقيع الاتفاق بيوم واحد، عقد مجلس الأمن اجتماعاً، للنظر في شأن تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على يوغسلافيا الجديدة، ورفع الحظر العسكري المفروض على دول يوغسلافيا السابقة، بما فيها البوسنة. وفي ما يتعلق بالعقوبات المفروضة على بلغراد، أصدر مجلس الأمن قراراً، في 22/11/1995، تضمن تعليق العقوبات لفترة غير محددة، بشرط تسلُّم المجلس تقريراً من الأمين العام، يفيد بأن الحكومة اليوغسلافية تنفذ التزاماتها. وتضمن القرار أن إنهاء العقوبات، سيتم بعد عشرة أيام من إجراء انتخابات حرة، وعادلة، تحت إشراف دولي، طبقاً لما جاء في اتفاق "دايتون".

كذلك انسحاب قوات صرب البوسنة إلى المناطق المحددة لهم، واحترام كافة بنود الاتفاق. أما رفع حظر تصدير السلاح إلى البوسنة، فجاء في قرار المجلس، أنه سيبدأ من اليوم الذي يقدِّم فيه الأمين العام تقريراً، يتضمن توقيع حكومات البوسنة وكرواتيا ويوغسلافيا الجديدة، رسمياً، اتفاق السلام. ويبقى الحظر سارياً إلى حين دخول اتفاق ضبط التسلح، الوارد في أحد ملاحق الاتفاق العسكرية، حيز التنفيذ. وبعد مرور ستة أشهر على التنفيذ، يرفع الحظر نهائياً، إلا إذا قرر مجلس الأمن عكس ذلك.

وعلى الرغم من الاتجاه العام، المؤيد للاتفاق في البيئة المحلية، في منطقة البلقان بشكل عام، وجمهوريات يوغسلافيا السابقة على وجه الخصوص، إلا أنه لم يحظَ في جميع جوانبه برضا الأطراف المتصارعة، شأنه في ذلك شأن جميع اتفاقات التسوية، التي تعتمد الحلول الوسط.

1. صرب البوسنة

لم يرحب المتطرفون منهم بالاتفاق بشكل عام، لأنه نزع منهم مكاسب أرضية، كانت في حوزتهم. وإذا كان الاتفاق لم ينهِ دولتهم المستقلة، لكنه لم يعترف بها كدولة مستقلة، كما لم ينص على حقهم في الالتحاق بالدولة الأم، صربيا. نص الاتفاق أيضاً على بقاء العاصمة سيراييفو تحت سلطة الحكومة البوسنية، وهو أمر يتصادم ورغبة الصرب في ضم بعض أجزاء من العاصمة إليهم. كما أن النص على عدم السماح لمن وجهت إليهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب، بالمشاركة في الحياة السياسية، يعني ضرورة تنحّي كل من كارادازيتش والجنرال ميلاديتش، اللذين تحمّلا عبء الصراع، سياسياً وعسكرياً، طوال أربع سنوات.

كذلك، لم يحصل الصرب على ما كانوا يأملون الحصول عليه من ممر إلى البحر الأدرياتيكي. وقد انعكس كل ذلك في المطالب، التي قدمها زعماء صرب البوسنة، في 27/11/1995، بإعادة التفاوض حول أجزاء من اتفاق السلام، الأمر الذي رفضته الولايات المتحدة الأمريكية بحزم. كذلك إعلان الميليشيات الصربية، في 26/11/1995، تحديها لاتفاق دايتون، ورفضها الانسحاب من سيراييفو، وذلك على الرغم من سحب قادتها لاعتراضاتهم المبدئية على الاتفاق، عقب اجتماع كارادازيتش مع ميلوسيفيتش. وأكثر ما أفزع قادة صرب البوسنة، الفقرة الخاصة بمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب، لأنها تعني استمرار ملاحقتهم، دولياً.

2. الاتحاد الفيدرالي المسلم ـ الكرواتي

لم يقضِ هذا الاتفاق على الشكوك والهواجس المتبادلة، التي كانت قائمة بين المسلمين والكروات من قبل وأثناء الصراع، الذي دام أربع سنوات، وذلك على الرغم من فترات التحالف السياسي والتعاون العسكري المحدودة، التي اتسمت بها العلاقات بينهما، خلال مراحل الصراع في البوسنة؛ إذ إن ما ربط بين الكروات والمسلمين، هي روح العداء بين كل منهما من جهة، والصرب من جهة أخرى. وفيما عدا ذلك مصالح تربط العرقين المسلم والكرواتي، يمكن أن يؤسس عليها تعاون سياسي وإستراتيجي واقتصادي، ينهض على ركائز فيدرالية.

لذلك، تحفَّظ قطاع رئيسي من كروات البوسنة على الاشتراك مع المسلمين في اتحاد فيدرالي، لما يعنيه ذلك، في رأيهم، من طمس للهوية الكرواتية، في سياق التفوق العددي للمسلمين، إلى جانب الاتهامات، التي كان يوجهها الكروات إلى الرئيس البوسني، بيجوفيتش، بالرغبة في تكريس الهيمنة الإسلامية على هذا الاتحاد. أما من جهة المسلمين، فإنهم لم ينسوا للكروات مواقف عديدة معادية لهم، تخللتها عمليات تطهير عرقي، لا تقلّ بشاعة عن تلك التي مارسها الصرب ضد المسلمين في شرق البوسنة وشمالها.  كما لم ينسَ المسلمون لكرواتيا مواقف معادية في المرحلة الأخيرة من الصراع، كرفض حكومة كرواتيا تسليم فكرت عبيدتش، الذي كان يحكم مقاطعة بيهاتش، إذ طلبت حكومة البوسنة، في أكتوبر 1995، من حكومة كرواتيا تسليمه، ليحاكم بناء على دعوى قضائية ضده في المحكمة العليا.

إلا أن حكومة كرواتيا، رفضت ذلك، بل وقَّعت مع عبيدتش اتفاقاً، في 26/10/1995، نص على تشكيل إقليم في مقاطعة بيهاتش، يكون مقره فيليكا كلادوشا، ويتولى عبيدتش رئاسة الحكومة المحلية في هذا الإقليم، إضافة إلى إدارته لمجموعة شركاته الضخمة. كما وافقت كرواتيا على منح جنسيتها لمن يريد من مسلمي بيهاتش أنصار عبيدتش (حوالي 25 ألف نسمة)، وهو الأمر الذي فسَّرته حكومة سيراييفو على أنه عمل غير ودي، يستهدف تفتيت تجمع مسلمي البوسنة. كذلك لم ينسَ مسلمو البوسنة لكرواتيا أنها سمحت لكروات البوسنة بالاشتراك في الانتخابات الكرواتية، التي جرت في 29/10/1995 (حوالي 300 ألف ناخب من كروات البوسنة)، وهو الأمر الذي فسَّرته حكومة سيراييفو على أنه مقدمة تمهيدية لضم مناطق الكروات في البوسنة إلى كرواتيا.

كذلك من الهواجس الخطيرة، التي أثارها اتفاق دايتون في نفوس المسلمين، أنه لم يحدد نسب تقسيم الأراضي بين المسلمين والكروات، داخل الاتحاد الفيدرالي، ومن ثم، فقد سيطر الكروات على أكثر من نصف الأراضي، التي في حوزة الاتحاد، في حين أن نسبة المسلمين تصل إلى أضعاف الكروات. ناهيك من المشاكل المترتبة على تقسيم المناصب الرئيسية والوظيفية، داخل الحكومة الاتحادية، خاصة أن اتفاق دايتون نص على نقل صلاحيات ووظائف الحكومة البوسنية القائمة، آنذاك، إلى الحكومة الفيدرالية، وجعل حكومة البوسنة محتفظة فقط بالأمور، التي تمكنها من العمل كحكومة دولة معترف بها دولياً، في الشؤون الخارجية والتجارة والجمارك والمالية، إضافة إلى التنسيق المدني للقوات المسلحة. في حين أن الحكومة الفيدرالية، أصبحت، بموجب اتفاق دايتون، مسؤولة عن شؤون الدفاع والداخلية والعدل واللاجئين والمهجَّرين والشؤون الاجتماعية والصحة والطاقة والصناعة، إضافة إلى المؤسسات التعليمية والثقافية والعلمية والمواصلات.

كذلك جعل اتفاق دايتون مدينة موستار مدينة موحدة، على أن تتكون من 6 بلديات، والعاصمة الثانية للاتحاد، بعد سيراييفو. وبذلك تصبح موستار مقر لمكاتب مشتركة لرئيسَي الاتحاد والحكومة ونائبيهما، إضافة إلى الوزارات الاتحادية، التي سبق ذكرها. كما تعقد في موستار جلسة للحكومة الاتحادية، من بين كل أربع جلسات، تعقدها تلك الحكومة.

ونتيجة عدم رضى بعض الأطراف عن اتفاق دايتون، إضافة إلى اعتراض الميليشيات الصربية عليه، فقد قدَّم وزير خارجية البوسنة، محمد شاكر بيه اِّستقالته، في 19/12/1995، احتجاجاً على شروط الاتفاق، على أساس أنها مجحفة بالمسلمين. إلى جانب قيام الكروات، في 7/12/1995، بحرق ونهب المدن التي يسيطرون عليها في وسط البوسنة، خاصة في مدينتَي مركو بينتش جراد وسيبوفو، وهو ما أدانه مجلس الأمن، في بيانه يوم 8/12/1995، وذلك قبل تسليمها إلى الصرب، طبقاً لاتفاق دايتون. أما مجلس النواب الأمريكي، فقد رفض في البداية (19/12/1995) الموافقة على خطة تمويل نشر القوات الأمريكية في البوسنة على الرغم من أن الرئيس كلينتون، حدد مدة عملها بعام واحد.

التوقيع النهائي لاتفاق السلام

تم التوقيع النهائي لاتفاق السلام في قصر الإليزيه، في باريس، في 14/12/1995. وحضر حفلة التوقيع خمسون من رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية. على رأسهم الرئيس الأمريكي، كلينتون، الذي تعهد، في خطابه، بالتزام بلاده بعملية السلام، وجون ميجور، رئيس وزراء بريطانيا، الذي رحب بالاتفاق، والمستشار الألماني، هيلموت كول، الذي أعرب، بدوره، عن أمله أن يستقبل مواطنو البوسنة قوات السلام كأصدقاء، ورئيس وزراء روسيا، تشيرنوميردين.

كذلك رحَّبت الصين واليابان بالاتفاق، الذي أنهي أسوأ صراع، شهدته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. كذلك وزير خارجية مصر، وممثلو مجموعة الاتصال الإسلامية، خاصة أنها ستتحمل جزءاً من نفقات إعمار البوسنة، التي قدرها رئيس البنك الدولي بمبلغ 4.9 مليارات دولار، لإصلاح اقتصادها فقط، وقدَّرها البعض الآخر بمبلغ 6 مليارات دولار، بينما ارتفع بها آخرون إلى 10 مليارات لإعادة إعمار البوسنة ككل. وهذا هو الرقم الأقرب إلى الحقيقة، في ضوء الخراب الشامل، الذي حل بمدن البوسنة وقراها.

وعقب توقيع الاتفاق، اُعلن اتفاق دولتَي البوسنة ويوغسلافيا (صربيا والجبل الأسود) على تبادل الاعتراف الدبلوماسي بينهما.  وفي 15/12/1995، أعلن الرئيس ميلوسيفيتش، رئيس صربيا، إنهاء حالة الحرب في جميع المناطق الصربية، باستثناء العاصمة سيراييفو، وأشار إلى أن وضع الضواحي الصربية، لم يتحدد بعد.

وفي 15/12/1995، أصدر مجلس الأمن قراراً، كلَّف، بموجبه، حلف شمال الأطلسي باتخاذ جميع التدابير، لتحقيق وتأمين التزام جميع الأطراف بتنفيذ اتفاق السلام. وفي 19/12/1995، تسلّم حلف شمال الأطلسي مسؤولية حفظ السلام في البوسنة من الأمم المتحدة، بصورة رسمية.  وفي 21/12/1995، أجمع ممثلون عن أكثر من 40 دولة، في بروكسل، على تخصيص 500 مليون دولار، مساعدة عاجلة للبوسنة، خلال الثلاثة أشهر الأولى من عام 1996.  وفي 22/12/1995، وافق مجلس الأمن على إرسال قوة شرطة مدنية، قوامها 1500 فرد إلى البوسنة، وطالب صرب البوسنة بالسماح لهم بدخول مناطق، ارتُكبت فيها جرائم حرب.  وكانت قوات حلف شمال الأطلسي، قد بدأت، يوم 29 /12/1995، انتشارها في المواقع، التي حددها اتفاق السلام، بعد انسحاب القوات الصربية والمسلمة من 40 موقعاً داخل سيراييفو، وعلى أثر ذلك، بدأ السكان الصرب، في سيراييفو في مغادرتها، يوم 23/12/1995، رافضين التعايش السلمي مع المسلمين في المدينة.

ثالثاً: مشاكل واكبت تنفيذ اتفاق السلام

اتفق معظم المراقبين الدوليين على أن اتفاق السلام، هو حل اعتمد على السياسة الأمريكية المعروفة بـ "الترغيب والترهيب" إلى جانب المراوغة مع أطراف الأزمة، حتى مع أوروبا نفسها، بما في ذلك توجيه ضربات جوية وصاروخية حقيقية وموجعة إلى الصرب، وليس ضربات مظهرية، كالتي وجهتها الدول الأوروبية. كما قدمت أمريكا مساعدات إلى كرواتيا والبوسنة بما مكنهما من خلق أوضاع جديدة على الأرض، قلصت من حجم الهيمنة الصربية على أراضي البوسنة.

وبذلك هيأت الإدارة الأمريكية المسرح على أرض الواقع، لكي تدخل بمشروعها للحل السياسي لأزمة البوسنة، بعد أن أوجدت قدراً من التوازن العسكري على الأرض، يمكن أن يُجبر الصرب على القبول بالمشروع الأمريكي للحل. وعلى الرغم من أن اتفاق دايتون، يمكن اعتباره شهادة وفاة رسمية ليوغسلافيا السابقة، وتعطيلاً لمشروع دولة الصرب الكبرى في البلقان، إلا أن هذا الاتفاق، يعد أيضاً شهادة وفاة لدولة البوسنة والهرسك الموحدة، بعد أن قسمها هذا الاتفاق إلى قسمين عرقيين. ومن ثم، فهو لا يُعَدّ سلاماً عادلاً وشاملاً ونهائياً، خاصة وأن هذا الاتفاق يحوي الكثير من الثغرات، التي يمكن استغلالها من قبل أي طرف، ومن ثم، فإن استمراره وبقاءه مرهون بتوازن القوى حالياً ومستقبلاً،  خاصة أن اتفاق دايتون يرتكز على دعامتين: الأولى هي ضعف صرب البوسنة، حالياً، بسبب الحصار الذي شاركت فيه صربيا نفسها، والضربات التي وجهت إليهم من قبل حلف شمال الأطلسي.

أما الدعامة الثانية، فهي الاتحاد الفيدرالي بين الكروات والمسلمين، وهو تحالف قابل للانفجار في أي لحظة، خاصة في ظل النزعة البراجماتية للكروات، والتي يمارسونها للحصول على ميزات مرحلية، وفي ظل الصراع العرقي، القائم بين الكروات والمسلمين، وهو صراع من الصعب أن يهمد في صدور الكروات. وقد أدت هذه السلبيات، التي حواها اتفاق "دايتون" للسلام، إلى بروز عدة مشاكل، واكبت تنفيذه على النحو التالي:

1. المشكلة الأولى: غياب التعايش المشترك

تصاعدت، في الأسبوع الأول من يناير 1996، حدة التوتر في مدينة موستار جنوب البوسنة، والتراشق بالمدفعية والصواريخ، بين المسلمين والكروات، اللذين يشكلان عنصرَي الاتحاد. وكان ذلك متوقعاً، بسبب التنافس الشديد بينهما في السيطرة على الأراضي المخصصة للاتحاد، التي لم يتطرق اتفاق السلام إلى تقسيمها بينهما، خاصة تلك الأراضي، التي كان الصرب ينسحبون منها.

أما في ما يتعلق بمدينة موستار، فقد أحكم كل طرف سيطرته على نصف المدينة، الذي تحت يده، ورفع كل طرف أعلامه الخاصة، إذ رفض الكروات توحيد المدينة، كما فشلت عمليات تسيير دوريات مشتركة فيها. واتهم المسلمون الكروات بأنهم يسعون إلى خلق ترابط أرضي بين المناطق، التي يسيطرون عليها، ومختلف أنحاء الأراضي المخصصة للاتحاد الفيدرالي، تمهيداً لإعلان الانفصال، خاصة أنهم لم يعلنوا، آنذاك، إلغاء الدويلة المستقلة، التي أعلنوها إبّان الحرب. وفي المقابل، اتهم الكروات المسلمين بأنهم يستهدفون إقامة دولة إسلامية في  البوسنة، ولا يمكن القبول باقتراحات حكومة البوسنة، التي ترمى إلى استيعاب الكروات داخل إطار دولة، يشكل المسلمون أغلب سكانها.

وقد فشلت كل الجهود التي بُذلت بإشراف الوسيط الأمريكي، هولبروك، آنذاك، في احتواء  الخلافات بين المسلمين والكروات، أو الحد منها. وقد أدى ذلك إلى عقد مؤتمر، في 17 و18 فبراير 1996، في روما، تحت إشراف أمريكي ـ أوروبي مشترك، من أجل دعم تنفيذ اتفاق السلام. وقد فشل هذا المؤتمر في تحقيق أهدافه على الرغم من الاتفاق على تعزيز الاتحاد الفيدرالي، وحفظ الأمن في موستار، لأن الكروات كانوا يسعون إلى قيام دويلة مستقلة لهم، مثل التي خصصها اتفاق السلام لصرب البوسنة، تمهيداً لإلحاقها بالوطن الأم (كرواتيا)، في مرحلة تالية.

وهذا هو السبب في إعراب خافير سولانا، سكرتير عام حلف شمال الأطلسي، في 12 /1 /1996، عن قلقه البالغ إزاء مستقبل الاتحاد الفيدرالي، بين المسلمين والكروات في البوسنة. كذلك قلق قادة حلف شمال الأطلسي على سلامة قواتهم العاملة في البوسنة، بعد سلسلة الاعتداءات، التي تعرضت لها هذه القوات. وأوضحت مصادر الحلف اعتزامها استخدام الطائرات العمودية المقاتلة، "أباتشى"، الهجومية، في القيام بدوريات فوق البوسنة.

2. المشكلة الثانية: الصرب وتكريس الانفصال

اتجه صرب البوسنة إلى إدخال تعديلات على الاتفاق على أرض الواقع، على نحو يُكرِّس عملية الانفصال ويحقق فكرة النقاء العرقي لدويلتهم في البوسنة، ويضع أسس دويلتهم المستقلة. ومن هنا، يمكن تفسير الكثير من الإجراءات، التي اتخذوها عقب توقيع اتفاق السلام، سواء في ما يتعلق بتهجير 20 ألف صربي، كانوا يسكنون ضواحي سيراييفو: فوجوشنشا وإيلياش ورايلوفاتس وخاجيتشي وأليجا، صوب الشرق، إلى مدن سربرنيتشا وبراتوناتسى وزفورنيك، وهي مناطق وضعها اتفاق السلام ضمن كيان صرب البوسنة. 

وقد قام الصرب بتدمير هذه الضواحي، قبل أن يتركوها، كذلك دمروا مرافق العاصمة، قبل تركهم لها، وهو ما أدى إلى تولي قوات حلف شمال الأطلسي  حماية هذه المرافق. كما منع الصرب الكروات والمسلمين من العودة إلى المناطق، التي كانوا يسكنونها قبل اندلاع الحرب، وخصصها اتفاق السلام للصرب. وقد ترتب على ذلك بروز مشكلة حادة، تتعلق بمئات الآلاف من اللاجئين، معظمهم من المسلمين، الذين أُجبروا على ترك ديارهم، التي خصصها اتفاق السلام للصرب، في إطار تقسيم أراضي البوسنة، وبرزت بشكل واضح في إطار عمليات "الفرز العرقي"، التي أعقبت إبرام الاتفاق.  ناهيك من تحرشات الصرب بالقوات الدولية، واحتجاز بعض قادتها، إلى جانب رفضهم تسليم مجرمي الحرب، وعلى رأسهم كارادازيتش والجنرال ميلاديتش، إذ أعلن الصرب، صراحة، رفضهم قيام القوات الدولية بتعقب أو اعتقال أي مسؤول من صرب البوسنة، بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

وكان جولدستون، المدعى العام للمحكمة الدولية، الخاصة بجرائم الحرب في مناطق يوغسلافيا السابقة، قد وصل إلى سيراييفو، في 23/1/1996، وأجرى محادثات مع الحكومة البوسنية ومسؤولي حلف شمال الأطلسي، حول ضرورة مثول مجرمي الحرب أمام المحكمة الدولية. وقد أيد ذلك وزير الدفاع الأمريكي، ويليام بيري، بل أعلن أن المخابرات الأمريكية، سوف تزود المحكمة بالمعلومات التي تساعدها على تنفيذ مهامها.  وقد أبلغت حكومة البوسنة حلف شمال الأطلسي باعتقال 8 من القيادات العسكرية الصربية، للتحقيق معهم في ارتكاب جرائم حرب ضد المسلمين.

 وأشار بيان لحلف شمال الأطلسي، في 8/2/1996، إلى تورط 52 متهماً في جرائم الحرب وعمليات القتل الجماعية. وعندما أقدمت حكومة البوسنة على احتجاز قائدين عسكريين من الصرب، في 6/2/1996، رد الصرب على ذلك باعتقال ثلاثة جنود مسلمين، واتهموهم بالتهمة عينها، واصل الصرب عمليات القبض على مسلمين. ولحل هذه المشكلة، وبعد أن أفرجت المحكمة عن العسكريين الصرب، أعلنت القوات الدولية أن مهامها في البوسنة، لا تتضمن إلقاء القبض على المتهمين بارتكاب جرائم حرب. وهو ما حدث بالفعل، إذ كان كارادازيتش والجنرال ميلاديتش، يتحركان بحرية في مناطق تنتشر فيها القوات الدولية، دون أن تحاول اعتقالهما.

أما على صعيد العلاقة بين الصرب والحكومة الفيدرالية، فقد حرص صرب البوسنة على تأكيد استقلالية كيانهم الذاتي، ونفي أي روابط مع الحكومة الاتحادية، على نحو يحقق الهدف النهائي الخاص بإعلان دولتهم المستقلة في البوسنة. من هنا، أعلن صرب البوسنة، في 4/3/1996، قطع علاقاتهم بالاتحاد الفيدرالي، على الرغم من أن مجلس الأمن، كان قد اتخذ قراراً، في 28/2/1996، بتعليق العقوبات المفروضة عليهم.

وقد زاد من تفاقم الموقف، ما كشفت عنه القوات الدولية، من وجود مقابر جماعية للمسلمين، قام الصرب بقتلهم في المناطق الآمنة، في شرق البوسنة، وأبرزها سربرنيتشا، التي عثر فيها، يوم 19/1/1996، على مقبرتين جماعيتين، تضمان رفات أكثر من 3000 من المسلمين، وقد أكد الصليب الأحمر قتلهم في مذابح جماعية، ارتكبتها الميليشيات الصربية.

3. المشكلة الثالثة: الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة البوسنة

كان أبرز قضايا هذا الخلاف، إصرار الصرب على ترحيل المتطوعين المسلمين، الذين كانوا يحاربون في صفوف القوات البوسنية، طوال مدة الحرب. وكانت كرواتيا قد احتجت على بقائهم في أراضي الاتحاد الفيدرالي. ويصل عددهم إلى حوالي 4000، من إيران والجزائر وتونس ومصر والسودان والسعودية وليبيا. وكان مجلس الدفاع الكرواتي، قد شن حملة اعتقالات واسعة في صفوفهم، لا سيما في شمال البوسنة ووسطها، وهي المواجهات التي أدت إلى مقتل زعيم "المجاهدين" أنور شعبان. ومعظم هؤلاء المتطوعين، الذين انخرطوا في صفوف البوسنيين المقاتلين لأكثر من أربع سنوات، واندمجوا في حياة شعب البوسنة، كان من الصعب بعد ذلك خروجهم من البوسنة، كما نص الاتفاق على ذلك، بعد أن أصبح لهم وجود حقيقي فيها، وبعضهم تزوج بوسنيات، وأنجب أطفالاً، واستقر به المقام.

وإذا كان بعض هؤلاء المتطوعين، يخضعون مباشرة لسيطرة الجيش البوسني، ويتحركون بالتنسيق معه، خاصة في منطقة توزلا، فإن البعض الآخر لم يكن يخضع لأحد، بل اصطدموا بالقوات البريطانية وموظفي الإغاثة الدولية، خاصة في منطقة زنيكا. ولقد طالبت وزارة الخارجية الأمريكية حكومة البوسنة، في 17/2/1996، بتفسيرات عاجلة، في شأن معسكرات تدريب هؤلاء المتطوعين، اكتشفتها القوة الدولية في منطقة هان بيساك، شمال شرقي سيراييفو. وأوضح متحدث باسم الخارجية الأمريكية، أن بقاء أي من هؤلاء الأجانب، بعد يوم 19 يناير الماضي، يُعَدّ انتهاكاً لاتفاق السلام.  وقد أعقب ذلك، ترحيل حكومة البوسنة لثلاثة متطوعين إيرانيين، كانوا في واحد من معسكرات التدريب، وحددت حكومة البوسنة 28/1/1996، موعداً نهائياً لترحيل جميع المتطوعين.

وكان من الواضح، أن الإدارة الأمريكية، كانت تخشى من قيام بعض هؤلاء المتطوعين بعمليات انتحارية، ضد قواتها وباقي قوات حلف شمال الأطلسي، خاصة بعد أن صدرت أحكام بالسجن على من وجهت ضدهم اتهامات بتفجير مركز التجارة العالمي. لذلك، مارست واشنطن ضغوطاً شديدةً على حكومة سيراييفو، من أجل ترحيلهم، بل أعلنت، بوضوح، في 24/1/1996، أن برامج المساعدات الاقتصادية والعسكرية، التي تم الاتفاق عليها مع حكومة البوسنة، ستتوقف تماماً، إذا لم يتم إجلاء جميع "المجاهدين"، وعلى رأسهم الإيرانيون، الذين تعدهم الإدارة الأمريكية جزءاً من الحرس الثوري الإيراني. وأكد وارين كريستوفر، أن تنفيذ هذا البند من اتفاق السلام يعد شرطاً أساسياً لتسليح جيش البوسنة.

وقد تفاقم الوضع بين واشنطن وسيراييفو، عندما أبلغت المخابرات الأمريكية بوجود 200 عنصر، تابعين للحرس الثوري الإيراني، واكتشاف القوات الدولية معسكراً لهم، في 16/2/1996، غرب سيراييفو، فيه كميات ضخمة من السلاح وصور للزعيم الإيراني الخميني، ووثائق تثبت وجود اتصالات بين هؤلاء ودبلوماسيين إيرانيين. وكانت واشنطن، قد طلبت من حكومة البوسنة، أن ترفض المساعدة المالية، التي عرضتها طهران، وقيمتها 100 مليون دولار.

ومن الواضح، أن حكومة سيراييفو، كانت تواجه حرجاً شديداً في هذه القضية مع هؤلاء المتطوعين، بعد أن أصبح لهم جميل في عنقها، من الصعب إنكاره، خصوصاً أن هؤلاء المتطوعين، هم الذين هبوا إلى نصرتها، بينما تخلى عنها الآخرون، وسيكون ترحيلهم نكراناً لهذا الجميل. ولكن بقاءهم أيضاً سيكون مصدر حرج للحكومة البوسنية، التي تعهدت، في اتفاق السلام، بترحيلهم. ولكن إلى أين؟ ومعظم الدول، التي ينتمون إليها، إما أنها تطالب بهم لمحاكمتهم على جرائم ارتكبوها في أراضيها، أو ترفض عودتهم، على أساس أنهم "ألغام متحركة". ولو أراد المسؤولون المسلمون في حكومة سيراييفو أن يمنحوهم الجنسية البوسنية، هل سيلتزم هؤلاء المتطوعون الأجانب بتعليمات الحكومة البوسنية؟ أو سيسببون لها مشاكل، عندما يُوجِّهون أنشطتهم ضد القوات الأمريكية والأوروبية وضد الحكومة البوسنية نفسها، ويتكرر ما حدث، ولا يزال يحدث في أفغانستان، عندما تم استقطاب فصائل المجاهدين، وانقلب بعضهم على بعض؟!

لذلك، أعلن رئيس وزراء البوسنة، في 7/2/1996، أن كل "المجاهدين" رحلوا، بالفعل، عن الأراضي البوسنية، باستثناء مجموعة لا تتعدى خمسين شخصاً، تزوجوا من بوسنيات، وحصلوا على الجنسية البوسنية. إلا أن الإدارة الأمريكية، أعلنت رفضها لهذا الإعلان، مؤكدة من جديد، أنها "لن تنفذ برنامج  تحديث القوات البوسنية، إلى أن تقتنع تماماً بأن جميع المجاهدين، ومن بينهم 200 مقاتل إيراني، قد غادروا البوسنة فعلاً". بل إن الإدارة الأمريكية، انتقلت إلى مطالبة حكومة البوسنة بالتوقف عن تدعيم علاقاتها بإيران، وأعلنت، بوضوح، أنه "لكي تحصل الحكومة البوسنية على التعهدات الأمريكية بالمساعدات العسكرية والاقتصادية، عليها أن تتجنب توثيق علاقاتها بإيران".