إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



رابعاً: إيجابيات اتفاق دايتون، وتوابعه

المبحث الثاني والعشرون

ايجابيات اتفاق دايتون  والانتخابات في البوسنة

أولاً: إيجابيات اتفاق دايتون، وتوابعه

إضافة إلى النجاح الذي تحقق بإيقاف آلة الحرب، التي دامت أربع سنوات، وحتى يمكن المسلمين أن يلتقطوا أنفاسهم، ويعيدوا تنظيم وتسليح أنفسهم، وتنسيق وتفعيل جهودهم على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واضعين في الحسبان دروس حرب الأربع سنوات، فمما لا شك فيه أن نجاحات أخرى تحققت، تمثلت في الاعتراف الدولي بدولتهم، وتبادل الأسرى، وإعادة توحيد سيراييفو، وربطها ببقية الأراضي الخاضعة لسيطرة الاتحاد الفيدرالي البوسني ـ الكرواتي. فقد أعلنت حكومة البوسنة، في 29/2/1996، انتهاء الحصار الصربي، المفروض على سيراييفو منذ بداية الحرب.

كما نجحت حكومة البوسنة في كشف جرائم التطهير العرقي، التي ارتكبتها الميليشيات الصربية، وتقديم مرتكبيها إلى المحاكمة الدولية على أساس أنها جرائم حرب. فقد أصدرت محكمة مجرمي الحرب، الخاصة بيوغسلافيا، أمراً دولياً، في 8/3/1996، باعتقال قائد جيش صرب البوسنة، الجنرال ميلاديتش، بسبب الجرائم، التي ارتكبها في منطقة كرايينا، عام 1995.

هذا، إضافة إلى رفع حظر توريد السلاح إلى مسلمي البوسنة، بل قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتحمل مسؤولية تحديث جيش البوسنة، تمويلاً وتسليحاً وتدريباً وتنظيماً. فقد خصصت الولايات المتحدة الأمريكية، في 19 مارس 1996، مبلغ 100 مليون دولار، بصفة عاجلة، لتدريب جيش البوسنة. وفي 13 إبريل 1996، خصصت الدول المانحة 1.23 مليار دولار لإعادة تعمير البوسنة.  كذلك، تم في 15/5/1996، بضغوط أمريكية، تشكيل قيادة عسكرية موحدة، تضم مسلمين وكروات، إضافة إلى مؤسسات اقتصادية مشتركة. كما تم في 20/3/1996، فصل القسمين، الصربي، والاتحادي الفيدرالي بشكل واضح على الأرض، إذ تفصل بينهما منطقة منزوعة السلاح، عرضها 4 كيلومترات، وطولها 1030 كم.

وبضغط أمريكي، تنازل رادوفان كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، عن صلاحياته، في 19/5/1996، لنائبته بيلينا بلافيتش، وأعلن اعتزاله الحياة السياسية، وذلك تحسباً لتقديمه إلى محكمة مجرمي الحرب. وحذَّرت واشنطن أنه يمكن أن يعاد فرض العقوبات الدولية على الصرب، إذا ما أعيد انتخابه في استفتاء، أراد صرب البوسنة إجراءه لتجديد رئاسة كارادازتش.

وقد استأنفت الولايات المتحدة الأمريكية، في 8/6/1996، دعم التحالف العسكري بين المسلمين والكروات. كما عقد، بعد ذلك، مؤتمر في فلورنسا، في 14/6/1996، لمراجعة الوضع في البوسنة، تم في خلاله توقيع اتفاق لضبط التسلح في البلقان، تم بموجبه رفع حظر صادرات الأسلحة والحصار البحري عن جمهوريات يوغسلافيا السابقة.  وفي 17/7/1996، بدأ تنفيذ خطة إعادة تسليح الجيش البوسني.

وفي إطار تطبيع العلاقات بين دويلات البوسنة، وافقت كرواتيا، في 2/8/1997، تحت ضغوط أمريكية، على تصفية دويلة كروات البوسنة، ودمجها في دولة الاتحاد الفيدرالي. كما أعلن كروات البوسنة، في 5/8/1996، موافقتهم على تسوية مع المسلمين والاتحاد الأوروبي.  كذلك، تم الاتفاق، في 6/8/1996، على تشكيل حكومة محلية في موستار. وفي 23/8/1996، تم الاتفاق على تبادل الاعتراف، رسمياً، بين صربيا وكرواتيا.  وقد استقبل مطار سيراييفو، في 16/8/1996، أول طائرة مدنية تصل إليه منذ 4 سنوات، وفي 6/8/1997، توصل المسلمون والكروات، في الحكومة الفيدرالية، إلى اتفاق يقضي بعودة مئات اللاجئين لمنازلهم بالبوسنة.

وعلى صعيد محاكمة مجرمي الحرب، رددت وكالات الأنباء، في 4/8/1996، عن وجود خطة عسكرية أمريكية، لاختطاف كارادازيتش، وتسليمه إلى محكمة مجرمي الحرب، وذلك بعد أن تخلى، رسمياً، عن كل وظائفه.  وكان الصرب قد منعوا، في 8/8/1996، القوات الدولية من التفتيش عن المقابر الجماعية، في الوقت الذي قامت فيه القوات الدولية بتدمير 300 طن من الذخيرة والألغام الصربية المحظورة.  وكانت المحكمة الأمريكية العليا، قد قضت، في 18/6/1996، بدستورية محاكمة رادوفان كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، أمام المحاكم الأمريكية، بتهم الاغتصاب والتعذيب، خلال حرب البوسنة. وكانت محاكمة مجرمي الحرب، قد بدأت في لاهاي، في 27/6/1996، بتوجيه قرار الاتهام ضد كارادازيتش والجنرال ميلاديتش بارتكابهما جرائم حرب، واستمعت لشهادات الشهود، عبر سبعة أيام.  وكان صرب البوسنة، قد هددوا، في 18/7/1996، بقتل وخطف أفراد الشرطة الدولية، إذا ما حاولوا اعتقال أي مسؤول صربي.

وفي يوليه 1997، تفجر الخلاف بين زعماء صرب البوسنة، خاصة بين المؤيدين لكارادازيتش، المطلوب محاكمته، بعد أن خرج من السلطة، وبين المؤيدين لرئيسة صرب البوسنة، بيلينا بلافيستش، وذلك بعد أن اتهمها مؤيدو كارادازيتش بالخيانة.  وكان برلمان صرب البوسنة، قد نقل صلاحياتها إلى مجلس الدفاع، بعد أن رفضت إجراء حوار مع معارضيها.  كما نشب أيضاً خلاف حاد بين ميلوسيفيتش، رئيس صربيا والجبل الأسود، وبين معارضيه. وعمت المظاهرات ضده في بلغراد وسائر مدن يوغسلافيا السابقة، بسبب اتهامه بتزوير الانتخابات، وإصراره على تنصيب نفسه مرة أخرى رئيساً لجمهورية يوغسلافيا الاتحادية، المكونة من صربيا والجبل الأسود.

وفي أغسطس 1997، تفاقمت حدّة الخلاف بين رئيسة صرب البوسنة، بيلينا، ومعارضيها، حين قضت المحكمة الدستورية لصرب البوسنة بعدم دستورية قرار بيلينا بحل البرلمان. في الوقت الذي أعلنت فيه تشكيل حزب جديد، برئاستها، مهمته "تطهير الكيان الصربي"، كما قامت بيلينا بتعيين وزير داخلية جديد من أنصارها، يدعى ماركو بافيتش، لمواجهة المظاهرات، التي اندلعت ضدها. وإزاء تردّي الموقف الأمني في مدن صرب البوسنة، خاصة بانيا لوكا، اضطرت القوات الدولية إلى التدخل والسيطرة على مراكز الشرطة في بانيا لوكا، عاصمة صرب البوسنة، وصادرت شاحنات محملة بالأسلحة، من القوات الموالية للزعيم السابق، كارادازيتش.

ثانياً: حدود تسليح البوسنة

لدى توقيع اتفاق سلام البوسنة بالأحرف الأولى، في دايتون، وافق مجلس الأمن، بالإجماع، في 22 نوفمبر 1995، على قرار برفع حظر السلاح، تدريجياً، خلال ستة أشهر من توقيع الاتفاق.  وفي ظل التفوق العسكري الصربي، والدعوة إلى تحقيق نوع من التوازن العسكري بين الأطراف المتصارعة، برزت مشكلة تسليح الاتحاد البوسني.

1. الرؤية الأمريكية

وتصدر عن إدراك أساسي، وهو أن تسليح البوسنة، يبدو البديل لأمرين، كلاهما مر، الأول هو بقاء قوات حلف شمال الأطلسي في البوسنة، لحمايتها إلى أجل غير مسمى، والثاني هو انهيار اتفاق دايتون، كنتيجة مباشرة لاختلال التوازن العسكري مع القوة العسكرية لصرب البوسنة، خاصة مع رفضهم الانضمام إلى الجيش البوسني الاتحادي، بل صعوبة اندماج جيش كروات البوسنة في هذا الأخير أيضاً، مما يؤخر صدور قانون الدفاع الفيدرالي، ويثير مخاوف مسلمي البوسنة.

ويدرك الأمريكيون، أن وجود جيش بوسني مسلح بصورة مناسبة، يعد أمراً حيوياً بالغاً، فمن دونه لن يتحقق التوازن العسكري في البوسنة، ولن تتاح الفرصة لقوات حلف شمال الأطلسي، ومنها القوات الأمريكية، للانسحاب من البلقان، مما يعني مزيداً من المتاعب للرئيس كلينتون مع الكونجرس بمجلسيه، ويتيح ورقة قوية لمنافسيه على الرئاسة، خاصة في ضوء الصعوبات، التي اكتنفت صدور قرار تمويل القوات الأمريكية المشاركة في عملية "إيفور"، المسؤولة عن تنفيذ اتفاق السلام في البوسنة.  ومن ثم، فإن خيار تسليح البوسنة يبدو الأمثل، من وجهة النظر الأمريكية، لعدة دوافع:

أ. دافع نظري، هو الاستناد إلى نصوص اتفاق دايتون، التي تدعو إلى رفع الحظر عن الأسلحة الخفيفة، المرسلة إلى دول يوغسلافيا السابقة، بعد 90 يوماً من توقيع الاتفاق في 14 ديسمبر، بينما يبقى الحظر على الأسلحة الثقيلة سارياً لمدة 90 يوماً أخرى. وتحدد المادة الثالثة من ملحق الاتفاق الأسلحة الثقيلة، بالطائرات، والطائرات العمودية القتالية والدبابات الهجومية وناقلات الجند المدرعة والمدافع عيار 75 مم وما فوق، كما تتضمن الألغام والذخائر المخصصة لجميع أنواع الأسلحة المذكورة، ومدافع الهاون عيار 81 مم وما فوق، والأسلحة المضادة للطائرات عيار 20مم وما فوق.

ب. دافع إستراتيجي، وهو إيجاد جيش بوسني، تسليحه وخبراته وميوله أمريكية في البلقان، كجزء من الإستراتيجية الأمريكية للتنافس والصراع مع أوروبا والعالم،، وللأمن والاستقرار في أوروبا نفسها.

ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية، تؤكد أنها تعرف الكم المناسب من الأسلحة اللازمة للمسلمين، للدفاع عن أنفسهم، فإنها لا تعلنه صراحة، وإن كانت تشير إليه بأنه الكم الذي لا يشجعهم على دخول حرب جديدة، وإنما يمكنهم فقط من الدفاع عن أنفسهم.  وهو ما يمكن الاستشفاف، في ضوء المادة الثالثة من ملحق الاتفاق، التي تميز الأسلحة الخفيفة والثقيلة، أنه سيتركز، بالأساس، على الأسلحة الثقيلة الدفاعية فقط، دون الطائرات أو الدبابات الهجومية.

ج. دافع سياسي مهم، وهو خشية الولايات المتحدة الأمريكية من البديل الإسلامي الأصولي، المدعوم إيرانياً، على دورها في البوسنة، عند استحكام التفوق العسكري لصرب البوسنة، وجمود التحرك الأوروبي، فضلاً عن أخطار تحلل الاتحاد المسلم ـ الكرواتي نفسه، خاصة في ضوء تصريحات وزير الدفاع الكرواتي بأهمية "استقلال قوات الكروات البوسنيين، باعتبارها ضماناً سياسياً وعسكرياً للكروات في البوسنة".

وحتى لا يحاول البوسنيون، بغض النظر عن مدى نجاحهم في ذلك من عدمه، أن يبرزوا البعد الإسلامي في الصراع، خاصة في صيغته الإيرانية، إذ على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية، قد غضت الطرف، منذ عام 1994، عن قيام إيران بتقديم أسلحة ومساعدات عسكرية إلى حكومة البوسنة، عندما كان ذلك أحد الخيارات القليلة المتاحة أمامها للحد من نفوذ الصرب، فإنها، بعد اتفاق دايتون، أصبحت ترفض بشدة أي دور إيراني مستقبلي، وتربط مساعداتها المدنية والعسكرية للبوسنة، بانقطاع هذا الدور تماماً. على أن الولايات المتحدة الأمريكية، ترى أن ضمان انقطاع هذا الدور لن يتحقق، إلا إذا حصل المسلمون في البوسنة على سلاحهم الخاص، والذي ينفي حاجتهم إلى سلاح الإيرانيين، أو غيرهم من التيارات الأصولية.

2. الرؤية الأوروبية

وهي على العكس، تبدى تحفظاً شديداً على عملية تسليح البوسنة، وتبرره بدعاوى شديدة، تخفي مخاوفها الحقيقية. وأهم دعاواها المعلنة، الخشية من أن تثير هذه  العملية سباق تسلح جديداً في البلقان، والخشية من الموقف الروسي، الذي قد يتجه إلى دعم الصرب مجدداً، تحت تأثير هذه العملية. فقد سبق لروسيا الاتحادية، أن أعلنت ذلك بوضوح، مما يثير احتمال أن تعيد كل طائفة عرقية ـ دينية تسليح نفسها، ومن ثم، يفجر الصراع من جديد، إضافة إلى تخوف أوروبا من أن توضع مهمة القوات الدولية، العاملة في البوسنة، موضع شك، خشية أن تبادر دول معينة إلى التهديد بسحب قواتها، نتيجة تزايد معدلات التسلح في المنطقة.

ويجاوز الأوروبيون تبرير موقفهم إلى محاولة إثارة الهواجس الأمريكية ضد دور الولايات المتحدة الأمريكية في عملية التسليح هذه، فيؤكد بعض الخبراء العسكريين الأوروبيين أن فترة العام، لا تكفي لإتمام تسليح البوسنة؛ وذلك في ضوء الموقف الحالي للقوات البوسنية، بكل ما تتسم به من ضعف، وفي ضوء الظروف، التي ستجرى فيها عملية البناء، وذلك إلى جانب الانتقادات، التي ستوجه من داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يحاول الأوروبيون التعجيل بإثارتها، بالحديث عن مد بقاء القوات الأمريكية في البوسنة، أو عن تحقيقات مجلس الشيوخ حول الدور الأمريكي السري في تسليح البوسنة، عبر إيران، وبأموال سعودية، بلغت 300 مليون دولار، اعترفت الإدارة الأمريكية بغض الطرف عن استخدامها لتحويل سلاح إلى البوسنة.

ولقد ذهب بعض الأوروبيين في إثارته للقلق الأمريكي، إلى حدود أبعد، بزعم أن المعلومات والأفكار، الخاصة بالموقف في البوسنة، غير واضحة، وتثير الأخطار، وأن صرب البوسنة أكثر شراسة وتصلباً، وأنهم على استعداد لخوض أكثر من اختبار على أرض الواقع، لمعرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه القوات الأمريكية، في الدفاع عن اتفاقية سلام مملوءة بالثغرات.  على أن هذه المبررات النظرية، تغطي على مخاوف أوروبية حقيقة، أهمها:

أ. الحساسية الأوروبية المسيحية، إزاء تأكيد الهوية الإسلامية في دولة أوروبية، لها كيان مستقل وجيش فاعل.

ب. المخاوف الأوروبية من تحُّول الجيش البوسني إلى أداة للسياسة الأمريكية في البلقان. فالنجاح الأمريكي الحاسم، عبر الأدوات السرية والعلنية، العسكرية والسياسية، في احتواء العمليات الحربية، التي دامت ثلاث سنوات، والتمهيد للتسوية السياسية، في ظل عجز أوروبي واضح، إنما يثيرا قلق أوروبا بدرجة أكبر، حال قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتسليح جيش البوسنة والهيمنة عليه.

ج. ركائز التصور الأمريكي لتسليح البوسنة:  يرتكز التصور الأمريكي لتسليح البوسنة على عدة مبادئ:

(1) استناد التصور الأمريكي لتسليح البوسنة إلى نصوص اتفاق دايتون، التي تؤكد ضرورة تحقيق توازن عسكري في الأسلحة، الخفيفة والثقيلة، بين الأطراف المتصارعة، وتحدد بدقة الأسلحة الثقيلة.

(2) قوة التأثير الأمريكي في العالم، وخاصة في التسعينيات، الأمر الذي يجمع مع الشرعية القانونية للنصوص، شرعية الإنجاز السياسي، وضمنه الآن تسليح البوسنة.

(3) العجز الأوروبي الواضح في اللحظات الحرجة، والذي تشير إليه كافة خبرات هذا الصراع نفسه.

(4) ربما جاز أيضاً القول إن التحرك الأمريكي، يجد مساندة شبه دولية، خاصة من العالم الإسلامي، الذي يبدو مستعداً، في حدود معينة، لتمويل عملية التسليح، ومن البوسنة نفسها، التي أعلنت مراراً عدم تفهمها للموقف الأوروبي، ودعمها للموقف الأمريكي.

كما يرتكز ـ التسليح الأمريكي للبوسنة ـ على أرضية واقعية إيجابية، أهم ملامحها:

(1) قيام البنتاجون بعمل تقديرات موقف، خلصت إلى حاجة البوسنة إلى نحو 800 مليون دولار، لإكمال عملية تسليحها. كما خلصت إلى إمكانية التغلب على التفوق الصربي في البوسنة، باستخدام أنواع معينة من الأسلحة المتقدمة، ذات الطبيعة الدفاعية.

(2) توالي اجتماعات التنسيق الفعلي بين كبار القادة العسكريين الأمريكيين، والبوسنيين، في شأن برنامج تسليح البوسنة، ومناقشة المتغيرات الهيكلية في الجيش البوسني، والمطلوبة لتسهيل تعامله مع الأسلحة المتطورة، في إطار برنامج التسليح.

(3) بلورة آلية ما لعملية تسليح جيش البوسنة وتدريبه، بغض النظر عن مدى الاتفاق حولها، وهي شركة "الموارد المهنية والعسكرية".  وهي شركة متخصصة بالعمالة العسكرية المدربة، ومقرها "سكوات"، في ولاية فيرجينيا الأمريكية، تعمل في هذا المجال منذ ثماني سنوات، ويعمل فيها نحو ألفين من الجنرالات والأدميرالات المتقاعدين؛ من بينهم جنرالات كبار، كانوا يخدمون في صفوف الجيش الأمريكي، ولتدريب جيش البوسنة في أسرع وقت، ويبدو أن عملية إقناع مسؤولي البوسنة بجدوى هذه الشركة، قد استلزمت بعض الوقت والجهد من الجنرال، جيمس بارديو، المشرف على قوات "إيفور"، ولكن بغض النظر عن هذا الأمر، يبقى أن آلية ما قد تبلورت، فعلياً، لإتمام عملية التسليح، تحت الرعاية الأمريكية، الأمر الذي يعطى هذا الخيار مصداقية أكبر، على الرغم من التعقيدات المحيطة به، ولا سيما الحساسية الأوروبية.

ثالثاً: الانتخابات في البوسنة

في الوقت الذي اتسمت فيه كافة التحركات الصربية والكرواتية، بالسعي إلى تكريس الانفصال الذاتي والتقسيم النهائي لدولة البوسنة والهرسك، تمهيداً للانضمام مستقبلاً إلى الدولة الأم المجاورة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تمسكت بإجراء الانتخابات البوسنية في موعدها، المحدد من قبل اتفاق "دايتون"، وهي تسعة أشهر بعد تولي قوات تطبيق اتفاق "دايتون" لمهامها. ولأنها تولت هذه المهام في الخامس عشر من ديسمبر 1995، فإن موعد هذه الانتخابات تحدد ليكون في الرابع عشر من سبتمبر 1996.

ولم تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الكبرى أمام الحقائق الموجودة على أرض الواقع، والتي تكشف، بوضوح، استمرار سياسات الانفصال من جانب الصرب والكروات، وأن المسرح ليس مهيأ بعد لإجراء هذه الانتخابات، ورأت هذه الدول أن مجرد إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، يُعَدّ في حد ذاته نجاحاً كبيراً. وردت على المخاوف، التي أثارها البعض من الداخل والخارج، في شأن تزايد احتمالات عدم نزاهة الانتخابات، بأن هذه الانتخابات "لن تكون نزيهة في جميع الأحوال"، ومن ثم، من الأفضل إجراؤها في موعدها، في ظل وجود قوات الحماية الدولية.  وبدا واضحاً أن نشاط الدول الكبرى، ينصب على إجراء الانتخابات، دون التوقف كثيراً أمام الاتهامات والمخاوف، ودون التفكير الجدي في عواقب إجراء الانتخابات في ظل الأوضاع القائمة. 

وبدا واضحاً أيضاً، أن هناك هوة كبيرة، تفصل بين منطلقات التفكير لدى الأطراف المختلفة. فالجانب البوسني، ومعه بعض التنظيمات الدولية المحدودة، انطلقا من رؤية الانتخابات كوسيلة للحفاظ على وحدة دولة البوسنة والهرسك. أما الجانبان الصربي والكرواتي، وبعد أن أجريا عمليات الفرز العرقي على أرض الواقع، وأحكمت الأحزاب القومية سيطرتها، فقد نظرا إلى الانتخابات على أنها المدخل الطبيعي لاستكمال الجهود التي بذلت، من طريق السلاح، للانفصال، ورأيا أن اتفاق "دايتون"، وإن دعا إلى الحفاظ على وحدة البوسنة والهرسك، على الورق، إلا أنه، في واقع الأمر، قد وضع طموحات التقسيم على أول طريق التنفيذ. ويكفي أن نشير إلى منطوق الملحق رقم (3) من الاتفاق، الذي ينص على أنه "يحق للاجئين المُهجَّرين، أن يختاروا ديارهم السابقة، أو الأماكن التي يقيمون بها حالياً، للإدلاء بأصواتهم. كما أنه يحق لهم العودة إلى ديارهم، أو الحصول على تعويض عن أملاكهم السابقة، والبقاء حيث يقيمون".

ومعنى ذلك، أن الانتخابات ستجري على واقع الفرز العرقي، الذي نُفذ خلال الحرب، التي دامت أربع سنوات، وتم تأطيره في اتفاق "دايتون"، بالنسبة إلى الصرب، في حين حقق الكروات الفرز العرقي من خلال تعطيل وعدم تنفيذ بنود الاتحاد الفيدرالي، التي كانت تسعى إلى إزالة حالة الانقسام داخل هذا الاتحاد.

1. الصرب واستغلال "دايتون"

استغل صرب البوسنة نص اتفاق "دايتون" على أن كيانهم، الذي قام على 49 % من مساحة البوسنة والهرسك، يتمتع بسمات الدولة، في مقابل اتحاد فيدرالي بين المسلمين والكروات، من أجل تكريس استقلالية هذه الدولة، والبناء فوق سياسات الفرز العرقي، التي تم تنفيذها، إذ تم طرد كافة السكان غير الصرب من المناطق المخصصة لدولتهم، كما استقدموا السكان الصرب من المناطق التي خصصت للاتحاد الفيدرالي.

وبدأ صرب البوسنة في ممارسة كافة سمات السيادة، وعدم الدخول في تفاعلات مع الاتحاد الفيدرالي المسلم ـ الكرواتي، تحفظ صيغة الدولة البوسنية الموحدة. وبدا ذلك واضحاً في قرار صرب البوسنة، في 20/6/1996، بفرض نظام تأشيرات الدخول إلى أراضيهم، على غير الصرب، حتى لو كانوا من رعايا الجمهوريات القائمة على أنقاض الاتحاد اليوغوسلافي السابق.  وأكد وزير خارجية دويلة صرب البوسنة، سيربيسكا، وزعيم الحزب الديموقراطي الصربي، اليكسابوخا، "أن اتفاق "دايتون" يَعُدّ الجمهورية الصربية دولة، ولا يوجد فيه ما يشير إلى إعادة توحيد البوسنة".  وحرصت القائمة بأعمال رئيس دويلة صرب البوسنة، بيليانا بلافيتش، على ممارسة سمات السيادة، حتى في مواجهة المبعوثين الدوليين.  وبدا ذلك واضحاً في الأزمة، التي ثارت حول مدينة برتشكو، وذلك عندما أعلنت قيادة صرب البوسنة، أنها ستمنع ممثلي الاتحاد الفيدرالي من دخول مدينة برتشكو، المتنازع عليها، والتي سيؤول مصيرها إلى التحكيم، وفق اتفاق "دايتون". فقد بعثت بيليانا بلافيتش برسالة إلى رئيس لجنة التحكيم بمدينة برتشكو، روبرت أوين، جاء فيها: "الجمهورية الصربية، لا توافق على زيارة وفد من الاتحاد الفيدرالي البوسني إلى مدينة برتشكو، وأنه في حالة إصرار الوفد على دخول المدينة، فإن مسؤولية ما ينجم من حوادث، يتحملها أولئك الذين أذنوا له بذلك". هذا في الوقت الذي يُفترض أن مستقبل هذه المدينة يخضع للتحكيم، ولكن الصرب نقلوا إليها عشرات الآلاف من أبناء عرقهم، بدلاً من الأعراق الأخرى التي كانت تسكنها قبل الحرب.

2. تصاعد المشاكل داخل الاتحاد الفيدرالي

منذ النص على تشكيل اتحاد فيدرالي، بين المسلمين والكروات، بذل كروات البوسنة كل ما في وسعهم من أجل تجميد أي خطوة في اتجاه إنشاء هياكل هذا الاتحاد، ناهيك من تعميق المشاكل القائمة حول العديد من القضايا، نتيجة حسابات معقدة، تتداخل فيها أبعاد مركبة.  ولم يتوقف طرفا الاتحاد عن تبادل الاتهامات بالسعي إلى تفكيك الاتحاد.  وفي الوقت الذي تمسك فيه كروات البوسنة بدويلتهم، التي أعلنوها في المناطق التي سيطروا عليها، فإن نائب الرئيس البوسني، أيوب جانيتش، دعا إلى إقالة وزير الخارجية البوسني، الكرواتي الأصل، يادرا ناكوبرليتش، لأنه "تستر على الحكومة التي شكلها الكروات من جانب واحد في دويلتهم، التي أعلنوها "هرسك بوسنة"".

وبدت مشاكل التعايش المشترك، بين المسلمين والكروات، واضحة في تجربة الانتخابات المحلية لمدينة "موستار"، في 30 يونيه الماضي، لاختيار أعضاء المجلس المحلى للمدينة، والمكون من 48 عضواً، والذي يتولى إدارة المدينة، بدلاً من ممثلي الاتحاد الأوروبي، وذلك لاتخاذ خطوات توحيد المدينة.  ونظرت الدول الكبرى إلى هذه الانتخابات على أنها مؤشر إلى مستقبل تجربة الاتحاد الفيدرالي، بين المسلمين والكروات. وجاءت انتخابات موستار المحلية، مؤشراً إلى ما ينتظر مستقبل الاتحاد الفيدرالي، بين المسلمين والكروات، إذ تبادل الطرفان الاتهامات بالتزوير وارتكاب التجاوزات.

وعندما أُعلن فوز حزب العمل الديموقراطي ـ الإسلامي، بزعامة علي عزت بيجوفيتش، في قائمة موستار الموحدة، بنحو 48% من الأصوات و 19 مقعداً، وفوز قائمة الاتحاد الديموقراطي الكرواتي بنحو 45% من الأصوات و 18 مقعداً، رفض الكروات الاعتراف بنتائج الانتخابات، وأعلنوا مقاطعة جلسات المجلس المنتخب، وعادت الاتهامات المتبادلة من جديد. فمن ناحية، حمل رئيس الاتحاد الفيدرالي المسلم ـ الكرواتي، كريشمير زوباك، الكرواتي، الطرف المسلم مسؤولية تردّي الأوضاع داخل الاتحاد، مؤكداً أن دويلة الكروات "هرسك بوسنة"، ليست هي المشكلة وإنما هي ذريعة اتخذها المسلمون لتغطية نقاط الضعف لديهم.

وجاء اتفاق إنهاء الأزمة متجاوزاً نتائج الانتخابات المحلية في موستار، إذ تم اختيار كرواتي لرئاسة المجلس المحلى، ونائب مسلم له، في حين أن نتائج الانتخابات كانت تعني انتخاب مسلم لرئاسة المجلس.  ولم يؤدِّ إعلان إنهاء وجود دويلة الكروات في البوسنة إلى وقف التدهور في علاقات طرفي الاتحاد الفيدرالي، إذ تواصلت الاشتباكات بين المدنيين المسلمين والكروات، في المناطق المشتركة، كما تواصلت عمليات الفرز العرقي، في المناطق التي توجد فيها أغلبية كرواتية، ونجح الكروات في تحقيق النقاء العرقي في الشطر الغربي من مدينة موستار.

3. الإعداد للانتخابات

شرعت منظمة الأمن والتعاون الأوروبيين تُعِدّ للانتخابات، وقررت في 22 يونيه، أن تُجرى الانتخابات وفق السكان المسجلين في الإحصاء البوسني لعام 1991، وأن يشارك في هذه الانتخابات كل من تجاوز عمره 18 عاماً. كما أصرّت المنظمة على فقدان مَن وجهت إليهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب، حق ترشيح أنفسهم، وأجازت لهم المشاركة كناخبين، وركزت، بالأساس، على الزعيمين، السياسي والعسكري، لصرب البوسنة، رادوفان كارادازيتش وراتكو ميلاديتش، لا سيما أن الأول انتخب بأغلبية 353 صوتاً من 354  صوتاً، كزعيم للحزب الديموقراطي الصربي، ورئيس للجنة الحزب لاختيار المرشحين في الانتخابات، وانتهي الأمر بتخليه عن مهام منصبه رسمياً، لمصلحة نائبته، بيليانا بلافيتش، وتولى اليكسابوخا رئاسة الحزب، وإن لم ينتهِ دور كارادازيتش، الذي تحول إلى زعيم روحي فعلي، دون منصب رسمي.

ولقد كان هناك العديد من التحفظات والمخاوف، والتطلعات أيضاً، لدى الأطراف الثلاثة. فهناك أولاً انتهاكات  الأحزاب الحاكمة في الكيانات الثلاثة ضد أحزاب المعارضة وتجمعاتها.  ففي الكيان الصربي، تعرضت أحزاب المعارضة، لا سيما الحزب الاشتراكي الصربي، لاعتداءات من جانب أنصار الحزب الديموقراطي الصربي الحاكم. وفي الكيان البوسني، المسلم، مارس حزب العمل الديموقراطي، بزعامة علي عزت بيجوفيتش سياسات قمع واعتداءات ضد أحزاب المعارضة، وفي مقدمها "الحزب من أجل البوسنة والهرسك"، الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق، حارس سيلاديتش، والتي وصلت إلى محاولة اغتيال زعيم الحزب، أثناء تجمع جماهيري انتخابي، وكذلك شن سلسلة اعتداءات على المعارضة، في إقليم بيهاتش، والتي أدانها المنشق المدني لاتفاق السلام، كارل بيلت.  أما في الكيان الكرواتي، فقد مارس حزب الاتحاد الديموقراطي الكرواتي (الحاكم)، سياسات القمع ضد عناصر المعارضة.

وهناك، ثانياً، المشاكل الخاصة بتصويت اللاجئين البوسنيين، لا سيما في ظل التعامل مع نتائج سياسات الفرز العرقي، والتي أدت إلى تغيير أماكن إقامة نحو ثلاثة ملايين بوسني (أو ثلثي السكان). ومن ثم، فإن إجراء الانتخابات وفق التوزيع الجغرافي للسكان داخل أراضي البوسنة والهرسك، قد أدى إلى ترسيخ إفرازات سياسات التطهير العرقي.  وهناك، ثالثاً، العلاقة بين إجراء الانتخابات في ظل الأوضاع القائمة، وبين مستقبل البوسنة والهرسك كدولة موحدة، لا سيما بعد تزايد تأكيدات الصرب والكروات أن الانتخابات، ستمثل بداية التقسيم الرسمي للدولة إلى ثلاث دويلات مستقلة، إلى أن تلتحق الصربية بصربيا، والكرواتية بكرواتيا، في حين تبقى دويلة "البوشناق"، المغلقة، في مواجهة مستقبل مبهم.

4. هيكل الانتخابات

بحسب ما نص اتفاق "دايتون"، فإن الانتخابات، تتكون من 6 عمليات انتخابية منفصلة، وهي:

أ. انتخاب هيئة الرئاسة الثلاثية لدولة البوسنة والهرسك، إذ يجري انتخاب عضو واحد من كل عرق، يتولى الحاصل على أعلى الأصوات الرئاسة لمدة عامين، ثم يتم بعد ذلك إقرار مبدأ التناوب بين الثلاثة كل ثمانية أشهر.

ب. انتخاب هيئة رئاسة الاتحاد الفيدرالي المسلم ـ الكرواتي، مؤلفة من عضوين، أحدهما مسلم، والآخر كرواتي ويتناوبان الرئاسة.

ج. انتخاب رئيس لجمهورية صرب البوسنة، ونائباً له.

د. انتخاب برلمان لكل عرق من الأعراق الثلاثة.

هـ. انتخاب برلمان البوسنة والهرسك من 28 مسلماً وكرواتياً و14 صربياً. أما مجلس شيوخ البوسنة والهرسك، المكون من 15 عضواً، بواقع خمسة أعضاء لكل عرق، فيختارهم أعضاء البرلمانات.

و. الانتخابات المحلية، الأقاليم المنعزلة، تجري لانتخاب الأعضاء الإداريين لعشرة أقاليم خاصة بالاتحاد الفيدرالي المسلم ـ الكرواتي، والمجالس المحلية في الجمهورية الصربية. ثم أعلنت المنظمة المشرفة على الانتخابات تأجيلها، بعد تزايد الشكاوى من المسلمين حول واقع الفرز العرقي، واحتمالات التزوير.

ومع اقتراب موعد الانتخابات، تزايدت حدّة الاتهامات المتبادلة بين الأحزاب الحاكمة، في الكيانات الثلاثة. فمن ناحية، كثفت حكومة البوسنة اتهاماتها للصرب، وللكروات أيضاً، بالسعي إلى الانفصال، وبارتكاب تجاوزات، تؤثر في نتائج الانتخابات.  وطالبت حكومة البوسنة، مع بعض الأحزاب البوسنية المعارضة، بتأجيل الانتخابات، حتى لا تأتى، النتائج مكرسة لنتائج سياسات الفرز العرقي. وهدد حزب العمل الديموقراطي، الإسلامي، الحاكم في البوسنة، بمقاطعة الانتخابات، وهو أمر يتصادم ومكونات السياسة الأمريكية، المتمسكة بإجراء الانتخابات في موعدها، وهي السياسة التي وافقت عليها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

وفي الوقت الذي أكدت فيه الإدارة الأمريكية تمسكها التام بإجراء الانتخابات في موعدها، أعلنت الخارجية البريطانية "أن الذين يطالبون بتأجيل الانتخابات، يخشون عدم النجاح في الوصول إلى مجلس النواب، أو عدم تحقيق النتائج التي يرغبون فيها".  ومن ناحية أخرى، أكدت القائمة بأعمال رئيس الجمهورية الصربية في البوسنة، بيليانا بلافيتش، سعي الصرب إلى الانفصال، وإقامة دولتهم المستقلة، دون أي ارتباط مع الاتحاد الفيدرالي المسلم ـ الكرواتي، وأعلنت، أمام تجمع انتخابي، في 6 سبتمبر 1996: " ... من المستحيل أن يعيش الصرب مع المسلمين والكروات في البوسنة". وبعد تزايد الحديث عن الانفصال، من جانب المرشحين الصرب،  وتزايد احتجاجات الحكومة البوسنية، عادت للاعتذار عن الحديث الانفصالي، دون أن يعني ذلك إسقاط السعي إلى الانفصال.  كذلك واصل الكروات سعيهم إلى عرقلة إقامة هياكل الاتحاد الفيدرالي، وواصلوا سياسات الفرز العرقي في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وقد تزايد الاتجاه الانفصالي الكرواتي، لا سيما بعد تطبيع العلاقات بين زغرب وبلجراد، والاتفاق على إعادة سلافونيا الشرقية، آخر معاقل صرب كرواتيا في الأراضي الكرواتية، إلى زغرب.

5. خريطة الأحزاب

اتسمت بيئة الانتخابات في الكيانات الثلاثة بوجود حزب حاكم/مهيمن، ومجموعة من أحزاب المعارضة المحدودة القوة، في مواجهة حزب مسيطر، قاد عرقه في الحرب، التي دامت قرابة أربع سنوات، ومن ثم، تزايدت قوته إلى الدرجة التي صعب معها على الأحزاب الأخرى منافسته.

أ. الكيان الصربي

برز الحزب الديموقراطي الصربي (SDS)، الذي كان يتزعمه، حتى يوليه 1996، رادوفان كارادازيتش، ثم تولى الرئاسة وزير خارجية الجمهورية الصربية في البوسنة، اليكسابوخا، وهو لا يقلّ تشدداً عن كارادازيتش.  وينافسه في انتخابات الحزب الاشتراكي لجمهورية سربسكا (SPRS)، وهو بمثابة فرع للحزب الحاكم في صربيا.  وفي الوقت الذي ينطلق فيه الحزبان من قاعدة قومية واحدة، فإن الاختلاف بينهما، يدور حول الموقف من اتفاق "دايتون"، فالحزب الديموقراطي الصربي، المتمركز في بالي، يدعو إلى انفصال صرب البوسنة عن المسلمين والكروات، وإقامة الدولة المستقلة، كخطوة على طريق تحقيق حلم "صربيا الكبرى".

أما الحزب الاشتراكي، فينطلق من الفكرة نفسها، ولكن لأنه يكاد يكون فرعاً للحزب الحاكم في صربيا، فقد أدخل تعديلات على مواقفه، ليقبل باتفاق "دايتون"، ويدعم سياسات الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، الذي يتهمه الحزب الديموقراطي الصربي بالاستسلام والتخلي عن "مقومات الشهامة الصربية"، بعد أن استقبل وفداً بوسنياً، برئاسة نائب الرئيس البوسني، أيوب جانيتش، في 23/7/1996، بهدف تطبيع العلاقات.  كما أن الحزب لم ينسَ أن الرئيس ميلوسيفتش لم يهب إلى نجدة صرب كرواتيا، في أغسطس 1995، وترك القوات الكرواتية تجتاح إقليم كرايينا. وقد أسهمت زيارة الوفد البوسني إلى بلجراد، في زيادة عزلة الحزب الاشتراكي داخل صرب ووظفها الحزب الديموقراطي لمصلحته انتخابياً البوسنة. (اُنظر شكل هيكل الرئاسة الثلاثية)

وإضافة إلى الحزب الاشتراكي، توجد تجمعات محدودة، معارضة للحزب الديموقراطي، أبرزها تجمّع في مدينة بنيا لوكا، لارتباطها التاريخي بعلاقات قوية بزغرب، ومن ثم، فهذا التجمع يزيد تطبيع العلاقات بكرواتيا، ولا يتوقف كثيراً أمام مستقبل العلاقات بسيراييفو.  وهناك أيضاً عمدة مدينة بنيا لوكا، بريدراج راديتش، الذي تزعم كتلة "باتريوتيك" الديموقراطية، ويحظى بتأييد بعض القطاعات، شمال شرقي البوسنة لاعتبارات تتعلق بالاحتجاج على توزيع الموارد المحلية، ومن ثم تُعَدّ أكثر ارتباطاً ببلجراد منها ببالي.

ب. مسلمو البوسنة

يبرز حزب العمل الديموقراطي (SDA)، بزعامة علي عزت بيجوفيتش، وهو الحزب الأقوى، الذي قاد عملية انفصال البوسنة عن يوغسلافيا الاتحادية، وخاض الحروب في مواجهة الصرب، وأحياناً في مواجهة الكروات، ويطرح شعارات إسلامية أحياناً، يسعى إلى الحفاظ على دولة البوسنة والهرسك، ولكن في إطار من التفوّق لمسلمي البوسنة على أساس أنهم أغلبية السكان (كانوا يشكلون قبل الحرب 43% من السكان، مقابل 34% صرب و 18% كروات). ويأتي بعد ذلك "الحزب من أجل البوسنة والهرسك"، بزعامة رئيس الوزراء السابق، حارس سيلاديتش، الذي يدعو إلى البوسنة الموحدة، متعددة الأعراق، دون هيمنة لعرق على آخر، في إطار نظام ديموقراطي علماني. واختار سيلاديتش ثلاثة نواب له من الصرب والكروات  واليهود.  وتنحصر قاعدته الانتخابية في المثقفين وأطراف الزواج المختلط.  وهناك أيضاً الحزب الاشتراكي الديموقراطي  البوسني، بزعامة سليم بيلاجيتش، عمدة مدينة توزلا، في الشمال الشرقي، الذي حافظ على الطابع المختلط لإدارته، ونأى بنفسه بعيداً عن غوغائية الحروب العرقية، داعياً إلى دولة موحدة، متعددة الأعراق. ولكن في أجواء التصريحات الغوغائية واستدعاء الخلفيات الثقافية والعرقية، مع ميراث العداء القديم والجديد، يصعب أن يجد العقلانيون موقعاً لهم.

ج. كروات البوسنة

ظهر الكروات أكثر الأعراق تنظيماً، وذلك للارتباط المباشر والقوى، بين كروات البوسنة وكرواتيا، لا سيما أن الحزب الحاكم، والمسيطر داخل صفوف كروات البوسنة، الاتحاد الديموقراطي الكرواتي (HDZ) يكاد يكون فرعاً للحزب الحاكم في كرواتيا.  وعلى الرغم من أن الرئيس الكرواتي، فرانيو توديمان، دافع عن دويلة الكروات المستقلة في البوسنة (البوسنة والهرسك)، عندما أعلنت، ثم وافق على إلغائها في اتفاق "دايتون"، وأعلن ذلك في أغسطس 1996، فإن ذلك لم يؤثر في الوجود الفعلي للدويلة، كما أنه لم يحدث أي نوع من الخلاف بين كروات البوسنة وكرواتيا، على غرار ما حدث بين صرب البوسنة وصربيا بسبب اتفاق "دايتون". ومعنى ذلك، أن الاتحاد الديموقراطي الكرواتي، أمامه الفرصة للحصول على الأغلبية الساحقة من أصوات كروات البوسنة.

وفي ما يتعلق بمجرى العملية الانتخابية، فقد بلغ عدد من لهم حق التصويت 3.5 ملايين ناخب، نصفهم تقريباً لا يقيمون في مناطق إقامتهم الأصلية، ويتوزع نحو 1.4 مليون ناخب في أكثر من 42 دولة.

ولذلك، قررت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أن يجري تسجيل اللاجئين البوسنيين في الخارج، خلال الفترة من 19 يوليه وحتى 5 أغسطس، ويبدأ التصويت، بالنسبة إليهم، في 27 أغسطس، وهي العملية التي شهدت اتهامات متبادلة بالتزوير بين الأعراق الثلاثة.

6. نتائج الانتخابات

أسفرت الانتخابات، التي جرت في 14 سبتمبر، عن فوز الأحزاب القومية، في الكيانات الثلاثة بأغلبية المقاعد البرلمانية، وبالمناصب التنفيذية، التي دار التنافس حولها.  ففي برلمان الاتحاد الفيدرالي بين المسلمين والكروات، فاز حزبَي العمل الديموقراطي، الإسلامي، والاتحاد الديموقراطي الكرواتي بأغلبية المقاعد. وفي برلمان الجمهورية الصربية، فاز الحزب الديموقراطي الصربي بـ 49 مقعداً من إجمالي 83 مقعداً.  أما على صعيد المجلس التشريعي للبوسنة، فقد فاز حزب العمل الديموقراطي بـ 20 مقعداً من 28 مقعداً مخصصة للمسلمين والكروات، وفاز الاتحاد الديموقراطي الكرواتي بـ 7 مقاعد.  وبالنسبة إلى حصة الصرب في هذا المجلس (14 مقعداً)، فقد فاز الحزب الديموقراطي، الصربي، بـ 8 مقاعد، وفازت أحزاب صربية أخرى بـ 6 مقاعد.

وفي ما يتعلق بهيئة الرئاسة الثلاثية، فقد حصل مرشح حزب العمل الديموقراطي، علي عزت بيجوفيتش، على المركز الأول (729.034 صوت)، ثم مرشح الحزب الديموقراطي الصربي، مومتشيلو كرايشنيك (690.373 صوتاً)، وأخيراً مرشح الاتحاد الديموقراطي الكرواتي، كريشمير زوباك (342.007 أصوات).

وفي ما يتعلق برئاسة جمهورية صرب البوسنة، فقد فازت مرشحة الحزب الديموقراطي الصربي، بيليانا بلافيتش، بالمنصب.

وتكشف هذه النتائج عن فوز الأحزاب القومية للأعراق الثلاثة، وهي العمل الديموقراطي (مسلم)، الديموقراطي الصربي (صربي)، والاتحاد الديموقراطي الكرواتي (كرواتي)، وهي الأحزاب نفسها، التي كانت في السلطة عند اندلاع الصراع، وقادت أعراقها في المعارك، وقامت بعمليات التطهير العرقي. وقراءة أسماء ممثلي هذه الأحزاب، تكشف عن أنها، فيما عدا غياب كارادازيتش و ميلاديتش الصربيين، الأسماء والأشخاص أنفسهم، الذين قادوا المعارك، بل إن مَن فاز برئاسة هيئة الرئاسة الثلاثية، علي عزت بيجوفيتش، والذي يدعو إلى الحفاظ على وحدة البوسنة، هو الذي قاد عملية انفصال البوسنة عن الاتحاد اليوغوسلافي، ومن ثم، بدأت الحرب، وهو الأمر الذي يعطي ثقلاً أكبر لأطروحات الانفصال، من جانب الصرب والكروات.