إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1982، (سلام الجليل)





مراحل وتطور أعمال القتال
الهجوم على لبنان
المعالم الرئيسية للعاصمة
الحجم والأوضاع الابتدائية للجانبين
تحديد مواقع بطاريات الصواريخ
بطاريات أرض/جو




الفصل الأول

المبحث الأول

الغزو، مقدماته وأبعاده المختلفة

أولاُ: مقدمات الغزو، وحرب يوليه 1981

سُئل مناحم بيجن، بعد فوزه، في انتخابات عام 1981، عند تكليفه تشكيل الحكومة، عن الفترة الزمنية، التي قد يحتاج إليها للتعامل مع قضية الصراع مع لبنان. فرد طالباً طول الأناة، حتى يستطيع أن يَبَرّ ببعض ما قطعه على نفسه في المعركة الانتخابية. وكان بيجن يقصد تصفية الوجود الفلسطيني المسلّح في الجنوب اللبناني.

وتكاد تجمع المصادر الإسرائيلية، على أن فوز حكومة بيجين الثانية بثقة الكنيست، في 5 أغسطس 1981، كان إيذاناً بحرب مقبلة في لبنان. وبدا الإعلان في شأن هذه الحرب، رسمياً، يتوقف على توافر الظروف الملائمة، محلياً وإقليماً ودولياً.

وأخذ العدوان الإسرائيلي يتصاعد بوتيرة متسارعة على قواعد الثورة الفلسطينية ومراكز إدارتها وقيادتها، وعلى خطوط تنقل قواتها، وصولاً إلى الأحياء السكنية التي يوجد فيها مركز قيادة العمل الفلسطيني، السياسي والعسكري. وقد جرى ذلك كله بناء على خطة مُحكمة، وضعتها قيادة أركان الجيش الإسرائيلي، تقضي بتكثيف الضربات المتفرقة على مواقع انتشار القوات العسكرية الفلسطينية، بهدف إضعافها، وصولاً إلى تحطيم ذلك الانتشار وتصفيته في الجنوب اللبناني. وكان رئيس الأركان الإسرائيلي، رفائيل إيتان Raful Eytan ، يشرف على تنفيذ هذه الخطة بنفسه، إضافة إلى قائد المنطقة الشمالية، أفيجدور بن جال، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث. فعلى الرغم من الجهد العسكري الضخم، الذي وظفته القيادة الإسرائيلية في هذا السبيل، ومن ثم، الأضرار المادية والبشرية الجسيمة، التي لحقت بالقرى والمدن والمنشآت على الأرض اللبنانية، والتي كانت معظمها مدنية، إلاّ أن القوات الفلسطينية صمدت، وردّت على العدوان بعمل عسكري مركز، أحبط الخطة الإسرائيلية العامة، وفرض على حكومة بيجن القبول بوقف القصف المتبادل عبر الحدود اللبنانية.

وبادرت إسرائيل إلى هذه الحرب، في إطار ما يمكن تسميته "خيار بيجن اللبناني"، الذي يأتي، بدوره، في سياق توجُّه الإدارة الأمريكية، برئاسة رونالد ريجان Ronald Wilson Reagan، لإنشاء تشكيل سياسي ـ عسكري في المنطقة، يقوم على أساس "مبدأ كارتر"[1]، الرئيس السابق (Jimmy James Earl) Carter للولايات المتحدة الأمريكية. فإدارة ريجان، منذ توليها السلطة في بداية عام 1981، أعلنت عن عزمها على القيام بمبادرة جديدة، لدفع مسار "التسوية" في الشرق الأوسط، لتحل في خريف ذلك العام، وبعد أن تكون الانتخابات الإسرائيلية قد حُسمت، وظهر الفريق الإسرائيلي الذي سيتولى السلطة.

وفي إطار الإعداد لهذه المبادرة، ووضع خطوطها وإستراتيجية تنفيذها، زار وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج Alexander Meigs Haig، بعض دول المنطقة، في 3 أبريل 1981، وأعلن أن الهدف من زيارته، هو "البحث مع أصدقائنا في السبُل لمواجهة ما يتعرض له السلام من تهديدات، من جانب الاتحاد السوفيتي، والدول التي تخضع لمشيئته، ومن أجل تقدم السلام في الشرق الأوسط". وفي مناسبة زيارة هيج إلى المنطقة، تمّ تفجير الوضع الأمني في زحـلة، وصـولاً إلى "أزمة الصواريخ السورية". ويبدو أن المفتاح الصحـيح لفهْم سليم للأسباب، التي أدّت إلى اندلاع القتال في زحلة، ومن ثم، إلى نشـوب أزمة الصواريخ، كان ينعكس بشكل أساسي على تلك الزيارة وأهدافها، وفي دوافع حكومة بيجن للتأثير في نتائجها، عبر تحرك سـياسي ـ عسكري، من شـأنه، في اعتقادها، أن يوجه قرار هيج في مسار محدد، ويضع، من ثم، تحرك الإدارة الأمريكية المرتقب على مسار يوصل إلى حيث تريد حكومة بيجن في هذه المرحلة.

إذاً، جاء هيج إلى المنطقة للتشاور مع أصدقاء واشنطن المحليين، في إستراتيجية بناء هذا التشكيل السياسي ـ العسكري، الذي كان جوهـره "مبدأ كارتر"، الذي تبنّاه ريجان، على أن يتم تجسيده بوتيرة متسارعة. وينطـلق هذا المبدأ من قاعدة "أمن الخليج أولاً". وعليه، فإن واشنطن كانت تسعى جاهدة، وفي إطار إستراتيجية محددة، إلى بناء محور إستراتيجي في الشرق الأوسط، يقوم أصلاً على الوجود العسكري الأمريكي فيه، وذلك في قواعد ثابتة أو عائمة، وعلى "قوات التدخل السريع" الأمريكية، مع كل ما يتطلبه أداء مهمتها، من تسهيلات في المرافق البحرية والجوية لدى "الدول الصديقة" في المنطقة، وعلى بناء مراكز حشد وتخزين فيها، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من أعمال الصيانة وغيرها. وعليه، فإن الفكرة كانت تنطوي بالأساس على انضمام بعض دول المنطقة إلى هذا المحور المزمع إقامته، على أن تتولى واشنطن مهمة التنسيق فيما بينها، فتصبح جميعاً في حلف سياسي ـ عسكري، بشكل مباشر. ولكن بناء هذا المحور، يصطدم بالحلقة السورية ـ الفلسطينية، التي استعصت على "كامب ديفيد". فجاء هيـج ليبحث في سُبُل كسرها، وتطويع طرفَيها لإملاء المشروع الأمريكي. واقتصرت زيارة هيج على مصر وإسرائيل والأردن والسعودية، محددة بذلك الأطراف التي تعينه في هذه المرحلة، ومستثنية الأطراف الأخرى، التي يستهدفها المحور.

وبرز في كلام هيج، أثناء الزيارة، النهج السياسي، الذي تنوي الإدارة الأمريكية الجديدة انتهاجه، في المنطقة، متذرعة بالخطر السوفيتي على أمن الخليج، ومن ثم، ضرورة مواجهة ذلك الخطر، مع كل ما يترتب على ذلك من استقطاب في المنطقة، وصولاً إلى تأجيج الصراع بين الأطراف المحلية، المنضوية إلى المحور، من جهة، وبين القوى المناوئة له، من جهة أخرى. وقد خص هيج، قبل الزيارة وأثناءها وبعدها، كلاً من منظمة التحرير الفلسطينية وسورية بقسط وافر من الاتهامات والتهديدات، مستغلاً في ذلك تفجير الموقف الأمني في لبنان.

لقد جاء هيج إلى المنطقة، وفي ذهنه تصور لأولويات التحرك الأمريكي المقبل فيها، انطلاقاً من نظرة واشنطن إلى الأمور بشكل عام. وهذا التصور، كما بدا من تصريحات هيج، قد ميّز بين الخطر الرئيسي والخطر الثانوي. فالخطر الرئيسي، في نظره، هو "الخطر السوفيتي" وتأثيره في النفط العربي ومعابره. أما الخطر الثانوي، فهو الخلافات القائمة بين الأطراف المحلية "الصديقة"، حول متطلبات تجسيد المحور السياسي ـ العسكري في المنطقة، وتحديداً حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، أي تصفية القضية الفلسطينية بشكل أو بآخر. وفي العواصم، التي زارها، استمع هيج إلى أطروحات مختلفة عن أولويات التحرك، وإستراتيجية الوصـول إلى تشكيل المحور. ويبدو أنه اصطدم، في تلك العواصم، بتقديرات مختلفة حول القضايا المطروحة وأسلوب معالجتها. ففي القاهرة، أكد الرئيس السادات لوزير الخارجية هيج، ضرورة استئناف مفاوضات "الحكم الذاتي"، طبقاً لاتفاقيات "كامب ديفيد"، بعد أن وصلت إلى طريق مسدود. وفي إسرائيل، سمع هيج كلاماً من المعارضة الرسمية عن "الخيار الأردني"، والحل الوسط الإقليمي، ومن حكومة بيجن رفضها لذلك الخيار، وإصرارها على التمسك بالضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، وكذلك الجولان. كما أكد الجانب الإسرائيلي في المحادثات أهمية الدور الذي تستطيع الآلة العسكرية الإسرائيلية أن تؤديه، في مواجهة "الخطر السوفيتي"، ومن ثم، ضرورة تزويدها بكل وسائل القوة.

وفي عمّان، سمع هيج كلاماً عن ضرورة انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية، وإيجاد حل ملائم لمسألة الأماكن المقدسة في القدس. أمّا في الرياض، فقد أكدت المملكة العربية السعودية لهيج أهمية إيجاد حل للصراع العربي ـ الإسرائيلي، يحقق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها القدس العربية، مع تأكيد الخيار الفلسطيني، ببناء الدولة الفلسطينية على ترابها الوطني.

وهكذا، وجدت حكومة بيجن نفسها أمام خيارات صعبة، تطرحها الأطراف الأخرى، بما فيها الإسرائيلية، وجميعها تطرح ملف الأراضي المحتلة عام 1967، على حل الانسحاب الإسرائيلي، الكلي أو الجزئي، وهو ما لا يريده بيجن. فالمقترحات التي تقدمت بها القاهرة وعمّان والرياض، حتى المعارضة الرسمية الإسرائيلية، تنطلق من ضرورة فتح الملف الفلسطيني على قاعدة "التسوية السلمية"، ومن ثم، ضرورة قبول إسرائيل بانسحاب كلي أو جزئي، من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وإعادتها إلى الجانب العربي، "أردني أو فلسطيني"، وهو ما يرفضه بيجن وحكومته بشكل قاطع. وما دام بيجن يعرف إملاءات المشروع الأمريكي العام في المنطـقة، وهو على علم بمواقف الأطراف الأخرى، فلم يبقَ أمامه إلا "الخيار اللبناني"، أي فتح الملف الفلسطيني، ولكن على قاعدة تصفية "الخـيار الفلسطيني"، وصولاً إلى حصر "الخيار الأردني" في شرقي الأردن فحسب، وقطع الطريق علـى برنامج حزب العـمل، ومن ثم، وضع جميع الأطراف أمام الخيار الوحيد، وهو اسـتئناف المفاوضات في إطار "الحكم الذاتي الفلسطيني"، وفقاً لمفهوم بيجن لاتفاقيات "كامب ديفيد". ولكن ذلك لن يتم من دون شطب منظمة التحرير الفلسطينية من المعادلة السياسية في المنطقة، والذي يستلزم إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، ومن ثم، إلحاق لبنان بركب "كامب ديفيد".

وعلى خلفية نتائج "عملية الليطاني، في مارس 1978، تأكد لمناحم بيجن صعوبة تحقيق "الخيار اللبناني"، كما يريده هو، أي بتصفية "الخيار الفلسطيني"، وإلحاق لبنان بركب "كامب ديفيد"، ما دامت قوات الردع العربيـة موجودة فيه. فلا بدّ من إخراجـها منه أولاً، ولن يتم ذلك إلا بافتعال معركة مع القوات السورية في البقاع. فحدث، من ثم، التفجير في زحلة، الذي تواكب مع زيارة هيج إلى المنطقة. غير أن الرد السوري على التحدي الكتائبي بتشجيع بيجن، جاء عنيفاً، حتى إنه لم يكن في استطاعة ميليشيا "الكتائب" الصمود في وجهه، مما حدا بحكومة بيجن على اتخاذ قرار التدخل العسكري، المباشر في القتال. ويبدو أن التقدير الإسرائيلي، جاء على أرضية القناعة بحتمية إعاقة القوات السورية من متابعة عملها العسكري في مرتفعات صنين، بعد تدخل سلاح الجو الإسرائيلي في القتال الدائر، انطلاقاً من ثقة القيادة الإسرائيلية بفاعلية القوة الرادعة لآلتها العسكرية. وتشير الدلائل إلى أن بيجن، أقدم على اتخاذ قرار التدخل المباشر في القتال، بناء على قراءة لموقف الإدارة الأمريكية من مثل هذه الخطوة، استخلصها من محادثاته مع هيج، أو من التصريحات التي أدلى بها الوزير الأمريكي عن الأزمة اللبنانية، أثناء زيارته إلى إسرائيل. وعلى أي حال، فقد جاء الرد السوري على خطوة بيجن مغايراً تماماً لتوقعاته، إذ عمدت القيادة السورية إلى تصعيد المواجهة، بإدخال بطاريات صواريخ مضادة للطائرات إلى البقاع، فما كان من بيجن إلا أن أصدر أوامره بقصف تلك البطاريات، ولكنه تراجع عن ذلك بذريعة الأحوال الجوية. وتصاعدت نبرة التهديدات الإسرائيلية، ومعها حدّة رد الفعل السوري، وصولاً إلى حافة الانفجار العسكري، مع ما واكب ذلك من تحرك للدولتين العظميين، على الصعيدين، السياسي والعسكري. وبفعل نشاط المبعوث الأمريكي، فيليب حبيب Philip Charles Habib ،ورحلاته المكوكية، تم تجميد "أزمة الصواريخ السورية".

وفي أوج تصعيدها للتوتر في لبنان حول "أزمة الصواريخ السورية"، وبينما كانت تخوض صراعاً حاداً مع الإدارة الأمريكية، حول قضية تزويد المملكة العربية السعودية بطائرات الاستطلاع من نوع "أواكس" Airborne Warning And Control System "AWAC"، وكل ذلك في خضم معركة انتخابية صعبة، تغلَّب فيها القضايا السياسية الخارجية، وتحديداً مسألة "التسوية"، على القضايا الداخلية، من اقتصادية واجتماعية ـ أقدمت حكومة بيجن على قصف المفاعل النووي العراقي. وكان قصف المفاعل في بغداد سابقة أولى من نوعها في العالم، إذ لم يحدث أن أقدمت دولة، من قبلُ، على مهاجمة المنشآت النووية لدولة أخرى. ومع ذلك، خرجت القيادة الإسرائيلية إلى العالم، لتواجه كل نقد لما اقترفته يداها، ولترفض أي إدانة لعملها هذا. وتشير الدلائل إلى تواطؤ الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل في التخطيط لهذه العملية وإعدادها، فضلاً عن تزويدها بالمعلومات ووسائل التدمير من أجهزة ومعدات، وفوق ذلك، قدمت واشنطن دعمها السياسي لإسرائيل على الصعيد الدولي، وحمتها من أي عقوبات تترتب على إدانتها في مجلس الأمن.

ومن الواضح أن حكومة بيجن أرادت بفعلتها تلك، ترسيخ مصداقية قوّتها الرادعة على صعيد الشرق الأوسط. فقد كان من الأهمية بمكان للآلة العسكرية الإسرائيلية إبراز قدرتها على العمل العسكري بعيداً عن حدودها، وذلك لإيصال رسالة واضحة إلى كل من يهمه الأمر، بأنها مستعدة للذهاب إلى أقصى الحدود، غير عابئة بالنتائج المترتبة على عملها، في سبيل الاحتفاظ بتفوّقها العسكري، ومن ثمّ، بمصداقية قدرتها على الردع. وبتدميرها المفاعل النووي العراقي، أرادت إسرائيل أن ترسل إنذاراً إلى جميع دول المنطقة، بأنها قادرة بل مستعدة لضرب منشآتهم النووية، إذا اقتضت مصلحتها ذلك. وهي كأنما أرادت أن تبرهن على عنفها، أو حتى جنونها، في سبيل تثبيت قدرتها الرادعة، وإبراز فاعلية الأسلحة، التي تمتلكها.

وإذا انتقلنا إلى نتائج "حرب تموز الإسرائيلية ـ الفلسطينية"، في يوليه عام 1981، نجد أن هناك شبه إجماع في إسرائيل، على أن القيادة الإسرائيلية فشلت في تحقـيق أهدافها من عملها العسكري ضد الفلسطينيين في لبنان. وبذلك، خرج الفلسطينيون أكثر قوة، كنتيجة مباشرة لتلك المعركة.

وعقب فوزه في الانتخابات العامة للكنيست العاشر، وقبل أن يشكل حكومته الجديدة، بادر بيجن إلى تصعيد عدوانه على المواقع الفلسطينية في لبنان، بحجة حماية أمن المستوطنين اليهود في شمالي فلسطين. وكأن بيجن يعلن أنه بذلك إنما يَبَرّ بوعده، الذي قطعه على نفسه، أثناء المعركة الانتخابية، بألاّ تسقط قذيفة كاتيوشا واحدة على المستوطنات الشمالية بعد الآن، وبذلك، انطلقت "حرب تموز" بمبادرة إسرائيلية، على غرار الخطة التي وضعتها قيادة الأركان الإسرائيلية، والقاضية بتكثيف الضربات وتصعيدها على مواقع الانتشار العسكري للقوات الفلسطينية، وصولاً إلى تدميرها بضربة قاضية، ووفقاً، لإستراتيجية بيجن، في وضع المبادرة الأمريكية المرتقبة، إلى حيث يريدها هو.

وكانت إدارة الرئيس ريجان، قد أعلنت عزمها على دعوة القيادة السياسية في كل من مصر وإسرائيل والأردن والسعودية لزيارة واشنطن، وإجراء محادثات، تنير أمامها الطريق في طرح مبادرتها الجديدة، الرامية إلى بناء تشكيل سياسي ـ عسكري في المنطقة، يكون هدفه الأساسي حماية المصالح الأمريكية في نفط الخليج. وكان ما يشغلُ بيجن من المبادرة تأمين استئثار إسرائيل في هذا التشكيل، بموقع متميز، يتناسب مع وزن إسرائيل العسكري في المنطقة، وضمان استمرار "العلاقة الخاصة" بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثمّ، استمرار الدعم الاقتصادي الأمريكي، من دون تقديم تنازلات في البعد الفلسطيني من الصراع العربي - الإسرائيلي. وكانت سياسة بيجن المعلنة هي ضم المناطـق المحتلة عام 1967، في الوقت المناسب. غير أن انخراط إسرائيل في محور سياسي - عسكري متعدد الأطراف في المنطقة، إلى جانب دول عربية أخرى، يصطدم بعقبة الحضور السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتمثيلها الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يعمل بيجن على إزالة هذه العقبة، التي تتركز حالياً في لبنان. ومن هنا كان خياره، الرامي إلى طرد قوات الردع العربية من لبنان، وتصفية الوجود الفلسطيني المسلح فيه، ومن ثمّ الانفراد بالحركة الوطنية اللبنانية وتطويعها لإرادة إسرائيل.

وكان لبيجن في خياره اللبناني حساب آخر، يتعلق بمشروعه للحكم الذاتي في المناطق المحتلة عام 1967، الذي يتعارض مع مفهوم مصر، لِمَا تم الاتفاق عليه في "كامب ديفيد". فبيجن يريد ضم هذه المناطق، ومن ثم، فإنه لا يقبل بغير سيادة إسرائيل عليها، انطلاقاً من "حقها التاريخي" فيها. بل لا يريد أن يُعطي لأي طرف عربي موطئ قدم في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال "التسوية"، لأن من شأن ذلك أن يعرقل عملية الضم في المستقبل. وفي المقابل، تعمل إسرائيل على فرض "الحكم الذاتي"، كما تراه من جانب واحـد، وهو جوهر "مشروع شارون"[2]، الذي يسعى إلى تحقيقه منذ توليه وزارة الدفاع الإسرائيلية، ومن ثم، إدارة المناطق المحتلة. ومن المؤكد أن تصفية المنظمة الفلسطينية في لبنان، يمكن أن يسهّل على أرييل شارون Ariel Sharon تنفيذ مشروعه.

وترك بيجن لآلته العسكرية الحبل على الغارب. فراحت هذه، بكل أسلحتها، تصب حمم الموت في أنحاء لبنان، وتزرع الدمار في مدنه وقراه، والخراب في سهوله وجباله، ولمدة أسبوعين كاملين. وتصدت "القوات المشتركة" الفلسطينية واللبنانية، لهذا العدوان، ببسالة، وردّت على القصف البري والبحري والجوي بقصف مضـاد ومركز على المستوطنات اليهودية في شمالي فلسطين المحتلة. وفوجئت القيادة الإسرائيلية بكثافة الرماية المضادة ودقتها، بما لم تعهده سابقاً، ولم تُعد العدة لمواجهته، مما أدى إلى هجرة إسرائيلية واسعة النطاق من الشمال الإسرائيلي إلى الداخل. واضطرت القيادة الإسرائيلية إلى القبول بوقف هذا القصف المتبادل، عبر الحدود اللبنانية، والتزمـت قيادة "القوات المشتركة" بذلك. وقد لخّص أحد المراقبين الإسرائيليين، حاييم تسور، تقييم أوساط إسرائيلية لنتائج ذلك العدوان على لبنان، بالقول: "إن النقطة الأكثر مدعاة للقلق، بالنسبة إلينا، عند تقييم التطورات في لبنان، هي الإحساس بانعدام أي شكل من التخطيط والفكر الاستراتيجيين في إسرائيل، لأن ثمة خللاً في عملية التفكير والقرار السياسي عندنا. والنتيجة أن التطورات، التي كان في الإمكان توقعها سلفاً، جاءتنا مفاجأة، واليوم تجد الحكومة نفسها أسير مبالغات مناحم بيجن اللفظية، من خلال فقدان الكثير من المرونة".

وفي ضوء الفشل الإسرائيلي، تحركت الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن، من أجل إصدار قرار بوقف إطلاق النار. وأوحت أيضاً إلى مبعوثها، فيليب حبيب، بالتحرك من أجل الغاية نفسها. كما تحرك قائد قوات الطوارئ الدولية في لبنان، من أجل الحصول على موافقة الأطراف المعنية لوقف إطـلاق النار، فتم ذلك. وهكذا، فشل مخطط بيجن في تحقيق هدفه السياسي على الصعيد الفلسطيني، الذي استطاع أن يصمد في مواجهة العدوان الإسرائيلي.

وقد لخص المعلق العسكري لجريدة "يديعوت أحرونوت"، إيتان هابر، على هذا الوضع، بقوله: "لقد اتضح أن المناعة النفسية، لدى جزء كبير من السكان المدنيين في حاجة ملحّة إلى التشجيع وحقن الدم. والخلل القومي في هذا الشأن كبير جداً. وقد اتضح، كما هو الحال دائما، أن الأكثر صراخاً ليس بطلاً، بالضرورة. ومن الصعب العيش في ظل هدير صواريخ الكاتيوشا المخيف والمدمر. ولـكن لا نستطيع أن نعفي أنفسنا من مناقشة كل ما حدث في مدن الشمال، عندما يحين الوقت. والقصص التي تصل من هناك محزنة جداً".

إن فشل بيجن في تحقيق أهدافه من "حرب تموز"[3]، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، لا يعني تراجعه عن سياسته إزاء منظمة التحرير الفلسطينية، أو مشروعه للحكم الذاتي. غير أن النصر، الذي حققته "القوات المشتركة الفلسطينية ـ اللبنانية"، شكل درساً في المواجهة بينها وبين إسرائيل، التي استفادت منه في المواجهة التالية من الصراع.

وعلّق إسحاق رابين على تلك الحرب، في جريدة "يديعوت أحرونوت"، بقوله: "على الرغم من الضربات الشديدة، التي أنزلها سلاح الجو بقيادات لبنان وقواعده، فقد واصل الفلسطينيون قصفهم لمستوطنات الشمال، الذي يشهد، في هذه الأيام، حرب استنزاف، تعطل الحياة العادية في إصبع الجليل والجليل الغربي. والجهود الكبيرة، التي بذلها الجيش الإسرائيلي، لم تُؤد بعد إلى إسكات مصادر النيران بصورة كاملة. وهناك شك في التوصل إلى ذلك، حتى إن استمرت العمليات العسكرية بالأسلوب الحالي. إنها لحرب استنزاف في كل شيء. إضافة إلى ذلك، فكلما استمرت الحرب بهذه الصورة، فإننا نشهد تأزماً متزايداً في العلاقـات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فالوضع على الجبهتين السياسية والعسكرية، لا يمكن أن يستمر الآن على هذا المنوال. إن المسألة الرئيسية، التي يجب على الحكومة أن تجد حلاً لها، هي حرب الاستنزاف، ولا يجوز أن تقع مثل هذه الحرب. ويبدو لي أنه يجب علينا، في المرحلة الحالية، استنفاد جميع الإمكانات للتوصل إلى وقف إطلاق شامل على الجبهة اللبنانية، بالاستعانة بخدمات الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دون ذلك، لن يتهيّأ أي احتمال لتسوية المشكلات الداخلية في لبنان. وما دامت مشكلات لبنان هذه قائمة، فستواصل المنظمات الفلسطينية واللبنانية العمل ضد دولة إسرائيل. ومن الجائز جداً ألاّ يصمد وقف القتال طويلاً، وربما يستمر أسابيع أو بضعة أشهر فقط. وإن خرق المنظمات الفلسطينية لوقف إطلاق النار، في مثل هـذه الظروف، سيمكن إسرائيل من القيام بعملية عسكرية أشمل وأكثر فاعلية من العمليات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في هذه الأيام، وفي مثل هذه الحالة، تتهيأ أيضاً مهلة لإعداد منطقة الشمال بصورة أفضل، ومن أجل استعداد سياسي، يضمن النتائج المرغوبة".

ويتضح من هذا التعليق، أن إسرائيل لا ترغب الدخول في حرب استنزاف طويلة بينها وبين الفلسطينيين، وأن أفضل الحلول المتاحة أمامها، هي تنفيذ عمل عسكري أكثر شمولاً وفاعلية في الجنوب اللبناني، وهذا ما حدث فيما بعد في حرب عام 1982.

ويرى عضو الكنيست الإسرائيلي، يوفال نئمان، أنـه "يجب احتلال جنوبي لبنان. فالحل، في رأيه، يَكْمُن في إبعاد الفلسطينيين إلى خط نهر الزهراني تقريباً. فعندما يصبح الشمال بأسره خارج مدى قذائف الكاتيوشا والمدفعية، سنتمكن من حماية مستوطناتنا في الشمال. ولا أعتقد أن هناك طريقاً آخر أفضل من الاحتلال الفعلي، شريطة أن تتوافر لنا القدرة على الصمود السياسي، بعدم الانسحاب، إذا ما قرر مجلس الأمن ذلك. فإذا كنا غير مستعدين لمواجهة الضغط، فمن غير المجدي تنفيذ العملية".

ثانياً: الأبعاد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لغزو لبنان، عام 1982

1. الأبعاد السياسية

في الخامس من يونيه 1982، أقدمت إسرائيل على عملية غزو شاملة واسـعة النطاق للبنان، انتهت باحتلال إسرائيل لمعظم الأراضي اللبنانية، بما في ذلك العاصمة بيروت (اُنظر شكل المعالم الرئيسية للعاصمة)، وبخروج قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان، وتوزعها على البلاد العربية. وتخلل الغزو أبشع مذبحة شهدها التاريخ المعاصر، وهي تلك التي وقعت في مخيمَي "صبرا" و"شاتيلا" الفلسطينيَّين، وراح ضحيتها ما يزيد على ثلاثة آلاف فلسطيني.

ولا شك أن الحرب الفلسطينية ـ الإسرائيلية في لبنان، التي استمرت لمدة سبعة وسبعين يوماً، تُعد نقطة فاصلة في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، سواء في الآثار التي تركتها في حركة المقاومة الفلسطينية، أو في مواقف الدول العربية كما تبلورت بعد الغزو، أو باعتبارها فاتحة لحقبة جـديدة، أطلق عليها الكثيرون "الحقبة الإسرائيلية" في المنطقة.

أ. أهداف الغزو

لم يكن إقدام إسرائيل على الغزو الشامل للبنان مفاجأة لأحد. فقبل الغزو بفترة طويلة، كانت جميع الأطراف تعلم تماماً، أن إسرائيل ترتب لخطوة عسكرية واسعة النطاق في لبنان. ومع مطلع عام 1982 تقريباً، كانت الخطة التفصيلية للغزو قد وضعت من قِبل أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي، بمشاركة رئيس الأركان ووزير الخارجية الإسرائيليين. وفي الفترة التي سبقت الغزو مباشرة، قام الإعلام الإسرائيلي بحملة واسعة النطاق، وحفلت الصحف الإسرائيلية بعشرات المقالات، التي تتحدث مباشرة عن الغزو القادم. فعلى سبيل المثال، كتب المحلل السياسي، زئيف شيف، في مقال بعنوان: حرب على الأبواب، ما يلي: "إن إسرائيل تتأهب لخوض الحرب في الشمال. المخربون ينتهكون وقف إطلاق النار، على الرغم من أنهم يخشون وقوع عملية عسكرية كبيرة. وإسرائيل من جانبها تقوم، عن قصد، بدفع الأمور حتى تؤدي إلى حدوث صدام. ويجب أن نقول هذه الكلمات بحزم. فليس صحيحاً أننا لا نرغب في غزو لبنان. كما يجب أن نوضح ذلك للأمريكان. وهناك عناصر ذات نفوذ، وعلى رأسها وزير الدفاع، يحبذون شن هذا الغزو، ويتخذون، بدهاء ومكـر، خطوات محسوبة، استعداداً لهذا الوضع، الذي ستضطر فيه إسرائيل، دون خيار، إلى غزو لبنان، حتى لو كان هذا مرتبطاً بالتورط في حرب مع سورية. وما دامت الحرب لم تنشب، فعلينا ألا نتوقف عن ذكر ذلك. فالصمت في هذا الموضوع، هو بمثابة عمل غير وطني".

ويقول إلياهو بن أليسار، في حديثه إلى جريدة "معاريف" الإسرائيلية، في الرابع عشر من مايو 1982، أي قبل عملية الغزو بنحو شهر، موضحاً حقيقة الإجماع في أوساط الحكومة الإسرائيلية على ضرورة شن حرب على لبنان، بهدف تدمير قواعد الفلسطينيين، وخلق حكومة لبنانية قوية، وكيف أن المسألة هي مسألة توقيت فقط،: "يجب أن تكون سياستنا واضحة. وتنفيذ هذه السياسة متروك للمؤسسات المخولة ذلك، مثل الحكومة، واللجنة الوزارية للدفاع، التي تقوم بتحديد التوقيت والحجم المناسبين، بناء على التفكير السليم والحكمة".

وقبيل الغزو، ومع بدايته، كان الهدف الإسرائيلي المعلن هو، كالعادة، "تحقيق الأمن الإسرائيلي". فقد أذاعت إسرائيل، في وقتها، أن الهدف من وراء العمليات العسكرية في لبنان، هو إبعاد التهديد، الذي يمثله الفلسطينيون الموجودون في لبنان، عن مستوطنات الشمال، وإخلاء منطقة بعمق 45 كم، إضافة إلى تحطيم البنية الأساسية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

والحقيقة أن الهدف الإسرائيلي المعلن، لم يكن إلا محاولة لإخفاء عدد من الأهداف والأطماع الأخـرى. ويمكن الإشارة إلى أربعة أهدافٍ مترابطة، قصدت إسرائيل تحقيقها، من وراء هذا الغزو الشامل للبنان.

(1) الأطماع الإسرائيلية في لبنان قديمة ومعروفة، فالخرائط الصهيونية تُدخل لبنان ضمن "حدود إسرائيل المستهدفة". والأطماع الإسرائيلية التاريخية في مياه الليطاني، على وجه الخصوص، أطماع قديمة ومعروفة أيضاً. لذا، يضع القادة الإسرائيليون، منذ فترة طويلة، على قائمة أطماعهم ضرورة احتلال جنوب لبنان، احتلالاً فعلياً ودائماً. ومنذ بداية الغزو لم تُهدر السلطات الإسرائيلية وقتاً، إذ بدأت تتخذ عديداً من الإجراءات الكفيلة بالتمهيد لبقاء احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني، وضمه في النهاية إليها. فإضافة إلى عملية "التطبيع" الواسعة النطاق، بدأ الإسرائيليون عمليات شراء واسعة النطاق للأراضي. وأُطلق العنان لجماعات الاستيطان الإسرائيلية، لتطالب بضرورة أن يعقب احتلال القوات الإسرائيلية للجنوب، برنامج استيطاني مكثف. وبدأ "رجال الدين" في إسرائيل ينقبون في "كتبهم" عن الفقرات، التي تثبت أن الجنوب جزء من "أرض إسرائيل الكبرى". باختصار، كان احتلال جنوب لبنان في مقدمة الأهداف الإسرائيلية من الغزو.

(2) في ما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية وقوات المقاومة في لبنان، لم يكن الهدف الإسرائيلي، كما أعلن، إبعادهما فقط عن نطاق التهديد لمستوطنات الشمال، وإنما كان الهدف محاولة الإبادة الكاملة لقوات المنظمة وبُنيتها الأساسية العسكرية، الأمر الذي يقضي عليها نهائياً، كقوة عسكرية مقاتلة. والتصور الإسرائيلي تمثل في أن مثل هذه الإبادة من شأنها، في النهاية، أن تقضي على منظمة التحرير نفسها، ليس فقط كقوة عسكرية، وإنما كقوة سياسية أيضاً.

(3) وفي ما يتعلق بلبنان، كان الهدف الإسرائيلي يتعدى احتلال الجنوب فحسب، إلى التحكم في مجمل التطورات على الساحة اللبنانية بأسرها، مستقبلاً. ففي مرحلة تالية لبداية الغزو، أعلن الإسرائيليون، صراحة، أن القوات الإسرائيلية لن تخرج من لبنان، إلاّ بعد إقامة نظام حكم لبناني موالٍ لإسرائيل، يقبل توقيع "معاهدة سلام" معهم، بالشروط الإسرائيلية، بطبيعة الحال. أي أن يصبح لبنان، في النهاية، جنوباً وشمالاً، "محمية" إسرائيلية.

(4) ثم هدف إسرائيلي أشمل، يكمن خلف الأهداف الثلاثة السابقة، وهو ترتيب الأوضاع في لبنان بالشكل الذي يخدم خطوات التوسع الإسرائيلي في المستقبل.

غزو لبنان، إذاً، جاء خطوة من خطوات التوسع الإسرائيلي في العالم العربي، خطوة مكمّلة لما سبقها من خطوات، وتخدم ما سوف يتلوها من خطوات أيضاً.

ترى إسرائيل أن عملية الغزو قد أدت إلى تحقيق أربعة جوانب أساسية، هي:

(1) أصبحت إسرائيل قوة عسكرية إقليمية عظمى، يُحسب لها ألف حسـاب. ويتباهى الإسرائيليون، في هذا الصدد، بأن الحرب أثبتت قـدرة إسرائيل على فرض ما تريد بقوة السلاح، وقدرتها على تحدي القوى العظمى نفسها. وفي هذا الصدد، يقول الكاتب الإسرائيلي، إسحق دفيتش: "يجب أن نعترف أننا خرجنا من هذه الحملة أكثر ثراء مما كنا عليه. ففي كل المعارك السياسية التي خضناها حتى الآن، أُمليت علينا شروط معينة، وهذا الإملاء كان من جانب الدول الكبرى … سيان من جانب الاتحاد السوفيتي أو من جانب الولايات المتحـدة الأمريكية. كذلك، فإن فرنسا وبريطانيا تسهمان بدورهما، في هذا الصـدد. وهذا الأمر قد وضح بشكل بارز، بعد حملة قادش، وبعد حرب يوم الغفران. وحدث الشـيء نفسه بعد معارك أخرى. وأود أن أقول إن هناك دولاً عظمى تدير سياسات عالمية، ولا يجول بخاطرها أن إسرائيل الصغيرة، سوف تتخذ موقفاً مستقلاً. وكان الخوف، كل الخوف، أن تفرض علينا القوى العظمى أوامرها بالانسحاب والتراجع. والتغيير الكبير الذي طرأ في هذه المعركة، هو أننا لم نَعُدْ صغاراً أمام الكبار. فإسرائيل لن تظهر في الساحة الدولية على أنها دولة صغيرة، تطيع أوامر الكبار. ومن الواضح أن مثل هـذا الموقف لم يكن ليحدث، لولا قوة جيش الدفاع الإسرائيلي، وقوة الحسم التي أظهرها، تلك القوة التي مكنتنا من اتخاذ هذا الموقف".

(2) يرى الإسرائيليون أن من أهم نتائج الغزو، نجاحهم في تحطيم القوة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويرون أن ثمة نتيجتين تترتبان على تحطيم المنظمة، وهما: أن المنظمة، كقوة عسكرية وسياسية، لن تقوم لها قائمة فعلية، بعد ذلك. وأن وضع المنظمة الجديد على هذا النحو، سوف يفقِدها استقلاليتها، ويؤدي إلى تبعيتها للدول العربية.

(3) سوف تؤدي حرب لبنان إلى تسهيل مهمة السلطات الإسرائيلية في خلق "زعامات" فلسطينية موالية في الضفة الغربية. مما سوف يسهل، بشكل عام، مهمة تنفيذ السياسة الإسرائيلية في الضفة وغزة.

(4) سوف يصبح لبنان في وضعه الجديد، المدخل الطبيعي لتوغل إسرائيل وارتباطها بالعالم العربي، خاصة في ظل تطبيع إسرائيلي واسع النطاق مع لبنان، وفي ظل حكومة لبنانية موالية لإسرائيل بشكل من الأشكال، خاصة أن تجربة التطـبيع مع مصر أثبتت عـدم جدواها، من وجهة نظر إسرائيل، إذ كان تطبيعاً من جانب واحد، ولا يتوقع تطوره.

إلى جانب الأهداف السابقة، كان لإسرائيل تطلعات إستراتيجية بعيدة المدى، سعت إلى تحقيقها. إذ كان هناك دوافع، داخلية وخارجية، أسهمت في بلورة القرار الإسرائيلي.

عسكرياً: يسجل الإنفاق العسكري في إسرائيل، إحدى أعلى النسب في العالم. ويحرص المسؤولون على الاحتفاظ بالمؤسسة العسكرية في أرفع مستوى، من التدريب والتجهيز والتسليح واليقظة، وتدرك القيادات الإسرائيلية، بمختلف مواقفها، أن المشروع الصهيوني ما زال في طور التنفيذ. وهو يحتاج، أكثر من أي شيء آخر، إلى قوة ضاربة، تتفوق على كل ما يستطيع الخصم حشده. إن هذا الجيش الذي تنفق إسرائيل عليه عدة مليارات من الدولارات، لا بدّ من استخدامه، لترجمة السياسة إلى حقائق على أرض الواقع.

سياسياً: لم يكن خافياً على صانعي القرار الإسرائيلي، حالة الخلاف والانقسام الخطرة، التي بلغها العالم العربي، ولا أجواء تأييد إدارة ريجان ودعمها لإسرائيل؛ ولا حالة الجمود والتردد، التي كانت تمر بها السياسة السوفيتية تجاه المنطقة؛ ولا الطريق المسدود، الذي وصلت إليه محادثات الحكم الذاتي.

والحقيقة أن الحشود العسكرية الإسرائيلية، بدأت تتجه نحو حدود لبنان الجنوبية، منذ فبراير 1982؛ وأن شارون كان زار لبنان، سراً، في يناير 1982، ليتفحص خطوات الغزو على الطبيعة؛ وأن التحرشات الإسرائيلية، بدأت في شهرَي أبريل ومايو 1982، بقصف المواقع الفلسطينية في الجنوب اللبناني.

ب. الإجماع السياسي في إسرائيل على الغزو

عندما بدأ الغزو، لم يكن ثمة خلاف على الإطلاق بين القوى السياسية الكبرى في إسرائيل، ولا على مستوى الرأي العام الإسرائيلي، حول الأهداف المعلنة للغزو. ولكن بعد فترة من الغزو، بدأت إسرائيل تشهد عدداً من أوجُه المعارضة للغزو على مستويات مختلفة.

وكان أكثر أوجُه المعارضة إثارة للاهتمام، تلك التي بدرت من الجنود والضباط الإسرائيليين، في الوحدات المرابطة في لبنان. وما لفت الأنظار إلى تلك المعارضة، هو أنها المرة الأولى، التي يبدي فيها جنود وضباط إسرائيليون اعتراضاً على مهام قتالية خلال العمليات العسكرية نفسها. وقد اتخذت معارضة الجنود والضباط الإسرائيليين عدة أشكال، منها: " تقديم العرائض المطالبة بالإعفاء من الخدمة، والمطالبة بعودة الجنود من لبنان، وإقالة شارون في بعض الأحيان". ومنها أيضاً تكوين جماعات معارضة ضد الغزو من الجنود والضباط الاحتياطيين، والعائدين من لبنان، مثل "جماعة جنود ضد الصمت" وجماعة "هناك حد".

ومن أبرز مظاهر المعارضة للغزو داخل إسرائيل، خروج التظاهرات، الكبيرة نسبياً، ضده، والتي ضم بعضها ما يقرب من مائة ألف، وهي التظاهرات التي نظمتها، في الأساس، حركة "السلام الآن". وكذلك تلك البيانات التي أصدرتها شخصيات إسرائيلية معروفة، معارضة للغزو ومؤيدة لحقوق الفلسطينيين، سواء في داخل إسرائيل أو خارجها، مثل البيان الذي أصدره الجنرال والكاتب الإسرائيلي المعروف، متيناهو بيليد، بالاشتراك مع عصام سرطاوي، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في أوروبا، وكذلك البيان الذي أصدره ثلاثة من كبار الشخصيات اليهودية، هم فيليب فلوتزتنك، وناحوم جولدمان، ومنديس فرانس.

وعلى الرغم من أوجُه المعارضة الإسرائيلية هذه، إلا أن "الإجماع" على الغزو، بشكل عام، كان إجماعاً عاماً في إسرائيل، الأمر الذي يمكن تبيّنه في الأمور الثلاثة التالية:

(1) كانت معارضة الغزو ـ في إسرائيل ـ محدودة في إطار معين. فهي لم تبدأ إلاّ بعد فترة من بداية الغزو، وبسبب الخسائر الجسيمة، التي تكبدتها القوات الإسرائيلية في لبنان. بمعنى أنها لم تكن معارضة للأهداف السياسية للغزو، بما في ذلك توجيه ضربة قاصمة إلى منظمة التحرير، ثم إن حجمها كان محدوداً، قياساً بمواقف الإسرائيليين ككل.

(2) كانت مواقف المعارضة الكبرى، المؤثرة في إسرائيل، والمتمثلة في "المعراخ"، مؤيدة للغزو، وما خلافات المعراخ مع الحكومة إلا خلافات محدودة، تتعلق بامتداد الغزو إلى ما بعد تحقيق الأهداف المعلنة. فمع بداية الغزو، أعطت المعارضة تأييدها اللامحدود إلى حكومة الليكود في مواقفها من الغزو، الأمر الذي وصل إلى حد سفر زعيم المعارضة، شيمون بيريز، إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، لشرح مواقف الحكومة، وجمع التبرعات لتمويل العمليات العسكرية.

(3) أدى الغزو، في النهاية، إلى ارتفاع شعبية مناحم بيجن، وشعبية حكومة الليكود، بشكل عام، وهذه الحقيقة أثبتتها استطلاعات الرأي، التي أُجريت في إسرائيل. وإذا كانت حركة "السلام الآن" قد استطاعت أن تنظم تظاهرات معارضة للغزو، ضمت مائة ألف، فقد خرجت تظاهرات تأييد لبيجن تفوق هذا العدد.

باختصار، شهدت إسرائيل بأسرها، على مستوى الساسة والرأي العام، باستثناء جماعات معارضة ضعيفة التأثير والفاعلية "إجماعا" شاملاً على الغزو وأهدافه ونتائجه. والسبب في هذا واضح، فقد نجحت الحكومة الإسرائيلية في إقناع الرأي العام الإسرائيلي، بأهمية الغزو وضرورته للأمن الإسرائيلي، "العقدة الأبدية للإسرائيليين.


 



[1] أ. في أكتوبر 1979، أعلن الرئيس كارتر فكرته حول إنشاء قوات الانتشار السريع، وأنها سوف تستخدم لمواجهة الطوارئ في أركان العالم قاطبة.

ب. في 23 يناير 1980، وفى أعقاب الغزو السوفيتي لأفغانستان، أعلن كارتر مبدأه `باعتبار منطقة الخليج مهمة للمصالح الأمريكية، وأنها تشكل أساساً لمواجهة أي قوة خارجية تحاول التحكم في منطقة الخليج العربي، كما يٌعَدّ أي تهديد للخليج العربي هجوماً على المصالح الأمريكية المهمة، ومن حق الولايات المتحدة الأمريكية استخدام قوّتها العسكرية لمواجهتها`. 

ج. في الأول من مارس 1980، أعلن رسمياً إنشاء قوة الانتشار السريع، ويكون ضمن مهامها، تأمين مصادر النفط، وتأمين نظم الحكم في منطقة الخليج. 

د. في الأول من يناير 1983، أُنشئت القيادة المركزية الأمريكية للسيطرة على قوات الانتشار السريع، حيث تمتد منطقة عملياتها من جنوبي غربي آسيا حتى أفغانستان

[2] تبنى شارون هذا المشروع، وهو وزير الدفاع. وينقسم المشروع إلى شقَّين: الأول، ضم الضفة الغربية كلها في إطار إسرائيل الكبرى، مع التوسع في بناء المستوطنات في المناطق الإستراتيجية المهمة (غرب نهر الأردن ـ مناطق المرتفعات حول القدس،إلخ)، وتجميع المستوطنات المتقاربة، في مدن إسرائيلية كبيرة. ويمكن، في هذا النطاق، وجود نوع من الحكم الإداري للفلسطينيين، في إطار سيطرة إسرائيلية كاملة على الدفاع والأمن والمياه والاقتصاد. الثاني، وهو شق أمني، بوجود ملموس للقوات الإسرائيلية في النقط الحاكمة في الضفة الغربية، على أن تنظم على خطوط متتالية، وتكثف في المناطق الدينية والسياحية،  لتحقيق سيطرة كاملة على الضفة

[3] استمرت حرب تموز (يوليه)، 14 يوماً في الفترة من 10 إلى 24 يوليه 1981. بدأت عندما هاجم الطيران الإسرائيلي مواقع المدفعية وصواريخ `الكاتيوشا`، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، من صيدا شمالاً وحتى النبطية جنوباً. وفي اليوم التالي، تُبُودلت النيران بين الجيش الإسرائيلي وقوات سعد حداد، من جانب، ورجال المقاومة الفلسطينية، من جانب آخر. وردت الكاتيوشا الفلسطينية، فأصابت 14 إسرائيلياً من سكان `كريات شمونة`. وأدّى ذلك إلى مهاجمة الطيران الإسرائيلي، ولمدة ثلاثة أيام متتالية، بدءاً من 12 يوليه، منطقتَي الدامور والناعمة. وفي اليوم التالي، قصفت المدفعية الفلسطينية مناطق نهاريا وكريات شمونة ومواقع سعد حداد. وقُتل في نهاريا 3 أشخاص وجرح 13 شخصاً. وسقط 20 جريحاً في كريات شمونة وإصبع الجليل. وخلال الفترة من 16 إلى 23 يوليه، شنّت إسرائيل عدة غارات جوية على جسرَي الليطاني والزهراني، وقلعة الشقيف، وهضبة أرنون، والنبطية، ومصب نهر الزهراني. وبالمثل، ردّت الصواريخ الفلسطينية بقصف مستعمرات شمالي إسرائيل، في إصبع الجليل ونهاريا، وقتل 5 مواطنين إسرائيليين وجرح 46 فرداً. وفي 24 يوليه1981 توقف إطلاق النار

[4] تمثل المياه الجوفية 58% من مصادر المياه المتاحة، أمّا مياه الأمطار والأنهار، فلا تتعدى 25%