إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1982، (سلام الجليل)





مراحل وتطور أعمال القتال
الهجوم على لبنان
المعالم الرئيسية للعاصمة
الحجم والأوضاع الابتدائية للجانبين
تحديد مواقع بطاريات الصواريخ
بطاريات أرض/جو




الفصل الأول

ج. المواقف العربية من الغزو

اتسم الموقف العربي، منذ بداية الغزو، بقدر كبير من السلبية، إذ إن الحكومات العربية بأسرها، تركت قوات المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية تقاتل وحدها، طوال فترة الغزو. ولم تقدم لها سـوى المساعدات الطبية، وبيانات الإدانة والتنديد بالغزو.

والمواقف العربية ـ على هذا النحو ـ يسهل تفسيرها. فإضافة إلى عجز الدول العربية، عملياً، عن تقديم أي مساعدات عسكرية للمقاومة الفلسطينية ـ اللبنانية، فهناك العامل الأهم، والمتمثل، كما يرى الكثيرون، في رضى الدول العربية عمّا يحدث للمقاومة الفلسطينية، في لبنان. وتفسير ذلك، أن الدول العربية، منذ فترة، وهي راغبة في إنهاء القوة العسكرية لمنظمة التحرير بشكل من الأشـكال، لأن تلك الدول كانت راغبة في تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والعقبة الأساسـية التي وقفت دوماً دون تحقيق مثل هذه الرغبة العربية، عملياً، هو الوجود الفلسطيني المسلح.

الموقفان، المصري والسوري، ووجهة النظر الإسرائيلية تجاههما

(1) الموقف المصري

كان يحكم الموقف المصري عدة عوامل رئيسية:

العامل الأول: إن معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، قد أبعدت مصر عن مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، نتيجة للقيود التي فرضتها على حركة مصر العسكرية.

العامل الثاني: الظروف التي كانت تمر بها مصر، نتيجة لمقاطعة بعض الدول العربية لها، بعد توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل.

العامل الثالث: الرؤية المصرية إلى ضرورة إيجاد حل سلمي للمشكلة الفلسطينية، وانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، في الضفة الغربية والجولان.

العامل الرابع: إن الظروف الدولية والإقليمية، غير مواتية لتصعيد العمل العسكري ضد إسرائيل.

وقد علّقت الصحافة الإسرائيلية على الموقف المصري، بالقول: "إن العامل الأساسي، المفسّر لعدم تجاوز مصر، في مواقفها من الغزو، حدود المساعي الدبلوماسية والمساعدات الطبية، هو خشيتها من القوة العسكرية الإسرائيلية الضاربة، ونجاح معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، في تحجيم دور مصر، ووضع قيود على حركتها.

(2) الموقف السوري

أمّا بالنسبة إلى الموقف السوري، فعلى الرغم من أن لدى سورية من القوات ما يمكن أن يحارب ضد إسرائيل، ويوقع بها المزيد من الخسائر، إلاّ أنها حرصت، منذ بداية الغزو، على تجنّب أي شكل من أشكال المواجَهة المباشرة، بين القوات السورية والقوات الإسرائيلية، حتى لا توسع نطاق المواجَهة، ليشمل الجولان، كذلك. وقد تصبح معركة خاسرة بالنسبة إلى سورية، خاصة مع السلبية التي وجدتها في الموقف السوفيتي.

وتفسر إسرائيل الموقف السوري، بالقول: "إن سورية تراهن، منذ البداية، وعلى الرغم من مواقفها المعلنة، على إمكان التوصل إلى شكل من التسوية، ولو الضمنية، مع إسرائيل، حول لبنان، وحول موقف سورية من الصراع العربي ـ الإسرائيلي بشكل عام. ومثل هذه التسوية يقوم على التغاضي عن الوجود الإسرائيلي في جنوبي لبنان، في مقابل احتفاظ سورية بوجودها ونفوذها في شمالي لبنان، في منطقة البقاع".

وعن الموقف السوري، يقول البروفيسور إدوارد لوتواك، الأستاذ اليهودي، في جامعة جورج تاون الأمريكية: "إننا في ذروة مسيرة طويلة الأمد، آخذة فيها مشاكل الأمن الرئيسية لإسرائيل في التضـاؤل. ففي عام 1948، كان لبنان، هو الآخر، يشكل تهديداً حقيقياً لأمن إسرائيل. وفي عام 1967، خرج لبنان من إطار دائرة العـداء. وفي عام 1973، خرج الأردن أيضاً من مثل هذا الإطار. وفي عام 1978، خرجت مصر، كذلك، من هذا الإطار. وخلال هذه الحرب، بقيت سورية، وحدها، هي العدو الرئيسي لإسرائيل. ولكنني أرى أن سورية الآن على بداية طريق الخروج من هذا الإطار، فقد اختارت وقف إطلاق النار، على الرغم من أنها قادرة، من الناحية العسكرية، على الاستمرار في القتال وقتاً أطـول. كما قررت سورية التخلي عن دورها، كمدافع رسمي عن منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك دليل حَسَن على هبوط درجة الحماس، الذي جرّها إلى هذه المواجـهة. كما أنني أرى أن السوريين، سوف يتفرغون لما يدور مع عدوهم الأول، والأكبر، العراق. فإذا انتصرت إيران، حليفة سورية في حرب الخليج، فسوف يتفرغ نظام الرئيس حافظ الأسد، ويوجّه طاقاته إلى التوسع السياسي في العراق. وإذا خلص العراقيون من هذه الحرب، فإن نظام البعث العراقي، سوف يوجّه كل قواه من أجل مواجَهة شرسة أكثر مما كان عليه الأمر في الماضي، ضد دمشق. وفي كل الأحوال، فإن الاهتمام السوري الأكبر، أخذ، الآن، في التحول إلى جبهة العـراق. ولذلك، فإن سورية قد وصلت إلى نتيجة مفادها أن ثمن المواجَهة مع إسرائيل باهظ النفقات، فقد أضعفت الظروف الإستراتيجية الرئيسية الحماس السوري للحرب".

ومن بين الاحتمالات، التي يراها البروفيسور إدوارد: "اتفاق حول مستقبل الجولان، مقابل موافقة إسرائيل على الوضع الحالي للسوريين في شمالي لبنان والبقاع. ومن المحتمل أن يكون هناك اتفاق حول تأجير هضبة الجولان السورية لإسرائيل، ونزع سلاح الهضبة، وإيجاد حكم مشترك (سيادة مشتركة) فيها. وأن مصلحة سورية في الوصول إلى تسوية مع إسرائيل قد ازدادت الآن، لأنها تسعى إلى تحسين علاقتها بالغرب، وإسرائيل هي التي تحول، في الواقع، دون حدوث التقارب بين سورية والغرب. ولذلك، فسورية في حاجة ماسة إلى السلام مع إسرائيل على غرار ما فعلت مصر".

د. الموقف الأمريكي من الغزو

أمّا بالنسبة إلى الموقف الأمريكي، فلم يكن فيه جديد في سياق العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية التقليدية، من زاوية التأييد، والدعم الدائم وغير المشروط للموقف الإسرائيلي. فإضافة إلى عِلم الولايات المتحدة الأمريكية المسبق بخطة الغزو وإقرارها لها، فقد حرصت طوال فترة الغزو على إعلان تأييدها للأهداف الإسرائيلية من الغزو، والعمل على عدم صدور قرارات من مجلس الأمن تدين إسرائيل، أو تطالبها بالانسحاب.

وتفسير الموقف الأمريكي على هذا النحو، هو التفسير التقليدي نفسه لمختلف أوجُه الدعم والتأييد الأمريكية لإسرائيل في سياستها بشكل عام. فإضافة إلى النفوذ الصهيوني التقليدي في الولايات المتحـدة الأمريكية، يبدو أن واشنطن نظرت إلى الخطوة الإسرائيلية في لبنان على أنها فاتحة لعصر من "السيطرة الأمريكية الشاملة" في المنطقة العربية، وبوصفها مؤشراً إلى القدرة الإسرائيلية المتفردة على حماية المصالح الأمريكية في المنطقة العربية، خاصة بعد أن ثبت إخفاق مفهوم "الإجماع الإستراتيجي"، الذي حاولت الإدارة الأمريكية أن تدفع دولاً معينة إلى تبنّيه، والقاضي بتجميع هذه الدول في مواجهة ما أطلق عليه "الخطر السوفيتي".

هـ. موقف الاتحاد السوفيتي من الغزو

تأخر تأييد السوفيت لمنظمة التحرير، إذ لم ينظروا إليها كعنصر مهم في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وتطور اهتمام الاتحاد السوفيتي بالمنظمة عندما بدأت الدول العربية، في أواخر الستينيات، تلعب بورقة القضية الفلسطينية، ثم ازداد اهتمامه بها، في السبعينيات، عندما أُدخلت كعامل مؤثر في دائرة الصـراع العربي ـ الإسرائيلي، وهو ما حوّل القضية الفلسطينية إلى عنصر مهم في التنافس السوفيتي - الأمريكي في المنطقة. ومن الواضح أن التأييد السوفيتي، كان دائماً، تأييداً تكتيكياً. فقد نظرت موسكو إلى المنظمة على أنها "حركة تحرير" مثل المنظمات الأخرى في العالم. وعلى غرار ما جرى مع حركات التحرير الأخرى، طور الاتحاد السوفيتي علاقته بالمنظمة، مثلما تتطور مراحل أي حل من أجل المستقبل، وحتى يجد له صديقاً جديداً في المنطقة، وورقة أخرى يستخدمها ضد الولايات المتحدة الأمريكية. من أجل هذا الهدف، فإن بيع الاتحاد السوفيتي السلاح لمنظمة التحرير الفلسطينية، لم يمثل مشكلة. فقد كان لدى المنظمة أموالاً طائلة، وتقديم المساعدة والتدريبات العسكرية للمنظمة الفلسطينية، كان يسير بمحاذاة العلاقات السوفيتية بمختلف الحركات. وعلى الرغم من هذا، فإن موسكو لم تكن على استعداد أن تعرّض نفسها لأي نوع من الأخطار، قد يؤدي بها إلى نوع من المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لذا، كان هذا هو السبب في عدم تأييد السوفيت لسورية أو تشجيعها على الدخول في حرب شاملة ضد إسرائيل في تلك الأزمة، بل حثّوا الولايات المتحدة الأمريكية إلى ممارسة ضغوط على إسرائيل لوقف المصادمات مع القوات السورية. فواقع الأمر أن التزام القوتين العظميين تجاه أطراف الصراع في الشرق الأوسط، يختلف تماماً عن التزامهما تجاه أي أطراف أخرى للصراع في المناطق الأخرى، كأفريقيا مثلاً. فهذا الالتزام قوي إلى درجة أنه من الممكن أن يدفع بالقوتين إلى صراع أو مواجهة فيما بينهما.

والواقع أن الطابع التكتيكي للعلاقات بين الاتحاد السوفيتي ومنظمة التحرير، حال دون تقديم الدعم اللازم لها في هذه الحرب. ذلك أن التوجه الذي كان سائداً لدى الزعماء السوفيت، منذ وقت طويل، هو تفضيل العلاقات مع الدول على العلاقات بالمنظمات أو الحركات. كما أنهـم فقدوا ثقة ياسر عرفات بالأسلوب السـياسي الذي كانوا قد طرحوه عليه، وقد كان هناك احتمال أن يزداد ثقل رجال جبهة الرفض في منظمة التحرير الفلسطينية، الذين يستخدمون أسلوب الإرهاب الدولي للتعبير عن سخطهم ومطالبهم، وهو الأسلوب الذي لا يوافـق عليه الاتحاد السوفيتي. وكانت النظرة السائدة هي أن السوفيت، سيحاولون أن يبادروا أو يشتركوا على الأقل في إيجاد حل لمشكلة لبنان على حساب الفلسطينيين، وأنهم لن يفعلوا شيئاً تجاه المنظمة أكثر مما فعلوه حتى الآن. ومن ثم، فإن الموقف السـوفيتي تجاه حرب لبنان كان حريصاً على ألاّ يصطدم بالولايات المتحدة الأمريكية وألاّ يتصاعد الموقف بين القوات الإسرائيلية والقوات السورية المتمركزة في لبنان، مما يضع السوفيت في موقف صعب.

و. الموقف الفلسطيني في الضفة الغربية

تعاظم دور العناصر الوطنية وقوّتها واستمرار ارتباطها الفعلي، وعلى أقلّ تقدير، ارتباطها المعنوي بمنظمة التحرير الفلسطينية. وفشلت كل المحاولات الإسرائيلية، في تشكيل إدارة مدنية للأراضي المحتلة، كبديل من المجالس الوطنية، التي كان يتبوأها الوطنيون، الذين عُزلوا بعد قدوم حكومة الليكود.

2. الأبعاد الاقتصادية للغزو الإسرائيلي

يمكن، من خلال رصد معطيات الهيكل الاقتصادي الإسرائيلي، عشية غزو لبنان في يونيه 1982، اكتشاف إلى أي مدى كان قرار الحرب، هذه المرة، يعتمد على حسابات اقتصادية، كمرتكز أساسي في إدارة الصراع. ومن ثم، كان من المهم التعرض لهذه المعطيات، كبعد أساسي في عملية الغزو.

المعطيات الاقتصادية الإسرائيلية

اتسمت الأزمة الاقتصادية في إسرائيل، خلال النصف الثاني من عقد السبعينيات، بسمات خاصة وفريدة من نوعها، تميزها عن غيرها من الأزمات الدورية، التي مر بها الكيان الإسرائيلي (1955/1956 ـ 1965/1966). والحقيقة التي ينبغي الإشارة إليها أن الأزمة التي ظهرت في سياسات "الليكود" من مايو 1977، هي وليدة لعدة أزمات، أوضحها بنحاس سابير، وزير المالية العمالي، حينما قدم ميزانية عام 1974/1975، وربطها بالأزمة العامة التي يمر بها النظام الرأسمالي الدولي، وبأزمة أسعار الطاقة وتقلب أسـعار صرف العملات، وكذا حرب أكتوبر. ومن هنا، فالحديث حول مظاهر الأزمة والتضخم مثلاً، ومن ثم، التركيز على بحث السياسات المتبعة خلال تلك الفترة، يعد جزءاً مهماً.

أ. القطاع الزراعي

لعل الاقتصاد الإسرائيلي هو الاقتصاد الرأسمالي الوحيد ـ على حّد عِلمنا ـ الذي تسيطر فيه الملكية الجماعية والتعاونية (الموشاف ـ الكيبوتزات) على القطاع الزراعي (95%). بينما يسيطر الرأسمال الفردي على القطـاع الصناعي (80%). ومرجع ذلك إلى الطابع الاستيطاني الخاص للدولة العبرية. ففي المراحل الأولى من الاستيطان، ركزت الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية على امتلاك الأرض، لعدة أسباب، بعضها اقتصادي (إعاشة أعداد المهاجرين المتزايدة)، وبعضها الآخر سيكولوجي، يتعلق بالظرف التاريخي الخاص لليهودي.  ومثلت الأرض التجسيد الحي للحلم اليهودي الأسطوري لمفهوم "العودة إلى أرض الميعاد"، وتوارى إلى الخلف قليلاً هدف التصنيع اليهودي، الذي حكمته الشروط التاريخية نفسها المحددة للعلاقات بين المراكز الرأسمالية الإمبريالية القديمة وهوامش النظام الرأسمالي. ولذا، ظلت حركة الصناعة اليهودية قاصرة عن تلبية الحاجات الخاصة بالمهاجرين الجدد إلى أرض فلسطين.

وهكذا، جاءت المعطيات الجغرافية لتمثل تحدياً أساسياً وقيداً حقيقياً للحكم الصهيوني، باستيعاب أكبر عدد ممكن من يهود الشتات، "الدياسبورا".

فالأرض، بالنسبة إلى إسرائيل هي التمهيد المناسب لنجاح المشروع الاستثماري الأكبر. وقد تنبهت لذلك الدولة الصهيونية، بعد إعلان قيام إسرائيل في مايو 1948. فأصدرت قانون أملاك الغائب في 31 مارس 1950، ثم قانون تأميم كل مصادر المياه (عام 1959). ووكلت إلى شركة "ميكوروت" الحكومية مهمة السيطرة على مصادر المياه والإشراف على عمليات التوزيع، بالتعاون مع وزير الزراعة والمجلس المائي القومي.  وحتى عام 1967، كانت محصلة المصادرة الإسرائيلية للأراضي العربية منذ عام 1948، نحو 1.9 مليون فدان، لم يتعدَ المزروع منها 50% تقريباً، بسـبب ندرة مصـادر المياه، ومحدودية مياه الأمطار[4]. فعلى سبيل المثال، كان لضآلة المياه دور في الأضرار التي لحقت بمحصول القمح في جنوب إسرائيل، عام 1978، إذ لم يتجاوز 175 ألف طن.  ولهذا، كثفت إسرائيل من حركة البحث عن مصادر جديدة للمياه، مثل تحلية مياه البحر المتوسط والبحر الميت، باستخدام الطاقة النووية. وبالتوازي، اشتدت قبضة الحكومة الإسرائيلية على المصادر المتاحة ، وأصدرت تعليماتها بالاستيلاء على 7 مشـروعات للمياه، كانت تزود مختلف المزارع العربية بالضفة الغربية بالمياه. ووكلت إلى شركة "مكوروت" مهمة القيام بالتطوير اللازم لتدعيم حركة الاسـتيطان، وهي مشاريع مياه (قباطية/ عرابة ـ بيت أيبا/ نابلس ـ الزاوية/ نابلس ـ أبو عمود/ شـبتين في رام الله ـ بطن الفول في بيت لحم ـ دير شعر/ الخليل ـ السموع / الخليل).

وتقدر كمية المياه المتوافرة في هذه الآبار بنحو 1300 متر مكعب/ساعة، وهو ما يتيح لإسرائيل تدعيم حركة الاستيطان في مدن الضفة الغربية وقراها، واستكمال حلقة الحزام الأمني على الحدود الشمالية والشرقية.  كما أن الأزمة لم تقتصر على العملية الإنتاجية الزراعية فحسب، وإنما تعدتها إلى مشكلة تسويق الناتج من بعض الزراعات، وبخاصة الحمضيات.  فالمعروف أن السوق المفضلة للمنتجات الإسرائيلية، ظلت، لسنوات طويلة، السوق الأوروبية المشتركة. إلا أن الأزمة التي حلت بمجموعة السوق المشتركة، منذ عام 1974، والتي جاء في صدارتها تخبط السياسات الزراعية في دول المجموعة، والخلافات القائمة حول تسعير الحاصلات الزراعية لدى السوق، قد ألقت بظلالها على علاقة إسرائيل بالسوق الأوروبية. وفي عام 1982 بالتحديد، تعرض موسم قطف الحمضيات لكارثة، بسبب انخفاض الأسعار، مما دفع الكثيرين إلى ترك المحصول على الأشجار، وقدرت الكميات المتروكة بنحو 10 آلاف طن.

وهكذا باتت أزمة القطاع الزراعي الإسرائيلي، تتركز في ندرة المياه للتوسع الأفقي، الضروري لاستمرار معدل استيعاب المهاجرين على مستواه، إلى جانب ضعف القدرة التصديرية للأسواق التقليدية لإسرائيل.

ب. القطاع الصناعي

أدّت الظروف غير المواتية، التي أفرزتها حرب أكتوبر1973، وارتفاع أسعار النفط والطاقة، وتزايد حدّة مشاكل النظم الرأسمالية في أوروبا وأمريكا، إلى إلقاء ظلال كثيفة من الشك على قدرة الاقتصاد الإسرائيلي واستمراره في حالة من الانتعاش. وتأثر، بالطبع، القطاع الصناعي، فانخفض معدل النمو الناتج فيه إلى 4% عام 1974، ثم عاد ليسجل أسوأ مستوى للنمو عام 1975 (2%)، حتى اضـطر حاييم بارليف Haim Bar Lev ، وزير الصناعة والتجارة، وقتئذٍ، إلى أن يصرح لجريدة "معاريف": "بأن إسرائيل قد تضطر إلى إعلان سياسة طوارئ اقتصادية".

كما زاد من حدة الأزمة الاقتصادية، وبخاصة الناتج الصناعي، تولّى كتلة "الليكود" اليمينية السلطة في إسرائيل، في مايو 1977، والتي شرعت في تنفيذ برنامجها الاقتصادي، الذي ركز، بالأساس، على عملية التخصيص النسبي للموارد وعوامل الإنتاج، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل لم يسبق أن شهده التاريخ الاقتصادي لإسرائيل. وكان لتعاقب ثلاثة وزراء مالية في حكومة "الليكود" دلالة واضحة على مدى عمق الأزمة الاقتصادية والمالية في إسرائيل.

ج. التجارة الخارجية

حاول المسؤولون الإسرائيليون خفض العجز في الميزان التجاري، وتخفيض الواردات من الخارج، وزيادة الصادرات إلى العالم الخارجي، إلا إن معظم هذه المحاولات قد باءت بالفشل. فبينما استهدفت ميزانية عام 1980 زيادة الصادرات بمعدل 8.5%، فإن الممارسة العملية لم تسفر إلا عن زيادة لا تتعدى 3.7%، على الرغم من السياسة التقشفية التي مارستها الحكومة، والتي أدت إلى تقليص حجم الواردات بنسبة 7.5%، إلا أن الفجوة استمرت في التزايد، حتى دنت عام 1981، من 1.8 مليار دولار، بسبب ارتفاع أسعار الواردات، بفعل الموجة التضخمية العالمية.

ومن الواضح أن المساعدات الأمريكية، كان لها دور كبير في تعويض إسرائيل عن العجز في الميزان التجاري. فخلال السنوات الخمس (1977ـ1981)، قدّر المتوسط السنوي للمساعدات الأمريكية (منح ـ قروض ميسرة ـ برامج تدريب ـ مساعدات عسكرية واقتصادية. إلخ)، بنحو ملياري دولار. وبعد غزو لبنان، ارتفع إلى 3مليارات دولار. هذا فضلاً عن تبرعات الجاليات اليهودية في الخارج، والتي تتراوح ما بين 200و220 مليون دولار سنوياً. ومن ثم، يمكننا القول إن جزءاً كبيراً من مستوى الطلب الفعلي والمعيشة في إسرائيل، يتم تحويله من الخارج، وإن حجم هذه المساعدات يمثل 18ـ20% من الناتج القومـي.  علاوة على ذلك، فإن المساعدات اليهودية لإسرائيل، في صورة تشجيع حركة السياحة إلى إسرائيل، والتي قفزت عائداتها من أقلّ من 500 مليون دولار، عام 1976، إلى نحو مليار دولار، عام 1981، هذه المساعدات تدهورت بشكل واضح، عام 1982، بنسبة 30ـ40%، وبهذا، تكتمل لدينا صورة التحويلات الخارجية، التي تؤدي دوراً مهماً في دورة التشغيل والدخل في إسرائيل.

د. المديونية الخارجية، وخدمة الدين

مثّل النصف الثاني من عقد السبعينيات نقطة بارزة في تاريخ الأزمات الاقتصادية الدورية، التي شهدها النظام الرأسمالي العالمي. وإذا كانت إحدى ملامح هذه الأزمة، هو تفاقم المديونية الخارجية للدول الرأسمالية المتخلفة تجاه الرأسماليات المتقدمة، بصورة انفجارية، فإن إسرائيل لم تُستَثنَ من هذه القاعدة، إذ ارتفع حجم مديونيتها من10 مليارات دولار، عام 1976، إلى 16 مليار دولار، عام 1979. ثم ما أن حل ربيع عام 1982، حتى كانت مديونيتها قد تجاوزت 18.4مليار دولار.

وقد أقلق هذا الوضع المختل لميزان المدفوعات الإسرائيلي، والمديونية الخارجية، بعض المتخصصين من اليهود في المجال الاقتصادي. وهذا ما دفع البعض منهم، مثل "الساف رازينا" و"دافيد هورفيتز" و"يعقوب لافي"، إلى الإسراع بتقديم المشورة، والدعوة إلى تخفيض معدلات الاستثمار، وخفض معدل نمو الاستهلاك، لتحقيق انخفاض ملموس في عجز ميزان المدفوعات، وتقليص المديونية تجاه العالم الخارجي.  ومن ثم، كانت مطالبة بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي للرئيس ريجان بإعفاء إسرائيل من دفع بعض ديونها، خاصة أن خدمة الدين، خلال السنوات الثلاث الماضية، كانت تلتهم جزءاً لا يستهان به من حصيلة صادراتها.

هـ. نفقات عملية الغزو

قدّر بعض الأوساط المسؤولة في إسرائيل النفقات المباشرة لعملية "سلام الجليل" بنحو 1.5 مليار دولار، وذلك خلال الثلاثة أشهر الأولى من المعارك (50 مليون دولار في اليوم الواحد). هذا في الوقت الذي أشار فيه بعض التقديرات، إلى أن نفقات الغزو غير المباشرة، من جراء انخفاض الناتج الصناعي، وتدهور الصادرات إلى العالم الخارجي، وانخفاض الدخل السياحي في موسم الصيف، قدّرت بنحو 1.5 مليار دولار أخرى، كما قُدرت نفقات بقاء الجيش الإسرائيلي في لبنان، خلال الفترة التالية، وحتى انقضاء فصل الشتاء، بنحو مليار دولار. وبهذا، فإن نفقات الغزو المالية، تزيد على 4 مليارات دولار أمريكي.

والتساؤل الآن: إلى أي مدى أثّرت هذه النفقات في الهيكل الاقتصادي الإسرائيلي ؟

أوضح بعض الكتاب الإسرائيليين مدى خطر انخفاض صادرات إسرائيل إلى دول العالم، أثناء الغزو، على الاقتصاد الإسرائيلي. إذ سجلت صادرات يوليه 1982 تراجعاً ملحوظاً، قياساً بيوليه عام 1981 (من 407 مليون دولار إلى 340 مليوناً من الدولارات). وعزا بعضهم ذلك إلى تدهور سمعة إسرائيل على المستوى الدولي، من جـراء القصف الجوي للأهداف المدنية في لبنان. ومن جهة أخرى، عمّقت ظروف الغزو، وتدهور سمعة إسرائيل لدى قطاعات واسعة من الرأي العام الأوروبي، تدهور النشاط السياحي في إسرائيل، فانخفض عدد السائحين في يوليه 1982 إلى 76 ألف سائح (مقابل 96 ألفاً في يوليه 1981)، بنسبة انخفاض 21%.

وعلى المدى القصير، فإن ارتفاع نسبة التضخم، وارتفاع الأسعار، وزيادة الاعتماد على المعونة الأمريكية، وتدهور قيمة العملة الإسرائيلية، "الشيكل" Shekel ، أمام العمـلات الأجنبية (5% تقريباً)، أفقد المتعاملين في أسواق المال الثقة بالعملة الإسرائيلية، مما حدا ببعضهم على المطالبة بإعلان يوم للدولار، لتخفيف الضغوط على "الشيكل"، ومن ثم، خفض معدلات التضخم. كما أدت الحرب إلى ازدياد نسبة البطالة بنحو 3%، إذ قُدّر عدد المتعطلين في إسرائيل بنحو 31.7 ألف مواطن.

و. تمويل عمليات الغزو

من الحقائق، التي تبدو محل اتفاق عام لدى المتخصصين في الشؤون الإسرائيلية، أن معدل ما تنفقه إسرائيل على الجيش والأمن، يُعد من أعلى المعدلات في العالم، بالنسبة إلى الناتج القومي الإجمالي، وإلى حجم السكان (25% في المتوسط سنوياً). بل إن كل مواطن في إسرائيل، يدفع للأمن والدفاع نحو 30 ألف شـيكل سـنوياً (ما يعادل 1083 دولاراً)، طبقاً لتقدير عام 1979. ومن ثم، فإن نفقات الدفاع، تنتزع من كل أسرة نحو خُمس دخلها الشهري. ولكن، إذا أخذنا في الحسبان حجم الدعم الأمريكي المكثف، لأمكن فهْم الطابع الاستمراري لهذا المعدل المرتفع للإنفاق الحربي. فالولايات المتحدة الأمريكية، تقدم سنوياً ما يعادل 750 دولاراً إلى كل إسرائيلي، وكل أسرة في إسرائيل( من 4 إلى 5 أفراد)، وفقاً لذلك، تحصل من أمريكا على 100 ألف شيكل تقريباً.

(1) التمويل من الداخل

باندلاع الحرب على أرض لبنـان، في يونيه 1982، أخذت وزارة المالـية الإسرائيلية في تنفيذ خطة الطوارئ المالية، التي سبق أن عرضها يورام أريدور على الحكومة الإسرائيلية منذ عدة شـهور سابقة للحرب. وبمقتضاها، تم رفع نسبة الضرائب غير المباشرة، ورسوم الإنتاج على العديد من السلع والخدمات معاً، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تراوح ما بين 12% و15%. وكانت خطة أريدور، في جزء منها، تقضي باقتطاع 5مليارات شيكل (حوالي 190 مليون دولار) لمصلحة وزارة الدفاع الإسرائيلية، مع اللجوء إلى الاقتراض من الجهاز المصرفي (التمويل بالعجز) بمقدار 5.5 مليارات شيكل أخرى. وهو ما حدث بالفعل، عندما بلغت نفقات الحكومة في شهر أغسطس (ذروة المعارك) نحو 6.4 مليارات شيكل. كما أقر الكنيست قانون القروض لتمويل عملية الغزو، على أن يفرض هذا القرض بواقع 2% من الدخل الشهري حتى مبلغ 7500 شيكل، و4% حتى مبلغ 30 ألف شيكل، و5% على ما زاد على ذلك.

كما رفعت السلطات الإسرائيلية الضرائب غير المباشرة، المفروضة على العديد من السلع والخدمات، ولم تقصرها على الإسرائيليين وحدهم، وإنما فرضتها على العرب سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وهكذا، شهدت إسرائيل، خلال يوليه 1982، أعلى نسبة تضخم في تاريخها الاقتصادي.

(2) المساعدات والمعونات الأمريكية

خلال الفترة الممتدة من عام 1948 حتى عام 1981، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدات، لا تُردّ، إلى إسرائيل بلغت قيمتها 25 مليار دولار (15 ملياراً من الدولارات في صورة مساعدات عسكرية، 10 ملياراً من الدولارات مساعدات اقتصادية). هذا بخلاف التعويضات الألمانية، التي بلغت 20 ملياراً من الدولارات. وخلال أشهر الغزو الثلاثة، لم تتوقف المساعدة الأمريكية لإسرائيل، بل على العكس، فبينما ارتفعت أصوات بعض أعضاء الكونجرس، مطالبين بتخفيض المعونات الممنوحة لمصر في خلال ذلك العام، ازدادت الأصوات المطالبة بزيادة الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل، ليصل إلى 3 مليارات دولار، خلال ميزانية عام 1983، مقابل مليارين ومئتي مليون دولار عن عام 1982. كما صاحب هذه الدعوة الحديث حول اعتزام إدارة الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، تقديم مشروع قانون بإعفاء إسرائيل من بعض ديونها العسكرية، التي مضى عليها أكثر من ثلاث سنوات، وذلك تحت حجة تشجيع إسرائيل على قبول مبادرة ريجان للتسوية. ولم يقتصر الدعم الأمريكي لإسرائيل على ما سبق، وإنما جاء في صورة دعم تكنولوجي وتطوير فعّال للصناعة الحربية الإسـرائيلية، إذ سمحت الولايات المتحدة الأمريكية للشركات الإسرائيلية بالدخول في مناقصات وعقود التوريد للبنتاجون والمؤسسات الدفاعية الأمريكية، وذلك بهدف حفز الصناعة الحربية الإسرائيلية.

(3) تمويل يهود الشتات، "الدياسبورا"

ظلت إسرائيل، منذ إنشائها، تعتمد بشكل واضح على المساعدات والتبرعات، التي تقدمها الجاليات اليهودية في الخارج. وقد أسهمت الحكومات الغربية في ذلك، بتسهيل عمليات التحويل المالية المطلوبة، من دون فرض قيود أو ضرائب. وكان اعتماد إسرائيل يركن إلى تناسب المتوسط العام لهذه التحويلات بنحو (220 مليون دولار سنوياً)، وهي مساعدات غـير مردودة. ومنذ عام 1967، ازدادت هذه المساعدات، لتستقر عند مستوى 25% من إجمالي التدفقات المالية السنوية إلى إسرائيل، وارتفعت في المقابل، المساعدات الأمريكية إلى 60% من إجمالي انتقال رؤوس الأموال إلى إسرائيل. ومن الواضح أن فترات اشتعال الصراع المسلح، كانت تشهد فترة استثنائية في مساعدات الدياسبورا لإسرائيل، وهذا ما حدث عام 1973، حين ارتفع المبلغ من متوسط 250 مليون دولار في الأعـوام السـابقة إلى 500 مليون ومليوني دولار أثناء حرب "يوم الغفران"، كما وصل أثناء غزو لبنان، عام 1982، إلى حوالي 550 مليوناً من الدولارات. وهو ما يعني أن إسرائيل حققت أكبر مبلغ جمعته في تاريخها من المنظمات اليهودية في الخارج.

ز. الأطماع الإسرائيلية في لبنان

من دراسة قام بها معهد دافيد هوروفيتز، التابع لجامعة تل أبيب، حول تطور الاقتصاد اللبناني، تناول خلالها بالمسح التفصيلي مختلف القطاعات الرئيسية (الزراعة ـ الصناعة ـ الخدمات المالية ـ السياحة)، وكذلك مستويات التركيب الاجتماعي والعرقي، يتبين، من خلال تمحيص التناول الصهيوني لهذه المتغيرات، أبعاد الأطماع الإسرائيلية في لبنان. فالإسرائيليون يهتمون بالفائض المتاح من مياه نهر الليطاني (نحو 400 مليون م3 من المياه سنوياً). كما يتركز اهتمامهم أيضاً على أهمية توسـيع هامش التعاون الزراعي المشترك (على الحدود الشمالية لإسرائيل) مع لبنان، بما يزيد من حجم الصادرات الإسرائيلية، علاوة على كونه إحدى دعامات الأمن والدفاع في مواجهة غارات الفدائيين، كما يوفر شروطاً أفضل، على المدى البعيد، لابتلاع السوق اللبنانية، خاصة أن وجود الضابط اللبناني المنشق، سعد حداد، في الجنوب أو في موقع قيادي بالدولة اللبنانية، سيمثل دعامة أساسية لاستكمال المخطط. أما بالنسبة إلى القطاع الصناعي، فإن الدراسة المشار إليها، أكدت أن البناء الاقتصادي اللبناني، يتجه بشكل مكثف إلى التجارة والخدمات ويخصص اعتمادات محدودة للقطاع الصناعي، ومن هنا يمكن السيطرة على هذا القطاع الهام، ومنع أي اتجاهات لتنميته.

ولذا، ينظر الإسرائيليون إلى السوق اللبنانية من زوايا ثلاث:

·   فهي، من جهة أولى، سوق لتصريف الإنتاج الصناعي الإسرائيلي، خاصة أن الصناعات الإسرائيلية كانت تعاني أزمة تصدير.

·   وهي من جهة ثانية، منفذ ونقطـة وثوب لتسلل البضائع الإسرائيلية، إلى بقية الأسواق العربية، التي تطبق قوانين مقاطعة إسرائيل. ويقرر يهوشاع تدمور وزير التجارة الإسرائيلي، أن البضائع الإسرائيلية تجد، بواسطة التجار اللبنانيين، طريقها إلى الدول العربية، من دون علامات تجارية.

·   ومن جهة ثالـثة، ربط فئات اجتماعية وطنية لبنانية محددة (تجار ـ وكلاء ـ سماسرة ـ مكاتب سياحة...) بمصالح الاقتصاد الإسرائيلي، عبْر عمليات التسويق والتوزيع، وهو ما يسمح بتدعيم مرتكزات ثابتة للاحتلال الإسرائيلي في لبنان. ومما لا شك فيه أن تحقيق ذلك، يمثّل خطوة نحـو تحطيم أسُس المقاطعة العربية، ويمكّن، بالضرورة، من انهيار الخط الدفاعي الأخير، وهو ما يعدّ في المحصلة النهائية تدعيماً طويل الأجل للمشروع الإسرائيلي في المنطقة. أمّا بالنسبة إلى القطاع السياحي والخدمات المالية، فعلى الرغم من تفوق اللبنانيين على اليهود، في هذا المجال، إلاّ أن التطلع الإسرائيلي للتعاون في مجال الصيرفة، يتأتى من كون لبنان هو أحد المستودعات الصغيرة للأرصدة البترودولارية. ومن ثم، كانت المناداة في إسرائيل بضرورة إقامة جسور التعاون مع لبنان، من أجل زيادة قدرة إسرائيل على اختراق الأسواق العربية والاشتراك في مشروعاتها التنموية.

ثالثاً: الأبعاد الاجتماعية للغزو

يتكون المجتمع الإسرائيلي من عناصر شرقية وغربية، إضافة إلى طوائف درزية ومسيحية، فضلاً عن عرب إسرائيل. ولفترة غير قصيرة، احتلت العناصر الغربية "الأشكناز" أعلى الهرم الاجتماعي، تليها العناصر الشرقية اليهودية "السفارديم" كفئة أدنى تعليماً وثقافة ومراكز، ثم تحتل الطوائف الأخرى، من دروز وعرب قاعدة الهرم، كمواطنين من الدرجتين الثالثة والرابعة. ولكن هذا الترتيب خضع لبعض المتغيرات، بعد تولّي "الليكود" الحكم. فقد استطاع بيجن الوصول إلى الحكم، عندما نجح في تحويل أصوات "السـفارديم" من حزب العمل إلى حزب الليكود، حتى أصبح 70% من أصوات بيجن تقريباً من العناصر الشرقية. ويمكن إرجاع هذا التأييد إلى أسباب دينية وتقليدية. فعلى حين تهتم العناصر الغربية بقضايا الديموقراطية والاشتراكية، لا تطالب العناصر الشرقية إلا بقوة الحكومة وقدرتها على إرهاب جيرانها. فهذه العناصر الأخيرة، تتفق مع بيجن في تعريفه "للعدو"، وتؤيده في كل سياساته المتبعة داخلياً وخارجياً، خاصة سياساته إزاء العرب. فالسلام في نظر العناصر الشرقية لا يهم إلاّ إذا قام على سيطرة إسرائيل وهيمنتها على أراضي المنطقة وشعوبها، وهـي، من ثم، لا تبالي كثيراً بأهمية التعايش السلمي، الذي تنادي به العناصر الغربية. لذا، يُعدّ الغزو الإسرائيلي للبنان أحد المحكات الأساسية في تأييد وازدياد أهمية العناصر الشرقية وفاعليتها. ففي حين هاجمت معظم العناصر الغربية الحرب، وصوتت ضد الحكومة في استطلاعات الرأي، نجد أن السفارديم وحدهم هم الذين اهتموا بتأييد الحكومة أثناء الحرب، والأدهى من هذا أنهم أيدوا الأعمال الإسرائيلية في مخيمَي صبرا وشاتيلا، ولم ينتقدوها، على خلاف سائر طوائف المجتمع، بل أوجدوا لها المبررات، وأكدوا استمرار تأييدهم لبيجن مهما حدث في لبنان. وأغلب الظن أنهم وجدوا في هذه الحرب دافعاً أقوى لهذا التأييد.

أمّا عرب إسرائيل، فلم يتوانوا عن إعلان رفضهم وإدانتهم للحرب، منذ بداية اجتياح لبنان، وقتل المدنيين في بيروت ومخيمات اللاجئين، وسفك دماء العزل في صبرا وشاتيلا. فقد خرجت التظاهرات داخل قرى عرب إسرائيل احتجاجاً على الحرب، وعلى المجازر الجماعية. وخلال تلك التظاهرات التي اعتقل أثنائها ما يقرب من 80 شخصاً، رفع المتظاهرون علم فلسطين، وهتفوا مؤيدين لمنظمة التحرير على أساس أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من اختلاف توجهات هذه الجماعات، إلا أن السمة المشتركة التي تجمعها، هي الانتماء إلى الوطن العربي، وآمالها في تحرير فلسطين، وتأييدها لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومن الواضح أن هذه العناصر، بدأت تستعيد علاقاتها بسكان الضفة الغربية، وتنظم معهم التظاهرات والإضرابات المشتركة، وتؤيد العناصر الوطنية المعزولة، والمعتقلة من الضفة. هذا، على الرغم من الحصار الذي تضربه الإدارة المدنية حول الأرض المحتلة، لتحول دون هذا الارتباط الذي أخذ في الازدياد، خاصة خلال تلك الفترة.

أمّا الدروز، فكان دورهم يختلف عن موقف عرب إسرائيل اختلافاً جذرياً، ذلك أنّ الدروز الإسرائيليين لم يحركوا ساكناً إزاء ما يجري، من تشريد وتعذيب وقتل لدروز لبنان في جبل الشوف. وقد انحصرت اهتماماتهم في تحسين أوضاعهم داخل إسرائيل، وبينما يتمثل مطلبهم الرئيسي في إعفائهم من أداء الخدمة العسكرية الإجبارية، التي يخضعون لأدائها دون باقي العرب المقيمين في إسرائيل. وعلى ذلك فالدروز، الإسرائيليون مسـتعدون لتأييد أي حاكم يحسّن أوضاعهم، ويستطيع انتزاع مكاسب جديدة لهم، خاصة أنهم يتمتعون بحق التصويت في الكنيست الإسرائيلي، مما يجعل عقد صفقة بينهم وبين الحكومة أمراً مفيداً لكلا الطرفين.

مما سبق ومن خلال رصد البناء الاجتماعي الإسرائيلي وتطوره، في ما يختص بعملية غزو لبنان، يتضح ما يلي:

1. وجود قاعدة معارضة للحرب من العناصر الغربية، التي تدين سياسات الحكومة وتَصِمُها بالفاشية، لاعتمادها على الغوغائيين " Demagogic" من السفارديم. وهذه المعارضة، لا تأخذ دائماً أشكالاً إيجابية، وإنما قد تقتصر على الشعور بالإحباط، واللجوء إلى العزلة.

2. ارتفاع أسهم العناصر الشرقية، بشكل لم يسبق له مثيل، منذ هجرتهم إثر إعلان قيام دولة إسرائيل، وازدياد قوتهم، ومن ثمّ، قدرتهم على التأثير في منظومة القِيم السياسية والاجتماعية، السائدة في المجتمع.

3. ازدياد نشاط الحركات الثورية (الراديكالية) في أوساط عرب إسرائيل، مع أهمية الإشارة إلى تنوع اتجاهاتها ما بين اليسار والإسلاميين، وتدعيم علاقاتها بسكان الضفة الغربية.

4. موقف الدروز، الذين يسعون إلى تحسين أوضاعهم، ويضعون مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية فوق كل اعتبار.


 



[1] أ. في أكتوبر 1979، أعلن الرئيس كارتر فكرته حول إنشاء قوات الانتشار السريع، وأنها سوف تستخدم لمواجهة الطوارئ في أركان العالم قاطبة.

ب. في 23 يناير 1980، وفى أعقاب الغزو السوفيتي لأفغانستان، أعلن كارتر مبدأه `باعتبار منطقة الخليج مهمة للمصالح الأمريكية، وأنها تشكل أساساً لمواجهة أي قوة خارجية تحاول التحكم في منطقة الخليج العربي، كما يٌعَدّ أي تهديد للخليج العربي هجوماً على المصالح الأمريكية المهمة، ومن حق الولايات المتحدة الأمريكية استخدام قوّتها العسكرية لمواجهتها`. 

ج. في الأول من مارس 1980، أعلن رسمياً إنشاء قوة الانتشار السريع، ويكون ضمن مهامها، تأمين مصادر النفط، وتأمين نظم الحكم في منطقة الخليج. 

د. في الأول من يناير 1983، أُنشئت القيادة المركزية الأمريكية للسيطرة على قوات الانتشار السريع، حيث تمتد منطقة عملياتها من جنوبي غربي آسيا حتى أفغانستان

[2] تبنى شارون هذا المشروع، وهو وزير الدفاع. وينقسم المشروع إلى شقَّين: الأول، ضم الضفة الغربية كلها في إطار إسرائيل الكبرى، مع التوسع في بناء المستوطنات في المناطق الإستراتيجية المهمة (غرب نهر الأردن ـ مناطق المرتفعات حول القدس،إلخ)، وتجميع المستوطنات المتقاربة، في مدن إسرائيلية كبيرة. ويمكن، في هذا النطاق، وجود نوع من الحكم الإداري للفلسطينيين، في إطار سيطرة إسرائيلية كاملة على الدفاع والأمن والمياه والاقتصاد. الثاني، وهو شق أمني، بوجود ملموس للقوات الإسرائيلية في النقط الحاكمة في الضفة الغربية، على أن تنظم على خطوط متتالية، وتكثف في المناطق الدينية والسياحية،  لتحقيق سيطرة كاملة على الضفة

[3] استمرت حرب تموز (يوليه)، 14 يوماً في الفترة من 10 إلى 24 يوليه 1981. بدأت عندما هاجم الطيران الإسرائيلي مواقع المدفعية وصواريخ `الكاتيوشا`، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، من صيدا شمالاً وحتى النبطية جنوباً. وفي اليوم التالي، تُبُودلت النيران بين الجيش الإسرائيلي وقوات سعد حداد، من جانب، ورجال المقاومة الفلسطينية، من جانب آخر. وردت الكاتيوشا الفلسطينية، فأصابت 14 إسرائيلياً من سكان `كريات شمونة`. وأدّى ذلك إلى مهاجمة الطيران الإسرائيلي، ولمدة ثلاثة أيام متتالية، بدءاً من 12 يوليه، منطقتَي الدامور والناعمة. وفي اليوم التالي، قصفت المدفعية الفلسطينية مناطق نهاريا وكريات شمونة ومواقع سعد حداد. وقُتل في نهاريا 3 أشخاص وجرح 13 شخصاً. وسقط 20 جريحاً في كريات شمونة وإصبع الجليل. وخلال الفترة من 16 إلى 23 يوليه، شنّت إسرائيل عدة غارات جوية على جسرَي الليطاني والزهراني، وقلعة الشقيف، وهضبة أرنون، والنبطية، ومصب نهر الزهراني. وبالمثل، ردّت الصواريخ الفلسطينية بقصف مستعمرات شمالي إسرائيل، في إصبع الجليل ونهاريا، وقتل 5 مواطنين إسرائيليين وجرح 46 فرداً. وفي 24 يوليه1981 توقف إطلاق النار

[4] تمثل المياه الجوفية 58% من مصادر المياه المتاحة، أمّا مياه الأمطار والأنهار، فلا تتعدى 25%