إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الانتفاضة الفلسطينية (1988)









الفصل الثاني

المبحث الثاني

أسباب الانتفاضة

أولاً: الأسباب الاجتماعية والنفسية

شهدت السنوات السابقة للانتفاضة، مساعٍ إسرائيلية محمومة، لهدم الإطار الأخلاقي في الوسط الفلسطيني، ودفعه إلى ممارسة البغاء والدعارة، وتناول المخدرات، والاستهتار بالقيم العائلية والدينية. كما شهدت هذه الفترة، كذلك، سعياً إسرائيلياً حثيثاً، لتقويض الكيان الثقافي التعليمي الفلسطيني ومؤسساته؛ فبعد أن تمكن الفلسطينيون من توطيد دعائم التعليم الجامعي، من خلال بناء ست جامعات في الضفة وغزة، ومع أنها لم تكن كافية لاستيعاب الطلب الفلسطيني المتزايد على التعليم، فلم تضم سوى 2500 من الحاصلين على الثانوية (من أصل 10 آلاف)، عملت إسرائيل على تدمير هذه الجامعات. وعلى سبيل المثال، تعرضت جامعة بيزيت، خلال العام الدراسي 85/86، لإقامة 36 نقطة تفتيش على الطرق المؤدية إليها. كما قُتل في حرمها ثلاثة طلاب، وجرح العشرات، بعد أن فتحت قوات الاحتلال النار عليهم، في مناسبتين، خلال ذلك العام

وكان الهدف محو أي أسس أو مؤسسات، تسعى إلى إعلاء شأن كل ما هو فلسطيني، حتى الأطعمة الفلسطينية، والملبس أو الزي الفلسطيني، تدخلت إسرائيل في المأكل والملبس، في محاولات مستميتة، للقضاء على الهوية الفلسطينية.

ولم يدخر الإسرائيليون جهداً لإضعاف البنية الصحية للفلسطينيين. فقد شاع عنهم حقن الفلسطينيين بفيروس الإيدز، في أثناء علاجهم في المستشفيات الإسرائيلية، فضلاً عن عدم توفير العلاج، بأسعار تتناسب مع القدرات الاقتصادية للفقراء، في الضفة وغزة. وتمتد الأسباب الاجتماعية؛ لتشمل الشباب الفلسطيني في السجون، في تلك الفئة العمرية؛ فقد زاد ذلك من وعيهم بقضيتهم، وأوجد آليات تماسك اجتماعي.

وقد برزت مشكلات اجتماعية ونفسية عدة، أسهمت ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ في تأجيج العداء ضد اليهود، وساعدت على بث روح الكراهية لممارسات الاحتلال، مما أضاف عاملاً آخر ساعد على تفجير الانتفاضة.

وتتمثل الدواعي الاجتماعية والنفسية فيما يلي:

1. قوانين جائرة تشتت شمل الأسرة

سنت سلطات الاحتلال قوانين استفزازية، استهدفت تشتيت الأسرة الفلسطينية، من هذه القوانين:

أ. مصادرة أملاك الغائبين في القدس: حيث صار معهوداً أن يُفاجأ العائد من سفره، من أهالي القدس، بمصادرة منزله وأرضه، وتحويلها إلى دائرة أملاك الغائبين. ومن هذه القوانين كذلك: منع جمع الشمل بين الرجل وزوجته، أو المرأة وزوجها، خاصة مَن يتزوجون من أقاربهم في الخارج، ولا يملكون تصاريح إسرائيلية، أو مضى على تصاريحهم أكثر من ثلاث سنوات، مما يمنع عودتهم إلا بتجديدها، وكثيراً ما تُرفض طلبات التجديد.

ب. اتهام الغائبين بالقيام بأعمال عسكرية، واستصدار مذكرة اعتقال بحقهم، واقتحام بيوتهم بحجة البحث عنهم، وذلك لتخويفهم من العودة إلى بلادهم، والبقاء في الخارج.

ج. عدم الموافقة على إضافة الأبناء الذين ولدوا في الخارج، ومضى على غيابهم عدة سنوات، في وثائق آبائهم أو أمهاتهم، مما يؤدي إلى شتات الأسرة.

د. تجنيد أحد أفراد الأسرة ضمن العملاء والخونة، وتسليطه على أقاربه لجرهم إلى مستنقع الخيانة، أو إيقاعهم في حبائل المخابرات الإسرائيلية، أو نشر المخدرات بينهم، أو القيام بعمليات قتل لمن يشكّلون خطراً على الكيان الإسرائيلي، مما يؤدي إلى تفرق الأسرة، وانتشار العداوة بين أفرادها.

وكثير غير هذه القوانين، التي أدت إلى احتقان عدائي، وشعور بضرورة التخلص من هذا الواقع المؤلم، بكل الوسائل.

2. انتشار ظاهرة فقدان الأقارب، بسبب القتل والاعتقال

نتيجة لطبيعة الصراع الممتد مع اليهود، وكأثر من آثار المواجهات الدامية المستمرة، برزت ظاهرة اليتم وفقدان الأقارب، بسبب القتل أو الاعتقال.

وتعد هذه الظاهرة إحدى المشكلات، التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، ويشعر معها بضرورة الانتقام، والأخذ بالثأر ممن تسبب فيها.

وتزداد أعداد الأيتام يوماً بعد يوم، وتعج المعتقلات بالمحكومين أحكاماً طويلة الأمد، وتفتقد معظم العائلات الفلسطينية في الداخل واحداً أو اكثر من أفرادها، الذين غيبتهم الأحداث أو السجون.

ويضفي هذا بدوره جواً من الشعور بالحسرة، والرغبة في الرد على جرائم اليهود، والاستعداد والتهيؤ لذلك.

3. الشعور بالضيق بسبب المنع من الدراسة، أو العمل، أو السفر

تعمد سلطات الاحتلال ـ زيادة في التضييق ـ إلى منع كثير من الطلبة، من الدراسة في الجامعات الفلسطينية، أو الجامعات الدولية، كعقاب فردي بسبب ظرف معين، مما يجعل الكثيرين ينصرفون عن الدراسة إلى العمل، مع تحميل المسؤولية لسلطات الاحتلال، والشعور بالظلم والاضطهاد.

وتمنع سلطات الاحتلال، في كثير من الأحيان، المسافرين من إتمام سفرهم، حيث تعيدهم من المعابر الحدودية والجسور، على الرغم من حصولهم على موافقة بالسفر من الحاكم العسكري، مما يزيد في معاناتهم، ويؤجج نار الحقد في صدورهم.

وقد زاد هذا كله من الضغط الاجتماعي والنفسي، وجعل المخرج من ذلك كله كامن في الثورة والانتفاضة.

4. التهديد بإلحاق الأذى، أو التعرض للأقارب بالسوء، في حال رفض التعاون مع اليهود

تمارس سّلطات الاحتلال سياسة قذرة، في إجبار الفلسطينيين على التعامل معها ضد إخوانهم وأقاربهم، وتنفيذ مخططات عسكرية ضد بلدهم ولمصلحة اليهود. وتستخدم وسائل الإكراه والتعذيب، وتهدد بالأذى وإلحاق السوء بالضحية، أو بأحد أقاربه ومحبيه، أو توقعه في جريمة أو فاحشة، وتصور ذلك لاستخدامه كوسيلة ضغط نفسي لإجباره على الرضوخ والتعاون.

وقد أدى هذا المنهج القذر إلى زيادة الاحتقان، لدى أسرة الضحية وأقاربه، وهيأ للمساهمة في أي انتفاضة تنفجر في المنطقة.

ثانياً: الأسباب السياسية

تنوعت وتشابكت المسببات السياسية، ومستوياتها الإقليمية والدولية. وكان المطروح أمام الفلسطينيين، في تلك الفترة، هو الحكم الذاتي، الذي تضمنته اتفاقات كامب ديفيد، التي أُبرمت بين مصر وإسرائيل عام 1979م، ورفضها الفلسطينيون ومعظم العرب، في مقابل إصرار فلسطيني على الاستقلال في التفاوض، والتمسك بحق تقرير المصير لإقامة دولة مستقلة، وهو أمر لم يتوقع الفلسطينيون أن يقبل به المشروع الصهيوني.

وكانت النظرة السائدة لدى الإسرائيليين، أن القومية الفلسطينية هي نتاج الإرهاب والعنف، الذي تمارسه حركة فتح، وآمنت النخبة الإسرائيلية الحاكمة في تل أبيب، منذ عام 1981م أنه، فور دحر الفلسطينيين في لبنان، سينتهي أمر المشروع الفلسطيني. لكن ذلك لم يحدث.

وعلى الجانب الآخر، كان الاعتقاد السائد، لدى الفلسطينيين وكثير من العرب، أن الحكومة الإسرائيلية ـ مدعومة بالفيتو الأمريكي ـ تحاول فرض سلام القوة المسيطرة المهيمنة، وفقا لتوازن القوى لصالح إسرائيل، وهو أمر ـ وفقاً لمحلل سياسي أمريكي ـ خلق شعوراً بالإحباط القومي، وأدى إلى مزيد من التطرف والتشدد في الشرق الأوسط؛ فالعرب لم يفكروا في الاعتراف بإسرائيل، عقب هزائم 1948م، 1956م، 1967م، بل فكروا في ذلك بعد حرب 1973م. لذلك على الإسرائيليين أن يدركوا عواقب فرض سلام القوة، على نمو تيارات المقاومة في الدول العربية. وقد سعت النخبة الحاكمة الإسرائيلية، على تنوعها بين ليكودية وعمالية، إلى ترسيخ الشعور بالهزيمة والإحباط لدى الفلسطينيين، كي تفرض عليهم الأمر الواقع. وتنوعت الممارسات الإسرائيلية الرامية إلى هذا الهدف؛ فشنّ شارون حملة إعلامية، قال فيها: إن الهدف الأساسي لسياسته هو الاستيطان في الضفة والقطاع، وأطلق شارون، على إجراءاته، مفهوم "إعادة تنظيم الحكم العسكري في الأراضي المحتلة". وتم التنسيق بين الحكومة والمستوطنين لتطبيق سياسات النفي والتشريد Transfer. فخلال النصف الأول من الثمانينات، صعدت حركة "كاخ" الصهيونية، من لهجتها العنصرية العدائية ضد العرب الفلسطينيين. وقال مائير كاهانا، زعيم حركة كاخ، في لقاء مع صحيفة النهار المقدسية، مخاطباً العرب: "سنخرجكم بالقوة، وعليكم التسليم بحقيقة وجود الدولة اليهودية، على كل أرض إسرائيل، ولا حق لكم في السّيادة عليها، أو الحكم فيها. السلام غير وارد، على الإطلاق، والقوة هي التي تفرض في أيامنا هذه أسس التعايش".

وبالفعل تركت السلطات المحتلة الإسرائيلية المستوطنين ينفذون المخطط الشاروني الكاهاني؛ لطرد سكان الضفة وغزة. (اُنظر جدول حوادث اعتداء المستوطنين على الفلسطينيين في الفترة من 80 ـ 1984م).

ويلاحظ، في هذا الجدول، أن عام 1983م شهد ذروة الاعتداءات من جانب المستوطنين على الفلسطينيين، وهو عام اعتزال بيجين السياسة، وتولي شامير وشارون، والمعروف أنهما، وريثا بيجين في عنصريته، في مواجهة الفلسطينيين.

اتسعت المستوطنات، التي بناها الإسرائيليون، بعد أن حصلوا على الضوء الأخضر من الحكومة، وبنت حركة "جوش إيمونيم" الدينية المتطرفة، عدداً كبيراً من المستوطنات، التي قطنها أعضاؤها. وكان معنى ذلك مصادرة العديد من الأراضي والمنازل الفلسطينية، وتشريد المزيد من المستوطنين.

وقد شهدت مرحلة ما قبل الانتفاضة تحركات سياسية عديدة، تمخضت عن نتائج زادت من معاناة الشعب الفلسطيني، وأدت إلى تعقيد قضيته أكثر فأكثر. فقد بدأت تلوح في الأفق مبادرات التسوية، وتنعقد مؤتمرات ولقاءات لترسيخ الوجود اليهودي، وحمايته من التعرض لتيارات مستقبلية، تهدده أو تشكل خطراً عليه.

وأحاط الوضع السياسي العام للقضية الفلسطينية، جو من التشاؤم بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وإخراج المنظمة، وتشتيت أتباعها، وشن حرب على المخيمات الفلسطينية، في بيروت وصيدا وطرابلس. وبعد أن وصلت كافة محاولات القوى الدولية والعربية والفلسطينية السياسية، إلى طريق مسدود، مما أوجد جواً من اليأس من أي حل سياسي محتمل أمام الشعب الفلسطيني، بعد هذه المحاولات المتعددة، بدأت بمشروع روجرز عام 1970، وانتهت بمشروع المؤتمر الدولي بإشراف الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. هذا الوضع السياسي، الذي رفضت فيه إسرائيل كافة المبادرات التي وافق عليها "الفلسطينيون الرسميون"، نسف الأمل في الحل السياسي الذي يمكن أن يحقق حداً أدنى من طموحات الشعب الفلسطيني. وهذا ما جعل الظّرف السياسي المحيط بالانتفاضة، يشكل أحد أهم عوامل اشتعالها. ويمكن أن تجمل الدواعي السياسية، التي ساعدت على اشتعال الانتفاضة فيما يلي:

1. مبادرات التسوية والتطبيع

عقب توقيع مصر اتفاقيات تسوية مع إسرائيل، في أطار مبادرة السّلام، تبع ذلك اتخاذ تدابير وإجراءات تطبيعية، ونفّذت مشاريع اقتصادية مشتركة، وسُمح بالتبادل التجاري، والخبرات في مجالات شتى، مما حيّد دور مصر ـ نوعاً ما ـ في الصراع القائم في المنطقة.

ونتيجة لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتهجيرها، وتشتيت اتباعها ظهرت على الساحة بوادر مفاوضات سرية بين الإسرائيليين وقيادة المنظمة، بهدف التوصل إلى أرضية للاتفاق السياسي. فضلاً عن المحاولات الإسرائيلية لجر عدد من الدول العربية إلى طاولة المفاوضات، بطرق غلبت عليها السرية، في أمريكا وأوروبا.

وشكلت هذه الاتفاقيات والمفاوضات ـ على الرغم من أنها كانت لا تزال في البداية ـ عامل إحباط لدى الشعب الفلسطيني، وأدت إلى شعوره بأن الدول العربية والإسلامية تتخلى عن قضيته، وتصرف النظر عنها إلى الحلول السلمية.

2. طرح فكرة الوطن البديل

نادى عدد من القادة الإسرائيليين بطرد الفلسطينيين إلى الأردن، وإنشاء وطن بديل لهم يعيشون فيه، ضمن معاهدات سلام مع إسرائيل، تضمن الأمن وحماية الحدود.

يُضاف إلى ذلك المناداة بضم الضفة الغربية وقطاع غزة، بشكل نهائي، إلى إسرائيل، وإنهاء القضية الفلسطينية، وطي صفحتها، بعد طرد الفلسطينيين ليلحقوا بركب اللاجئين في الدول العربية.

كان هذا الطّرح، الذي نادى به "أرييل شارون"، طرحاً مرعباً، زاد من هواجس الخوف لدى الفلسطينيين، وذكرهم حرب 1948، وكيف هُجّروا من البلاد قسراً، وبلا رحمة.

3. عقد اتفاقات إسرائيلية متعددة الأغراض، مع عدد من الدول

جرت قبيل الانتفاضة تحركات سياسية إسرائيلية، على مستوى دول العالم، خاصة في أفريقيا وآسيا. فقد عمدت إسرائيل إلى مد مزيد من الجسور، مع تركيا والهند ودول جنوب شرق آسيا، وإثيوبيا ونيجيريا، وعدد من دول أفريقيا.

وقد ركزت هذه التحركات، على ترسيخ مبدأ التعاون في مجالات كثيرة، من أهمها التبادل التجاري، وتوريد الأسلحة.

وتنوعت الاتفاقيات والمعاهدات، التي وقعتها إسرائيل مع هذه الدول، فمنها الأمني والدّفاعي والسياسي والاقتصادي، وغير ذلك.

نجحت إسرائيل في تحركها هذا في تحييد عدد من الدول، وكسب تأييد عدد آخر، وفتح أبواب دول، كانت مغلقة من قبل في وجه اليهود.

4. استمرار الدعم السياسي الدولي، للكيان الصّهيوني

برز التغلغل الصهيوني في مراكز النفوذ في دول العالم بشكل واضح، في الآونة الأخيرة. وتمثل ذلك في التأييد العالمي للممارسات الصهيونية، أو غض الطرف عن كل ما هو محرم في القوانين الدولية، والوقوف سياسياً إلى جانب الدولة العبرية، لإفشال أي محاولة للضغط عليها، أو إجبارها على رفع القيود عن الفلسطينيين، أو إلغاء القوانين الظّالمة، التي وضعت من أجل التضييق عليهم.

كما تمثل في محاسبة كل من يحاول النيل من سمعة الإسرائيليين، أو التنقص منهم، أو اتهامهم بالوحشية والكذب، والطعن في سياستهم.

5. فشل المؤتمرات العربية والإسلامية، في حل القضية

ظلت قضية فلسطين تُطرح على مائدة المؤتمرات العربية والإسلامية، دون الخروج بقرار فعّال يعيد الحق إلى أهله، ويرد عن الفلسطينيين الاعتداء، ويرفع عنهم الظلم، وإنما كانت في الغالب تخرج بقرارات وبيانات، تكتفي بالتنديد والشجب والاستنكار.

وقد أدى هذا بدوره إلى حالة من اليأس لدى الفلسطينيين، الذين ملوا من هذا الوضع القاتل، ولم يعودوا يعلقوا أي آمال على مثل هذه المؤتمرات والخطب والندوات.

هذه الدواعي السياسية، أدت في مجملها إلى إيجاد شعور عام لدى الفلسطينيين بتمييع قضيتهم، وتهميشها، والتهوين منها في سبيل إنهائها، بالصورة التي ترضى عنها "إسرائيل".

وهذا ما شكل دافعاً آخر، يفرض على أرض الواقع اشتعال المواجهة.

ثالثاً: الأسباب الاقتصادية

منذ مطلع الثمانينيات، أخذت السّياسة السّكانية الإسرائيلية أبعاداً خطيرة، تجاه الجانب العربي الفلسطيني، انطلاقاً من أن العنصر البشري هو أحد العناصر الضامنة لبقاء النموذج الصهيوني، الذي تمثله إسرائيل، في إطار المجتمعات الاستيطانية عموماً.

وقد تجسدت السّياسة الإسرائيلية، اقتصادياً، في إجراءات الإبعاد والتهجير والتضييق الاقتصادي والتوسع الاستيطاني، وتشجيع التكاثر في المجتمع اليهودي. وأبرزت الفترة، التي سبقت اندلاع الانتفاضة، المساوئ الاقتصادية للاحتلال، على نحو خطير. فقد تضرر القطاع الزراعي كثيراً، بفعل أكثر من عامل، أهمها توسيع حركة الاستيطان، ومصادرة الأراضي، والتحايل بالتزوير للاستيلاء عليها.

وقد أدت حالة الدّمج الاقتصادي للضفة وغزة، في الاقتصاد الإسرائيلي، إلى تهميش الحضور الوطني الفلسطيني، مما أسهم في استفزاز المشاعر الوطنية الفلسطينية، حيث شعروا أن قوتهم وحياتهم اليومية، متوقفان على الاقتصاد الإسرائيلي. وساد نمط من التبادل غير المتكافئ بين الاقتصاديين، لصالح الاقتصاد الإسرائيلي. ويُعد استغلال الاحتلال للضفة والقطاع، وجعلهما كمصدرين لليد العاملة الرخيصة، ولبعض المواد الخام، وللقليل من الصناعات البسيطة الضرورية للصناعة الإسرائيلية، نموذجاً للتبعية والامتهان للاقتصاد الفلسطيني.

لم يهتم الاحتلال، في هذا السّياق، بالبنية التحتية لاقتصاد المنطقتين المحتلتين (خطوط المواصلات، وشبكات الكهرباء، والمياه، والهاتف، والبريد) وتآكلت خطوط المواصلات، واحتكرت شركة الكهرباء الإسرائيلية إمداد المناطق المحتلة بالكهرباء، بما فيها القدس. وقد عانت تجارة الضفة والقطاع مع إسرائيل، من عجز كبير لصالح إسرائيل. فبعد أن وصل في عام 1968م إلى 38 مليون دولار، ارتفع إلى 430 مليون دولار عام 1984م، وشكّلت واردات الضفة والقطاع من إسرائيل، حوالي 90% من مجمل وارداتها، فيما استطاعت صادرات الضفة والقطاع إلى إسرائيل، أن تشكل 80% من مجموع صادرات القطاع، و60% من مجموع صادرات الضفة، و90%، منها منتجات صناعية.

وقد عانت الزراعة الفلسطينية، أكثر من غيرها، في مرحلة ما قبل الانتفاضة، بسبب التوسع في مصادرة الأراضي، وحبس المياه، ومنافسة المحاصيل الإسرائيلية المدعومة. ووضع الإسرائيليون عراقيل إدارية متعددة، أمام المزارعين العرب. وتردت الخدمات الزراعية، وفرض نظام حصص جائر، بهدف تدمير البنية المحصولية، وتم حظر تسويق المنتجات الزراعية في السوق الإسرائيلية، إضافة إلى تعطيل تصدير المنتجات إلى الخارج، وقلل ذلك من فرص العمل بالقطاع الزراعي.

على المستوى الصناعي، شكلت الصناعة، عندما احتُلت الأراضي العربية نحو 6,6% من إجمالي الناتج المحلي للضفة، مقابل 3,3% في قطاع غزة، وغلب، على القطاع الصناعي، الطابع الحرفي. وقد أبقى الاحتلال الإسرائيلي على هذا الوضع، مما حال دون إقامة صناعات جديدة. وضاعف القيود على استيراد المواد الخام لهذه الصناعات، وعطل تصدير السلع المصنعة، وحرم الصناعة من التسهيلات الائتمانية، فضلاً عن التأثير الضار لإهمال الاحتلال شؤون البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني. وتتضح الفجوة، بين الصناعة الإسرائيلية، ومثيلتها في الضفة والقطاع، من أن الثانية تمثل 1.7% فقط من إجمالي الناتج الصناعي الإسرائيلي عام 1984م.

وقد تجلى تهميش اقتصاد الضفة والقطاع في ظاهرة فائض اليد العاملة، حيث هاجر ما يزيد عن 350 ألف مواطن، من الضفة وغزة، خلال الفترة من 1967م إلى 1984م، إلى الخارج بحثاً عن فرص عمل. كما أن 130 ألفاً آخرين اضطروا للعمل في مجالات شاقة داخل إسرائيل، مقابل أجور زهيدة، تصل إلى نصف ما يتقاضاه العامل الإسرائيلي. وتذكر الإحصائيات أن إسرائيل كانت توفر سنوياً، من فروق الأجور، ما يقرب من 300 مليون دولار، منذ عام 1985م، بجانب 100 مليون دولار، هي قيمة مستحقات عمال الضفة وغزة، لدى صندوق التأمين الإسرائيلي. وفي دراسة أجرتها جامعة هارفارد، ومولتها مؤسستا فورد وركفلر، على سكان غزة والضفة، تبين أن سكان القطاع، هم أفقر مَنْ يعيشون بالمناطق المحتلة، حيث يعيش فيها 38% من الفلسطينيين، في الوقت الذي لا تتجاوز فيه مساحتها 140 ميلاً مربعاً.

وأوضحت الدراسة أنه، على الرغم من ارتفاع الدخل الفردي، فإن الأوضاع الاقتصادية في تدهور مستمر؛ نظراً لانخفاض الإنتاج الاقتصادي من الموالح، من243 ألف طن عام 1975، إلى 164 ألف طن عام 1984.

وهكذا، فإن هذه الأسباب: الاجتماعية النفسية، والسياسية، والاقتصادية، هي الدافع والمحرك الأساسي لاشتعال الانتفاضة. وعلى الرغم من ذلك فهناك أسباب، أو دواعٍ أخرى، أهمها:

رابعاً: الدواعي الدينية

تخضع طبيعة الصراع بين اليهود والفلسطينيين، إلى عامل الدين والمعتقد والتاريخ، حيث يؤمن كل طرف بعداوة الطرف الآخر، دينياً، كما يؤمن بحتمية الصراع معه، والتخلص منه، ولو بعد حين. بسبب كثرة عدد المسلمين، وتفوقهم على اليهود بأضعاف كثيرة، عَمِل اليهود، طيلة فترات حكمهم السابقة، على عدم إثارة الجانب الديني، وعدم إعلان الحرب تحت راية دينية مكشوفة، خوفاً من اجتماع المسلمين عليهم تحت راية الإسلام، فتكون الهزيمة المحتمة.

ومن هنا كانت الدواعي الدينية، من أهم عوامل استمرار الصراع وتأجيج الانتفاضة. ويندرج تحت هذا البند عدة نقاط، تشكل كل منها داعياً، أدى بشكل غير مباشر إلى الانتفاضة الكبرى، في 9 ديسمبر 1987.

1. الممارسة العقائدية اليهودية

يعتقد اليهود أنهم "شعب الله المختار"، وأن ما عداهم من البشر خلقوا لخدمتهم، وليكونوا سخرة لهم في أعمالهم، ولذلك، كانت نظرتهم للآخرين نظرة احتقار وازدراء. ونتيجة لهذا المعتقد حصل التسلط والقهر، وزادت حدة الشعور بالعداء والكراهية.

وقد دلت على عقيدة الاستعلاء هذه، كتبهم التي امتلأت بما يشير إليها، وطفحت بالأمثلة عليها، وحفلت بما يؤجج هذه النزعة المتأصلة في نفوسهم. فقد جاء في التلمود ما يلي:

أ. "اهدم كل قائم، لوّث كل طاهر، احرق كل أخضر، كي تنفع يهودياً بفلس..".

ب. "اقتل من قدرت عليه، من غير اليهود..".

ج. العن رؤساء الأديان، سوى اليهود، ثلاث مرات في اليوم".

د. "جميع ما يخص الجوييم هو كالصحراء، يستطيع أن يدعي ملكه أول من يسرع مستولياً عليه، أي من اليهود".

هـ. "إذا استطاع يهودي خداعهم بادعائه أنه من عُبّاد النجوم، مسموح له أن يفعل ذلك".

و. "اقتلوا من الأجانب أفضلهم، هشموا الرأس بين أحسن الأفاعي".

ز. "يجب أن يكون شعارنا كل وسائل العنف والخديعة".

ح. "إن الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا ونحن نضع خططنا ألا نلتفت إلى ما هو خير وأخلاقي، بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري ومفيد".

وجاء في البروتوكول الرابع: "لهذا السبب وحده، علينا أن نهدم الإيمان، وأن نمحو من عقول الأغيار مبادئ الله والروح من أسسها، وأن نستعيض عن هذه المفاهيم بالمعادلات الرياضية، والرغبات المادية".

وجاء على لسان "زيف غرينبرج"، أحد أقطابهم، ما يلي: "إن اليهود على ما عداهم من الأمم، يكمن في رسالتهم، ألا وهي المراقبة التاريخية على العالم، ذلك أن الشعب اليهودي هو الشعب الذي اختاره خالق الكون، شعب له رسالة خاصة، إليه يرجع حق تعيين الخبيث من الطيب، إليه يرجع حق تعيين السّبيل، الذي يجب أن تتبعه الانسانية، وهذا القانون هو القانون الأزلي الذي جاءت به التوراة، وليست هذه فلسفة أو فكرة دينية، بل إنها حقيقة أزلية".

وتزيد تعاليم اليهود، التي يتلقونها عن أحبارهم، من التّطرف، وتدفع نحو المواجهات، لأنها ترسّخ في الأذهان ضرورة انتزاع الأرض، من أصحابها الفلسطينيين، بحجة أحقيتهم فيها.

2. الاعتداءات ضد المقدّسات

تكررت اعتداءات اليهود ضد مقدسات المسلمين في فلسطين، بشكل عام. وشملت المساجد في مختلف المناطق، خاصة المسجد الأقصى المبارك، وذلك بتدمير بعضها، وتدنيس بعضها الآخر، وتحويله إلى مواخير، أو إسطبلات وحظائر، أو متاحف، أو حوانيت لبيع الخمور. وطالت اعتداءاتهم المصاحف بتمزيقها، واستخدام أوراقها في المراحيض، وحرقها أمام الفلسطينيين. كذلك طالت اعتداءاتهم شتم الإسلام، ونبي الإسلام، عليه أفضل الصلاة والسلام، وغير ذلك مما يندى له الجبين.

ولعل أبرز حدث ضمن سلسة الاعتداءات الدينية، ما ارتكبه الأسترالي مايكل روهان من حرق لمبنى المسجد الأقصى المبارك، صبيحة الخميس السابع من جمادى الثانية 1389، الموافق 21 أغسطس 1969، حيث أتت النيران على آثار عمرانية تاريخية دينية، في أولى القبلتين وثالث المسجدين.

وزيادة على الشّحوب والسواد، الذي اعترى جدران المسجد الأقصى المبارك، فقد احترق السقف الجنوبي الشرقي للمسجد بكامله، وكان بناؤه من الخشب. كما احترق منبر نور الدين زنكي، الذي أحضره صلاح الدين الأيوبي، بعد تطهير المسجد وبيت المقدس من دنس الصليبيين. كما تأثرت بعض الأعمدة والأقواس بنسب متفاوتة.

تبع ذلك مظاهرات عامة، شملت كل المدن والقرى الفلسطينية، وقعت مصادمات عنيفة، سقط خلالها عدد كبير من القتلى والجرحى.

وتتابعت الاعتداءات على المسجد الأقصى المبارك، وعلى أهله من أبناء فلسطين. وقد تعرض المسجد الأقصى لأكثر من 35 اعتداء صهيونياً، منذ احتلاله عام 1967. عدا الحفريات المستمرة، التي شملت مساحة واسعة تحت أرضيته، كان أكبرها النفق الذي افتتح سنة 1996.

وكان الدافع وراء كل هذه الاعتداءات، الاعتقاد بأن ارض المسجد، هي التي أقام عليها نبي الله سليمان، عليه السلام، هيكلهم المزعوم.

ومن هنا جرت محاولات حثيثة ـ ولا زالت ـ من أجل الحصول على قطعة أرض في ساحة المسجد الأقصى، للشروع في بناء الهيكل، كخطوة على طريق هدم الأقصى، وإحلال الهيكل مكانه.

ظل الحلم يراود اليهود ـ دون استثناء بين فرقهم وطوائفهم ـ في إعادة بناء الهيكل، تمهيداً لظهور الذي يعتقدون قرب خروجه، ليقودهم إلى حكم العالم.

ويوماً بعد يوم، يشعر اليهود بأنهم اقتربوا أكثر فأكثر من تحقيق هذه الحلم، الذي يشكل خطراً جسيماً، وقنبلة موقوتة، لا يدري أحد إلى أين ستؤدي بكل من الفلسطيني واليهود على السواء، وهل سيقتصر الأمر على الشعبين، أم سيجر معهما شعوباً ودولاً أخرى لها علاقة في الصراع؟!

عمد اليهود خلال الفترة الأخيرة، إلى تجهيز كل مستلزمات الهيكل المزمع بناؤه، وأحضروا المهندسين المهرة لتنفيذ هذا المشروع، ووضعوا مجسماً كبيراً مساحته تزيد على 400مترمربع، ونحتوا صخوره وأدواته، حتى لم يبق أمامهم سوى الشروع في عملية الهدم والبناء!!

إضافة إلى ذلك، فإن "أرييل شارون" استولى على منزل وسط القدس الشرقية، في الحي العربي، وذلك لاستفزاز المسلمين ومضايقتهم.

وكانت أكثر الاعتداءات تأثيراً، استكمال حفر نفق تحت المسجد الأقصى، مما هدد بانهيار جزء منه.

ونتيجة لهذه الاعتداءات الدينية، والممارسات المبنية على المعتقدات، وكرد فعل غاضب، وقعت مواجهات عنيفة مرات عدة، كانت شرارتها استفزاز ديني من قبل اليهود.

3. الصحوة الإسلامية وظهور حركات تدعو إلى الجهاد

استهدفت مخططات اليهود تغييب الإسلام، كعقيدة محركة للجهاد، عن ساحة المواجهة، وذلك لعلمهم أنه لا قبل لهم بحرب دينية، يحركها الإسلام في المنطقة!

لكن سياستهم في تحييد الإسلام، ومحاولاتهم لإقصائه عن حياة الناس وصراعهم مع اليهود، باءت بالفشل، ولم تحقق أهدافها. فبعد أن ظنوا بأنهم استطاعوا سلخ أبناء الشعب الفلسطيني عن عقيدتهم، وتحويلهم إلى علمانيين لا دين لهم، فوجئوا بصحوة نضجت على نار هادئة، واستوى عودها، وتحولت إلى تيار جارف يصعب إيقافه.

والحقيقة أن الشعب الفلسطيني جرب كثيراً من المعتقدات والمبادئ، التي غزت السّاحة العربية في ظل الاستعمار الغربي، وسُمح لها بالانتشار بين مختلف فئات الناس، وقدم لها الدعم والتسهيلات لتأخذ مجراها، وتنتشر أفكارها، مما شكل عاملاً من عوامل تفريق الشعب، وترسيخ جذور الخلاف بين أبنائه. ولمّا أن جرب الفلسطينيون ذلك، ورأوا النتائج السّلبية التي عادت عليهم بأنواع من الشرور، وجدوا أن الحل لمشاكلهم والخلاص منها، إنما يكون بالعودة إلى القرآن والسنة.

ومن هنا ظهرت بدايات الصّحوة في أواخر السبعينات، وبدأت تنتشر بسرعة فاقت كل التوقعات، وزحفت نحو مناطق الفلسطينيين، الذين يقطنون في المجتمعات اليهودية في المناطق المحتلة عام 1948، وطالت الصحوة كل فئات المجتمع، وأثرت على عرب النقب، الذين وجدوا فيها ضالتهم لتخليص شبابهم من شرك الخدمة العسكرية، التي انخرطوا فيها نتيجة لجهلهم بأمور الدين.

هذه الصحوة، التي شملت كل مناطق فلسطين المحتلة، أدت إلى ظهور حركات إسلامية تدعو للجهاد والمقاومة، مثل حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي تُعد فرعاً من فروع جماعة الإخوان المسلمين، وحركة الجهاد الإسلامي.

إن حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، انطلقت من فكر سياسي، يرتكز على الدين الإسلامي فهماً وعقيدة وسلوكاً واجتهاداً، من أجل بناء منهج حياة تنبع منه إرادة جهادية، تمكِّن الأمة من إثبات أفضليتها الخيرة، إلى جانب الأقوام والأمم. وإلى ذلك أشار بيان الحركة الصادر في 30 سبتمبر 1991، حيث جاء فيه: "فالإسلام منهجها، ومنه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها عن الكون والحياة، وإليه تحتكم في تصرفاتها، ومنه تستلهم ترشيد خطاها".

كان ظهور حماس قوياً خلال الانتفاضة الأولى، حيث صدر بيانها الأول في 14 ديسمبر 1987، الذي بدأت من خلاله توجيه فعاليات الانتفاضة.

هذه الصحوة الإسلامية، التي شهدتها فلسطين المحتلة، شملت أنشطة دعوية وتوجيهية مختلفة. فقد أنشئت مراكز لتحفيظ القرآن الكريم، بلغ عددها مع نهاية العام 2000 حوالي 600 مركز، وأنشئت مدارس ذات صبغة دينية، حيث اتضحت حقيقة اليهود، المبنية على ما ورد في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:]لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ[ w (المائدة: الآية 82). وقوله تعالى: ] لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ[ w  (الحشر: الآية 14). وغير ذلك من الآيات والأحاديث النبوية، التي فصّلت حال اليهود، وحذرت منهم، وبينت كيفية قتالهم.

هذا كله أعطى دفعاً قوياً للانتفاضة، لتأخذ شكلها العنيف، وسط إصرار عجيب على المواصلة، على الرغم من الجراحات والمصائب.

خامساً: الأسباب الأمنية

تعددت الدواعي الأمنية، التي أسهمت في دفع الفلسطينيين إلى إعلان انتفاضتهم الكبرى. وتبرز أهم أشكالها فيما يلي:

1. إشاعة الخوف وعدم الاستقرار

لا يأمن الفلسطيني على حياته، ولا على حياة أبنائه وإخوانه، ولا على بقاء أرضه ملكاً له، ولا على الاستقرار في منزله، فهو يعيش حالة من الخوف الدائم، والتوجس من وصول اليهود إليه، وممارسة سياسة القمع ضده.

فالقتل لأدنى شبهة، والاعتقال كعقاب على رمي حجر، والإذلال ضد كل من دارت حوله شبهة المقاومة، ومصادرة الأرض ونزعها من أصحابها، أمر واقع بهدف إقامة، أو توسيع، المستوطنات، وهدم المنزل بحجة عدم الترخيص، أو إضافة بناء فيه دون إذن، أو إلقاء الأحد الأفراد حجراً على جنود الاحتلال، أمر واقع على الشعب الفلسطيني وممارس كل يوم.

ونتيجة لهذه الممارسات التعسفية، كان لا بد من الانفجار، وكان ذلك من العوامل التي ساعدت على إشعال الانتفاضة.

2. ممارسات الاغتيال والاعتقال والتعذيب

شهدت فترة ما قبل الانتفاضة، عدة حالات اغتيال لرموز فلسطينية، في منظمة التحرير الفلسطينية. وسياسة الاغتيال منهج معروف في نهج الاحتلال، وقد نفذها خلال هذه المرحلة بشكل ملفت للنظر، في عدد من دول العالم، خاصة لبنان، وتونس وفرنسا، حيث قامت مجموعات من القوات الخاصة الإسرائيلية، بتتبع عناصر ذات أهمية في البناء التنظيمي لمنظمة التحرير، ومن ثم اغتيالهم والتخلص منهم.

كما قُتل عدد من الفلسطينيين تحت التعذيب في السجون الإسرائيلية. وتُعد السّجون الإسرائيلية مراكز لممارسة كثير من أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، حيث يتعرض الآلاف من الفلسطينيين لصنوف مختلفة من التعذيب والهوان، وبكافة الوسائل والأساليب.

ويصعب حصر حالات الأسر في أوساط الشعب الفلسطيني، تحت الاحتلال الإسرائيلي. ولكن يقدر عدد حالات الأسر، ما بين عامي 1967 ـ 1987، بنحو 535 ألف أسير فلسطيني، أي بمعدل حوالي 27 ألف حالة أسر سنوياً. في حين يُقدر عدد الفلسطينيين، الذي أُسروا منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية، في 8 ديسمبر 1987، حتى نهاية عام 1994، بحوالي 275 ألف فلسطيني.

وتُعد دولة إسرائيل الوحيدة في العالم، التي تمارس التعذيب ضمن قانون يسمح بذلك، ضد أعدائهم، ويوجد أكثر من عشرين مقراً لمعتقلات كبيرة، يستوعب الواحد منها آلافاً من المعتقلين، ومن أهمها: سجن عسقلان، ومجدو، وعتليت، وأشمورت بيت ليد، ونفحة، وشطة، وبئر السبع، والرملة، وهداريم، والخليل، وسجن نفي تريتسا للنساء، وغيرها.

وتمارس سلطات الاحتلال العديد من وسائل التعذيب، والضغط الجسدي والنفسي، في معتقلاتها ومركز التحقيق، وفيما يلي جزء من هذه الوسائل:

أ. الشبح: أي وقوف أو جلوس الأسير في أوضاع مؤلمة لفترة طويلة، وغالباً يتم إجبار الأسير على الجلوس على كرسي صغير، لا تتجاوز قاعدة 25 سم × 25 سم، وارتفاعه حوالي 30 سم، وتُقيد يداه إلى الخلف.

ب. الحرمان من النوم: حيث يُمنع الأسير من النوم، لفترات طويلة.

ج. الحبس في غرفة ضيقة: يحبس الأسير في زنزانة ضيقة جداً، يصعب فيها الجلوس، أو الوقوف بشكل مريح.

د. الحرمان من الطعام: يحرم الأسير من بعض الوجبات الغذائية، بالقدر الذي يبقي الأسير حياً، ولا يُعطى الوقت الكافي لتناول الطعام.

هـ. الضرب المبرح: أي يتعرض الأسير للصفع والركل والخنق والضرب على الأماكن الحساسة، والحرق بأعقاب السجائر، والتعرض للصّدمات الكهربائية.

و. التعرض للموسيقى الصاخبة: يجبر الأسير على سماع الموسيقى الصاخبة، التي تؤثر على الحواس.

ز. التهديد بإحداث إصابات وعاهات: يُهدد الأسير بأنه سوف يصاب بالعجز الجسدي والنفسي، قبل مغادرة المُعتقل.

ح. الحط من كرامة الأسير: بإرغامه على القيام بأمور، من شأنها الحط من كرامته.

ط. تهديد الأسير بالاغتصاب والاعتداء الجنسي، عليه أو على زوجته وذويه.

ي. اعتقال الأقارب، من أجل الضغط على الأسير.

ك. حبس الأسير مع العملاء: يوضع الأسير مع مجموعة من العملاء، الذين يعملون لحساب المخابرات الإسرائيلية.

ل. أسلوب الهز: يُمسك المحقق بالأسير ويهزه بشكل منظّم، بقوة وسرعة كبيرة، من خلال الإمساك بملابسه، فيهتز العنق والصدر والكتفين، الأمر الذي يؤدي إلى إصابة الأسير بحالة إغماء، ناتجة عن ارتجاج في الدماغ.

م. عرض الأسير على ما يُسمى "جهاز فحص الكذب".

ن. تعريض الأسير لموجات باردة شتاء، وموجات حارة صيفاً، أو كلاهما معاً.

س. حرمان الأسير من قضاء الحاجة.

ع. إجبار الأسير على القيام بحركات رياضية صعبة ومؤلمة مثل: "وضع القرفصاء، وجلسة الضفدع، لفترة طويلة. وفي بعض الحالات يضع المحقق الكرسي، لضمان عدم تحرك السجين".

وقد أكد تقرير أعدته مؤسسة بتسليم الإسرائيلية في يونيه 1998، أن أكثر من 850 سجيناً فلسطينياً يتعرضون لأشكال متنوعة من التعذيب كل سنة، وأن محققي الشاباك يستخدمون، أثناء تحقيقهم واستجوابهم للأسرى الفلسطينيين، أكثر من مائة وخمسة وسائل من وسائل التعذيب.

3. هدم المنازل

في بداية الاحتلال أخليت قرى كاملة من الفلسطينيين، ثم أزيلت وأعيد بناؤها، إما في الموقع نفسه، أو في موقع مجاور، بحيث أصبحت مستوطنات يهودية. وكان عدد سكانها 4400 نسمة، ولكن السنوات اللاحقة شهدت التحول إلى هدم المنازل مفردة "إما لأسباب أمنية"، أو كعقاب، أو لأسباب تتعلق "بالتنظيم" (مثل البناء دون ترخيص بحيث يعتبر مخالفاً للمخطط القائم)، ولكن هذه الأسباب لا تنفصل انفصالاً تاماً عن بعضها البعض، فهدف الإزالة بسبب "التنظيم" هو إخلاء الأرض للاستيطان، وهو الذي سبق تبريره لأسباب تتعلق "بالأمن".

وفي هذا الإطار، قسمّت السّلطات الإسرائيلية الضفة الغربية إلى 18 منطقة، وعينت لكل منها "مفتشاً" خاصاً، يتنقل في شاحنة بيضاء ويكون مسؤولاً عن متابعة التطورات في منطقته. ولا يشار إلى هؤلاء المفتشين إلا بأسمائهم الأولى المبنية على أوامر الإزالة، والفلسطينيون يخشونهم لأنهم ـ في أحيان كثيرة ـ يقتحمون الممتلكات الخاصة.