إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الانتفاضة الفلسطينية (1988)









الفصل الخامس

المبحث الرابع

وسائل قمع الانتفاضة وأسباب توقفها

أولاً: الوسائل الإسرائيلية لقمع الانتفاضة

حارت أجهزة الأمن الإسرائيلية في مواجهة الانتفاضة، وأُسقط في أيدي قادتها. فعلى الرغم من استعمالهم كل وسائل العنف والبطش والأذى والقتل، لم يتمكنوا من إخماد جذوتها، وكانوا يتفننون في استعمال الوسائل المتعددة. "ولم يترك الجنود الإسرائيليون أسلوباً للتنكيل بالمواطنين، إلاّ تسابقوا على تنفيذه، وإن أثار عليهم العالم أجمع. فإسحاق رابين، وزير الدفاع حينذاك، لم يتحرج عن الرد على الانتقادات، التي وجهها البيت الأبيض، بأن هذه مرحلة يجب أن يحتفظ فيها كل من الجانبين برأيه، وقال في حديث نشرته صحيفة، "معاريف" في 25/1/1988، حول سياسة القبضة الحديدية: "إن تلك السياسة ستستمر، ولن تخضع لتغييرات بسبب ردود الفعل والانتقادات في الداخل والخارج". وأما وزير الشرطة، حاييم بارليف، فقد صرح قائلاً: "صحيح أن الأمريكيين استيقظوا نتيجة للاضطرابات في الأراضي المحتلة، ولكنني أتابع الأحداث، وأرى أن أسلوب التعامل معها يجب أن يكون منفصلاً عن العملية السياسية". وقد أعترف ناطق باسم الجيش الإسرائيلي، بتنفيذ قواته أعمال وحشية ضد المواطنين الفلسطينيين، وحاول تبرير هذه الأعمال بقوله: إن الوضع المتوتر، اضطر أولئك الجنود إلى ارتكاب أعمال شائنة. غير أن ما عدّه هذا الناطق العسكري "أعمالاً شائنة" لجنود فقدوا صوابهم، علله إسحاق شامير في تصريح مماثل، بأنّ الجيش الإسرائيلي مكلف بالقيام بمثل هذه الأعمال والإجراءات، من قبل الحكومة الائتلافية". ومن أبرز هذه الأعمال القمعية:

1. اقتحام المنازل بعد فرض حظر التجول على المنطقة، وتحطيم الأثاث وزجاج النوافذ والعبث بمحتويات المنزل، وإتلاف المواد الغذائية، والاعتداء على كبار السن من الرجال والنساء بالسباب والشتائم، وضرب الشباب ضرباً مبرحاً أمام زويهم.

2. قذف القنابل المسيلة للدموع داخل المنازل، وإجبار أصحابها الدخول إليها والغاز يملؤها.

3. إطلاق يد قوات حرس الحدود، وحدات الأقليات، لتخريب الأثاث، وتوجيه الكلام العربي القاسي والبذيء، بألسنة عربية!!

4. تجميع أعداد كبيرة من المواطنين، مِمَن يصادف مرورهم في الشارع، وتعريضهم للبرد في الليل، واستنشاق الغازات المسيلة للدموع.

5. تخريب اللواقط الزجاجية للسّخانات الشمسية على أسطح المنازل، بقذفها بالحجارة، أو إطلاق الرصاص عليها.

6. ربط بعض الشباب بالسيارات، قيادتها بسرعة، فيقعون على الأرض.

7. وضع بعض المعتقلين أمام الجنود، على شكل دروع بشرية، يتقون بهم ضربات الحجارة.

8. إجبار بعض من يعتقلونهم، على إدخال الإطارات المشتعلة إلى المنازل.

9. رمي بعض الشباب المعتقلين من السيارات، وهي متحركة.

10. منع الشباب من 15-35 من السفر خارج المدن، أو خارج الضفة والقطاع.

وهناك أساليب استعملت بشكل موسع، مثل:

1. طمس الشّعارات كتابة شعارات مضادة على الجدران.

فقد كان عملاء إسرائيل، أو من جاؤوا من بلاد عربية، يقرؤون هذه الشّعارات، التي تغطي الجدران، وهي موجهة إليهم، مثل: "يا صهيوني أنت لم تحتل أرضاً، أنت تحتل قبرك"، و"بالعلم والبارود نهزم اليهود"، و"لم يفهم المحتل من خطائنا فلنفهم المحتل ما لم يفهم"، و"يا يهودي يا جبان المسلم ما بينهان"، "لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل"… ويرد الإسرائيليون على هذه الشعارات بالآتي:

أ. محوها: فقد وصل أثر هذه الشعارات إلى القادة العسكريين، فأصدر القائد العسكري لمنطقة يهوداً والسامرة. بالضفة الغربية، في يونيه 1988، أمراً عسكرياً يُلزم كل متصرف في عقار، محو أو تغطية أي إشارة وإزالة أي رمز، إذا كان له تأثير على الرأي العام، ومن أخل بهذه التعليمات يعاقب بالسجن لمدة 5 سنوات، أو بالغرامة خمسة آلاف شيكل.

ب. كان الجنود يجبرون بعض مَنْ يعتقلونهم، بطمس هذه الشعارات بالماء أو بالدهان.

ج. كتابة شعارات مضادة يعبر فيها الجنود عن مشاعرهم الحاقدة، مثل: "الموت للعرب فليعش هانا"، يهودي واحد يساوي كل العرب". كذلك كتب بعض العملاء "تعيش دولة إسرائيل، وتسقط الانتفاضة".

2. منع التجول

يجرى أكثر تحركات المجاهدين ليلاً، وكذلك تحركات القياديين والعناصر المتوجهة للعمليات. ولذلك، كانت القوات الإسرائيلية تفرض على المناطق المحتلة، أو على بعض المدن والقرى والمخيمات، التي تقع بجوارها أحداث، نظام منع التجول، طيلة ساعات الليل، لتفرغ السّاحات من الرجال، ولتتمكن القوات والدوريات من مداهمة البيوت، بحثاً عن المطلوبين". وقد بلغت حالات منع التّجول في الستة الأولى من الانتفاضة ما لا يقل عن 1600 حالة، من بينها 118 حالة استمرت ما يزيد على خمسة أيام متتالية" ويُداهم الجنود، خلال مدة الحصار ومنع التّجول، المنازل، ويحطمون الأبواب والنوافذ، والأثاث. ففي مدينة قلقيلية ـ مثلاً ـ التي خضعت لمنع تجول طويل الأمد، لم يبق شيء لم يصل إليه التحطيم، بما في ذلك أواني المطبخ، وأجهزة التليفزيون والطاولات والكراسي، والخزائن، والساعات، والصور.

وكان منع التِّجوال ـ أحياناً ـ يشمل كل الضفة والقطاع، لعدة أيام. "وبلغت إجراءات حظر التجول ذروتها في الأيام الأخيرة من شهر مارس، حين أعلنت سلطات العدو في إغلاق الضفة الغربية وقطاع غزة لمدة ثلاثة أيام، من الساعة العاشرة من مساء يوم 28/3 وحتى السّاعة الثامنة من صباح الأول من أبريل. وقد تكون عمليات الحظر قلت مع تقدم الزّمن، لأنه لم يعد بالفائدة على الجيش الإسرائيلي، على الرغم من الضائقة الاقتصادية، التي أصابت المدن والقرى بسببه. ففي مطلع 1989، زاد عدد العاطلين عن العمل، كلياً أو جزئياً، في المناطق. كما انخفض عدد العمال المتوجهين للعمل في إسرائيل، إلى أكثر من النصف. وكذلك دفعت إسرائيل أيضاً ثمناً باهظاً في حرب الاستنزاف الاقتصادي هذه. فقد انخفضت نسبة التشغيل خلال عام 1988 بحوالي 25%، أي ضاع حوالي مليار دولار. وانخفض معدل الصادرات الإسرائيلية إلى المناطق، بحوالي 34%. وكثير من الخبراء خلصوا إلى أن الانتفاضة كلفت إسرائيل خسارة فادحة، لتجميد نشاطها الاقتصادي". وهذا باعتراف الخبراء الإسرائيليين، في قولهم "اعتباراً من شهر يناير "بداية الانتفاضة"، ظهر أن نظام منع التّجول أسلوب باهظ الثمن، يترتب عليه اختبارات قوة عنيفة. فالسكان، الذين كانوا ينصاعون بدون تفكير لأوامر البقاء في بيوتهم في أوقات منع التجول، سابقاً، ويسمحون للجيش الإسرائيلي بالإشراف على تطبيق النظام بوحدات صغيرة، بدؤوا يحاولون خرق هذا النظام، المرة تلو الأخرى.

وقد وقع حادث بارز في مخيم البريج، اضطرت كتيبة من لواء جفعاتي، التي أرسلت لتطبيق نظام منع التجول في المخيم، إلى الانسحاب، وهي مرتبكة، في ضوء مقاومة آلاف السكان لأوامر منع التجول. فقد اضطرت الكتيبة إلى الانسحاب، وإعادة التنظيم خارج المخيم لاقتحامه من جديد، وإرغام السكان على العودة إلى بيوتهم، باستخدام الهراوات, والطلقات النارية. كانت تلك تجربة قاسية للجنود وقادتهم. وأصبح الدخول إلى المخيمات، وبعض أحياء المدن والقرى ممكناً فقط، بمرافقة قوات عسكرية كافية. فبعد أن كان الموظفون الإسرائيليون يجوبون الشوارع وهم يحملون مسدساتهم فقط، أصبحوا الآن بحاجة إلى وحدات عسكرية كبيرة، للمحافظة على سلامة هؤلاء الموظفين.

أما الشوارع والطرق، التي فتحت وأصبحت آمنة، فقد صارت عرضة لخطر الألغام من نوع جديد، مثل المسامير والقطع الزجاجية، مما يسبب تعطيل سيارات الجيش الإسرائيلي، وكذلك صب الزيوت على الشوارع، مما يؤدي إلى تزحلق السيارات وانقلابها أو اصطدامها.

وكانت الحواجز، التي يزيلها الجيش الإسرائيلي، يعيد المواطنون الفلسطينيون إقامتها فور مغادرة الجنود، إلا إذا بقي الجنود يحرسون هذه الأماكن.

وكان السّكان هم الذين يختارون وقت الاصطدام مع الجيش الإسرائيلي، وهم الذين يحددون المكان، بينما يظل الجنود يتراكضون من مكان إلى آخر.

3. مقاومة الإضراب عن العمل، وإغلاق الحوانيت، من الأساليب، التي لجأت إليها قيادة الانتفاضة، ردت السلطات الإسرائيلية على هذه الإضرابات بإجراءات "تهدف كسر الإضراب التجاري، الذي التزم به التجار ورجال الأعمال". واتبعت السلطات العسكرية في ذلك، الأساليب الآتية:

أ. خلع أبواب المحال التجارية بآلات مختلفة، وكسر الأقفال بالمطارق والعتلات، كما لجأ الجنود إلى اقتلاع الأبواب بربطها بالسيّارات العسكرية وجرها.

ب. أمر التجار بفتح أبواب محلاتهم بعد الساعة الثانية عشرة ظهراً، وهددت السلطات العسكرية بإغلاق المتاجر نهائياً، إذا لم يلتزم أصحابها بالأوامر العسكرية.

ج. إغلاق المحلات التجارية بلحام الأوكسجين، وطرد التجار من المحلات، بعد مصادرة هويات بعضهم. وبلغ عدد المحلات المغلقة بهذا الشكل في بيت لحم، حتى 7 أبريل 1988، 65 محلاً تجارياً". إضافة إلى التشدد في جمع الضرائب منهم، وتشجيع السوق السوداء، بالسماح للعملاء ببيع المواد الغذائية بأسعار عالية، في أثناء الإضراب.

4. استخدام الغازات المسيلة للدموع والسامة

استخدمت القوات الإسرائيلية قنابل الغاز السّام، والمسيلة للدموع، بكثافة ضد تجمعات المواطنين والمتظاهرين، وداخل البيوت والمساجد. فعندما تقع اشتباك بالحجارة، أو تظاهرة، ويكون رد الجنود بالرصاص المطاطي، والحي أحياناً، وإطلاق الغازات المسيلة للدموع، على الشباب، وهم في الشوارع والأزقة الضيقة، أو في المساجد والبيوت. وقد كانت حصيلة من استشهد بسبب استنشاق هذه الغازات، أربعة وتسعين شهيداً حتى نهاية الانتفاضة، منهم ستة وثلاثون طفلاً. (اُنظر جدول الشهداء الفلسطينيون حسب أسباب القتل، والطرف المتسبب فيها، ونسبة الأطفال منهم (9 ديسمبر 1987 ـ 31 يونيه 1994))

كما أسفرت هذه الغازات عن إجهاض 141 سيدة فلسطينية، في السنة الأولى من الانتفاضة. "وقد استخدمت قوات الاحتلال نوعين من الغازات المسيلة للدموع:

الأول: "سي إن" CN، المعروف أيضاً باسمه الكيماوي "أوميفاكلور واسبتوفينون" ويُعد فعالاً لشكل الحركة، غير أن تأثيراته تنتهي بعد حوالي ثلاثة، أو أربع ساعات.

الثاني: "سي إس" CS المعروف باسم، "أورثوبنزيليدين مالونايت"، وهو دقيق أسود يمكن استخدامه بعدة طرق، مثل إلقائه من الطائرات العمودية، أو إطلاقه من بنادق، أو إلقائه باليد. وهو غاز قاتل في حال استنشاقه بجرعات مكثفة، خاصة إذا كان في أماكن مغلقة، فيتعرض بسببه الأطفال والمسنون لخطر الموت، أو التعقيدات الخطيرة. ولا يوجد أي ترياق معروف لهذا الدقيق الغاز، الذي يدخل الجهاز التنفسي، ويستقر في خلايا الدم والأنسجة الدهنية والأغشية المخاطية، كما يلتصق هذا الدقيق بالأسود الناعم بالجلد، فيُحدث جروحاً حارقة بالجلد، وله تأثير كبير على الحوامل والجنين. ومن المُلاحظ أن القنابل الغازية، التي يلقيها الجنود، كان كثير من الشباب يتتبع القنبلة التي ينبعث منها الغاز، ويمسكها بطريقة فنية، ويردها على تجمع الجنود الإسرائيليين.

5. أجهزة عسكرية متطورة

أ. "طرحت وحدة التطوير التابعة للجيش الإسرائيلي، آلة جديدة للاستخدام في الأرض المحتلة، تتضمن فوهتين تطلقان دفعات متلاحقة من الغاز المسيل للدموع، وفوهتين أخريين تطلقان ثلاثة أطنان من الحجارة الصغيرة، وكأنها بذلك ترد بمقاليع أوتوماتيكية على مقاليع الشباب الفردية"، في كل الاتجاهات وخلال ثلاث دقائق، مع بالونات أحماض. "ولعل هذه الآلة كانت رداً على أكياس البلاستيك، التي تحتوي على القاذورات وكان الرماة يقذفونها على الجنود وآلياتهم".

كما يوجد في مقدمة بعض الآليات العسكرية، شبكة حديدية تشبه مقدمة الجرافات لاجتياح المتاريس والحواجز في الشوارع، مع أضواء كاشفة قوية جداً، تبهر العيون في الليل.

ب. طورت الصناعات الحربية الإسرائيلية سيارة عسكرية، جديدة، رُكبت أسفل مقدمتها أجهزة مغناطيس كبيرة، بهدف جمع المسامير، التي كان ينثرها الشباب في الشوارع والطرقات، التي تمر عليها الآليات الإسرائيلية. وقد بدأت هذه السيارة عملها من 19 مارس 1988.

ج. استعملت القوات الإسرائيلية صهاريج تضخ الماء الملون على المتظاهرين، وأخرى تقذف المياه الصابونية في الشوارع، ليتزحلق حليها الشباب في تحركاتهم، وتستطيع هذه الآليات أن تقذف السوائل إلى مدى ثلاثمائة متر.

د. استخدمت القوات الإسرائيلية معدات وأجهزة كهربائية، تشبه أجهزة اللاسلكي الصغيرة والمتوسطة، وهي مزودة بأزرار، يؤدي الضغط عليها إلى إطلاق شحنات كهربائية لمسافة 15 ـ 20 متراً. وعند الإصابة بهذه الشحنة الكهربائية القوية يُقذف المصاب في الهواء مع ارتجاج شديد وإغماء فوري. وقد تؤدي هذه الإصابات إلى الموت على الفور".

6. هدم المنازل، وقلع الأشجار.

لجأت إسرائيل إلى هدم منازل، من يشاركون في عمليات ضد قواتها، أو تلك المنازل التي انطلقت منها أو من جوارها رصاصات أو قذائف، مستغلة في ذلك المادة 119 من قانون الطوارئ، الصادرة عن حكومة الانتداب البريطاني عام 1945. وتُستعمل في عمليات هدم المنازل المتفجرات، أو الجرافات الضخمة.

وتتخذ هذه الإجراءات ـ بعد ـ بعد فترة وجيزة من اعتقال المتهم، أو حتى قبل الاعتقال، أو بعد مقتل المتهم، ومن غير محاكمة. وقد بلغ عدد البيوت، التي هدمت في الأشهر الأربعة الأولى من الانتفاضة، 22 منزلاً، إضافة إلى هدم عدة أسوار استنادية، بحجة إلقاء الشباب الحجارة والقنابل الحارقة من خلفها".

وعلى الرغم من قسوة هذه العقوبة، على الأُسر وعلى المجتمع الفلسطيني، فإنها لم تؤد إلى إنهاء الانتفاضة. وقد كانت السّلطات الإسرائيلية تتوقع أن تؤدي هذه العقوبات إلى تناقص أعمال العنف، ولكن أخفقت هذه الطريقة، كما أخفقت سابقاتها ولاحقاتها. ويقول زئيف شيف في كتابه "انتفاضة": "في السابق، كان هدم بيت أو إغلاقه، يتطلب أمراً من وزير الدفاع، ولكن بعد أن اتسع نطاق الانتفاضة أصبح يكفي، لتنفيذ الهدم، أمر من قبل قائد المنطقة العسكرية. وقبل الانتفاضة كانت عملية قلع الأشجار عقاباً للفلسطينيين، تتطلب أمراً من قائد المنطقة، وبعد الانتفاضة أصبح أمر قائد القوة كافياً لتحقيق هذه العقوبة. وظهر أن عمليات هدم البيوت والطرد إلى خارج المناطق، هما من أشد العقوبات ضد السكان الفلسطينيين، ولكنها كانت، أيضاً، تترك أثراً بالغاً لدى كثير من الجنود والضباط الإسرائيليين، الذين كانوا يقولون: إن من أصعب الأشياء بالنسبة إليهم إخلاء العائلات والأولاد، وإخراجهم مع القليل من أمتعتهم، ومن ثم نسف البيت، وكلهم يبكي. وقال ضابط إسرائيلي كبير: إنني وأنا أنفذ مثل هذه العقوبات أحاول تعزية نفسي، بأنها ستؤدي إلى تقليل أعمال العنف، غير أنني في قرارة نفسي، كنت واثقاً ومتأكداً من أنها ستدفع أشخاصاً آخرين، للقيام بردود عنيفة ضدنا، والانتقام منا. وقد حدثت حالات هُدمت فيها بيوت فلسطينية، لمجرد إلقاء زجاجة حارقة من فوق السطح. وكان يطالب بهذه العقوبات المستوطنون ومؤيدوهم".

وبعد مضى عام من عمر الانتفاضة، وفي مايو 1994، وعند دخول السلطة الوطنية إلى غزة، كان عدد المنازل التي هدمت بالنسف بالديناميت وبأوامر عسكرية 617 منزلاً، وعدد البيوت التي أغلقت 382 بيتاً. كما كانت السلطات الإسرائيلية تلجأ إلى هدم بعض المنازل، بحجة المخالفة الإدارية، وعدم الحصول على ترخيص، مع أنها لا تعطي التراخيص للفلسطينيين إلاَّ بصعوبة، وتكاليف باهظة يعجز عنها الناس، وتهدم هذه المنازل بالجرافات. وقد بلغ عدد المنازل، التي دمرت بهذه الحجج، طيلة سنوات الانتفاضة 1402 ألفاً وأربعمائة ومنزلين.(اُنظر جدول ملخص انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة (ديسمبر 1987 ـ مايو 1994)).

ويُضاف إلى هذه العقوبات الوحشية، عقاب غير إنساني آخر، هو قلع الأشجار المثمرة، وتخريب البساتين وتجريف التربة. فقد كانت إسرائيل تعاقب بعض المجاهدين بقلع أشجارهم، أو تلجأ إلى ذلك بحجة اختباء الفدائيين خلف الأشجار القريبة من المواقع العسكرية، أو ممرات الدوريات. وقد بلغ عدد الأشجار التي قُلعت في سنوات الانتفاضة، 185489 شجرة. (اُنظر ملخص انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة (ديسمبر 1987 ـ مايو 1994))

7. تكسير العظام

كان أكثر ما يجرح كبرياء الجنود والضباط الإسرائيليين، أن يصابوا بحجر في الرأس أو في الوجه، والحجر ليس سلاحاً نارياً يعطي الجنود وضباطهم مبرراً لإطلاق النار. لذلك يصب الجنود غضبهم ونقمتهم على هؤلاء الفتيان، عندما يلقون القبض عليهم، بعد مطاردة شديدة مجهدة يُعاني فيها الجنود المثقلون بأحمالهم، فينهالون على الفتيان ضرباً بالأيدي وكعوب البنادق، وركلاً بالأرجل. ولكن هؤلاء الفتيان، إذا أفلتوا من أيدي جلاديهم، يسارعون إلى قذف الحجارة من جديد، وهذا سلاحهم الوحيد. من هنا لجأت السلطات، وعلى أعلى المستويات "رابين وزير الدفاع"، إلى إصدار أمر بتكسير عظام يدي الشباب ليعجزوا، لمدة عدة أسابيع، عن رشق الحجارة. وكان لهذه الصورة أثر كبير في الرأي العام العالمي، الذي شاهد هذه المناظر الوحشية حية. وقد بدأت هذه العمليات من منتصف شهر يناير 1988، بناء على نصيحة من الحكومة الأمريكية بإيجاد طريقة غير الذخيرة الحية. فقد صرح إسحاق رابين لصحيفة "الجيروزاليم بوست"، بعد خمسة أيام من إصداره التعليمات إلى جنوده بضرب المواطنين الفلسطينيين، وتكسير أطرافهم، قائلاً: إن هذا الأسلوب أكثر فعالية من الاعتقالات، لأن المعتقل في سجن الفارعة مثلاً، يمكث 18 يوماً، يعود بعدها إلى الشوارع للتظاهر وقذف الحجارة. أما إذا كسر الجنود يديه، فإنه لن يتمكن من العودة، إذا عاد، إلى الشارع، قبل شهر ونصف شهر على الأقل". ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت في 4 مارس 1988، على لسان أحد الجنود قوله: "تلقينا أوامر بأن من يقذف حجراً، يجب أن ينام شهراً على الأقل في المستشفى".

8. الاعتقال

ويُعد هذا الأسلوب من أسهل الأساليب، وأكثرها انتشاراً واستعمالاً. فقد كان الجنود الاسرائيليون يطاردون الرماة والمتظاهرين، ويمسكون عدداً منهم، ممن يقع على الأرض متعثراً، أو يجرح أو.. فيُساق هؤلاء بالضرب والرفس إلى السيارة، التي تقلهم إلى السجن، ليبقى فيه من غير تهمة توجه إليه، لمدة 18 يوماً، أو أكثر "حسب هوى السّجان". كما توجد اعتقالات لأسباب أخرى، أهمها ضد الشباب مَن تصل إخباريات عن مشاركتهم بأعمال عسكرية، فيعتقلون من بيوتهم. وقد بلغ عدد المعتقلين، بعد ثلاثة أشهر من بدء الانتفاضة، 2350 معتقلاً، وتجاوز عدد المعتقلين الإداريين 240 معتقلاً.

وبعد سنة من عمر الانتفاضة، بلغ عدد المعتقلين 25000 خمسة وعشرين ألف فلسطيني، اعتقلوا خلال السّنة الأولى من الانتفاضة، من ضمنهم خمسة آلاف، بينهم عدد من النساء، مكثوا في السجن ما يزيد على ستة أشهر. أي أنه لم يبق بيت واحد في المناطق المحتلة"، لم يعتقل أحد أبنائه على الأقل، وإذا أضفنا إلى هذا عدد الجرحى، الذين تجاوز عددهم ـ حسب الإحصاءات ـ عشرات الآلاف في السنة الأولى، ندرك فظاعة الضرر، الذي لحق الجمهور الفلسطيني في المناطق المحتلة".

ويقول زئيف شيف وزميله إيهود يعاري، في كتابهما "انتفاضة": إن عدد المعتقلين إدارياً ـ عقب توقف الانتفاضة ـ بلغ 18211 معتقلاً، وأن عدد الجرحى في عمر الانتفاضة وصل على 130787 جريحاً؟ (اُنظر ملخص انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة (ديسمبر 1987 ـ مايو 1994)).

وأما عدد الشهداء، الذين سقطوا برصاص الجنود الإسرائيليين، أو بالغازات، أو بالضرب، في سنوات الانتفاضة، فقد بلغ 1392 شهيداً، منهم 362 شهيداً من الأطفال دون سن السادسة عشرة، وأربعون امرأة.؟ (اُنظر ملخص انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة (ديسمبر 1987 ـ مايو 1994))

ولم تكن إسرائيل تكتفي بقتل، من يشارك في الانتفاضة، أو في أعمال الاشتباك المسلح، أو مَنْ يُنفذون عمليات تفجيرية بطولية، بل مدّت عملياتها خارج الأرض المحتلة، ضد من ترى أن لهم دوراً في الانتفاضة، أو العمل ضدها. فاغتالت خليل الوزير أبي جهاد في عملية بوليسية دولية، شاركت فيها طائرات وسفن ووحدات كوماندوس، في 16 أبريل 1988 في منزله في العاصمة التونسية. كذلك قتلت ثلاثة من ضباط فتح في مدينة ليماسول في قبرص، بتاريخ 14 فبراير 1988، وعمليات أخرى كثيرة. وقد أدت هذه العمليات إلى ردود أفعال عنيفة في الأرض المحتلة؛ أحرقت فيها مساحات من الغابات والمزارع في إسرائيل منذ أواخر أبريل إلى يونيه، بلغت 150 ألف دونم، وتشكلت كتائب "أبو جهاد".


 



[1] كان هذا المؤتمر قد دعي إليه، في أثناء الانتفاضة، وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية `حرب تحرير الكويت`، وذلك بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في السادس من مارس 1991 بعد عشرة أيام من انتهاء حرب الكويت، في خطابه السنوي في الكونجرس، مبادرته حول عملية السلام في الشرق الأوسط لتحقيق سلام شامل  قائم على مبدأ الأرض مقابل السلام` وعلى قراري مجلس الأمن 242، 338` في يوليه 1991، التقى الرئيسان بوش وجورباتشوف في موسكو واتفقا على توجيه دعوة مشتركة لمؤتمر سلام في الشرق الأوسط، وحددا شهر أكتوبر من العام نفسه موعداً لبدء المؤتمر`. في مدريد عاصمة أسبانيا، وعقد في 30 أكتوبر 1991 بحضور راعيي المؤتمر، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وأسبانيا، والوفد الأردني الفلسطيني المشترك والوفد السوري والوفد اللبناني والوفد الإسرائيلي، ووفد مصري، ووفد من المجموعة الأوروبية، والأمم المتحدة. واتفق فيه على إجراء مفاوضات ثنائية `بين إسرائيل وكل من الوفود العربية`، ومفاوضات متعددة الأطراف، ومن الجولة الثانية للمفاوضات الثنائية كانت واشنطن مقر التفاوض. `من كتاب دولة فلسطين مؤتمر السلام من مدريد إلى أوسلو`. ص 16 ـ 26. تلخيصاً