إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الانتفاضة الفلسطينية (1988)









الفصل الخامس

9. الإبعاد

إذا كان الاعتقال يُبعد الشباب عن ميدان الصراع أياماً، وتكسير العظام يبعدهم أسابيع وشهوراً، فإن إسرائيل لجأت إلى طريقة أشد وأنكى، وهي الإبعاد عن الوطن، بصورة دائمة. وكانت لا تستطيع أن تفعل ذلك مع الجماهير، فإنها لجأت إلى هذا الأسلوب مع من ترى أنهم يحركون الجماهير ويقودونها ويخططون لها، ولا تجد دلائل مادية تدينهم بها في المحاكم، فتتخلص منهم بالإبعاد والطرد. وقد لجأت إسرائيل إلى هذه العقوبة عقب احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة، في حرب يونيه 1967. فكانت تُبعد مجموعات محدود العدد من قادة المنظمات، أو العناصر النشطة في المجال الفكري والسياسي، "حتى ناهز عدد المبعدين 2500 مدني فلسطيني، منذ عام 1967 حتى السنوات الخمس الأولى من الانتفاضة. وتبنى مجلس الأمن عشر قرارات حول هذه الإبعادات، هي القرارات ذوات الأرقام: 468، 169، 184، 607، 608، 636، 641، 681، 694، 726، وفوق ذلك يوجد عدد كبير من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمنظمات التابعة للأمم المتحدة الصادرة في هذا الشأن.

وكانت إسرائيل قد لجات إلى انتقاء أفراد معينين، منذ أشهر الانتفاضة الأولى، لإبعادهم إلى خارج الأرض المحتلة. فطردت الشيخ عبدالعزيز عودة، وأربعة آخرين من نشطاء وقادة حركة الجهاد الإسلامي في 3 يناير 1988، وتراجعت عن إبعاد أربعة كانت قررت إبعادهم أيضاً، وتستند السلطات الإسرائيلية في إبعادها للفلسطينيين على المواد 108، 112، من قانون الطوارئ لعام 1945، الذي أصدرته حكومة الانتداب البريطاني، مع أن القانون الدولي يخضع الاحتلال الإسرائيلي للقطاع والضفة الغربية لبنود اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، المتعلقة بحماية المدنيين في زمن الحرب، وتعلن المادة 49 من هذه المعاهدة أن النقل القهري للفرد أو الجماعة، وكذلك إبعاد الأشخاص المحميين، من أرض محتلة إلى أرض سلطة الاحتلال، أو أي دولة أخرى محتلة، أو غير محتلة محرم، أياً كانت دوافعه".

ويرى زئيف شيف "أن عقاب الطرد من المناطق، كان أسلوباً رادعاً في نظر كثير من رجال جهاز الأمن الإسرائيلي. وعندما اتسع نطاق الانتفاضة، ووجد الجيش الإسرائيلي صعوبة في قمعها والقضاء عليها، أثيرت عدة اقتراحات بشأن القيام بعملية طرد جماعية، تشمل مئات من نشيطي اللجان الشعبية ومنظمي التظاهرات. وكحل وسط تقرر طرد 25 من زعماء اللجان الشعبية". "ووصل عدد المطرودين في نهاية السنة الأولى من عمر الانتفاضة، إلى 50 خمسين فلسطينياً، من قادة أجهزة الانتفاضة. والحقيقة أن هذا الاسلوب، الطرد والإبعاد، يتفق تماماً، مع مخططات الصهيونية بتفريغ فلسطين من أهلها، لإحلال مستوطنين مكانهم. ولذلك بدأت به من بعد حرب يونيه 1967 مباشرة.

ويقول إسحاق رابين عن إجراءات الإبعاد: "الترحيل إحدى الوسائل التي تحاول بها إسرائيل إعادة الهدوء إلى الأراضي المحتلة. إننا نعرف من هم الذين أبعدناهم. إنهم أسوأ الجميع "بالنسبة إلى إسرائيل"، إنهم لن يوافقوا أبداً عن الكف عن اللجوء إلى العنف والإرهاب، ولن يغيروا رأيهم ويقبلوا التفاوض".

ولعل أهم وأخطر عمليات الإبعاد، كانت إبعاد 415 عنصراً من حماس والجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان.

وكان ذلك في أثناء المفاوضات، التي تلت مؤتمر مدريد[1]، عندما نفّذت كتائب القسام عمليات عنيفة ومؤلمة للجانب الصهيوني. فقد نفذت "وحدة خاصة عملية أسر عسكري إسرائيلي في مدينة رام الله، المحتلة منذ عام 1948، ونفّذ أبطال الخليل سيارة جيب في كمين، فقتل جنديان وأصيب ضابط، وأدخل مجاهدان في 10 ديسمبر 1992، سيارة مفخخة في منتصف الليل، إلى مرآب أحدى البنايات الواقعة على طريق الخليل في القدس، ولكن العملية لم يكتب لها النجاح، إذ شاهد أحد السّكان ملثَمين يغادران المرآب ففجّر الخبراء السيارة".

ورداً على هذه العمليات، التي أزعجت إسرائيل، ووجهت ضربة مهينة لأجهزتها الأمنية، وخلال انعقاد المفاوضات في واشنطن، "قامت (إسرائيل) بأكبر حملة شرسة منذ 1967، في سياق حملات التهجير الانتقائية والجماعية. ففي 16 ديسمبر 1992 شرعت السلطة الإسرائيلية تجمع أكثر من 400، من قادة ورجالات وعناصر الحركة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي، من السجون والمنازل، وحملتهم في حافلات كبيرة معصومي العيون، مشددي الوثاق باتجاه الشمال نحو لبنان، وعبر معبر زمريا، وفي مساء 17 ديسمبر أنزلتهم من الحافلات وأمرتهم بالتوغل في الأرض اللبنانية".

وقد كان هدف إسرائيل من إبعاد العناصر الإسلامية المحركة للانتفاضة، أن يدخل هؤلاء المبعدون في عداد اللاجئين، من غير رجعة إلى ديارهم، فتخمد الانتفاضة. ولكن المبعدين أفشلوا خطة إسرائيل، فأبوا أن يبتعدوا عن الحدود، وأصروا على البقاء والإقامة قريباً من الأسلاك الشائكة، على الرغم من البرد الشديد في هذا المكان والزمان من أشهر السنة. وساعدهم على ذلك الحركات الإسلامية والفلسطينية والحكومة اللبنانية. فقد أعلنت لبنان رفض السّماح لهم بالدخول إلى لبنان، وسارعت الحركات والمنظمات إلى إمدادهم بالخيام والفراش والطعام ولوازم الحياة. فأقاموا مخيماً كبيراً، في مرج الزهور، سُمي "مخيم العودة"، على بعد أقل من كيلو مترين من المعبر على الحدود. وبدأت مناشدة دول العالم والأمم المتحدة ومجلس الأمن، على إعادتهم إلى وطنهم.

وانعقد مجلس الأمن في 18 ديسمبر 1992، وتبنى بالإجماع القرار الرقم 799 لسنة 1992، الذي أدان بشدة التّصرف الإسرائيلي، وطلب أن تكفل إسرائيل، سلطة الاحتلال، عودة آمنة وفورية لكل هؤلاء المبعدين إلى الأراضي المحتلة. وطالب المجلس في القرار، أيضاً، الأمين العام أن يبحث إرسال ممثل إلى المنطقة، ليتابع مع الحكومة الإسرائيلية هذا الموقف الخطير، وأن يرفع تقريره إلى مجلس الأمن. كما أكد تحريم اتفاقية جنيف الرابعة للإبعاد، ينطبق على كل الأراضي، التي تمثلها إسرائيل منذ عام 1967، وعدّ تصرف تل أبيب الأخير منافياً للاتفاقية. ولكن إسرائيل رفضت قرار مجلس الأمن الرقم 99".

وأرسلت الأمم المتحدة، موظفها المسؤول عن إسرائيل في المنظمة، لمناقشة القضية مع إسرائيل، لكنه لم ينجح. فقدّم المراقب الدائم لفلسطين لدى الأمم المتحدة، مشروع قرار تحت البند السابع من الميثاق، متضمناً عقوبات محددة ضد إسرائيل، ولكن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية رفضتا هذا المشروع، بانتظار قرار محكمة العدل الإسرائيلية العليا، الذي جاء مؤيداً بالإجماع لقرارات الإبعاد". وجرت مفاهمة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، على إعادة المبعدين بعد عام.

ونتيجة للإبعاد، ولرفض إسرائيل قرار مجلس الأمن، توقفت المفاوضات العربية الإسرائيلية في واشنطن منذ الجولة الثامنة، في 17 ديسمبر 1992، وتعطلت بذلك مساعي عملية السلام مدة خمسة أشهر. وأصبح مرج الزهور في الجنوب اللبناني، مزاراً لكل القوى الوطنية والعربية والإسلامية. فكانت الوفود الحزبية والنقابية من لبنان وسورية ومصر والأردن، تصل إلى مرج الزهور لتشد على أيدي هؤلاء المبعدين، وتقدم إليهم المساعدات الطبية والغذائية، والدعم المعنوي والسياسي والإعلامي.

والحقيقة، التي ينبغي أن تشار إليها، هي أن بعض الشخصيات الفلسطينية، كان لها موقف من ارتباط المفوضات بقضية عودة المبعدين. "فقد نشرت مجلة الوطن العربي في شهر أبريل 1993، حواراً مع مسؤول فلسطيني لم تذكر اسمه، هاجم فيه موقف المنظمة من قضية المبعدين، وربطها باستئناف المفاوضات، وقال: "إن حسابات الزعامة، هي التي دفعت عرفات للتورط في حل قضية المبعدين. وقد كشفت مصادر مطلعة لمجلة المجتمع أن المسؤول الفلسطيني هذا هو محمود عباس "أبو مازن".

ولا يُنكر أن إسرائيل ضايقتها الانتفاضة، واستمرار حمام الدم الإسرائيلي، ولو كان قليلاً، مقارناً مع ما يراق من دماء الفلسطينيين. فقد تسربت معلومات تتحدث عن خطة إسرائيلية، أعطها كل من إسحاق رابين وإيهود باراك، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، تقضي بانسحاب مفاجئ من قطاع غزة المحتل، في أعقاب المطاردات وحوادث القتل، التي يتعرض لها الجنود الإسرائيليون، على أيدي المقاومة المسلحة لحماس".

وكانت إسرائيل تُقدر أن إبعاد هؤلاء القادة وعناصر حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، إلى لبنان، "كفيل بتعطيل عمليات الجهاد والمقاومة، ضد جنود الجيش الإسرائيلي وآلته العسكرية. ولكن هذا الظن خاب، فقد تصاعدت العمليات الجهادية في غزة وخان يونس والقدس والخليل ونابلس. ففي شهر مارس 1993، دهس المجاهد ساهر التمام ضابطي صف كانا في طريقهما إلى معسكر الجيش الإسرائيلي القريب من مدينة نابلس فقتلهم، وفي مساء 20 مارس، ذكرى معركة الكرامة، شن ثلاثة مجاهدين هجوماً بالأسلحة الرشاشة على سيارة جيب عسكرية، تحرس حافلة تقل طلاباً في طريقهم من مستوطنة عيلي زاهف، إلى مستوطنة أريئيل، فقُتل سائق السيارة وأصيب الجنديان الآخران بجروح بليغة.

وفي صباح 27 مارس، قتل أحد المجاهدين جندياً إسرائيلياً، عندما شن هجوماً على دورية لقوات حرس الحدود، في سوق الخضار بطولكرم". "وفي يوم الجمعة 16 أبريل 1993، يوم مسيرة الأكفان، التي قام بها المبعدون في مرج الزهور، انطلق المجاهد ساهر التمام، بسيارته المفخخة نحو مستوطنة ميجدلا، القريبة من عين البيضا، على بعد 15 كم من نهر الأردن، حتى وصل إلى ساحة مقهى "فيلج إن"، الذي يعج بالجنود الصهاينة، وفجّر سيارته بين حافلتين عسكريتين، وأسفر الهجوم عن احتراقهما وسقوط عشرات القتلى والجرحى واستشهاد المجاهد ساهر".

وكانت هذه العملية باكورة العمليات الاستشهادية؟ "فقد صرح المحلل السياسي الإسرائيلي، أهارون كلاين، عقب العملية، بأنه يتوجب على الإسرائيليين، وأجهزتهم الأمنية الاستعداد لمواجهة مرحلة جديدة، من عمليات المنظمات الإسلامية المتطرفة. وهذه العملية تعيد إلى أذهان الإسرائيليين العمليات الانتحارية "الاستشهادية"، التي نفذتها المقاومة الإسلامية والوطنية، في لبنان، ضد التجمعات والأهداف العسكرية الإسرائيلية، عقب احتلال الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان".

ومن أهم العمليات، التي نُفذت خلال هذه الفترة، من وجود المبعدين في مرج الزهور، عملية اختطاف حافلة ركاب، في القدس، نفّذها بها ثلاثة من المجاهدين، "وطالبوا بإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين وعبد الكريم عبيد، وخمسين أسيراً من حماس وخمسين أسيراً من الجهاد الإسلام، وفتح الجبهة الشعبية والديموقراطية والقيادة العامة.

فقد صعد هؤلاء المجاهدون إلى الحافلة في السابعة والثلث من صباح الخميس الأول من يوليه 1993، وعلى متنها أربعون راكباً، وبعد دقائق سيطروا على الحافلة، وطالبوا بالسماح للحافلة بالتوجه إلى لبنان، ولكن القوات الإسرائيلية أجبرت الحافلة على التوقف على بعد مائة متر من مركز قيادة الشرطة في حي الشيخ جراح، وأطلقت النار على الحافلة، وأصيب أحد المجاهدين في رأسه، وبدأ الركاب يهربون من النوافذ. وعلى الرغم من هذا الحصار، تمكن المجهدان الآخران من مغادرة الحافلة، وأجبرا سيارة إسرائيلية على حملهما والخروج من القدس، فاصطدما بحاجز، عند أحد الجسور في مستوطنة جيلو، وتبادلوا إطلاق الرصاص مع جمود الحاجز، ولكن القذائف الصاروخية أصابت السيارة وفجرتها عند مدخل بيت لحم، واستشهد المجاهدان".

وقد كتبت مجلة المجتمع في عددها الرقم 1033، بعد أقل من شهر من عملية الإبعاد، في تحليل سياسي للسيد عاطف الجولاني، تقول: "حين أقدم رئيس الوزراء إسحاق رابين على اتخاذ قرار إبعاد 465 فلسطينياً من نشطاء حركتي حماس والجهاد، كانت لديه مجموعة من الحسابات، التي رجحت لديه صحة القرار، وبعد مضي شهر على عملية الإبعاد، أظهرت تطورات الأحداث أن حسابات رابين كانت غير دقيقة، وخاطئة. فقد اكتشفت إسرائيل أن عشرة أبعدوا عن طريق، ولم تتوقع إسرائيل حجم الإدانة الدولية لخطوتها، كما فوجئت إسرائيل بالرفض اللبناني، وبصمود المبعدين وإصرارهم على البقاء في مخيمهم، على الرغم من قسوة الطقس.

وقد راهن رابين على أن العملية ستوجد شرخاً في الصف الفلسطيني، ولكنها أوجدت تماسكاً بين المنظمات الفلسطينية، على اختلاف مواقفها المبدئية، وبدلاً من تسرع عمليات التفاوض، التي بدأت، توقفت هذه المفاوضات، كما أدت إلى تصاعد الانتفاضة الشعبية، وتوسع العمليات العسكرية وتعمقها. كما أدت هذه العملية إلى ارتفاع في أسهم حماس في الشارع الفلسطيني، والشارعين العربي والإسلامي، وإلى بروزها في وجه المشروع الصهيوني".

10. الضغوط على منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها

وقد تعرضت منظمة التحرير وقيادتها، إلى ضغوط وإغراءات قوية، للعودة إلى المفاوضات ونجحت في ذلك فعادت المنظمة إلى المفاوضات بعد توقف دام خمسة أشهر" فاستؤنفت المفاوضات العربية الإسرائيلية في الجولة التاسعة، على الرغم من رفض إسرائيل المدعوم أمريكياً، تقديم أي تنازلات في قضية المبعدين، "والإصرار على أعادتهم بعد عام كامل"،

ففتح قرار المنظمة، بحضورها الجولة التاسعة، الباب أمام الوفود العربية الأخرى للعودة إلى المفاوضات، وكانت هذه العودة للمفاوضات، متجاوزة الرفض الشعبي، ورفض غالبية الفصائل، حتى إن الوفد المفاوض كان يخشى العودة إلى الأراضي المحتلة، خوفاً من التهديدات، التي صدرت بسحقه. وكان أحدها التهديد الذي وجهته كتائب أبو جهاد"، من داخل حركة فتح نفسها، فأصدرت قيادة المنظمة بياناً تحذر فيه من التعرض لأعضاء الوفد، وتعلن فيه مسؤوليتها عن حمايتهم، ومن الأسباب التي دفعت قيادة المنظمة إلى العودة إلى المفاوضات:

أ. إغراءات باستئناف الدعم العربي المادي للمنظمة، الذي كان قد توقف بسبب تأييدها لموقف العراق، في احتلاله للكويت، وإعادة العلاقات مع سورية، والحصول على موافقة إسرائيل على إعادة ثلاثين مبعداً، أُبعدوا قبل 1987، معظمهم من فتح.

ب. خشية قيادة المنظمة، من أن يؤدي التركيز الإعلامي على قضية المبعدين، وتعثر المفاوضات، إلى تنامي التأييد الشعبي والسياسي لحركة حماس، التي يرى فيها منافساً قوياً على الساحة الفلسطينية.

ج. الضغوط العربية والدولية، التي تعرضت لها قيادة المنظمة بهدف دفعها لاتخاذ قرار المشاركة".

وهكذا حرّكت عملية الإبعاد المياه الراكدة، وأشعلت الانتفاضة، وأعادت إليها وهجها. كما شغلت القيادة الفلسطينية، والمجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، والقيادات الشعبية والسياسية، في العالمين العربي والاسلامي، كما شغلت العالم بأسره حتى مجلس الأمن. وتحولت إلى تظاهرة إعلامية حركت الإعلام العربي والعالمي، وشدته إلى هذه الزاوية الصغيرة من جنوب لبنان، حتى كتب الله لهؤلاء المبعدين أن يعودوا إلى وطنهم بعد عام كامل من الإبعاد، فكانت عودتهم أول عودة جماعية تتم لمن هجّروا من وطنهم فلسطين.

ثانياً: أسباب توقف الانتفاضة

الأسباب والدوافع

كانت للانتفاضة تأثير كبير على المجتمع الإسرائيلي، في كافة مجالات حياته، أدت إلى وقوعه في الضيق والحرج، مما أجبر الحكومة الإسرائيلية على البحث عن وسائل وأساليب فعالة لإيقافها وإخماد نارها، والتخلص من تبعاتها.

ونظراً للطابع الإسلامي للانتفاضة، ونتيجة لظهور العمليات العسكرية الضخمة، والتفجيرات المذهلة، في وسط وعمق الكيان الصهيوني، ولأن الخسائر، التي لحقت بدولتهم كانت كبيرة، لجأ الإسرائيليون إلى مشروع التسوية والتفاوض مع منظمة التحرير، كخيار لا بديل عنه في ظل الصراع، الذي ظهر أنه يأخذ منحى دينياً يخشاه الإسرائيليون.

وإزاء هذا لم تجد إسرائيل أفضل من الخروج من غزة، وأجزاء من الضفة الغربية، وتسليم ذلك لمن يمكنه القيام بمهمة حماية المستوطنين، وضمان أمن الحدود.

ولم يجد الإسرائيليون بداً من الجلوس على مائدة المفاوضات، أمام قيادة منظمة التحرير، ممثلة برئيسها ياسر عرفات، للتباحث حول اتفاقية سلام، تحت شعار: "الأرض مقابل السلام".

يقول ريتشارد أرمنج ـ مساعد وزير الدفاع الأمريكي ـ: "إن الانتفاضة الفلسطينية ونمو التيار الأصولي الإسلامي في الأراضي المحتلة، كانا السبب الرئيسي وراء موافقة إسرائيل على منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً محدوداً".

ولهذا رضيت سلطات الاحتلال الإسرائيلية، بإدارة منظمة التحرير لمنطقة القطاع، وجزء من الضفة، مقابل إيقاف الانتفاضة وإخمادها، ومنع العمليات العسكرية، وحماية حدود الدولة الإسرائيلية.

وكان لهذا التحول أثره على الانتفاضة، حيث شهدت السّاحة معطيات جديدة، لا بد من الوقوف عندها، لسبر أغوارها، وتمحيص أهدافها، والكشف عن حقيقتها.

وبناءً على ما سبق، نجمل أسباب توقف الانتفاضة فيما يلي:

أ. تجنب حرب أهلية

كان من أهداف إسرائيل من وراء عملية السّلام، وجلب منظمة التحرير إلى غزة والضفة، إشعال نار حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس، وذلك بإلقاء نار المنظمة في وجوه الحركات الإسلامية ـ حماس والجهاد الإسلامي ـ لتحصل الاشتباكات، ولترتد سهام المقاومة إلى الصدور الفلسطينية، مما يحقق هدف التخلص من عدوين في آن واحد.

ولكن ذلك لم يتحقق بفضل الله عز وجل، وبفضل وعي وحنكة قيادات الحركة الإسلامية، حيث استطاعوا أن يفوتوا على العدو حيلته.

عملت السّلطة الفلسطينية بعد تسلمها للسلطة، في مايو 1994، على تنفيذ بنود الاتفاقية، التي وقعتها في مؤتمر مدريد، في 28 يونيه 1989، والاتفاقية التي وقعتها في أوسلو، في 13 سبتمبر 1993.

وكان من أهم ما ورد في الاتفاقيتين: العمل على إخماد الانتفاضة، وإيقاف العمل المسلح، وحماية أمن المستوطنات والحدود الإسرائيلية.

فقد عالج الاتفاق مختلف الجوانب، المتعلقة بأمن إسرائيل وجيشها ومواطنيها، سواء داخل مناطق الحكم الذاتي المحدود أو خارجها. غير أنه لم يتطرق إلى الأمن الفلسطيني إلاَّ في شق واحد، يتعلق بالنظرية الإسرائيلية القائلة بأن فئات المعارضة الفلسطينية، تشكل خطراً على الفلسطينيين. وقد عبّر عن هذا الفهم شيمون بيريز، وزير خارجية إسرائيل، عند توقيع الاتفاق بقوله: "إن إسرائيل ستوفر السلاح اللازم لسلطة الحكم الذاتي، لمواجهة الأخطار الأمنية من المنظمات الإرهابية".

وفي الإطار نفسه، صرّح رئيس الوزراء السابق، إسحاق شامير، قائلاً: "إن الفلسطينيين أكفأ منا في حفظ الأمن داخل مناطقهم، وقمع الإرهابيين".

وينقسم موضوع الأمن، حسب الاتفاق، إلى قسمين: داخلي وخارجي.

(1) الأمن الخارجي: وهو الشق الذي يُعد من مقومات السيادة الأساسية، فقد أقر الاتفاق بأنه حق كامل للدولة العربية، بما في ذلك أمن المعابر والحدود والجسور.

(2) الأمن الداخلي: وينقسم إلى ثلاثة أقسام:

(أ) أمن الإسرائيليين المدنيين والعسكريين، وتضطلع به القوات الإسرائيلية، في مناطق الحكم الذاتي وخارجها، على حد سواء.

(ب) أمن الفلسطينيين المتعلق بالخلافات فيما بينهم، وتضطلع به السلطة الذاتية، في الضفة الغربية والقطاع، عدا القدس.

(ج) الأمن المشترك: الذي يقع في مناطق التشابك السكاني، بين العرب واليهود، كما في الخليل، حيث تقوم دوريات عسكرية مشتركة في مثل هذه المناطق، حسب اتفاق طابا "أوسلو2".

ويظهر من خلال ذلك أن المهمات الأمنية، التي أوكلت إلى الشرطة الفلسطينية إنما ترفع العبء الفلسطيني عن كاهل الإسرائيليين، إضافة إلى مساهمة هذه الشرطة في معالجة الهجمات، التي يتعرض لها الإسرائيليون في الضفة والقطاع، وقد عجزت أجهزة الأمن الإسرائيلية عن معالجتها طوال السنوات، التي سبقت الاتفاق.

كان هذا الجانب الأمني وحده كفيلاً بإشعال حرب أهلية ضروس، لذلك رأت قيادة الانتفاضة ـ المعارضة لاتفاقيات السلام ـ عدم الاصطدام مع السلطة الفلسطينية، لتفشل مخطط اليهود في إشعال نار الصراع بين أبناء الوطن الواحد. وبناء عليه، خفت حدة المواجهات، وخبأ وهج الانتفاضة، وبدأت تنحسر شيئاً فشيئاً، حتى توقفت كمواجهات شعبية عارمة، مع استمرار العمليات الاستشهادية والمسلحة.

ب. إتاحة الفرصة لمعرفة ما ستؤول إليه مفاوضات التسوية:

نظراً لجهل كثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني، باستحقاقات بنود اتفاقيات السلام في مدريد وأوسلو، ونظراً للتسرع في التأييد المطلق لعملية السلام وما ترتب عليها من عودة المنظمة إلى الداخل، وتسلمها إدارة الحكم في غزة، وأجزاء من الضفة، ولفرحة الناس بخروج الجيش الإسرائيلي، رأوا إتاحة الفرصة للسلطة لتتسلم مهامها، وليرى الناس على أرض الواقع ما ستخلفه هذه الاتفاقيات.

وكان لا بد من ذلك أمام الاستقبال الحاشد، الذي عبّر فيه الفلسطينيون عن فرحتهم وبهجتهم بعودة جنود المنظمة إلى أرض الوطن، بعد عقود من الشتات.

ولأن الشعب الفلسطيني عانى كثيراً في ظل الاحتلال الصهيوني، في ظروف قاهرة خانقة، فإنه شعر، عند خروج الجيش الإسرائيلي من بعض مناطقه، بشيء من الحرية، وتنفس الصعداء قليلاً، ثم كان الترحيب بهذه التسوية أمراً طبيعياً، في ظل الظروف كهذه.

ج. انخفاض عدد نقاط التماس مع إسرائيل إلى الحد الأدنى

سُحبت قطاعات عسكرية إسرائيلية من مختلف مناطق القطاع، ومن بعض مناطق الضفة، مما قلّص عدد النقاط، التي كانت تعد نقاط تماس ومواجهة مع الفلسطينيين. ولذلك قلّ عدد الجنود المنتشرين في مناطق الازدحام السكاني الفلسطيني، مما أدى إلى تراجع حدة المواجهات، وقلة عدد المصادمات اليومية، وشكل سبباً من أسباب توقف الانتفاضة.

وهذا أمر طبيعي، إذ كان من أهم أسباب الانتفاضة، كثرة الاستفزازات الإسرائيلية للشعب الفلسطيني، نتيجة الاحتكاك المباشر واليومي في أغلب الأماكن والطرقات، في المدن والقرى والمخيمات، مما ضمن استمرارية الانتفاضة واشتعالها بضراوة. فلمّا تلاشى هذا المبرر أو كاد، كان أمراً مسلماً به أن تخف حدة الانتفاضة.

د. تنفيذ السلطة لتعهداتها، بإخماد الانتفاضة

بعد أن تسلمت السلطة مهامها، وكوّنت شرطة عسكرية لحفظ الأمن في المناطق، التي سيطرت عليها، بدأت تُنفِّذ ما تم الاتفاق عليه في مشاريع التسوية، في أوسلو ومدريد، خاصة ما يتعلق بالجانب الأمني. فبدأت بجمع المعلومات عن المطاردين والمعارضين وحملة السِّلاح، وكانت البداية دعوة المسلحين لتسليم أنفسهم وأسلحتهم للسلطة، وإعلان طاعتهم وولائهم لها، ثم شرعت القيادات العسكرية في ملاحقة المعارضين والزّج بهم في السجون، خاصة بعد حدوث عدد من الانفجارات في العمق الإسرائيلي، مما جعل القيادة الإسرائيلية تطالب بالإسراع، في تنفيذ ما اتفق عليه أمنياً

وامتلأت السّجون الفلسطينية بالمعارضين، من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وقُبض على عدد من المسلحين. وكانت الشرطة الفلسطينية، التابعة للسلطة، تسارع إلى صد الناس وإبعادهم عن خطوط التماس، وكان رجال الشرطة الفلسطينية يقفون على شكل سد يحجز، بين المتظاهرين وجنود الاحتلال، مما يؤدي إلى فشل المظاهرات والإضراب.

ثالثاً: دور المستوطنين في مواجهة الانتفاضة

نشطت حركة المستوطنين، في الأراضي المحتلة، طيلة فترة الانتفاضة، وقامت بأعمال عدوانية ضد الفلسطينيين. فلقد أثارت تصريحات قادة "المفدال" حماسة المستوطنين، وتنوعت اعتداءاتهم تنوعاً كبيراً، من اقتحام القرى وتحطيم السيارات، إلى إتلاف المحاصيل، أو جرف الحقول. ولجؤوا، خلال الآونة الأخيرة، إلى القتل، والخطف، وقذف السيارات بالحجارة، وإنشاء التنظيمات الإرهابية الجديدة.

وأقدم مستوطن على إطلاق النار على فلسطينيين، بالقرب من تل أبيب، في 20 يونيه 1989م، فأصابهما بجروح. كما أدت عمليات قذف الحجارة على سيارات الفلسطينيين، إلى انقلاب إحداها واستشهاد مواطن وجرح ثلاثة، قرب عوفاكيم. وفى 8/7/1989م استشهد فلسطيني، وجرح فلسطينيان في 10ـ11/7/1989م، وتعرض فلسطينيان للطعن في حيفا، في 11/7/1989م، وقد قتل المستوطنون، حتى أغسطس 1989م، حوالي 23 فلسطينياً، علماً بأن الإحصاءات الأردنية تدل على استشهاد 65 مواطناً، بنيران المستوطنين.

لم يتوقف المستوطنون، عند ذلك الحد، بل لجؤوا، أيضاً، إلى خطف المواطنين، كما حدث عند اختفاء فتى من القدس، في السابع من يولية، واختفاء آخر من مخيم العزة في 12/7/1989، ولعل ذلك مؤشر واضح، على بناء المستوطنين لتنظيمات سرية، تدير هذه الأعمال. وقد ظهرت، بالفعل، بيانات بأسماء شبكات إرهابية مختلفة، وتضمن بعض هذه البيانات، دعوة الجنود إلى التمرد على القيادة الخائنة. وقد كُشف النقاب، خلال تلك الفترة، عن تنظيم جديد، تحت اسم "حيرف جدعون" أو "سيف جدعون" في 11/7/1989م،الأمر الذي أخاف رئيس الوزراء شامير، في ذلك الوقت، من إمكانية نشوب حرب أهلية بين المستوطنين والجيش، خاصة بعد قيام عدد من المستوطنين بالاعتداء على بعض الضباط، علماً بأنه عاد واقترح دمج ميليشيا المستوطنين، في جهاز الدفاع الإسرائيلي.

وقد أعطت السّلطات الإسرائيلية الفرصة للمستوطنين، لزيادة نشاطاتهم في الأراضي المحتلة، وذلك عن طريق وسائل عديدة، أهمها هدم بيوت عائلات فلسطينية، شاركت في الانتفاضة. وفرضت السلطات الإسرائيلية تعقيدات هائلة، أمام محاولات الفلسطينيين لإعادة البناء، أو الحصول على رخصة بناء. وانخفض، تبعاً لذلك، عدد الرخص الممنوحة، فقد تبين من المعطيات، التي حصلت عليها بعض المصادر، خلال الفترة من 1/1/1988م إلى 1/9/1988م، أن عدد الطلبات المقدمة بلغ 994 طلباً فقط، أما عدد الرخص، التي منحت، فلم تتجاوز 220 رخصة)، وتركت بقية المنازل المهدمة كي يستولوا عليها المستوطنون.

وقد زاد التنسيق بين المستوطنين والحكومة في عام 1990م، مع تولى موشي أرينز وزارة الدفاع. فقد زاد اعتماد الحكومة على المستوطنين في القيام بمهام الأمن، والتخفيف من الاحتكاك مع الفلسطينيين، من خلال تعزيز الدوريات والحراسة على محاور الطرق الرئيسية، وشق طرق دائرية، تبعد عن المراكز السكنية العربية. واستغل أرينز المستوطنين في القيام بتحرك سياسي، من أجل إيجاد قيادة بديلة، تقبل بالمبادرة الإسرائيلية، بشأن الانتخابات في المناطق المحتلة.

وفي هذا السياق، كان التوجيه الأول، الذي أصدره أرينز، بوصفه وزير الدفاع، هو الطلب من هيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي، إعداد خطة للدفاع عن المستوطنات اليهودية في المناطق المحتلة. وفى اليوم التالي لتوليه مهام منصبة، زار مستوطنتي إريئيل، ومعاليه أودميم في الضفة الغربية، للتعرف على مشاكل المستوطنين، بشكل مباشر، ودرس فكرة إقامة حرس مدني، في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، مع قادة الجيش الإسرائيلي.

وليس هذا التنسيق، بين الحكومة الليكودية، بزعامة شامير، من جانب، والمستوطنين من جانب آخر؛ بجديد على السياسة الإسرائيلية. فعندما تولى مناحم بيجين رئاسة الوزراء، لأول مرة عام 1977، قام بأول زيارة لمستوطنة كريات أربع، التي أنشأتها حركة جوش أيمونيم المتطرفة، ولعل هذا التقارب بين حركات الاستيطان، والليكود له تفسير أيديولوجي، يتمثل في إيمان كل منهما بأهمية الاستيطان، في عقيدة أرض إسرائيل الكبرى.

وعلى الجانب الآخر، ليس ذلك بغريب على حزب العمل، مبدع فكرة الاستيطان، قبيل إنشاء الدولة، وإذا كانت الإيديولوجية هي أرضية اللقاء، بين المستوطنين من جانب، والليكود من جانب آخر، فإن اعتبارات الأمن هي أرضية اللقاء، بين المستوطنين من جانب، والمعراخ (حزب العمل)، من جانب آخر.


 



[1] كان هذا المؤتمر قد دعي إليه، في أثناء الانتفاضة، وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية `حرب تحرير الكويت`، وذلك بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في السادس من مارس 1991 بعد عشرة أيام من انتهاء حرب الكويت، في خطابه السنوي في الكونجرس، مبادرته حول عملية السلام في الشرق الأوسط لتحقيق سلام شامل  قائم على مبدأ الأرض مقابل السلام` وعلى قراري مجلس الأمن 242، 338` في يوليه 1991، التقى الرئيسان بوش وجورباتشوف في موسكو واتفقا على توجيه دعوة مشتركة لمؤتمر سلام في الشرق الأوسط، وحددا شهر أكتوبر من العام نفسه موعداً لبدء المؤتمر`. في مدريد عاصمة أسبانيا، وعقد في 30 أكتوبر 1991 بحضور راعيي المؤتمر، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وأسبانيا، والوفد الأردني الفلسطيني المشترك والوفد السوري والوفد اللبناني والوفد الإسرائيلي، ووفد مصري، ووفد من المجموعة الأوروبية، والأمم المتحدة. واتفق فيه على إجراء مفاوضات ثنائية `بين إسرائيل وكل من الوفود العربية`، ومفاوضات متعددة الأطراف، ومن الجولة الثانية للمفاوضات الثنائية كانت واشنطن مقر التفاوض. `من كتاب دولة فلسطين مؤتمر السلام من مدريد إلى أوسلو`. ص 16 ـ 26. تلخيصاً