إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الانتفاضة الفلسطينية (1988)









الفصل السابع

المبحث الخامس

أثر الانتفاضة على الفلسطينيين واليهود والمجتمع الدولي

شكلت انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987 منعطفاً تاريخياً مهماً، وتحولاً جذرياً، شمل مجمل النواحي والأطر السياسية والعسكرية والثقافية والفكرية والاجتماعية، للشعب الفلسطيني على الخصوص، ممتداً إلى الأمة العربية والإسلامية، بشكل عام. ومن هنا جاء حصاد الانتفاضة مشتملاً على نتائج وانعكاسات ملموسة يمكن تصنيفها تحت مستويات أربعة، هي: المستوى الفلسطيني، والمستوى العربي والإسلامي، والمستوى الصهيوني الإسرائيلي، والمستوى العالمي.

أولاً: في المستوى الفلسطيني

1. هدمت حاجز الخوف لدى الفلسطينيين، بعد أن ظن اليهود أن الشعب الفلسطيني أمسى يتجرع ذكريات مجازر اليهود المروعة، ومآسيهم، في ظل الحصار المفروض عليه داخل وخارج فلسطين، ويحسب ألف حساب لأي مواجهة مع جيش الاحتلال، الذي يملك جيشاً وترسانة من الأسلحة، لا يمكن مجابهتها بحال.

وكان لبطولات الانتفاضة، التي صنعها الشعب في مواجهاته اليومية، الأثر الأكبر في بعث الهمم، وشحذها، بحب الشهادة والإقبال بشجاعة والإقدام والاستبسال، خاصة أن المساجد أدت دوراً بارزاً، في دفع الانتفاضة وتوجيهها.

2. أعادت الاعتبار للشعب الفلسطيني في الداخل، بعد ركود في العمل الجهادي دام فترة من الزمن، وبعد أن اقتصر العمل العسكري على المنظمات المقيمة في الشتات، التي ظن اليهود أنهم قضوا عليها بتهجيرها من لبنان، إلى دول عربية متفرقة بعيدة عن الحدود الفلسطينية.

3. وجهت ضربة قوية لمظاهر الاحتلال ومؤسساته المختلفة، خاصة أجهزة التجسس الأمنية المرتبطة بالمخابرات الصهيونية، حيث قتل عدد كبير من العملاء والخونة، وتمت تصفيتهم جسدياً أو طردهم إلى عمق الكيان الصهيوني، ليشكلوا بدورهم عالة وهماً، يتضجر منه المجتمع الإسرائيلي نفسه.

كما كان لاستقالة رجال الشرطة العرب من وظائفهم، وكذلك موظفي الضرائب، أكبر الأثر في توجيه ضربة للإدارة الإسرائيلية المدنية، في الضفة والقطاع.

4. صقل قيادة قوية للعمل الجهادي المسلح، وذلك بظهور فئة من الشباب تتسم بالشجاعة والإقدام، وتملك عزيمة قوية، مستعدة لتحمل مشاق وتبعات المواجهة.

5. أبرزت الدور المتميز للحركة الإسلامية، في تحريك ودفع وتوجيه الشارع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، بصورة لم يعهدها من قبل، وبشجاعة منقطعة النظير، خاصة بعد تعرض العمل الإسلامي لتغييب مدروس عن ساحة المواجهة، في الداخل والخارج، خلال العقود الماضية.

6. وحّدت الشعب الفلسطيني، بعد أن تعرض لعملية تفتيت مدروسة، وذلك بتقطيع أوصاله تحت مسميات "الضفة الغربية، وقطاع غزة، والنقب، وعرب 48"، فظهر التلاحم جلياً من خلال المواجهات المنظمة، التي شارك فيها الجميع، ولعبت منطقة عرب 1948 دوراً حيوياً في الإسناد المادي والمعنوي، حيث غطت جانباً مهماً، كان له كبير أثر في دفع الانتفاضة واستمرارها، وهو الجانب الإنساني الخيري، الذي شمل كفالات الأيتام وأسر الشهداء والمعتقلين، وغير ذلك.

7. وفرت للشعب الفلسطيني رصيداً جهادياً، وخبرة نوعية، وقدوة حية ناجحة في المواجهة، يمكن تطويرها مستقبلاً، لتحقق الأهداف التي لم تحققها هذه الانتفاضة، وهذا ما شهدته في الانتفاضة الثانية، في عام 2000.

8. أظهرت الثقل الشعبي في التأثير على منحى القضية، وما يتعلق بها من مسائل سياسية واقتصادية وثقافية، وشكلت منه قوة لا يستهان بها في وجه المخططات الإسرائيلية، الرامية لتقويض القضية والتلاعب بها.

9. أفرزت قيادات ميدانية عسكرية، وخبرات جهادية مؤثرة، وعناصر نموذجية في المقاومة، مثل "صلاح شحادة، عماد عقل، يحيى عياش، كمال كحيل...". وغيرهم.

10. استطاعت بلورة الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وانتمائه الحضاري والعقائدي للأمة العربية والإسلامية، وبذرت فيه روح الاستقلال، والانفكاك عن المؤسسات الصهيونية في معظم المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية، وأضعفت ارتباط الاقتصاد الفلسطيني، بمؤسسات الاحتلال الصهيوني.

11. عملت على تمتين عرى التكافل والتعاون والتآزر، حيث برزت مواقف رائعة، وصور مشرقة للتكافل الشعبي، والتعاون الاجتماعي، وتقاسم لقمة العيش، والإيثار، والتضحية، والفداء، وغير ذلك من النماذج الأخلاقية العالية.

12. أدت إلى اختفاء مظاهر العصيان والفسوق، مثل الخمارات ودور اللهو والحانات والخمارات، وغيرها من البؤر العفنة، التي روج لها الاحتلال وساعد على انتشارها، وذلك بعد تعرضها لهجمات من المتظاهرين، الذين حرصوا على إزالتها.

13. رفعت من شأن العلماء والدعاة في فلسطين، خاصة بعد وقوفهم ردءاً لها، وتأييدهم لفعالياتها باليد واللسان والجنان، وكان من إفرازاتها "رابطة علماء فلسطين"، التي كان لها نشاط بارز في توجيه الانتفاضة وتنظيم فاعالياتها.

14. استعادت الكبرياء الفلسطيني، الذي حطمته عشرون عاماً من الاحتلال الإسرائيلي، وأجبرت إسرائيل على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

هذه هي بعض ثمار الانتفاضة في الجانب الفلسطيني، الذي اكتسب رصيداً وتجربة فريدة في مواجهة المحتل، وأضاف إلى سجله الجهادي صفحة ناصعة، وأسس لمراحل قادمة، ومواجهات متطورة مستقبلاً.

ثانياً: في المستوى العربي والإسلامي

امتدت آثار الانتفاضة لتغطي دول العالم العربي والإسلامي، وأثرت تأثيراً واضحاً في مجريات الأحداث السياسية والاجتماعية، في كل البلدان الإسلامية، خاصة مع قيام حكومة رابين بإبعاد كوكبة من قادة وعلماء ودعاة الانتفاضة، إلى جنوب لبنان.

ويمكن أن تذكر آثار الانتفاضة على العالم العربي والإسلامي في الآتي:

1. أعادت القضية الفلسطينية إلى الصدارة، من حيث الاهتمام الرسمي والشعبي، ووجهت رسالة واضحة للأمة الإسلامية، تذكّرها بقدسية فلسطين وأهميتها.

2. غيرت كثيراً من مفاهيم القوة السائدة، التي زرعتها وسائل الإعلام الموجهة، فرفعت من شأن القوة العسكرية الإسرائيلية، وصورت المواجهة العسكرية معها بأنها ضرب من الجنون والانتحار، ورسخت عوامل اليأس والقنوط من إيجاد حل للقضية في ظل ظروف قاسية تعيشها الأمة. فجاءت الانتفاضة لتقلب هذه المفاهيم، وتكشف زيف الدعاوي السابقة، حول أسطورة القوة الإسرائيلية وهيمنتها، ولتمسح تلك الهالة، التي صنعها الإعلام الصهيوني خلال عقود من الزمن لتمجيد كيانه.

3. صححت النظرة تجاه الشعب الفلسطيني، الذي صورته الأحداث على أنه باع أرضه لليهود، وأنه منقسم على نفسه، وغير ملتزم بمبادئ الدين الإسلامي. فجاءت الانتفاضة لتظهر مدى التماسك الشعبي في وجه كل المؤامرات، التي حيكت ضده، ولتبين عدم تخليه عن الإسلام كمنهج حياة، ومصدر عزة، وسلاح مواجهة.

4. أوجدت حالة من التكافل المميز عبر الدعوات لجمع التبرعات، والمساعدات العينية، في معظم الدول العربية والإسلامية.

5. عقد مؤتمر للقمة العربية لبحث وضع الانتفاضة، وأطلق عليه مؤتمر الانتفاضة، ولكنه تأخر لينعقد بعد ستة أشهر من بداية الانتفاضة، وخرج بنتائج غير مرضية، إذ اكتفى بتحميل مسؤولية القضية لمنظمة التحرير.

6. فرضت الانتفاضة على الإعلام العربي والإسلامي، تغطيتها بشكل كامل في بداياتها، ولكن هذا الصوت الإعلامي المساند للانتفاضة سرعان ما خفت بالتدريج.

7. أدت إلى غضب الشارع الإسلامي، ومطالبته الحكومات بتحرك فاعل يدعم الفلسطينيين، ويكون سنداً لهم في مواجهتهم للاحتلال.

8. أثّرت مجال الفكر والأدب والتاريخ، بتفجير الطاقات الفكرية والأدبية لتسطر هذه المرحلة، من مراحل الصراع العربي الصهيوني الحديث.

9. دعمت الصحوة الإسلامية، ودفعتها إلى الأمام بتقديم نماذج جهادية حية، ومواقف قوية في مواجهة الطغيان.

10. شكّلت عاملاً من عوامل الوحدة الدينية والفكرية والمصيرية لدى الأمة.

ثالثاً: في المستوى الإسرائيلي

كان للانتفاضة انعكاسات مهمة، وآثار بارزة على الحكومة والشارع الإسرائيليين، حيث تمثل ذلك فيما يلي:

1. حوّلت الدولة العبرية إلى دولة مضطربة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، تعيش حالة من عدم الاستقرار والاطمئنان، وذلك بتفشي ظاهرة الخوف والهلع، وإثارة التكهنات بطبيعة المستقبل القاتمة، وحدوث انفلات وشروخ في الجدار الأمني، وتوقع انفجار الوضع في أي لحظة، بعد قدرة المقاومين على الوصول إلى العمق الإسرائيلي.

2. أوقفت الانتفاضة سيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، بسبب انعدام الأمن والاستقرار المنشود، حيث أحجمت آلاف العائلات في الاتحاد السوفيتي وأوروبا عن التوجه إلى فلسطين المحتلة للاستقرار فيها.

3. أشعلت حرباً اقتصادية استنزافية، وذلك عن طريق تنفيذ عمليات نوعية، استهدفت البنية الاقتصادية للدولة العبرية، مثل تخريب المصانع وتفجيرها بطريقة تبدو طبيعية، وإحراق المزارع، ومهاجمة الحافلات الإسرائيلية السياحية، وإحراق السيارات الإسرائيلية أو اغتنامها.

4. شقت الصف الإسرائيلي وقسمته إلى قسمين، حيث برز دعاة السّلام الرافضين لسياسة الاحتلال في تكسير العظام، وقتل الأطفال والنساء، والقيام بفظائع وحشية. واشتبك المعارضون لسياسة القمع، التي انتهجتها الحكومة الإسرائيلية، مراراً مع قوات الجيش والشرطة الإسرائيلية، التي ستجر إسرائيل ـ في نظرهم ـ إلى الدمار.

5. زرعت هاجس الخوف من عود الإسلام لقيادة المواجهة ضد الإسرائيليين، خاصة بعد ظهور حركات المقاومة الإسلامية كمحرك موجه للانتفاضة، وذلك بعد تغييب متعمد مدروس.

6. أوجدت لدى الإسرائيليين شعوراً باليأس من التخلص من المواجهة المحتمة، من استخدام كل أساليب القمع الوحشية ضد المتظاهرين.

7. كشفت زيف دعاوى الديمقراطية الإسرائيلية، وأظهرت الدولة العبرية على حقيقتها العنصرية العدوانية الاستيطانية. كما كشفت بوضوح ممارسات الأجهزة الإسرائيلية القمعية، تجاه الشعب الفلسطيني.

8. أبطلت الزعم بأن الجيش الإسرائيلي جيش لا يقهر، وأظهرت آلته العسكرية على حقيقتها، وبينت مدى الانهيار والتقهقر المعنوي، لدى الجنود الإسرائيليين، أثناء المواجهات المسلحة، أو مواجهات الحجارة.

9. خلخلت الكثير من النظريات الأمنية الإسرائيلية، وكشفت عجز أجهزة الشّاباك خلال ملاحقتهم للمطاردين، الذين أعجزوهم عن العثور عليهم في كثير من الأحيان، واستطاعوا التخلص من طوق الحصار والحواجز الأمنية، في مرات لا تحصى.

10. أجبرت اليهود على تحديد خيارات عاجلة، قبل أن تدمر كيانهم بالكلية. فقد أعرب البروفيسور "يهوشفاط هيركابي" المحاضر بقسم العلاقات الدولية بالجامعة العبرية، عن "أن الدولة ستتحول إلى جهنم، وأنه لن تكون هناك دولة يهودية، وأنه لا يمكن السيطرة على مليوني عربي، إذا بقيت الأمور على ما هي عليه ". وأضاف: "إن العصيان لن يتوقف، ولا يمكن ترحيل العرب، وإنه لا مجال إلاَّ لتسوية يتم خلالها ابتزاز أكبر قدر، من التنازلات".

رابعاً: في المستوى العالمي

لم تقتصر آثار الانتفاضة وثمارها على المستويات الثلاثة السابقة، وإنما تعدتها لتشمل دول العالم، والرأي العام العالمي كله. وقد تمثل ذلك فيما يأتي:

1. تغير النظرة العامة تجاه إسرائيل وشعبها، حيث لم تعد ثابتة تلك النظرة القديمة المبنية على الزعم بتعرض اليهود لمذابح إنسانية مروعة، سميت بمذابح "الهولوكوست والبوغروم" مما ولد الشعور بالذنب لدى الغربيين، ومن ثم نظرة الإشفاق على شعب مضطهد مشتت عومل بقسوة، ولابد من نصرته.

هذه النظرة تغيرت بشكل كبير بعد الممارسات الوحشية، تجاه الشعب الفلسطيني، خاصة عند نقل وقائع تكسير أطراف شابين أعزلين من قرية، عراق التايه، بنابلس. وقد أقدم على هذا العمل ثمانية جنود مدججين بالسلاح. كما نقلت أخبار وصور قتل الأطفال والنساء، ودفن الأحياء في قرية سالم وغيرها، وإحراق فران في بيت النار بمخبزه، وصب الماء المغلي على طفلة لم يتجاوز عمرها العامين، وغير ذلك مما حفلت به أحداث الانتفاضة، من صور مأساوية مؤلمة.

2. تحرك الدول الكبرى لإيجاد حل سياسي، ومخرج للمأزق الذي وقعت فيه إسرائيل بسبب الانتفاضة، وطرح مشاريع حلول تهدف إلى إيجاد شعور لدى الشعب الفلسطيني بوجود بوارق أمل، في التخلص من حياة الاضطهاد والبؤس في ظل الاحتلال، وذلك ليوقفوا انتفاضتهم.

3. زادت من تعاطف الرأي العام العالمي مع الفلسطينيين، وأوجدت الشعور بضرورة الاعتراف بتطلعاتهم السياسية، وإيجاد حل عادل لقضيتهم.

4. كشف أمام الرأي العام العالمي زيف الدعاوي الإسرائيلية، بأن دولتهم هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأظهرتها على حقيقتها العدوانية العنصرية، من خلال الأساليب والوسائل التي استخدمت، في قمع شعب الانتفاضة.

5. إحجام كثير من السياح من دول العالم المختلفة، عن التوجه إلى "فلسطين"، خوفاً من التعرض للأذى نتيجة الأحداث الدامية.

هذه الآثار العامة للانتفاضة،أضافت رصيداً وعدداً من المكاسب للشعب الفلسطيني، في صراعه المرير والممتد مع اليهود، وكونت تجربة مهمة، وقاعدة يمكن البناء عليها، في مواجهات قادمة.

إن الصورة الجديدة، التي اتخذتها الانتفاضة، من حيث استمرارها، واتساع دائرة شمولها، وعدم فتور حماستها، وما أحدثته من تعاطف دولي صريح ونادر مع الشعب، تؤكد نجاح الانتفاضة في فرض نفسها على رأس قائمة الاهتمامات الدولية، والهموم العربية كما تؤكد ضرورة إيجاد حل عادل وسريع؛ لاحتواء الأزمة، قائم على فهم جديد لآراء ومصالح كلا الطرفين. وبطبيعة الحال، فقد تطلعت كل الأنظار، على المستويين العربي والعالمي، إلى الولايات، للقيام بتحرك إيجابي في هذا الصدد، لما لها من علاقة "خاصة" ووثيقة مع إسرائيل.

وأما الولايات المتحدة، فمما لا شك فيه، أن أحداث الانتفاضة هزّت من دور إسرائيل حليفاً لأمريكا. فإسرائيل كانت تطرح نفسها دائماً باعتبارها حليفاً أمريكياً زهيد التكاليف، ولكن الانتفاضة بينت أنها مكلفة، من الناحية الإعلامية، والاقتصادية، والسياسية، وأنها قد تحقق عمليات إجهاضية سريعة، (دور الفتوة)، وأن تضرب في العمق العربي، ولكنها غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي، (دور الشرطي)، والدفاع عن الداخل الإسرائيلي، ولذلك، ففائدتها محدودة، وتكلفتها باهظة.

غير أن رد الفعل الأمريكي جاء ضعيفاً، ومتذبذباً، ومخيباً للآمال العربية والتوقعات العالمية. وهو يعكس، بهذا، واقع السياسة الأمريكية، القائم على إيجاد توازن حذر، بين التزامات ومصالح، هي في حقيقة الأمر متناقضة. ويعد إبراز هذا التناقض، أهم ما حققته الانتفاضة من نتائج، والتحدي الرئيسي، الذي يواجه السّياسة الأمريكية، في الشرق الأوسط، والعلاقات الأمريكية الإسرائيلية.

إن الاهتمام المكثف، الذي أولته وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية، بمتابعة أخبار الانتفاضة، والحرص على نقل الأحداث بأمانة، ومن دون مبالغة، في إظهار أساليب العنف الإسرائيلي، أو تقصير، بحذف أي منها؛ يعكس تغيراً واضحاً في صورة الشعب الفلسطيني، من منظور الرأي العام والإعلام الأمريكي. فقد ظهر المواطن الفلسطيني، لأول مرة، في صورة الإنسان البسيط الأعزل والفقير، الذي تُمارس ضده أبشع الجرائم، من الوحشية، والقسوة، وانتهاك الحريات، على مسمع ومرأى من العالم كله. وهذا إنجاز لا يُستهان به، فقد تعود المواطن الأمريكي على رؤية الفلسطيني في صورة الإرهابي المسلح، الذي لا هم له سوى قتل الأبرياء، من دون وجه حق، وبناء على حقد أعمى، وغضب غير مفهوم، وعداء للجنس السامي.

من ناحية ثانية، أدى اهتمام الإعلام الأمريكي، بتغطية الأحداث بأمانة (إلى حد كبير)، إلى إبراز هوية الشعب الفلسطيني، بطريقة غير مباشرة، وغير مقصودة. فلأول مرة أصبح يشار إلى قسوة ووحشية القوات الإسرائيلية، كما ركز الوصف الإعلامي، على صلابة الفلسطينيين وصمودهم، وارتفاع روحهم المعنوية، على الرغم من كل ما يلقونه من معاناة.

كذلك، أبرزت وسائل الإعلام الأمريكي، بصورة واضحة، حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، ومدى تناقضه، مع ما تدعيه الحكومة الإسرائيلية، من قيم ومبادئ إنسانية، وديمقراطية. فركزت على مدى تدهور الأحوال المعيشية في الأراضي المحتلة، واستحالة الحياة فيها، في ظل الأوضاع القائمة.

والأهم من ذلك أن الانتفاضة سلّطت الضوء على حقيقة السياسة الأمريكية، في الشرق الأوسط، التي اتخذت لنفسها هدفاً ثابتاً، هو تشجيع الحرية والديمقراطية. ومع ذلك، فقد قبلت راضية، طوال العشرين عاماً الماضية، من دون احتجاج أو معارضة، استمرار الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم جاء اللوم المباشر عليها. فقد اجتمع في واشنطن، في 27 يناير 1988، أكثر من 500 مواطن يهودي ومسلم ومسيحي، وصدر عنهم، بيان طويل، انتهى بمطالبة حكومة الرئيس ريجان، بإعطاء قضية السلام في الشرق الأوسط الأولوية العاجلة، في سياسته الخارجية الحالية.

وفى الوقت نفسه، تظاهرت أعداد كبيرة من اليهود الأرثوذكس، في أوائل يناير 1988م، ووزعوا المنشورات، أمام مبنى الأمم المتحدة، منددين بإسرائيل، مؤكدين أن الصهيونية لا تمثل اليهودي، وحرقوا العلم الإسرائيلي. كما ناشدت هذه الجماعات اليهودية، إسرائيل أن تتحرك؛ لإنهاء الاحتلال في بعض الأراضي العربية. وقد اضطر هذا الغضب السفير الإسرائيلي، لدى الولايات المتحدة، إلى الحضور إلى نيويورك، وعقد اجتماعات مع هذه الجماعات، بهدف احتواء نقدها الصريح لإسرائيل.

ولكن ثمة ثلاث ملاحظات، على موقف الإعلام والرأي العام الأمريكي، من الانتفاضة هي:

1. من الصعب والخطأ التصور أن الرأي العام الأمريكي، أو وسائل إعلامه، قد تبنت القضية الفلسطينية، بين ليلة وضحاها. فقد انحصر الدور الإعلامي في إطار الصدق، في نقل أحداث الانتفاضة، ولأول مرة. وما تبع ذلك كان نتيجة غير متصورة، وغير مباشرة.

2. لم ينص أي تعليق، على تأييد صريح من قبل الرأي العام الأمريكي للقضية الفلسطينية. وإنما نظر إلى المشكلة القائمة، من وجهة نظر إنسانية بحتة، مع تفادي الجانب السياسي المباشر للقضية.

3. اكتفى الرأي العام الأمريكي بتوجيه اللوم إلى إسرائيل، باعتبار أن سياستها غير واقعية، ومنافية لما تدعو إليه من قيم غريبة، مثل الحرية والديمقراطية. كذلك، اتخذ اللوم في معظم الأحيان صيغة النصح؛ وأنه من صالح إسرائيل التصرف بأسلوب مختلف!

خامساً: موقف الإدارة الأمريكية

مع تصاعد الأحداث، في الأراضي المحتلة، على نحو لم تشهده من قبل، جاء الموقف الأمريكي متحفظاً وفاتراً. فبعد فترة طويلة من الصمت (حوالي أسبوعين)، اقتصر رد الفعل الأمريكي على بيان مقتضب، أصدرته الخارجية الأمريكية، في أواخر ديسمبر 1987، يناشد الجانبين ضبط النفس. ولم يتعد البيان وصف الأوضاع الدامية، التي تعيشها الأراضي المحتلة، كما لم يحمل في طياته أي إدانة مباشرة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي.

غير أن فشل القوات الإسرائيلية، في احتواء الانتفاضة، وإدانة الرأي العام العالمي بشدة، ولأول مرة، لأعمال العنف الإسرائيلي، ترتب عليه، موقف متخبط ومتردد، من قبل الإدارة الأمريكية، بعد خروجها عن صمتها. ففي الكونجرس، وعلى الرغم من تجاهل الرئيس ريجان، تماماً، لأوضاع الضفة في بيانه السّنوي والأخير، أمام الكونجرس الأمريكي، في 1987، والمعروف باسم "خطاب الاتحاد"، ومرة أخرى في خطابه أمام مجلس الشيوخ والنواب مجتمعين.

وعلى الرغم من ذلك، أشار ريتشارد ميرفي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، في بيان له أمام اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط، بمجلس النواب، في منتصف ديسمبر 1988م إلى أن التقرير السنوي، الذي تعده الخارجية الأمريكية، يؤكد أن الإجراءات الأمنية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، تخالف كل المواثيق الدولية. كما أكد أن واشنطن ناقشت كثيراً بعض الممارسات الإسرائيلية العنيفة، مع الحكومة الإسرائيلية، من دون جدوى. ووصف الموقف الفلسطيني بأنه واقعي؛ لأنه يتطلع إلى إمكانية التسوية السياسية المستقبلية، وليس عنفاً لمجرد العنف أو الإرهاب!!

كما عكس الموقف الأمريكي، في اجتماعات الأمم المتحدة، سياسة التردد والتخبط، وهو ما وصف من قبل جميع الأطراف، بأنه موقف متناقض ومثير للدهشة. فعند انعقاد أولى اجتماعات مجلس الأمن في 22 ديسمبر 1987م، التزم المبعوث الأمريكي بالصمت، واكتفى بمراقبة ما يحدث داخل المجلس، ثم امتنع عن التصويت لقرار، يشجب أعمال العنف الإسرائيلي، ويدعو الحكومة الإسرائيلية الالتزام بنصوص معاهدة جنيف، الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، غير أنه أكد صراحة خارج قاعة المجلس عن قلقه البالغ، لتصاعد التوتر في الأراضي المحتلة.

فيما بعد، حدث تحول واضح في الموقف الأمريكي، أدى إلى توتر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. فقد صوتت الولايات المتحدة، لأول مرة، لصالح قرار مجلس الأمن، الذي يطالب إسرائيل بالعدول عن سياسة العنف، ويناشدها الالتزام بنصوص معاهدة جنيف. وقد أكدت الولايات المتحدة موقفها هذا، مرة أخرى، بالامتناع عن استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع صدور قرار المجلس في 14 يناير 1988، الذي يشجب، بشدة، ما تتبعه إسرائيل من سياسات، في الضفة الغربية وغزة، ويطالبها مرة ثالثة، بالالتزام فوراً باتفاقية جنيف.

وقد جاء رد الفعل الإسرائيلي عنيفاً، في التصريحات، التي أدلى بها إسحق شامير، حيث وصف الموقف الأمريكي في مجلس الأمن، بأنه "مبالغ فيه ومنافق".وأكد عزم الحكومة الإسرائيلية على مواصلة أسلوب القوة، وأن حكومته لن تقبل النصح، أو التهديد، من قبل الإدارة الأمريكية، فيما يتعلق بالأسلوب، الذي تنتهجه، للمحافظة على استتباب الأمن "الداخلي" الإسرائيلي! بل تمادى المسؤولون الإسرائيليون، في غضبهم، إلى حد توجيه القذف المباشر إلى كل من الإدارة الأمريكية وبريطانيا، والإشارة إلى قصف الأولى لليبيا، وسياسة القمع والتعذيب، التي تنتهجها الثانية في أيرلندا الشمالية.

إزاء تصاعد التوتر، في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، والتحدي السّافر، من قبل مسؤولي الحكومة الإسرائيلية، لسياسة الولايات المتحدة، تراجعت الأخيرة عن موقفها المعتدل، واستخدمت، في أول فبراير 1988م، حق النقض (الفيتو)، لإحباط مشروع القرار المقدم في مجلس الأمن، بإدانة الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان، في الضفة الغربية وغزة، على الرغم من إجماع كل الدول الأخرى، على التصويت لصالح هذا القرار، وعلى الرغم من الجهود، التي بذلها المجلس في إعداد صيغة مشروع القرار، تجنباً "للفيتو" الأمريكي.

وعلى الرغم من أن هذا الموقف الأمريكي، جاء مخيباً للآمال العربية، والتوقعات العالمية، ومثيراً للدهشة والاستنكار معاً، فإنه يعكس مدى نجاح الانتفاضة، في فرض واقع جديد على المصالح الأمريكية، في الشرق الأوسط، ومن ثم وضع قيود غير مسبقة، على التزامها المطلق تجاه إسرائيل.

وقد ارتكز الدور الأمريكي على محورٍ ذي اتجاهين متوازيين:

الأول: تأكيد الولايات المتحدة، صراحة، عزمها احتواء الأزمة، وإيجاد حل سريع وعاجل، ليكون خطوة مبدئية لتسوية القضية الفلسطينية. وقد اجتمع جورج شولتز، وزير الخارجية الأمريكي، في 28 يناير 1988م، بكل من حنا سنيورا، وفايز أبو رحمة، وهما فلسطينيان معتدلان، لمناقشة المطالب الفلسطينية، بعد أن نجحت الولايات المتحدة في إقناع إسرائيل بالسماح لهذين الزعيمين بالسفر إلى الولايات المتحدة.

كما نشّطت الولايات المتحدة، في فبراير 1988، جهودها الدبلوماسية، عن طريق إرسال كل من مساعد وزير الخارجية الأمريكي، ريتشارد ميرفى، ثم وزير الخارجية جورج شولتز، في جولات مكوكية إلى الشرق الأوسط، تستهدف محاولات إقناع الأطراف المعنية، بالمقترحات الأمريكية الجديدة، التي تنص على منح الحكم الذاتي المؤقت للشعب الفلسطيني، في الأراضي المحتلة، ابتداء من سبتمبر 1988.

الثاني: التزمت الإدارة الأمريكية، بعدم إدانة السلطات الإسرائيلية، صراحة، بأي شكل من الأشكال، ويتضح ذلك، جلياً، في تصريحات ريجان، في حديث أدلى به إلى رئيس تحرير الأهرام، في الجمعة 29/1/1988 ـ ويدل على حرص شديد، من جانب الإدارة، على عدم إثارة غضب إسرائيل: فقد تعمد ريجان "عدم استخدام لفظ" الشعب الفلسطينى، لما يحويه، من تصريح ضمني، بحقوق الشعب. كذلك لم يحدد موقفه من الإجماع الدولي، فلم يؤيده أو يعارضه.

كما اتهم كلا الطرفين ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ فأكد ضرورة تمتع "جميع" الأطراف، بقدر كاف من الإحساس بالواقعية، ولم يختص إسرائيل وحدها.

والخلاصة أنه، في ضوء التذبذب الواضح للسياسة الأمريكية، تظهر ثلاث حقائق رئيسية:

1. تبدو الإدارة الأمريكية غير جادة، في السعي للتوصل إلى تسوية عادلة، من شأنها احتواء التّصاعد الخطير، في أحداث الضفة وغزة.

2. لا تستطيع واشنطن فرض ضغوط، أو عقوبات عسكرية، أو اقتصادية على إسرائيل، لقبول عقد مؤتمر للسلام، من شأنه الإضرار بمصلحة إسرائيل، التي تعامل معاملة الحليف والشريك، بمقتضى اتفاق التعاون الإستراتيجي المشترك، بين البلدين، الذي يفرض قيوداً عديدة، تعمل على شل حركة الجهود الدبلوماسية الأمريكية، وتحديد قدرتها على التفاوض واتخاذ القرار.

3. إن الأسلوب الوحيد، الذي تستطيع واشنطن اتخاذه، هو محاولة إقناع الحكومة الإسرائيلية، بأنه في صالحها، هي أولاً وأخيراً، قبول الحل السلمي؛ لإنقاذ صورتها أمام الرأي العام العالمي.

وقد ظّل الموقف الأمريكي، حتى الآن عام 2000م، يتجنب إدانة إسرائيل، ولكنه يحاول أن يلعب دور "الوسيط" أكثر من "الشريك" على الرغم من أن القضية وصلت إلى "عنق الزجاجة"، وإسرائيل ما زالت تراوغ في تنفيذ التزاماتها للمرحلة النهائية.

1. تقويم نتائج الانتفاضة على الموقف الأمريكي

في إطار ما حققته الانتفاضة من نتائج، أسفر الموقف عن تحديات للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ومستقبل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، أهمها:

أ. أثبتت الانتفاضة فشل الإستراتيجية الأمريكية، القائمة على دعم إسرائيل، مادياً وعسكرياً، بما يحقق تفوقها، باعتبارها قاعدة لحماية المصالح الأمريكية والغربية، في المنطقة. فقد أثبتت أن الحجارة، التي يلقيها الفلسطينيون العزل، أقوى من المساعدات العسكرية، التي انتهجتها إسرائيل بمؤازرة من أمريكا.

ب. أثبتت فشل الدبلوماسية الأمريكية، القائمة على المماطلة في إدانة إسرائيل، في تسوية المسألة الفلسطينية، بهدف استمرار فرض الأمر الواقع. فقد أكدت الانتفاضة استحالة استمرار الأمر الواقع.

ج. أكدت الانتفاضة حيوية القضية الفلسطينية، وحقيقة هوية الشعب الفلسطيني، التي طالما أنكرتها إسرائيل والولايات المتحدة. فظهر واضحاً أن صميم المشكلة في الشرق الأوسط، ليس هو عدم اعتراف العرب بإسرائيل، بل هي ضرورة إعادة الأراضي المحتلة (الضفة الغربية ـ غزة) إلى أصحابها.

د. سلطت الانتفاضة الضوء على التناقض الصّارخ في السياسة الأمريكية؛ فمن ناحية هي تساند مجاهدي الكونترا في نيكارجوا، ومجاهدي أفغانستان، بدعوى تحقيق الحرية والديمقراطية، وفي الوقت نفسه، تغمض عينيها، عن أبشع ما يرتكب من أعمال العنف والقمع الإسرائيلي. هي تبذل كل الجهود لمواجهة الإرهاب الدولي، والتصدي له بحسم، ولكنها تعلن تأييدها لأعمال العنف والقمع الإسرائيلي، التي وصفت "بالبربرية"، في مجلس الأمن.

هـ. ألقت الانتفاضة الضوء على التناقض، بين المصالح الأمريكية والإسرائيلية؛ فمن المصلحة الأمريكية، بصفتها القوة العظمى، أن تضغط على إسرائيل، وتفرض عليها قبول تسوية سلمية عادلة، ومن شأنها احتواء الأزمة، وتعزيز الدور الأمريكي بصفته وسيطاً.

وفى الوقت نفسه، فإن تأييد الولايات المتحدة العلني لإسرائيل، يعني تواطؤها مع الحكومة الإسرائيلية، وتأييدها لأعمال القمع، والممارسات العدوانية الإسرائيلية، وتشويه صورتها أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي.

و. فرضت الانتفاضة ثلاث صعوبات أخرى، على الإدارة الأمريكية الحالية، هي:

(1) أنها مطالبة من قِبل الرأي العام الأمريكي، بضرورة قطع هذا الجمود، وعدم المبالاة تجاه ما يحدث في الأراضي المحتلة.

(2) من المتوقع، أن يؤثر موقف الإدارة السّلبي، وسكوتها على ما يرتكب من جرائم، على الرأي العام الأمريكي.

(3) تواجه الإدارة الأمريكية صعوبة، خاصة في حالة عجزها عن احتواء الانتفاضة، وعن اتخاذ موقف حاسم يليق بمركزها، قوة عظمى أوحد. وسيكون من السخرية أن تدعي الولايات المتحدة الرغبة والقدرة على نشر الأمن والسلام العالمي، بينما هي عاجزة عن استغلال علاقاتها المتميزة مع إسرائيل، في وقف القمع الإسرائيلي، أو حماية الشعب الفلسطيني الأعزل، ومن المؤكد أن يؤثر هذا، أيضاً، على دورها في المنطقة.

2. التقويم للموقف الأمريكي

هناك عدد من الاعتبارات، التي تفرض على الولايات المتحدة ضرورة الاعتراف بالهوية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني، في تقرير المصير. قد تعجز الولايات المتحدة عن إقناع إسرائيل بهذا الحق والتسليم به، إلا أن هذا العجز لا ينبغي أن يمنع تحديد موقف أمريكي حاسم وواضح، في هذا الشأن.

وتعكس الصّيغة المطروحة، من قبل الإدارة الأمريكية، التي تنص على حق الشعب الفلسطيني في "المساهمة" في تقرير المصير، حلولاً غير ملائمة، أو مقبولة. فهي تتعارض مع حق كل شعب في تقرير المصير، كما أنها تتجاهل الآمال القومية للشعب الفلسطيني.

تواجه السياسة الأمريكية خياراً واضحاً، بين ما هو عملي ومنطقي، وبين ما هو متناقض وغير عقلاني. فإن جدية الولايات المتحدة في السعي لاحتواء الأزمة، وإحلال السلام، معناها حماية المصالح الأمريكية في المنطقة، وتعزيز موقفها أمام حلفائها الأوروبيين، على حين أن التلكؤ في الإجراءات الدبلوماسية، وخلق العراقيل (مثل الإصرار على التفاوض المباشر، بدلاً من عقد المؤتمر الدولي، الذي طالبت به الجهات العربية والفلسطينية والعالمية)، وإضاعة الوقت في الجولات المكوكية، والحلول طويلة المدى، يجعل من الصعب، بل من المستحيل، سياسياً، على أي من الحكومات العربية، المشاركة في أي جهود سلمية أمريكية.

إن المواقف الأمريكية في مجلس الأمن، تؤكد أن التصريحات الأمريكية هي على خلاف دائم مع واقع سياساتها الحقيقي.

والخلاصة أن الأبعاد الجديدة للانتفاضة الفلسطينية، وتفاعلها مع الأحداث العالمية، والمتغيرات الإقليمية المواكبة لها، فرضت على إسرائيل والسياسة الأمريكية واقعاً جديداً، ومصالح مختلفة والتزامات عاجلة، لابد من تحقيقها.

سادساً: الانتفاضة على المستوى الدولي

غيرت الانتفاضة جزءاً من صورة إسرائيل لدى العالم؛ وزعزعت كثيراً من الشرعية، التي كانت تتمتع بها في المجتمع الدولي.

الانتفاضة وانعكاساتها على الرأي العام الغربي

1. توتر العلاقات الإسرائيلية الأوروبية

أدى افتضاح الصّورة الحقيقية للاحتلال الإسرائيلي، إلى تعاطف الرأي العام العالمي والأوربي، بصفة خاصة، مع الشعب الفلسطيني. وقد أدانت معظم الدول الأوربية، بخاصة فرنسا، وإنجلترا، وهولندا، ورومانيا، وألمانيا الغربية، أعمال العنف الإسرائيلي، وأكدت على ضرورة الإسراع، بعقد مؤتمر دولي لتسوية الموقف.

وقد ترجمت دول أوربا الغربية موقفها هذا، في صورة بيان أصدره وزراء المجموعة الأوروبية، في بون، في 9 فبراير 1988، طالب بوقف الإجراءات الإسرائيلية القمعية، ووصفها بأنها انتهاك للقانون الدولي، وحقوق الإنسان.

كذلك، رفض البرلمان الأوربي، للمرة الثانية، الموافقة على اتفاق تجاري، بين دول السوق وإسرائيل؛ احتجاجاً على أعمال القمع، التي تمارسها في الأراضي المحتلة.

إن محاولات جيش الاحتلال الإسرائيلي، قمع الانتفاضة، لم تفلح، بل لم يستطع الجيش حتى تحجيمها. فالانتفاضة مستمرة، في جذب أنظار العالم للقضية الفلسطينية. وجرت محاولات لتوجيه قوة الانتفاضة، إلى قنوات سياسية، تؤدي إلى تسوية النزاع مع إسرائيل. وعند دراسة الانتفاضة ونتائجها المستقبلية، وجد المجتمع الدولي أنه يواجه بعض التساؤلات، التي أهمها:

هل تستطيع إسرائيل إضعاف هذه الثورة الفلسطينية، والتحكم في المعارضة الداخلية، التي نتجت عنها، وتحجيم نموها السياسي؟

هل ستتأكد وتستمر زعامة منظمة التحرير الفلسطينية، لسكان الأراضي المحتلة؟ وهل ستظهر زعامات فلسطينية جديدة، تكون على استعداد لممارسة مزيد من الواقعية؟

هل سيستمر العالم العربي، في إعطاء الانتفاضة أولوية مطلقة، في اهتماماته بقضية السلام؟ وهل دارت المشكلة دورة كاملة لتعود سيرتها الأولى؟

إن الانتفاضة جزء أساسي من مشكلة الشرق الأوسط، التي تواجه كل إدارة أمريكية، ولكن هناك عوامل أخرى في المنطقة، وحقائق، وتطورات يجب أن تتعامل معها تلك الإدارات، وهي أن الفلسطينيين قد تخلصوا، من عقدة التحرك تجاه إسرائيل من أجل التسوية. ومما لا شك فيه أن الانتفاضة بلورت هذا الموقف الأخير. ولا يوجد من يستطيع أن ينكر مبدأ شرعية الحقوق الفلسطينية، وضرورة اشتراك الفلسطينيين في مفاوضات السلام. فمن دون موافقتهم على النتائج النهائية للمفاوضات، لن يكون هناك سلام، كما أن الدول العربية المعتدلة، لعبت دوراً أساسياً، في إضفاء الاعتدال على تفكير أطراف الصراع، وحثهم على التحرك في اتجاه السلام، وهو الاتجاه، الذي يجب أن تشجعه واشنطن بكل الطرق.

إنّ الموقف الإسرائيلي منقسم، بشأن القضايا الأساسية. فهناك فريق من الإسرائيليين يعترف بأن الأمن الإسرائيلي، لن يتحقق، من دون حل عادل للقضية الفلسطينية، وهذا معناه حل الصراع سلمياً، بحيث يمكن لدول المنطقة قبول الوجود الإسرائيلي، وعلى إسرائيل أن تكون مستعدة للتعامل مع السؤال الصعب، حول كيفية إقرار السلام، وهذا يتضمن البعد الإقليمي وقضية التخلي عن الأرض!

وفيما يتعلق بالدور الروسي، في قضية السلام في الشرق الأوسط، فإن الروس قد بدؤوا يلعبون دوراً أكثر إيجابية في هذا الصدد، وأظهروا وعياً بالمواقف المركبة، التي تواكب عملية السلام.

وتظل الأحداث الدائرة تستوقف الانتباه العالمي، وتُعد نقطة تحول تاريخية في اتجاه السلام القائم على العدل، والتكافؤ الشامل.

إن جميع الأطراف يجب أن تكون على استعداد للتفاوض، على أساس القرار الرقم 242، وعلى أساس مبدأ الأرض مقابل السلام؛ والتفاوض معناه أن تأخذ وتعطي، لا أن تأخذ فقط. إن الحقوق الفلسطينية يجب أن تكون على رأس قائمة نقاط التفاوض. وعلى إسرائيل، أيضاً، أن تحرص على أن تكون مقبولة من جيرانها بوجودها بينهم، بصفة طبيعية. ومن خلال عملية التفاوض، سيتضح للجميع، أن أمن إسرائيل لن يستتب، إلا إذا نظرت، بعين الاعتبار، للمطالب الفلسطينية المشروعة، وبالعكس لا يمكن الاستجابة لمطالب الفلسطينيين إذا لم يضع الإسرائيليون الأمن المتبادل أمام أعينهم.

2. الانتفاضة وعملية السلام

أكدت الانتفاضة، للعالم، استحالة استمرار الوضع الراهن، وأظهرت للمجتمع الدولي الظروف القاسية، التي يعيش في ظلها الشعب الفلسطيني، في الأرض المحتلة، بل أثارت اهتمام الأغلبية العظمى، داخل إسرائيل ذاتها، بقضية الأرض المحتلة، وضاعفت من الخسائر المادية والمعنوية للجيش الإسرائيلي. كما أجبرت العالم على التفكير في الفلسطينيين، الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي الظالم، ونبهته إلى أن الصراع، ليس حول بقاء إسرائيل، وإنما هو حول استقلال الشعب الفلسطيني وحريته، ولم يبق من الممكن تحطيم الوطنية الفلسطينية، أو تجاهلها. إن الفلسطينيين لا يمكن أن يكونوا ضحايا الحرب، ثم يأتي السلام، الذي يفرض عليهم من الخارج، من دون اشتراكهم في صنعه.

وقد أثبتت الانتفاضة أن المجتمع الفلسطيني حي، ويستطيع أن يقاوم أبشع صور الاحتلال من خلال وحدته الداخلية، وتضامنه خارجياً مع فلسطينيي الشتات، كما أنها أوجدت نوعاً من الضغط على الزعامة الفلسطينية، خارج الأرض المحتلة، من أجل الاتفاق على الحركة السياسية الكبرى، من دون أن يؤدي ذلك إلى تدمير وحدة منظمة التحرير، كما كان يحدث في الماضي.

إن الانتفاضة حركة تحرر وطنية، لا بد أن يكون لها دورها الوطني، في إقرار السلام العادل، الذي يحقق المصالح والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني المناضل.

ومن المؤكد أن حكومتَي إسرائيل والولايات المتحدة، لا يمكن أن تستمرا في التصرف، كما لو كان السلام ديناً في عنق العرب، تجاه إسرائيل، لأنهم بذلك سيحطمون أي أمل في إنجاز السلام، إذا استمروا في اعتباره التزاماً فلسطينياً، وحقاً إسرائيلياً. إن السلام هو قدر يتقاسمه الطرفان سوياً، أو يفقدانه سوياً. وفي الواقع، فإنّ حل الصراع العربي الإسرائيلي أصبح ممكناً لأول مرة منذ عام 1948. فالانتفاضة واستجابة منظمة التحرير الإيجابية لأحداثها، جعلت ذلك ممكناً، وإذا استمرت إسرائيل، في اعتبار الانتفاضة عملاً مزعجاً، يجب القضاء عليه، فإن الصراع العربي الإسرائيلي، قد ينقلب إلى صورته الأولى. أي صراعاً عربياً صهيونياً، على فلسطين.