إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (27 ديسمبر 2008 ـ 17 يناير 2009)




نتائج قصف صاروخ القسام
مجزرة السبت الأسود
معبر رفح البري
انصهار القذائف الفسفورية
شاحنات تحمل الفولاذ المقسم
قادة قمة الكويت

أسلوب القتال في المناطق السكنية

مناطق رماية صواريخ المقاومة
أعمال القتال من 3 – 5 يناير 2009
أعمال القتال جنوب قطاع غزة
أعمال القتال شمال ووسط قطاع غزة
قطاع غزة



الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة

المبحث السادس

تقييم الأداء السياسي/ العسكري وتداعياته

أولاً: تقييم الأداء السياسي الإسرائيلي وتداعياته

1. تقييم الأداء السياسي

قادت الحكومة الإسرائيلية المصغرة معظم مراحل العدوان سياسياً وعسكرياً. ولكن القرار في النهاية كان محصوراً بالثلاثي أولمرت رئيس الوزراء، وليفني وزيرة الخارجية، وباراك وزير الدفاع. وقد اتسمت علاقات الثلاثي الإسرائيلي، طوال أسابيع الحرب وبعدها، بالتنافس والاختلاف.

أ. شكلت الحكومة الإسرائيلية عدداً من طواقم العلاقات العامة للاتصال بكلّ وسائل الإعلام الغربية؛ لعرض وجهة النظر الإسرائيلية وتبرير العدوان على قطاع غزة، بصفته خياراً اضطرت إليه إسرائيل للدفاع عن مواطنيها ضد صواريخ "المنظمات الإرهابية"، التي تتحكم في القطاع، على حد قولهم.

لم يكن الخطاب الذي وجهه الإسرائيليون إلى أهالي قطاع غزة مختلفاً كثيراً. فقد قيل للفلسطينيين إن العدوان الذي يتعرضون له جاء نتيجة سياسات "حماس"، وإن إسرائيل تعمل على مساعدة السلطة الفلسطينية. ودعا المسوؤلون الإسرائيليون أهالي القطاع إلى التذمر وإطاحة حكومة "حماس".

ولكن ما أن اتضح أن أهالي القطاع يقفون خلف قوى المقاومة وضد العدوان، وأن صوتاً واحداً لم يصدر لانتقاد "حماس"، حتى تغير الخطاب الإسرائيلي وأصبح أكثر وضوحاً في تأكيده ركوع سكان القطاع.

ب. دعا الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى هدنة مؤقتة يسمح فيها بمرور قوافل الإغاثة والمعونات الطبية إلى القطاع. رفضت إسرائيل الاستجابة لدعوة الرئيس الفرنسي، كونها مطمئنة لموقف الدول الأوروبية المؤيد لها.

غير أن رد فعل الرأي العام العربي والعالمي فاجأ إسرائيل. فسرعان ما سمحت بمرور بعض العون الطبي من الجانب المصري، والذي كانت رفضته بشدة من قبل.

كما أعلنت وزيرة الخارجية ليفني معارضتها وجود قوات رقابة دولية في قطاع غزة. تماماً كما رفضته من قبل قيادة "حماس" وقوى المقاومة الأخرى في القطاع.

ج. أعلن الرئيس المصري الخطوط العامة لمبادرة مصرية. على الفور، أظهر الإسرائيليون استعداداً للتعامل مع المبادرة، من دون أن يحددوا موقفاً صريحاً منها؛ وما إذا كانوا ينتظرون تحقيق أهداف محددة بعينها عسكرياً أو من خلال تفاوض.

كلفت الحكومة الإسرائيلية عاموس جلعاد Amos Gilad مساعد وزير الدفاع للشؤون السياسية، إدارة المفاوضات الخاصة بهذه المبادرة. ولكن، ما أن اتضحت ملامح التحرك المصري أنه اتفاق للتهدئة، حتى بدأ الخلاف بين أعضاء القيادة الإسرائيلية الثلاثة أولمرت ـ ليفني ـ باراك، حول ما طرحه باراك أنه من الأفضل للدولة العبرية الوصول إلى اتفاق تهدئة طويلة ومفتوحة زمنياً؛ أو ما طرحته ليفني، عدم السعي إلى اتفاق تهدئة وإبقاء القطاع تحت تهديد الرد الإسرائيلي المستمر على كلّ إطلاق للصواريخ. وأيد هذا الاقتراح رئيس الوزراء أولمرت.

بيد أن القيادة الإسرائيلية لم تعطِ أهمية خاصة للجهد المصري للتفاوض. ولم يكن ثمة ارتباط منطقي بين القرار الإسرائيلي بوقف إطلاق النار الذي أعلن بشكل منفرد، وبين نتائج الوساطة المصرية بين "حماس" من جهة والمفاوض الإسرائيلي من جهة أخرى؛ فشاب الغموض الإدارة السياسية الإسرائيلية لمجريات العدوان.

2. تداعيات العدوان سياسياً على إسرائيل

أ. لجأ الإسرائيليون إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، لتوفير الإطار السياسي لوقف العدوان؛ وذلك بعد يومين من إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار وبدء الانسحاب من قطاع غزة.

وقعت وزيرة الخارجية الإسرائيلية، ووزيرة الخارجية الأمريكية، في 16 يناير 2009 بروتوكول تفاهم، في واشنطن، تعهدت فيه الإدارة الأمريكية بالعمل على منع تهريب السلاح إلى قطاع غزة. وكان هذا الاتفاق هو الإنجاز السياسي الأهم للعدوان.

بعد ثلاثة أيام، وصل إلى إسرائيل وفد القادة الأوروبيين في جولتهم الثانية، بعد شرم الشيخ، حيث أكدوا من جانبهم العمل على وقف تهريب السلاح إلى القطاع، مؤكدين بالتالي على توفير هذا الغطاء السياسي للقرار الإسرائيلي بوقف النار والانسحاب.

ب. صرح البروفسير "يحزكائيل درور" Yehezkel Dror عضو لجنة فينوجراد، التي حققت من قبل في أسباب فشل الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان، عام 2006، أن إسرائيل فشلت في الحرب على غزة، كما فشلت في لبنان؛ وذلك يسبب "عدم القدرة على الحسم في القرار".

وقال درور: "من الصعب الإقرار بقياس مدى انتصار الجيش الإسرائيلي في الحرب الإسرائيلية على غزة، مقابل الانجاز الذي حققته حركة "حماس" بقوة موقفها". وأكد أن إسرائيل لم تنجح في إيجاد قوة ردع أمام الصواريخ الفلسطينية، التي ما زالت تسقط على المستوطنات الإسرائيلية في المناطق الجنوبية.

ج. اتهمت مجموعة من الكتاب الإسرائيليين في جريدة "هآرتس" Haaretz، في تحليل حول نتائج العدوان وتداعياته على الجانب الإسرائيلي، اتهموا الحكومة الإسرائيلية بالاخفاق في تحقيق تسوية سياسية ملزمة، معتبرين أن التزامن بين العمل العسكري والسياسي في قطاع غزة كان منقوصاً؛ ذلك أن إسرائيل تراجعت في النهاية من دون تسوية حقيقية. ورأى هؤلاء المحللون أن ما حصل في غزة هو شبيه بما حصل في لبنان، حيث كان أمام إسرائيل في قطاع غزة إمكانيتان للعمل:

الأولى: الاكتفاء بالعملية الجوية الكبيرة التي نفذت في 27 ديسمبر 2008، وإعلان وقف القتال، وترك حركة "حماس" في حالة صدمة.

الثانية: أو تفعيل قوة أكبر وأسرع من أجل تحقيق إنجازات برية على الأرض.

بيد أنه، حسب رواية الكُتاب، "مثلما حصل في لبنان، فقد اختارت إسرائيل الطريق الوسط، فهي تتقدم ببطء باتجاه احتلال جزئي تكون نتيجته محدودة، وعندها تنسحب بعد نفاد صبر وسط المجتمع الدولي".

د. لم تستفد إسرائيل من الإمكانات والظروف المتاحة عربياً ودولياً، وخاصة عندما سار الأداء العسكري بما لا يريده المستوى السياسي. ولعل الأداء السياسي والعسكري المتميز نسبياً وصمود فصائل المقاومة في قطاع غزة، لعب الدور الأبرز في إرباك الأداء السياسي والعسكري الإسرائيلي؛ وأفشل أهداف العدوان؛ فضلاً عن أن بيئة تزايد التعاطف المحلي والعربي والدولي مع فصائل المقاومة وضد إسرائيل، أربك قدرة الطرف الإسرائيلي على المناورة السياسية من ناحية، وأدى من ناحية ثانية إلى تشويه صورة إسرائيل واهتزازها سياسياً وإعلامياً، وتزايد موجات الاستنكار والعداء لها عالمياً.

ثانياً: تقييم الأداء العسكري الإسرائيلي وتداعياته

1. تقييم الأداء العسكري

أ. اعتمد الجيش الإسرائيلي على المراقبة الجوية المستمرة، ووسائط الاستطلاع الأرضية بمختلف أشكالها من مراقبة أو تنصت أو العملاء داخل القطاع؛ لاكتشاف وتحديد الأهداف، ليتم معالجتها واتخاذ القرار بمراكز القيادة.

كما اعتمد في عدوانه على منظومات الأسلحة المتفوقة نوعاً، لتدمير الأهداف المكتشفة أو المتوقعة، مستخدماً الرمي عن بعد دون إقحام قواته في معارك برية مع المقاومة تفادياً للخسائر.

وركزت إسرائيل في استخدام الطائرات المقاتلة القاذفة وحوامات الدعم الناري والطائرات من دون طيار، للتعامل مع أيّ هدف يكتشف.

أمّا في عمله البري، فقد اعتمد الجيش الإسرائيلي على التهويل باقتحام المدن، بتكرار عمليات التمهيد النيراني، والتقدم قليلاً؛ لإيهام المقاومين والمجتمع المدني أنه سيدخل المدن، ثم يتراجع إلى مواقعه السابقة.

وهذه عملية ضغط على معنويات المقاومين والمجتمع المدني؛ للضغط على أعصابهم وتحطيم قدرتهم على الصمود، لدفعهم إلى الرضوخ كما حاول استطلاع قدرة المقاومة على المواجهة، بمحاولته فصل مخيم جباليا عن مدينة غزة. ولما أدرك استعداد المقاومة للمواجهة، لم يكرر التجربة، إلا في الأيام الأخيرة بعد أن ضعفت مقاومة بعض الأحياء، نتيجة الإرهاق وشدة الدمار، نفذ بعض الاختراقات لمسافات محدودة، ثم عاد إلى مواقعه.

وبتقييم هذا الأداء بين جيش نظامي ومقاومين تحت الحصار، نخلص إلى ما يلي:

(1) لم تنجح إسرائيل في كسر صمود المقاومة بالمناورة البرية، ولا بالضغط والاستنزاف والحرب النفسية على المقاومين.

(2) لم تنجح إسرائيل في تحقيق أهداف العملية بالعمل الجوي فقط. ولم تتجرأ على تصعيد العمل العسكري البري، خشية الخسائر في صفوف جيشها، وخوفاً من تدخل الجبهة الشمالية، التي لم تستطع بعد مواجهة نتائجها.

(3) فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق هدفه في تغيير الوضع في قطاع غزة؛ ما دفعه إلى السعي لتحقيق ترتيبات أمنية على الحدود مع مصر، تحول دون إعادة تسليح القطاع.

ب. أثبتت حرب غزة، كما أثبتت من قبل حرب يوليه 2006، استمرار اعتماد إسرائيل على الآلة المتفوقة كماً ونوعاً، لتحقيق التفوق على قوى نظامية بدائية التسلح والتكتيك. لكنها عاجزة على تحقيق النصر على المقاومة وتكتيكاتها المتواضعة في القتال.

وما زالت القوات البرية تخشى كسب المعارك بالجندي المتفوق والمستعد للتضحية؛ ما يؤكد نجاح خيار المقاومة تكتيكياًفي مواجهة إسرائيل.

2. تداعيات العدوان عسكرياً على إسرائيل

أ. طلب وزير الدفاع الإسرائيلي، باراك، وقف العمليات؛ مدعياً أن إسرائيل حققت الردع في هذا العدوان، وأن استمرار العمليات لا يحقق أهدافاً أخرى سوى زيادة الخسائر ومزيداً من الضغط الدولي.

كما رأت القيادة الإسرائيلية أنها استعادت ثقة الشعب بالجيش وبقيادته لإدارة الحرب، بعد فقدانها إياها في حرب لبنان، عام 2006. كما اختبرت قيادة الجيش مستوى أداء التشكيلات والوحدات ميدانياً، بعد إعادة تأهيلها.

والواقع أن استعادة إسرائيل لقدرة الردع زائفة وإعلامية. هدفها التأثير في المجتمع الإسرائيلي والرأي العام أكثر من كونها واقعية. فوزير الدفاع أقر بعدم جدوى استمرار العمليات، لعجزه عن تحقيق أيّ أهداف جديدة. وخفضت الحكومة الإسرائيلية أهداف العدوان، من تغيير الوضع في قطاع غزة ووقف الصواريخ، إلى الحصول على ترتيبات أمنية لمنع تهريب السلاح؛ فضلاً عن استمرار خشيتها من حرب على الجبهة الشمالية.

والحقيقة، إسرائيل لم تدخل حرباً ضد قوى مكافئة، ولو جزئياً، بالسلاح، لخوض معارك فعلية تحدد قدرة وكفاءة القوات الإسرائيلية؛ بل خاضت حرباً اعتمدت على قوة نيران كبيرة، استخدمتها عن بعد ضد المقاومة المحاصرة، دون الالتحام معها لاقتلاعها من أماكنها.

وبهذا، أظهرت الحرب عدم قدرة إسرائيل وتفاديها اقتحام المدن أو القرى والمحميات المحصنة المعدة للدفاع، إلا بعد تدميرها، إن استطاعت ذلك.

ب. ظهر انكشاف الجبهة الداخلية الإسرائيلية لصواريخ المقاومة وعجزها عن حماية هذه الجبهة، علاوة على خوفها وتفاديها التورط في حرب مع الجبهة الشمالية؛ لإدراكها عواقب هذه الجبهة.

ج. لجأت إسرائيل إلى مواجهة المقاومة من خلال سياسة الحصار الميداني، والاستعانة بالدول الكبرى الحليفة وبدول عربية لحصار وعزل المقاومة والضغط عليها، أيْ نقلت مسؤولية المواجهة مع المقاومة عن عاتقها إلى قوى دولية وعربية.

وخلاصة القول أن الجيش الإسرائيلي لم يتخط هزيمة حرب يوليه 2006، وينتقل إلى الوضع الذي يمكنه من مواجهة المقاومة ميدانياً للقضاء عليها.

د. لجأت إسرائيل إلى بناء منظومة مضادة للصواريخ، لحماية جبهتها الداخلية؛ ومنظومة لصد الصواريخ بعيدة المدى، لتحسن أداء قواتها. لكنها لا تزال ضعيفة في استخدام قواتها البرية في معارك التحام. وهذا يتطلب معالجة الوضع النفسي والاجتماعي للجنود والمجتمع، ورفع مستوى التدريب للاحتياطي إلى مستوى ألوية النخبة.

كان يفترض أن تزيد إسرائيل من ألوية المشاة، بعد حرب يوليه 2006، وترفع من مستوى أداء قوات الاحتياطي، لمواجهة المقاومة؛ لكن حرب غزة لم تثبت ذلك.

ثالثاً: تقييم الأداء السياسي لحركة "حماس" وتداعياته

1. تقييم الأداء السياسي

أ. تصدت "حماس" لمحاولات إسقاطها عقب سيطرتها على قطاع غزة. وجربت تهدئة لم تلتزم بها إسرائيل، على الرغم من احتياج إسرائيل إلى هذه التهدئة؛ للتحضير للعدوان.

اتخذت "حماس" قراراً بعدم التوقيع على أية تهدئة لا تحقق إستراتيجيتها، من خلال تحقيق هدفَين:

الأول: فتح المعابر من غزة وإليها بصورة طبيعية.

الثاني: فك الحصار المفروض عليها بصورة كاملة.

ب. رافق العدوان العسكري على غزة معارك سياسية، فرضت نفسها على الواقع الإقليمي والعالمي. وأدت إلى تقوية موقف "حماس" وفصائل المقاومة في غزة، وخاصة بعد استمرار العمليات والعدوان. وبدا وكأن إسرائيل هدفها الرئيسي القضاء على القطاع بمن فيه، وعدم رغبة إسرائيل في وقف القتال؛ على الرغم من فشلها في تحقيق أهدافها؛ ما زاد من قوة "حماس" السياسية والجماهيرية؛ فضلا عن استمرار التهديد الفلسطيني للمدن الإسرائيلية المحيطة بالقطاع.

كما أن الإجماع الإسرائيلي على العدوان، وما نتج منه من دمار وضحايا، قد عززا الاتجاه الشعبي في الجانب العربي والإسلامي والعالمي ضد إسرائيل.

ولذلك، لم تستطع إسرائيل عزل حركة "حماس" على المستوى الرسمي العربي والإسلامي والدولي. وعزز ذلك عدد الدول العربية والإسلامية التي حضرت مؤتمر الدوحة، وطالبت بمقاطعة إسرائيل وسحب المبادرة العربية ودعم إعمار غزة.

ج. أدركت "حماس" أن الرئاسة الفلسطينية، تراهن على الدور الأمريكي الجديد حتى تكون بوابة تسوية القضية الفلسطينية وجزءاً من المعادلة في المنطقة. كما أدركت أن الرئاسة قد تفشل أو تختفي من المشهد الفلسطيني، إذا ما انحسر الدور الأمريكي في المنطقة. وازدادت قناعة "حماس" بأن الرئاسة الفلسطينية ستضطر إلى الانفتاح الجدي على "حماس" في حال ألقت الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها لحل القضية؛ فبدون "حماس" لا يمكن للرئاسة أن تفي بالتزاماتها للجانب الإسرائيلي والأمريكي.

د. تطلبت إستراتيجية "حماس" التعاطي مع حالة الانقسام والصراع، وغياب الإرادة السياسية في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي. وأظهر العدوان على غزة مدى تخبط واضطراب الأولويات لدى الكيان العربي، والتمحور نحو الداخل الوطني لكلّ دولة، على حساب العبء القومي العربي.

واستمر الانقسام العربي، طوال العدوان على غزة، بين محور "الاعتدال"، و"الممانعة". وواصل محور الممانعة مدعوماً بالتأييد الجماهيري دعم "حماس" سياسياً ومادياً. أمّا محور الاعتدال فاستمر في دعم الرئاسة الفلسطينية، وحدد دوره المستقبلي في دفع المساعدات للإعمار من طريق الرئاسة. أصر هذا المحور على ضرورة قبول "حماس" للتفاهم مع الرئاسة، شريطة منح "حماس" دوراً فاعلاً في عملية إعمار غزة.

هـ. أدى التوتر في العلاقة بين مصر و"حماس"، خلال العدوان، إلى تمهيد الطريق أمام تركيا لتلعب دور الوسيط بين "حماس" وإسرائيل. كما أدى العدوان الإسرائيلي إلى حراك على المستوى الإقليمي، وخاصة من إيران بوصفها قوة إسلامية عدوة لإسرائيل، وخصم للولايات المتحدة الأمريكية ودول الاعتدال؛ وحليفة لقوى الممانعة.

كما أدى إلى ظهور تركيا بوصفها قوة إسلامية حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، وصديقة لإسرائيل ودول الاعتدال والممانعة.

و. نجحت حركة "حماس" في تحقيق هدفَين من أهدافها الأربعة، التي أعلنتها خلال العدوان على غزة، فقد نجحت في وقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.

ولم تحقق هدفَين آخرَين كانت قد أعلنتهما، وهما فتح المعابر بصورة طبيعية ومنتظمة، وفك الحصار بصورة كاملة ومستديمة. وهذا يظهر أن حركة "حماس" نجحت في الصمود والمقاومة، وأثبتت أنها كانت مستعدة للتصدي للعدوان.

2. تداعيات العدوان سياسياً على حركة "حماس"

أ. أدى العدوان العسكري الإسرائيلي على غزة إلى تحول سياسي مهم في المنظومة الفكرية العربية، فيما يتعلق بمسألة التوازن بين الطرفَين؛ وأوجد لها مقاييس جديدة.

كما رسخ مفهوم أن مشكلة العرب تكمن في الإرادة السياسية، وفي القراءة السياسية الإستراتيجية الخاطئة لطبيعة التحولات الإقليمية والدولية.

ب. لم تنجح إسرائيل في إثبات أن تحقيق أمنها لا يكون إلا من خلال تفوق قوّتها العسكرية، والذي سيؤدي إلى ردع العرب عن القيام بأعمال عسكرية. وفي حال عدم ردعهم، حسب العقيدة الأمنية الإسرائيلية، يكون في إمكان إسرائيل من خلال الاعتماد على تفوقها العسكري، أن تحرز نصراً سريعاً.

ولكن استطاعت حركة "حماس" من خلال تصديها للعدوان الإسرائيلي، أن تحدث شرخاً في فاعلية العقيدة والإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، القائمة على تفوق القوة العسكرية، وثقة الإسرائيليين بها.

ج. تبنت حركة "حماس" نهج المقاومة، والذي حظي بتأييد شعبي فلسطيني وعربي وإسلامي كبير، زاد من حجم التأييد للقضية الفلسطينية، بصفتها القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية. وفي هذا السياق كشف العدوان عبثية نهج التسوية والمفاوضات التي لم تحقق شيئاً، طيلة السنوات الماضية؛ فضلاً عن أنه أحرج السلطة الفلسطينية التي لم تكن تتوقع صمود فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، مدة ثلاثة أسابيع.

د. دانت الجمعية العامة للأمم المتحدة العدوان على غزة بأغلبية ساحقة. ولعل ما يجري من جهود دولية وأمريكية وأوروبية يدل على أن هذه الجهات تريد حلاً للصراع العربي الإسرائيلي؛ لتتخلص من كلّ آثاره التي تتزايد أضرارها ضد مصالحها الإقليمية والدولية.

وأخذت القضية الفلسطينية مكانتها على رأس الأحداث الدولية. ونالت تأييد معظم شعوب ودول العالم.

رابعاً: تقييم الأداء العسكري لحركة "حماس" وتداعياته

1. تقييم الأداء العسكري

أ. الإعداد والتحضير قبل المعركة

إن استعداد المقاومة وتحضيراتها للمواجهة بدت في مستويَين:

(1) المستوى الأول: التدريب والتسليح

قامت حركة "حماس" بما يمكن القيام به، وهي محاصرة، يضيق عليها الخناق، وخاصة في الأشهر التي سبقت العدوان. وقد لجأت إلى طرق أبواب شتى، للتخفيف من آثار هذا الحصار المحكم. وكان التصنيع المحلي، وكان النقل عبر الأنفاق.

(2) المستوى الثاني: الإعداد للعمليات وتجهيز مسرح العمليات

ويقصد به تحضير المكامن والنسفيات والأفخاخ على محاور التقدم المنتظرة. وهذا ما لم يتم بالصورة المثلى ولم يحقق الغاية. وكان في الإمكان أن تضع المقاومة وبدقة خريطة عمليات دفاعية، تحدد فيها محاور تقدم الخصم. ثم تقوم المقاومة بتجهيز هذه المحاور بما يلزم من التفخيخ الحقيقي أو الهيكلي؛ لإشغال وخداع الخصم في تقدمه، وإيقاع خسائر مؤثرة فيه.

بالإضافة إلى ذلك عدم اكتمال تجهيز المحاور الموصلة إلى الأماكن المبنية، والتي تحتاج إلى تجهيز هندسي وتحضير للأرض.

يبرر المسؤولون هذا بعدم تيسر الوقت، وكذا شَغْل سكان غزة لهذه الأماكن، وحساسية العمل في وجودهم.

ب. منظومة المراقبة والاستطلاع والاستخبارات

إن أشد ما حدث خطراً وإظهاراً لضعف هذه المنظومة هو تلك المفاجأة التي تمثلت في قصف الطيران الإسرائيلي لمركز الشرطة، أثناء احتفال يوم السبت 27 ديسمبر، أول أيام العدوان، والذي ذهب ضحيته أكثر من 220 شهيداً.

كان يمكن لحركة "حماس" تجنب هذا القصور لو لم تقع ضحية عملية خداع كبرى مارستها إسرائيل ضدها، بما يحقق خداعاً إستراتيجياً وعدم معرفة نية العدو في العدوان في هذا التوقيت.

ولكن يسجل لحركة "حماس" قدرتها على استيعاب المفاجأة وتحويلها من مفاجأة إستراتيجية ينهار الوضع معها، إلى مفاجأة تكتيكية يمكن التعامل معها وامتصاص سلبياتها.

وهذا ما تأكد في اليوم التالي، من خلال الثبات على الموقف ومعاودة القصف الصاروخي ميدانياً ضد البلدات والمدن الإسرائيلية.

أمّا ما يتعلق بعمل الاستخبارات وأمن القوات، فقد لوحظ الدور المدمر الذي لعبه العملاء لمصلحة العدو، وذلك بالحصول على معلومات حول أهداف يقصفها؛ إضافة إلى الحصول على معلومات حول مناورة المقاومة وخططها وتحضيراتها للمواجهة.

ج. التنظيم والتخطيط للمعركة

خططت حركة "حماس" معركتها الدفاعية على أساس عنصر النيران البعيدة، الناجمة عن الصواريخ والهاون، لبث الرعب في صفوف الإسرائيليين؛ وكذلك عنصر المناورة في الميدان والقتال في المدن. وكان هذا التخطيط تحكمه ضوابط تحكمت بنتائج العدوان.

بالنسبة إلى المقاومة ورجالها، جاء انخفاض عدد الإصابات في صفوفها واضحاً ولافتاً للنظر في حرب تدميرية، كالتي شاءها المحتل.

أمّا بالنسبة إلى السكان فقد أسهم التخطيط في منع الخروج قدر الإمكان، والثبات في المواقع إلى الحد الذي وصف هذه الموقعة بين العرب وإسرائيل بأنها الأولى، التي لم يتلازم معها نزوح عربي خارج ميدان المعركة.

أمّا على صعيد المواجهة،  فكان لاعتماد نظام لامركزية المواجهة الميدانية شأن مؤثر في تعطيل فاعلية الحصار، وتقطيع أوصال القطاع، عندما بدأت المرحلة البرية.

أمّا على الصعيد الإسرائيلي، فإن تخطيط حركة "حماس" وتنظيمها للمواجهة كان من شأنه حرمان الجيش الإسرائيلي المباهاة بتحقيق النصر، وخاصة فيما يتعلق بالأهداف السياسية المعلنة من حيث إسكات الصواريخ أو تغير واقع القطاع على الأرض أو استعادة أسيره "جلعاد شاليط". كل ذلك لم يحصل. ونجحت المقاومة في منع حدوثه.

د. على صعيد الكفاءة القتالية ومعنويات المقاتلين

إن خوف الإسرائيليين من المواجهة والالتحام في القتال مع "حماس"، يؤكد نجاح "حماس" في تجهيز مقاتل شرس يملك المهارة في الميدان. وكان لذلك تأثير في مسار المعركة البرية وامتناع الجيش الإسرائيلي عن المجازفة في احتلال غزة.

أمّا بخصوص إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية المحيطة بغزة، فقد سجلت إصابات في قواعد جوية وميناء "أسدود" ومصانع إسرائيلية. أما بالنسبة إلى المدن، فقد سجلت قدرة "حماس" على تنفيذ المكامن وزرع الأفخاخ والنسفيات وتجهيز الأرض بالمخابئ والأنفاق.

وإن تدني الإصابات في صفوف الإسرائيليين سببه الأساسي إحجامهم عن خوض معارك الالتحام والمواجهة في حرب المدن من جهة، وعدم امتلاك المقاومة لكميات مناسبة من الصورايخ المضادة للدروع من جهة ثانية.

هـ. الأداء العام والنتائج المحققة في نهاية العدوان

تمكنت حركة "حماس" من منع الجيش الإسرائيلي من تحقيق أيّ من أهدافه المعلنة. وألزمته باتخاذ قرار بوقف إطلاق النار من جانب واحد.

ومن المعروف أن المدافع ينتصر إذا اتخذ في الميدان التدابير التي تجعل المهاجم يقتنع بأن هجومه بات مكلفاً أو نصره الحاسم فيه مستحيل؛ ويكون من الأفضل له أن يتوقف عن المتابعة في عملياته. وهذا ما حدث بالفعل في غزة حيث اتخذت إسرائيل قراراً منفرداً بوقف عدوانها، عندما تبين لها أن تحقيق أهدافها باهظ التكاليف. وهنا، يسجل للمقاومة القدرة وحسن الأداء في القيادة في الميدان وثبات مقاتليها وقوة تحملهم ومثابرتهم.

2. تداعيات العدوان عسكرياً على حركة "حماس"

أ. القدرة على المواجهة المستقبلية

اختبرت حركة "حماس" قدرتها على مواجهة عدوان مخطط شامل، كان يستهدف وجودها وقدراتها بشكل كلي. ووقفت على نواحي الضعف والقوة في بنيتها وتحضيراتها وأداء مقاتليها. الأمر الذي منحها، بعد فشل العدوان في تحقيق أهدافه، فرصة المعادلة وسد الثغرات؛ ما يجعل مهمة المحتل المستقبلية عند استئنافه للعدوان التدميري، أكثر صعوبة وتعقيداً.

وهذا ما تحذره إسرائيل، كما ذكره الكاتب الإسرائيلي "عميدرور" Amidror في مقاله: "بعد غزة ينبغي الاستعداد للحرب الحقيقية"، حيث يقول: "عصبة الإرهاب "حماس"، اكتسبت الآن تجربة قتالية. وأغلب الظن أنها ستقاتل على نحو أفضل، في المستقبل".

لا شك أن "حماس" استفادت قتالياً من تجربة المواجهة. وعليها الآن استغلال الوقت ومعالجة كلّ خلل ظهر، وتعظيم نقاط القوة.

إن لجوء المقاومة إلى التقييم والمعالجة، سيكون من شأنه جعل اتخاذ القرار لدى إسرائيل بعدوان جديد، أكثر صعوبة، كما هو الحال على الجبهة الشمالية مع لبنان. فإن حزب الله بقدراته يزيد من القلق الإسرائيلي وجعل المواجهة المقبلة أكثر صعوبة وتكلفة.

ب. كفاءة الفرد المقاتل

يمكن القول أن العنصر البشري للمقاومة خرج من العدوان سالماً، لم يتأثر بالشكل الذي يحد من قدراته وفاعليته القتالية.

إن عدواناً كالذي حدث في ظروف صعبة واجهتها المقاومة، كان من الممكن أن يؤدي إلى قتل المئات من المقاومين وفي طليعتهم قياداتهم العليا والميدانية. لكن الأمر لم يحدث، وخاصة إذا تذكرنا إن إسرائيل تقدر عدد المقاومين في القطاع بعدد لا يقل عن 18 ألف مقاتل. فإذا كانت الخسائر في صفوفهم وفقاً لتقدير جيش الاحتلال 600 فرد؛ وطبقاً لما أعلنته "حماس" 93 شهيداً؛ والرقم الأكثر قرباً للحقيقة هو 450 شهيداً، فإن هذا الرقم لا يعتد به عسكرياً ولا يشكل تأثيراً فعلياً في قدرات المقاومة نسبة إلى الإجمالي.

ج. التجهيزات والأسلحة والمعدات

طبقاً للتقديرات الإسرائيلية، فإن المقاومة لم تكن تملك القدرات التسليحية والتجهيزية التي يمكنها تهديد الجيش الإسرائيلي في عدوانه؛ ووفقاً لما ذكره الكاتب الإسرائيلي "عميدور" يصف المقاومة، "ضعف الوسائل والتجهيزات إلى حد الفقر والبؤس". وعلى الرغم من هذا فإن نتيجة العدوان لم تشكل إنجازاً خارقاً حتى بالعين الإسرائيلية.

وكلام كهذا يثبت الضعف الإسرائيلي في المواجهة البرية على وجه الخصوص، ولا يشكل عيباً للمقاومة؛ إذ إن المقاومة بحالها هذا الذي شهد به العدو، منعت إسرائيل بإمكانياتها التي تفاخر بها من أن تحقق أهدافها.

وفي هذا يكمن نجاح المقاومة، يخفف من وطأة التداعيات العسكرية عليها في مواجهة عدو يملك الطائرة والدبابة، ولم يؤثر في المقاومة. ونضرب لذلك الأمثلة الآتية:

(1) تدعي إسرائيل أنها دمرت نسبة عالية من صواريخ القسام، وأنها استطاعت أن تحدّ من معدل القصف الصاروخي الذي انخفض من 37 إلى 24 صاروخاً في اليوم.

وبدراسة هذه النسبة ومقارنتها بالفارق الكبير بين قدرة الجيش الإسرائيلي وقدرة "حماس" نخلص إلى القول إن قدرات المقاومة في المجال الصاروخي، لم تتأثر بشكل يحدّ من الفاعلية والأثر في مواجهات مقبلة؛ وإن ما دمر قابل للتعويض.

(2) لم يتمكن العدوان من حرمان المقاومة قدراتها في مجال استخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والصاروخية. وإن ما استعمل منها من ذخيرة أو صواريخ أو دُمر هو أمر قابل للتعويض، وليس من شأنه التأثير سلباً في قدرات "حماس" في المواجهة مستقبلاً.

د. العقيدة القتالية والروح المعنوية

دائماً يلازم المنتصر شعور بمعنويات مرتفعة. وعلى الرغم مما تكبده قطاع غزة من أهوال العدوان، فقد خرج مقاتلوه بتمسك أكثر بالحق الذي حملوا السلاح من أجله، وقد ظهر ذلك واضحاً، مما أعلنته قيادة "حماس" بقرار وقف إطلاق النار، بعد 24 ساعة كاملة على قرار إسرائيل، من جانب واحد بالوقف، وبعد أن أمطرت "حماس" المواقع الإسرائيلية بصواريخها؛ واشترطت على إسرائيل أن تنسحب من القطاع بعد أربعة أيام وإلا استأنفت عملياتها.

يعني ذلك أن "حماس" وصلت إلى نهاية المعركة، وهي قادرة على القتال وتملك إرادة المقاومة. وكان ذلك حالها كذلك عندما خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار، وكان ردها بالصواريخ بشكل مركز، إلى الحد الذي أقدمت فيه إسرائيل على تقديم شكوى إلى مجلس الأمن. وهذا يعطي دلالة على مدى شعود إسرائيل بالإخفاق من نتائج الحرب.

هـ. التجهيز العملياتي لمسرح القتال

على الرغم من أن العدوان على غزة أحدث تدميراً وهدماً للبنية التحتية والأنفاق والأعمال الهندسية أكثر من 75% منها، ودمرت المنازل والأنفاق التي يستفيد منها المقاومون؛ ما كان له أثر سلبي كبير. ولا شك في وجود خسارة لوجستية من شأنها أن تؤثر في فاعلية أداء المقاومة.

إلا أن هذا الأثر لم يمس إرادة القتال بل رفع معنويات التنظيمات والمقاومين والشعب، ومنح المقاومة خبرة وصلابة تجعلانها أكثر قدرة على خوض معارك مماثلة.