إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (27 ديسمبر 2008 ـ 17 يناير 2009)




نتائج قصف صاروخ القسام
مجزرة السبت الأسود
معبر رفح البري
انصهار القذائف الفسفورية
شاحنات تحمل الفولاذ المقسم
قادة قمة الكويت

أسلوب القتال في المناطق السكنية

مناطق رماية صواريخ المقاومة
أعمال القتال من 3 – 5 يناير 2009
أعمال القتال جنوب قطاع غزة
أعمال القتال شمال ووسط قطاع غزة
قطاع غزة



الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة

المبحث الثامن

الأدوار وردود الأفعال: الإقليمية والدولية

أولاً: الموقف الإقليمي

1. الدور الإيراني

يأتي دور إيران في الحرب على قطاع غزة 2008/2009، في إطار مشروعها الإقليمي، لفرض نفوذها بالمنطقة على حساب النفوذ المصري والسعودي والإسرائيلي، دون كلفة أو تورط مباشر. وهي بذلك تشغل الدول العربية في محيطها المباشر وغير المباشر، لتتفرغ هي لتثبيت أرباحها في العراق، وبعض دول الخليج العربي. كما يأتي الهجوم الإعلامي على مصر والمملكة العربية السعودية، لكونهما العمود الفقري للمشروع القومي العربي، حيث سعت بالتعاون مع أطراف عربية لإظهارهما عاجزتَين أمام أزمة الحرب في غزة. وجاهدت لإبعاد الأنظمة الحاكمة عن شعوبها، ووضعت الصراع العربي ـ الإسرائيلي تحت العباءة الإسلامية.

أمّا قطاع غزة، فقد عبر عنه "علي ريجاني" رئيس مجلس الشورى الإيراني، بأن غزة مرتبطة بالأمن القومي الإيراني، وأن حزب الله اللبناني هو جزء من الأمن القومي الإيراني. أمّا المصادر الإعلامية الإيرانية في تعليقاتها على الحرب، فقالت إن إيران نقلت التحدي إلى ساحة إسرائيل؛ ولذلك فإن هناك نفوذاً إيرانياً واسعاً في قطاع غزة. وحقيقة أمر النفوذ الإيراني بالمنطقة هو سعي طهران لامتلاك أوراق ضغط لتعظيم ثقلها الإقليمي للمساومة عليها؛ وفي الوقت نفسه يمكنها التخلي عنها لقاء ثمن أهم في مكان آخر، وخاصة في إيران أو محيطها الإقليمي. فالإطلالة الإيرانية على البحر المتوسط يؤمنها حزب الله اللبناني في ظل التجانس الديني والمذهبي والعقائدي. إلا أن هذا التجانس غير موجود في قطاع غزة، ولذلك فإن المعادلة الإيرانية يكون فيها حزب الله هو الثابت، و"حماس" والجهاد الإسلامي هما المتغير المؤقت؛ وما يجري لا يتعدى اللعب بالأوراق.

وفي إطار الحركة الدبلوماسية الإيرانية الناشطة، شارك الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، إلى جانب سبعة زعماء عرب في قمة قطر، التي عقدت في 17 يناير 2009.

تمثل القمة بلا شك انتصاراً لطهران والقوى المناوئة لمحور الاعتدال العربي، ذلك أن مشاركة إيران في قمة عربية في الجوهر يجسد ثقلها في المعادلات الإقليمية والفلسطينية على وجه الخصوص.

ألقى الرئيس الإيراني كلمة أمام القمة ندد فيها بالحصار الصهيوني الذي سبق العدوان على غزة، وبآلة الحرب الصهيونية التي دكت القطاع والتي استخدمت فيها إسرائيل الأسلحة المدمرة والمحرمة، وهذا انتهاك صارخ للقوانين والأعراف الدولية. وشدد على أن الدول: الغربية والأوروبية التي ساندت إسرائيل، ودعمتها شريكة في الحرب على غزة؛ مشيراً إلى أن فلسفة الكيان الصهيوني تكمن دائماً في ارتكاب الجرائم والاحتلال، وهو تكرار لما حدث من قبل في جنين ودير ياسين.

وصف نجاد في كلمته ما يجري في غزة،  أنه مؤامرة كبرى. قال: "يجب ألا نسمح بتنفيذها؛ لكون الكيان الصهيوني يستهدف إحداث الفرقة في عالمنا الإسلامي والعربي. وعلينا أن ننتبه لذلك، ونوحد جهودنا المشتركة لإفشال المؤامرة، والوقوف بجانب الشعب الفلسطيني".

وقال إن لدى الحكام العرب صلاحيات واسعة لا بد أن يستثمروها لمصلحة فلسطين. وإن في إمكانهم ممارسة الضغوط على الكيان الصهيوني والتلويح بقطع العلاقات وكلّ أشكال التعاون.

وسأل كيف أن 22 دولة عربية تتفرج على شرذمة من الفاسدين جاؤوا من أقصى العالم ليسلبوا شعباً أرضه، ويحتلوها ويمارسون القتل!

كما انتقد أحمدي نجاد صمت الإدارة الأمريكية حيال ما يجري في غزة من أحداث دامية. ورأى ذلك مؤامرة تستهدف الأمة يتوجب التصدي لها بمواقفنا المشتركة في العالم العربي والإسلامي.

ووصف الرئيس الإيراني اقتراح أمير قطر إنشاء صندوق لإعمار غزة بأنه بَنّاء؛ مؤكداً وقوف الشعب الإيراني دائماً مع قضية الشعب الفلسطيني العادلة ومقاومته الباسلة.

وفي 18 يناير 2009، دعا الرئيس نجاد، أمير قطر والرئيسَين: السوري والسوداني إلى العمل لتكون القرارات التي ستتخذ في قمة الكويت الاقتصادية، في اليوم نفسه، مكملة لقرارات قمة الدوحة حول ما يتعلق بالعدوان على غزة.

بعد انتهاء العدوان قدم الرئيس نجاد تهانيه إلى خالد مشعل بمناسبة انتصار المقاومة الفلسطينية؛ مقدراً أن صمود المقاومة وانسحاب قوات الاحتلال، يُعَد انتصاراً "لحماس" وهزيمة لإسرائيل.

وخلال فبراير 2009، قام رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، خالد مشعل بزيارة إلى إيران أكد فيها استمرار المقاومة ضد الكيان الصهيوني. وأعرب عن "شكره الجزيل لدعم ومساندة الجمهورية الإسلامية الإيرانية للفلسطينيين في مواجهة الكيان الصهيوني، وبالأخص خلال العدوان الأخير على غزة".

كان هناك دور دبلوماسي إيراني مكثف خلال الأزمة، تركزت محطاته في سورية ولبنان وقطر وتركيا وليبيا. وأرسلت إيران 22 مبعوثاً باسم الرئيس الإيراني إلى دول: أوروبية وآسيوية، لتحقيق وقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة؛ إضافة إلى تنسيق المواقف السياسية. كما حاولت إيران إرسال سفينة مساعدات إلى قطاع غزة، إلا أن إسرائيل منعتها. كما شكلت إيران لجنة قانونية، في 30 ديسمبر 2008، لرفع شكوى أمام المحاكم الدولية المختصة لمحاكمة مجرمي الحرب في إسرائيل بسبب جرائم الحرب في غزة. إلا أنها تحولت إلى محكمة داخلية دانت فيها القادة: العسكريين والسياسيين الإسرائيليين. وتردد أنها أرسلت قوائم بأسمائهم إلى الأنتربول الدولي في مرحلة لاحقة.

أمّا الدور الإيراني الآخر لدعم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بالأموال والسلاح، فإن حلقاته لم تكتمل صورتها، حيث تردد أن إيران ودول أخرى سوف تدعم قطاع غزة بالأموال، من خلال مساعدات إنسانية للمتضررين من الحرب؛ ما دعا "إسماعيل هنية" رئيس وزراء الحكومة المقالة في غزة، يوم 23 يناير 2009، إلى إعلان تشكيل صندوق غوث المتضررين، ورصد مبلغ 28.5 مليون يورو تعويضات. كما أعلنت إيران، يوم 22 يناير 2009، إنشاءها صندوقاً لإعادة إعمار غزة، وتعهدها ببناء ألف وحدة سكنية، ومساعدة الشهداء، وكفالة ألف طفل فلسطيني يتمتهم الحرب. أمّا في مجال إمداد المقاومة في غزة بالسلاح، فقد أُعلن احتجاز البحرية الأمريكية سفينة روسية تحمل أسلحة إيرانية متجهة إلى قطاع غزة، في يناير 2009، حيث تمت مصادرة الشحنة في قبرص، في فبراير 2009. كما أغارت إسرائيل على شاحنات تحمل أسلحة، شمال شرق السودان، يناير/ فبراير 2009، هي أسلحة إيرانية كانت متجهة إلى قطاع غزة.

ويمكن تلخيص الدور الإيراني تجاه العدوان على غزة في النقاط التالية:

أ. منذ اللحظة الأولى للعدوان على غزة، وإيران تقف إلى جانب أهل غزة و"حماس". وكان الموقف جامعاً على الصعيدَين: الرسمي والشعبي. وتجلى ذلك في تصريحات المراجع: السياسية والدينية وفي التحركات الشعبية التي دعت إلى وقف فوري للعدوان وفتح معابر قطاع غزة وخاصة معبر رفح. الأمر الذي دعا الرئيس الإسرائيلي بيريز، ووزيرة الخارجية الأمريكية رايس، أن يصرحا أن "حماس" تقاتل بالوكالة عن إيران، التي تسعى إلى امتلاك قنبلة نووية لتدمير إسرائيل وزعزعة استقرار الشرق الأوسط.

ب. كانت رؤية إيران للهدف الإسرائيلي من الحرب على غزة، هي القضاء على "حماس" وفصائل المقاومة الفلسطينية؛ ما يضع الملف الفلسطيني تحت السيطرة من جهة ويجعل ملف إيران النووي الذي يقلق إسرائيل يطفو على السطح؛ ما يجعل الرئيس الأمريكي الجديد يضعه في أولوياته والتركيز فيه.

ج. نشطت الدبلوماسية الإيرانية في توثيق علاقة إيران بالقوى: الإقليمية والعربية التي وقفت مع "حماس"، حيث كانت هناك زيارات مكوكية ومتواصلة للقيادات السياسية الإيرانية، متمثلة في وزير الخارجية، ورئيس مجلس الشورى، وأمين عام مجلس الأمن القومي، في إطار التنسيق الإيراني مع تركيا وسورية وبعض دول الخليج.

د. تجلى الدور الدبلوماسي الإيراني واضحاً من خلال حضور الرئيس نجاد قمة غزة التي عقدت في الدوحة، وشارك فيها سبعة زعماء عرب إلى جانب الرئيسَين الإيراني والسنغالي، ونائب رئيس الوزراء التركي؛ في ما قاطعتها دول "الاعتدال" العربية، إلى جانب رئيس السلطة الفلسطينية أبومازن.

هـ في ظل العداء الإيراني ـ الإسرائيلي، والخلاف الإيراني ـ المصري، كان العامل الجغرافي عاملاً حاسماً في منع إيران من ممارسة دور مباشر وإرسال مساعدات إلى غزة عبر البحر، وعبر معبر رفح المصري. لكن إسرائيل منعت السفن التي أرسلتها إيران من الاقتراب من غزة، في ما رفضت مصر استقبال المساعدات الإيرانية أو إقامة مستشفى ميداني متنقل على الأراضي المصرية قرب حدود غزة مع مصر.

2. الدور التركي

تميز الدور التركي خلال وبعد الحرب على غزة، 2008/2009، بالحضور غير المسبوق، وطغيان هذا الدور على معظم الأطراف: العربية والإقليمية، والذي تمثل في الرفض القاطع للعدوان، والذي جاء صريحاً مباشراً وعلنياً من قمة النظام والشعب التركي. وقد أرجعه البعض إلى حالة الخداع التي تعرضت لها تركيا إبّان زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لأنقرة، يوم 22 ديسمبر 2008، دون الكشف عن نيات العدوان الإسرائيلي حيال قطاع غزة.

لم يرتبط الدور التركي بمصلحة عاطفية مع حركة "حماس" أو المقاومة الفلسطينية. وإنما جاء من منطلق تحقيق مصالح: داخلية وخارجية. أولاها مرتبطة بالانتخابات المحلية لزيادة شعبية حزب العدالة والتنمية، والذي نجح فيها، في 31 مارس 2009. وثانيتها مرتبطة بالدور الإقليمي لوضع الدولة لأن تكون "مركزية" وليست "طرفية"، من منظور ما أطلقوا عليه "العثمانية الجديدة"، في إطار دعم العلاقات: السياسية والاقتصادية، بالدول العربية. وقد حصدت تركيا هذا النجاح في أشهر ما بعد الحرب. وثالثتها مرتبطة بالدور الدولي لوضع تركيا في مكانة الجسر بين الغرب والشرق، وأن تلعب دور الوسيط بين القوى الخارجية ومع دول الممانعة والاعتدال بالمنطقة، بما فيها إسرائيل. وقد نجحت تركيا كذلك في تحقيق هذا الهدف أملاً في حل بعض ملفاتها العالقة في قضية الأرمن، والانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وملف العراق، وقضية حزب العمال الكردستاني، وقضية قبرص، وغيرها. وهو أمر أكده الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" في خطابه أمام البرلمان التركي، في 7 أبريل 2009، والذي أشار إلى احتمالات تعزيز هذا الدور مستقبلاً.

بعد تفجر الأزمة مباشرة، أعلنت تركيا إدانتها للعدوان. وأوقفت دورها كوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل. وقام الرئيس التركي بزيارات مكوكية إلى الدول العربية في دمشق والأردن ومصر والمملكة العربية السعودية، منذ يوم 2 يناير 2009. وكانت أنقرة محطة وصول العديد من الدبلوماسيين في مصر وسورية وقطر وإيران. وبدت تركيا كأنها كانت في بؤرة الحدث ومحركته؛ وهو أمر أقلق إسرائيل ودفعها إلى رفض الدور التركي في الأزمة.

نظر البعض إلى الدور التركي بأنه كان من الأطراف المستفيدة من الأزمة، أو بمعنى آخر، أن النظام التركي نجح في توظيف الأزمة لتحقيق أهدافه، وربما تمكن من إزاحة النفوذ الإيراني نسبياً عن المنطقة، وأن هناك العديد من الإشكاليات لاستمرار الدور التركي مستقبلاً بحماسته نفسها خلال الأزمة، وخاصة صعوبة الاضطلاع بدور بارز في القضايا الإقليمية الكبرى التي تحمل الكثير من تعارض المصالح مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. وأشار بعض المصادر إلى أن تركيا ربما أدركت مصالحها أخيراً، وأعادت علاقاتها الودية بإسرائيل بعد الأزمة.

ويمكن أن نلخص الدور التركي تجاه العدوان على غزة في النقاط التالية:

أ‌.   تدخلت الدبلوماسية التركية منذ اللحظة الأولى للعدوان على غزة. ولعبت دوراً فاعلاً في وقف العدوان. وقد تواصلت تركيا مع جميع الأطراف المعنية من دون استثناء من مصر إلى رئيس السلطة الفلسطينية و"حماس" وإسرائيل وفرنسا ودول: أوروبية وعربية أخرى.

ب‌.  كانت تركيا الدولة الوحيدة التي استطاعت التواصل مع "حماس"؛ وبالتالي إعلان وقف مزدوج للنار. ولم تستبعد تركيا عن هذه المبادرة الشريكَين الرئيسيَّين في التسوية: مصر وفرنسا. بل إن مصر طلبت من تركيا أن تتولى ضمانة "حماس" في مفاوضات وقف النار. وبالفعل كانت تركيا هي البلد الذي ضمن قبول "حماس" وقف النار.

ج‌.  لم تكن تركيا مجرد "وسيط"، بل كانت البلد الذي ملأ الفراغ، بل كانت عاملاً في إقناع "حماس" ببعض المواقف. ولو لم تقم تركيا بهذا الدور، لكان وقف النار من جانب واحد، وهو إسرائيل، عرضة للانهيار في أيّ لحظة.

د‌.   على الرغم من مواقف رئيس الوزراء التركي أردوغان الحادة من إسرائيل، إلا أن تركيا لم تقطع تواصلها مع إسرائيل. وقام السفير التركي في إسرائيل بلقاء أولمرت ومسؤولين إسرائيليين آخرين. ويرى المحللون أن نجاح تركيا يكمن في تواصلها مع الجميع، وأن تركيا تعمل بنجاح على جميع المحاور، وهي على مسافة واحدة من الرئاسة الفلسطينية وحركة "حماس"، وتعمل على المصالحة بين الرئيس أبومازن و"حماس"؛ وتعتقد أن الأخيرة يجب أن تشارك في العملية السياسية لضمان استمرار وقف النار.

هـ. وفق المبدأ نفسه، استمر التواصل التركي مع إيران، حيث أسهمت التحركات التركية في إبقاء إيران صامتة إلى حدّ ما. ولو أن إيران تدخلت بشكل ما أثناء العدوان الإسرائيلي، لكان الوضع مختلفاً، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تدخلت كذلك في جانب إسرائيل.

و. رأى بعض المراقبين أن الأتراك منحازون إلى "حماس"، وأنهم يبتعدون عن الغرب. وفي المقابل تؤكد الدوائر الرسمية التركية أن العلاقات التركية مع الغرب ليست موضع مناقشة، وهي ثابتة. وكان واضحاً بعد ذلك تصريح وزير خارجية تركيا، أن على "حماس" أن تختار بين أن تكون منظمة مسلحة أو حركة سياسية. ورأى المراقبون كذلك أن هذا الموقف جاء محاولة لتخفيف الضغوط الغربية عن تركيا، ورسالة إلى الغرب أن تركيا لا تزال على حيادها من كلّ الفرقاء.

ز. تعد حادثة ملتقى "دافوس"، الاقتصادي، التي حصلت مساء 29 يناير 2009، هي العلامة الأوضح التي عكست موقف تركيا القوي من العدوان الإسرائيلي على غزة؛ على الرغم من مرور عشرة أيام على انتهائه. ففي ذلك اليوم، تساجل الرئيس الإسرائيلي بيريز مع رئيس الحكومة التركية أردوغان في جلسة خصصت للوضع في غزة، ضمن فاعليات ملتقى دافوس الاقتصادي في سويسرا. تحدث أردوغان في الجلسة متهماً إسرائيل بأنها جعلت غزة سجناً كبيراً وأنها كان يجب أن ترفع الحصار، وأن إسرائيل دمرت غزة بما فيها مباني الأمم المتحدة والمدارس التابعة لها. وطالب أردوغان بوجوب الاعتراف بخيار الشعب الفلسطيني الذي صوت لكتلة الإصلاح والتغيير "التابعة لحماس"؛ لأن الاستمرار في التحدث إلى عباس فقط لن يحل المشكلة.

ثم كان دور بيريز الذي وجه الاتهام "لحماس" محملاً إياها مسؤولية العنف في غزة، ومدافعاً عن رئيس السلطة الفلسطينية، متهماً أردوغان أنه لا يعرف الوضع في غزة جيداً.

وفور انتهاء بيريز من كلامه، أصر أردوغان على الرد ووصف بيريز بأنه يعرف القتل جيداً وبأنه يتكلم بخلفية المذنب المتهم، وأنه يعرف جيداً كيف قتلتم الأطفال عند الشاطئ، (مخاطباً بيريز)، ويوجد رؤساء حكومة عندكم يتباهون بأنهم يدخلون غزة على ظهر الدبابات. وبعد هذا ترك أردوغان مقعده مغادراً الجلسة،. ولدى عودته إلى إسطنبول كان في استقبال أردوغان في المطار الآلاف من الأتراك الذين وصفوه بأنه "الفاتح"، و"الزعيم الجديد".

ثانياً: الموقف الدولي

1. الدور الأمريكي

إن الدور الأمريكي في الحرب على غزة 2008/2009، لم يأت مع بدء الحرب، وإنما جاء في مرحلة التحضير للحرب، لإعداد الجيش الإسرائيلي للحرب، بتزويده بالأسلحة والذخائر ووقود الطائرات، حيث أقامت واشنطن في عام 2008 محطات للإنذار المبكر، وأهدت إسرائيل رادارات متقدمة وزودتها بأنظمة ثاد المضادة للصواريخ، للوقاية من الصواريخ: الإيرانية والسورية، في حالة تدخلهما في الحرب. وفي سبتمبر 2008، زودتها بصواريخ مضادة للتحصينات (ألف صاروخ) من نوع GB-39. كما أشار تقرير منظمة العفو الدولية، الصادر في 13 أبريل 2009، إلى أن الإدارة الأمريكية زودت إسرائيل بشحنة أسلحة وذخائر بحمولة 14 ألف طن على سفينة مؤجرة انطلقت من الموانئ الأمريكية، في 20 ديسمبر 2008، وفرغت حمولتها في ميناء أشدود الإسرائيلي. كما أجرى الجيش الإسرائيلي خلال الحرب تجارب لأسلحة وذخائر أمريكية لم تدخل الخدمة في الجيش الأمريكي.

مع بدء الحرب، أعلنت الإدارة الأمريكية موقفها في تفهمها لموقف إسرائيل رأته حقاً مشروعاً للدفاع عن النفس. وحملت حركة "حماس" المسؤولية عما يحدث في غزة. وسعت إلى تعطيل إصدار قرار من مجلس الأمن لإعطاء فرصة لإسرائيل لإنجاز مهمتها في قطاع غزة، وخلق معطيات وأوضاع جديدة على الأرض، لاتخاذ ترتيبات جديدة على أساسها. وعندما صدر القرار الرقم 1860، شجعت الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل على عدم تنفيذه؛ وعلى الرغم من مشاركة وزيرة الخارجية الأمريكية في إعداده، امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت عليه.

أصدر الكونجرس الأمريكي بمجلسَيه عدة قرارات، يوم 10 يناير 2009، تدعم إسرائيل في الحرب، وتعترف بحقها في الدفاع عن النفس، وتتغافل عن حجم المجزرة التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين في قطاع غزة.

ارتكز الدور الأمريكي على منع حركة "حماس" من استعادة السيطرة على الوضع في قطاع عزة، ومنعها من إطلاق الصواريخ وتهريب الأسلحة. وفي هذا الإطار أبرمت واشنطن التفاهم الأمني المشترك مع إسرائيل، في 15 يناير 2009، لمنع تهريب الأسلحة إلى غزة من البر أو البحر. وشكلت مع الدول الأوروبية مجموعة لمكافحة تهريب الأسلحة في البحر. وعقدت مؤتمرَين: أحدهما في الدنمارك والآخر في بريطانيا، خلال فبراير/ مارس 2009.

ترى الإدارة الأمريكية الجديدة أن المشكلة الفلسطينية هي من أعقد المشاكل الدولية تاريخياً. وأن الأمر يتطلب مرحلة زمنية لإعادة الثقة بين الطرفَين: الفلسطيني والإسرائيلي. وهي مرحلة زمنية غير محددة، قد يتم فيها إدارة الصراع، وليس حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. أمّا إعادة الثقة، فتتضمن الانخراط في المفاوضات لحل بعض القضايا، مثل أعمال العنف الفلسطيني، وتهريب السلاح، وإطلاق الصواريخ، مقابل رفع الحصار وفتح المعابر، وبحث الحالة الإنسانية في قطاع غزة، والتي قد تستغرق عدة سنوات.

وخلاصة القول، أن الدعم الدولي الأكبر لإسرائيل جاء من الولايات المتحدة الأمريكية، على لسان الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش"، ووزيرة خارجيته السابقة "كونداليزا رايس"، اللذَين حمّلا حركة "حماس" المسؤولية، ودافعا عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ ولكنهما طالباها بمراعاة الجانب الإنساني.

وفي مجلس الأمن حالت الولايات المتحدة الأمريكية بين المجلس وصدور قرار بوقف إطلاق النار، حتى تأخذ إسرائيل الفرصة لتحقيق أهدافها.

ومن خلال الحرب نقلت الطائرات الأمريكية إلى إسرائيل نوعيات من الذخائر الجوية، كان السلاح الجوي الإسرائيلي في حاجة إليها للتعامل مع أهداف "لحماس" محصنة في أنفاق تحت الأرض.

إن القراءة العلمية والموضوعية لموقف الولايات المتحدة الأمريكية من العدوان على قطاع غزة، تؤدي إلى النتائج الآتية:

أ. منحت الولايات المتحدة الأمريكية الموافقة المسبقة على العدوان، أو على الأقل عدم المعارضة للعدوان.

ب. على الرغم من التجاوزات التي ارتكبتها إسرائيل، وطبيعة التدمير الذي وصل حسب تقدير المراقبين إلى حد جرائم الحرب؛ إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترد أن تتخذ موقفاً قطعياً من العدوان؛ كون النتائج غير مضمونة قياساً على حرب لبنان، عام 2006.

ج. إن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترد أن تضع عراقيل واضحة أمام السياسات الأمريكية في المنطقة، وخاصة أن الحديث يدور عن إدارة شعارها "تغيير السياسات".

د. تمثل الهدف السياسي الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية، في تلك المرحلة، في عدم تغذية سياسة المحاور في المنطقة "الاعتدال والممانعة". وجاء الموقف الأمريكي محتوياً للعديد من التطورات سواءً على الساحة العربية أم الإقليمية أم الدولية. ولو اتخذت الإدارة الأمريكية موقفاً "قطعياً" من العدوان، لغذى ذلك سياسة المحاور المذكورة، وخاصة أنها على أعتاب إدارة جديدة، ولم يكن الرئيس أوباما قد تسلم بعد منصبه.

هـ. لم تبتعد الولايات المتحدة الأمريكية كثيراً عن سياستها تجاه منح إسرائيل "الدعم التبريري"، بمعنى اتباع سياسة الترويج المعاكس. فقد ارتكزت الإستراتيجية الأمريكية، أثناء العدوان على قطاع غزة وبعده، على سياسة الترويج وأوحت بأن جذور المشكلة تكمن في تهريب الأسلحة. وقامت المبادرة الأمريكية على أساس تقديم الدعم لمنع تهريب الأسلحة إلى القطاع. وتبع ذلك عشية الإعلان عن وقف النار، توقيع الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل لاتفاقية المراقبة البحرية لمنع تهريب الأسلحة إلى القطاع، وتعاون قوات حلف شمال الأطلسي في هذه المهمة وكذلك بعض الدول العربية.

2. دور الدول الغربية

جاء موقف الدول الغربية على مختلف توجهاتها مؤيداً لإسرائيل؛ وعلى نقيض الموقف الدولي العام الرافض للعدوان. ولكن درجة التأييد راوحت بين الإشارة إلى توجيه الاتهام إلى "حماس" بالاسم، وتأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، وبين وصم "حماس" بالإرهاب وتأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، كما جاء في بيان أستونيا وجورجيا.

وجاء في بيان وزير خارجية أستراليا، أن مسؤولية بدء القتال تقع على عاتق من أطلق الصواريخ على إسرائيل؛ وتأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس.

كما جاء في بيان وزير الخارجية النمساوية الإشارة إلى سقوط عدد من الضحايا المدنيين، دون أن يوضح هويتهم أو المسؤول عن قتلهم.

كما تمثل في تصريحات "ميركل" مستشارة ألمانيا، التي حملت "حماس" وحدها المسؤولية. ثم قدمت ألمانيا، في 21 يناير 2009، خطة من خمس نقاط عرضها وزير الخارجية الألماني، في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في بروكسل. وهي تدعو إلى تنسيق إرسال المساعدات الإنسانية الأوروبية وتأمين التمويل اللازم لها، وتعزيز مكافحة تهريب السلاح بين قطاع غزة ومصر، مع استعداد ألمانيا لمساعدة مصر تقنياً في هذا المجال. وتقترح النقطة الثالثة إعادة المفتشين الأوروبيين إلى معبر رفح لتشغيله، طبقاً لاتفاق عام 2005؛ إضافة إلى فتح معابر إسرائيل مع القطاع. كما تدعو النقطة الرابعة إلى إعادة إعمار قطاع غزة من خلال دعوة الدول المانحة لعقد مؤتمر دولي. أمّا النقطة الخامسة والأخيرة، فتدعو إلى استعادة مفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين في إقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل.

وبالمثل جاء بيان الخارجية الكندية، ليركز فقط على إطلاق الصواريخ على إسرائيل؛ لأنه وحده هو مصدر المشكلة.

أما بيان التشيك، فقد أيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس. وحمّل "حماس" المسؤولية. وهو ما فعله كذلك رئيس وزراء الدنمارك، قائلاً إن "حماس" هي التي انتهكت الهدنة.

كذلك عبر بيان الخارجية الإيطالية عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ ولكنه ناشدها أن تترفق بالمدنيين الفلسطينيين.

وفي المسار نفسه، مشت هولندا، حيث عبر رئيس وزرائها عن تفهمه "للتحركات" الإسرائيلية؛ ورفض إدانتها.

وكان الموقف الإسباني مماثلاً للموقف الإيطالي، حيث أعرب وزير الخارجية الإسباني عن "الإدانة الحازمة للاستفزاز غير المسؤول من جانب "حماس" بشن هجمات الصواريخ، واستعمال القوات الإسرائيلية المفرط للأعمال الانتقامية".

أمّا فرنسا، فإنها دانت "الأعمال الاستفزازية غير المسؤولة، التي أدت إلى هذا الموقف (حماس) والاستعمال غير المتكافئ للقوة (إسرائيل)". ولكنها دانت الهجوم البري الإسرائيلي، في 7 يناير 2009.

وجاء بيان خارجية مالطة معبراً عن التوجه نفسه، أيْ إدانة إطلاق الصواريخ، والحث على الرأفة بالفلسطينيين.

وقد خرجت بلجيكا عن هذا المسار، وعبر بيان خارجيتها عن الانزعاج لارتفاع ضحايا الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة.

كما خرجت بلغاريا وكرواتيا عن هذا النمط، واكتفتا بمطالبة الطرفَين بتفادي استعمال العنف. هذا بالإضافة إلى اليونان وأيرلندا اللتَين دانتا "حماس" وإسرائيل، في آن واحد. كما سارت المجر في طريق الإشارة إلى مسؤولية الطرفَين على قدم المساواة. وطالبت نيوزلندا "حماس" وإسرائيل بوقف القتال.

أمّا البيان النرويجي، فجاء أكثر توازناً من الموقف الأوروبي العام، حيث رفض استعمال الطائرات لضرب غزة، ورفض الهجوم البري في 7 يناير 2009. ودعا إسرائيل إلى سحب قواتها من غزة فوراً. ولكنه دان "حماس" لإطلاق الصواريخ.

هذا بينما تبنى عدد من الدول الأوروبية الحياد المشوب باستنكار الاستعمال الإسرائيلي المفرط للقوة ضد شعب غزة، مثل فنلندا وصربيا وسلوفاكيا، أو الاكتفاء بالمطالبة بوقف القتال، مثل لاتفيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا.

أمّا أقوى السياسات الأوروبية خروجاً على معظم النمط الأوروبي المؤيد صراحة لإسرائيل، جاء من السويد التي دانت الهجوم الإسرائيلي على غزة، وأشارت إلى خرق إسرائيل للقانون الدولي.

جاء موقف بريطانيا ملتزماً بالحياد المشوب بالتفهم للعدوان الإسرائيلي، حيث دانت إطلاق الصواريخ الفلسطينية، ولكنها عبرت عن القلق لارتفاع الضحايا المدنيين الفلسطينيين؛ دون الإشارة المماثلة لإدانة إسرائيل على تلك الأعمال، باستثناء إدانة إسرائيل لتدميرها منشآت الأمم المتحدة في القطاع.

3. الدور الروسي

من المعروف أن روسيا كانت قبل الحرب قد دعت إلى عقد مؤتمر في موسكو لبحث المشكلة الفلسطينية. وذلك رداً على مؤتمر أنابوليس الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية، وعقدته في يناير 2008؛ ولم تُُسفر عنه نتائج ذات قيمة.

كما دعت روسيا على لسان وزير خارجيتها "سيرجي لافروف" كلاًّ من إيران وسورية إلى إقناع "حماس" في غزة بقبول المبادرة المصرية لإنهاء القتال في غزة؛ مؤكداً ضرورة تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي، ودعم المبادرة المصرية؛ وأن روسيا لا ترى حاجة إلى طرح أية مبادرات جديدة بخصوص الأوضاع في غزة، وأن هذه المبادرة تتفق مع الرؤية الروسية التي تطالب بسرعة وقف إراقة الدماء وبلوغ التهدئة التي يجب أن تكون على أساس دائم. كما أكد أن السلطة الفلسطينية ستكون ممثلة في شخص الرئيس الفلسطيني "محمود عباس"، بصفته الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، في مؤتمر السلام الذي دعت إليه موسكو.

أمّا الموقف الروسي من العدوان الفعلي على غزة 2008/2009، فاقتصر على الجانب الإنساني للعدوان، حيث طالب وزير الخارجية "لافروف" بوقف أعمال القوة واسعة النطاق ضد قطاع غزة، والتي تسببت في سقوط ضحايا عديدين بين السكان الفلسطينيين. كما طلب من "حماس" وقف "القصف لأقاليم إسرائيل" المتاخمة لقطاع غزة، والتي تصلها الصواريخ من "حماس".

يحلل المراقبون الموقف الروسي تجاه العدوان على غزة أنه موقف "صامت". وهناك مجموعة من الأسباب التي دفعت إلى هذا الموقف، ومن أهمها:

أ. لا تعتمد السياسة الروسية الحالية مبدأ "مناطق النفوذ"، كما كان من قبل؛ وإنما تستند إلى منطلق "الأمن القومي الروسي". وهذا يقود إلى النظر في مدى تهديد العدوان الإسرائيلي للأمن القومي الروسي. وبالتأكيد لا يمكن التقدير أن هناك تهديداً مباشراً لروسيا، يأتي من هذه المنطقة.

ب. دعت الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة أوباما إلى إحداث نقلات في العلاقات الدولية وطبيعتها وبالذات تجاه الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية. وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الإدارة الروسية تتخذ سياسة عدم التصعيد مع هذه الإدارة.

ج. تتمتع روسيا بعلاقات بحركة "حماس". وكانت من أُوَل الدول الكبرى التي استقبلت رئيس المكتب السياسي للحركة في أعقاب الانتخابات التشريعية الفلسطينية، عام 2006. إلا أن السياسة الروسية ترى أنها تلعب دوراً متوازناً تجاه مكونات العمل السياسي الفلسطيني والعربي. وبالتالي، فإن الموقف الروسي يجد لنفسه التبرير في الخلاف الفلسطيني والعربي حول الشرعية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

د. تريد الإدارة الروسية أن تستمر علاقاتها المتوازنة بالدول: العربية والإقليمية، في المنطقة. فوجدت الصمت هو أبلغ تعبير عن المحافظة على علاقاتها الطيبة سواء بمحور الممانعة أو محور الاعتدال.

4. دور الدول الإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية

اكتسبت القضية الفلسطينية دعماً سياسياً لم تحصل عليه من قبل من الدول الآسيوية، ومن بعض دول أمريكا اللاتينية، ومن مؤسسات المجتمع المدني العالمي.

فقد دانت معظم الدول: الإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية العدوان الإسرائيلي. وكان أقوى تلك الإدانات من جانب بوليفيا وفنزويلا اللتَين قطعتا علاقتهما الدبلوماسية بإسرائيل. وطالبت بوليفيا بسحب جائزة نوبل من "شيمون بيريز". كما وصف "شافيز" رئيس فنزويلا، العدوان الإسرائيلي بأنه "إرهاب الدولة".

كما أشار بيان الخارجية الكوبية إلى "الأعمال الإسرائيلية الإجرامية في غزة". وكانت من أقوى الإدانات ضد إسرائيل إدانة الرئيس الأفغاني "حامد قرضاي" الذي أصدر بياناً دان فيه الهجوم البربري للقوات الإسرائيلية على المدنيين في قطاع غزة.

وكذلك رئيس جامبيا، الذي وصف العدوان الإسرائيلي بأنه "هولوكوست" ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.

وكذلك بيان رئيس نيكاراجوا "دانييل أورتيجا" الذي أشار إلى "الأعمال الإجرامية الإسرائيلية في غزة"، داعياً إلى وقفها.

ودان بيان كوريا الشمالية إسرائيل بشدة ووصف ما قامت به بأنه "جريمة ضد الإنسانية".

وكذلك بيان "عبدالله بدوي" رئيس ماليزيا، والذي طالب بفرض عقوبات دولية على إسرائيل.

أمّا في البوسنة، فقام "سيلاديتش" عضو مجلس الرئاسة البوسني، بزيارة سفارة فلسطين في سيراييفو، معرباً عن تضامن بلاده مع شعب غزة.

الأمر نفسه جرى في بروناي، ودار السلام، وإريتريا. كذلك إندونيسيا، التي عبر رئيسها "يورهينو" عن دعم بلاده الثابت للنضال الفلسطيني.

وبالمثل فقد دانت باكستان، على لسان الرئيس "زرداري"، "الهجوم الإسرائيلي على غزة وخرق إسرائيل للقانون الدولي".

كما طالب الرئيس السنغالي "عبدالله واد" بانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة دون شروط، مؤكداً أن بلاده "تنضم إلى صوت العالم بأسره الذي يدين العنف".

وطالبت فيتنام إسرائيل بوقف الهجوم وسحب قواتها فوراً من غزة.

هذا بينما تبنى قسم من تلك الدول الحياد المشوب باستنكار الاستخدام الإسرائيلي المفرط للقوة. من هذه الدول البرازيل، وتشيلي، وكولومبيا، والإكوادور، وتنزانيا.

بينما تبنى قسم الحياد واكتفى بالمطالبة بوقف القتال، مثل الأرجنتين، وباراجواي، وبيرو، والفيليبين، والمكسيك، وأرمينيا، وبوركينا فاسو، والجابون، وكازاخستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وكينيا، وسنغافورة، وتايلاند، وكوريا الجنوبية، وسريلانكا.

وأيد قسم منها العدوان الإسرائيلي، مثل بنما التي أصدرت بياناً تُعلن فيه صراحة إدانة "حماس" وتأييد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

أمّا الصين، فقد التزمت الحياد الصارم. وأعلنت خارجيتها قلقها العميق من تصاعد الموقف المتوتر في غزة، وإدانتها للأعمال التي تسبب الإصابات والقتل بين الناس العاديين. وناشدت الأطراف ضبط النفس. ولم يشر البيان إلى أيّ مسؤولية لإسرائيل عما يحدث في غزة. وسار بيان الخارجية اليابانية على المنوال عينه.

وكان الموقف الهندي أكثر تحديداً، حيث طالبت نيودلهي إسرائيل بوقف العمليات العسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين. وأعربت عن علمها "بانتهاك الحدود" في إشارة إلى إطلاق الصواريخ من قِبل "حماس". ثم أصدرت الحكومة الهندية بياناً ثانياً دان الاستعمال المفرط للقوة من جانب إسرائيل.

ونخلص إلى القول إنه على الصعيد الدولي، كشف العدوان الإسرائيلي أن الدعم الدولي للقضية الفلسطينية نتيجة العدوان الإسرائيلي 2008/2009، لم يتضاءل، واكتسب أرضاً جديداً في جميع قارات العالم.

ثالثاً: دور الأمم المتحدة والمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني

1. موقف الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن الرقم 1860

عقب مفاوضات طويلة وشاقة بذلتها مجموعة وزراء الخارجية العرب، ومعهم رئيس السلطة الفلسطينية "أبو مازن" في دوائر مجلس الأمن، من أجل استصدار قرار يجبر إسرائيل على وقف إطلاق النار؛ وبعد جهود استغرقت ثلاثة أيام، قادها كلّ من وزير الخارجية السعودي "سعود الفيصل"، ووزير الخارجية المصري "أحمد أبو الغيط"؛ وبمشاركة وزراء خارجية كلّ من الأردن وليبيا والمغرب وقطر ولبنان وفلسطين، وأمين عام الجامعة العربية "عمرو موسى"؛ صدر قرار مجلس الأمن الرقم 1860 في 9 يناير 2009، وذلك بأغلبية 14 صوتاً، وامتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت.

وعلى الرغم من أن القرار لم يستجب لكلّ مطالب اللجنة الوزارية العربية، إلا أنه يحقق الحدّ الأدنى من هذه المطالب. فقد دعا القرار وقف فوري لجميع أعمال القتال، وتقديم المساعدات الإنسانية إلى شعب غزة. كما رحب بالمبادرات الرامية إلى توصيل المعونات الإنسانية على نحو مستمر، ودان جميع أشكال العنف والأعمال الحربية الموجهة ضد المدنيين وجميع أعمال الإرهاب.

وعلى الرغم من أن القرار لم يضع آلية لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، إلا أنه دعا الدول الأعضاء إلى تكثيف الجهود الراقية لتوفير الترتيبات والضمانات اللازمة من أجل الحفاظ على وقف دائم لإطلاق النار، والمحافظة على الهدوء ومنع الاتجار غير المشروع بالأسلحة والذخائر، وضمان إعادة فتح المعابر بصفة مستمرة على أساس اتفاق التنقل والعبور المبرم في عام 2005 بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. كما رحب القرار بالمبادرة المصرية وبالجهود الإقليمية والدولية الأخرى الجارية. وشجع مجلس الأمن في قراره على اتخاذ خطوات ملموسة نحو تحقيق المصالحة بين الفلسطينيين.

شدد رئيس الوزراء البريطاني "جوردون براون" ـ الذي قدمت بلاده مشروع القرار ـ على ضرورة اتخاذ إجراءات على الأرض بسرعة بعد إعلان هذا القرار، وبما يوفر الأمن الضروري لوضع حدّ نهائي للعنف، سواء من جانب العمليات العسكرية الإسرائيلية، أو من جانب الهجمات الصاروخية لحركة "حماس".

هذا إلى جانب ضرورة اتخاذ ترتيبات لمنع تهريب الأسلحة داخل غزة فوراً، إلى جانب سرعة فتح الحدود، وهو ما يفرض وجود مراقبة دولية تضمن أمن الأشخاص الذين يشعرون بأنهم في خطر.

وقد وصف بعض المحللين السياسيين هذا القرار بالضعف، لأنه لم يصدر وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وبالتالي، لن يُلزم الأطراف المعنية بتنفيذه، ولن يُنذر بعقوبات لكلّ من لا ينفذه.

وهذا ما تم بالفعل عندما رفضت كلّ من إسرائيل و"حماس" تنفيذه، لأن القرار لم يعط لأيّ منهما ما تريده. وأبقى بعض الأمور غامضة وغير محددة، مثل ما يعنيه بتحقيق الهدوء الشامل، وكيفية تنفيذ ذلك. كما لم يوضح متى سيتم الانسحاب الإسرائيلي؟ وكيف؟ ومتى ستُفتح المعابر؟ وطبيعة الترتيبات التي ستتخذ لوقف التهريب.

هذا الغموض كان مقصوداً لأنه وفر لكلّ طرف مساحة من الأخذ والعطاء، في حالة قبول مبدأ وقف القتال وتسوية الملفات العالقة بين الطرفَين، وبناء هدنة دائمة.

2. الاتحاد الأوروبي

حاول الاتحاد الأوروبي أن يلعب دوراً واضحاً في قضية الشرق الأوسط، في السنوات الأخيرة. وهو ما يمكن تفسيره بالبحث عن دور فاعل يزيح القطب الأوحد المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية، لإدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وجاء الموقف الأوروبي من خلال الرئاسة الحالية للاتحاد، عندما أعلنت وفي اللحظة الأولى من الحرب البرية، يوم 7 يناير 2009، أن "ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة عبارة عن عملية دفاعية". وتلا ذلك دعوة بقية الرؤساء والزعماء في أوروبا، طوال الحرب، لضرورة وقف إطلاق صواريخ المقاومة قبل كل شيء.

وقد حاولت دول الاتحاد الأوروبي في اللحظات الأخيرة من الحرب، بعد أن قررت إسرائيل وقف العدوان من جانب واحد، أن تُعيد التوازن إلى مواقفها السابقة التي اتسمت بالتخاذل، فلم تتدخل بالضغط على إسرائيل إلا بعد 22 يوماً، ثم تسارعت إلى مؤتمر في شرم الشيخ للعمل على تحقيق هدف واحد، هو عدم تهريب السلاح إلى "حماس".

أمّا المشاركة في إعمار غزة، فقد وافق المؤتمرون على تقديم المنح والمساعدات للسلطة الفلسطينية، مع الحرص على عدم حصول "حماس" عليها؛ مع محاولة إقناع الدول العربية بأن الاتحاد الأوروبي قادر على القيام بدور إيجابي في نزاع الشرق الأوسط. وهو ما انعكس في مسارعة فرنسا إلى تبني وتنفيذ فكرة "الاتحاد من أجل المتوسط"، على أساس أنها تُسهم في إقرار السلام بين شعوب الشرق الأوسط المطلة على البحر الأبيض المتوسط.

3. مؤسسات المجتمع المدني العالمي

جاءت أكبر أشكال الإدانة للعدوان الإسرائيلي من مؤسسات المجتمع المدني العالمي. فقد عمت المظاهرات مختلف المدن حول العالم منددة بالعدوان. وقد أشار موقع ويكيبيديا إلى "ردود الأفعال الدولية لصراع غزة 2008/2009" في تسجيله لتلك المظاهرات.

وقد شملت تلك الاحتجاجات تدمير المواقع الإسرائيلية على الإنترنت، والهجوم على المعابد والرموز اليهودية.

وقد قدر "المنتدى العالمي ضد اللاسامية" أن حوادث الهجوم تلك بلغت 300%، مثل الحوادث التي تمت في المدة نفسها من العام الماضي، حيث وقع 250 هجوماً، مقابل 80 هجوماً في مدة أسبق.

4. الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

برز دور الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، برئاسة الدكتور "يوسف القرضاوي"، منذ اليوم الأول للحرب على غزة. وبرز دور الاتحاد على مستوى تحريك الشارع العربي والإسلامي، إلى جانب جولة شملت عدداً من البلدان العربية والإسلامية، وتم التقاء رؤسائها؛ إضافة إلى الدور الإغاثي والداعي إلى تقديم المساعدات الإنسانية للقطاع.

ويُعَدّ الموقف الذي ظهر به الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عودة لدور العلماء في المجتمع بعد غياب هذا الدور من قبل وانشغاله بالقضايا الفقهية والاختلافات المذهبية فقط. وهو ما يمكن أن يضع بعض الإشارات المستقبلية لطبيعة الدور المؤثر الذي يمكن أن يلعبه هذا الاتحاد في العلاقات: العربية والإسلامية، إذا ما فتح له المجال. ومما لا شك فيه أن هذا الدور كان عوضاً عما كان يجب أن تفعله منظمة المؤتمر الإسلامي، التي أخفقت في عقد قمة إسلامية طارئة على مستوى رؤساء الدول الإسلامية. واكتفت بعقد جلسة على مستوى وزراء خارجية الدول الإسلامية، اكتفت بالتنديد بالعدوان دون أن تتخذ مواقف عملية.

5. موقف منظمة المؤتمر الإسلامي

أ. فور وقوع العدوان، تابعت منظمة المؤتمر الإسلامي تطوراته عن كثب. ومنذ اللحظة الأولى أصدر الأمين العام للمنظمة "أكمل الدين إحسان أوغلو" Akmel el ddin Ihsan Oglu بياناً دان فيه العدوان، ودعا المجتمع الدولي إلى التحرك لوضع حد للاستهتار الإسرائيلي بالقيم الإنسانية والقوانين والمعاهدات الدولية. ودعا أوغلو في رسائل إلى الاتحاد الأوروبي والخارجية الأمريكية إلى الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها.

في يوم 30 يناير 2009، عقد اجتماع لوزراء خارجية الدول الإسلامية. وانتهى إلى إصدار بيان "شامل" يدعو إلى تنسيق المواقف مع جامعة الدول العربية وسبل تقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة.

لكن الاجتماع رفض الطلب الإيراني عقد مؤتمر قمة إسلامية، والذي أيدته قطر. واكتفى البيان الختامي للاجتماع بالتعبير عن خيبة أمله من عدم قيام مجلس الأمن الدولي بواجباته. ودعا إلى وضع غزة تحت مظلة الأمم المتحدة "لوقف تصعيد النزاع".

وقال البيان إنه في حال فشل مجلس الأمن في وقف العدوان فيجب دعوة الأمم المتحدة للاجتماع. وأكد البيان دعمه "للسلطة الفلسطينية ومؤسساتها الشرعية".

ب. على الرغم من الشمول الذي وصف به البيان الختامي إلا أنه كان عاجزاً عن مساندة الشعب الفلسطيني في غزة، ولم يشر ولو بكلمة إلى حركة "حماس" ومقاومتها.

كما اكتفى بالنداءات لتحركات دبلوماسية ولم ينجح في عقد قمة على مستوى الرؤساء. كما لم يدعُ إلى اتخاذ أيّ إجراء ضاغط على إسرائيل من جانب الدول الأعضاء فيه، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية بإسرائيل من جانب دوله المعترفة بها، أو اتخاذ إجراءات اقتصادية أو ما إلى ذلك.

ج. بدعوة من رئيس البرلمان التركي "كوكسال توبتان" Koksal Toptan بصفته الرئيس الدوري لاتحاد البرلمانيين المسلمين، وفي 15 يناير 2009، اجتمع برلمانيو الدول الإسلامية في إسطنبول. ودعا مؤتمرهم إلى وقف النار في غزة، وانسحاب إسرائيل منها وفتح المعابر وإرسال المساعدات الإنسانية إلى غزة.

لكن المؤتمر لم يدعُ، على غرار مؤتمر وزراء الخارجية، الدول الإسلامية المعترفة بإسرائيل إلى أيّ عقوبات أو مواقف إيجابية من تل أبيب.

د. دعا الرئيس الدوري لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الرئيس السنغالي "عبدالله واد" إلى إرسال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، وذلك بعد يومَين من وقف النار فيها.

من الواضح أن منظمة المؤتمر الإسلامي بدت، مثل جامعة الدول العربية، عاجزة عن التحرك الفعال أو عقد مؤتمر قمة طارئ؛ على الرغم من استمرار العدوان، بوحشية وعنف، طوال 22 يوماً.

واكتفت المنظمة بالدعم المعنوي الكلامي والبيانات والتصريحات التي كان يصدرها أمينها العام، وبعض المساعدات الإنسانية التي وقفت عند المعابر المغلقة على حدود قطاع غزة.