إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / القضية الفلسطينية ونشأة إسرائيل، وحرب عام 1948





معارك المالكية
معركة مشمار هايردن
العملية مافيت لابوليش
العملية نخشون

أوضاع الألوية الإسرائيلية
أوضاع المحور العرضي
أوضاع القوات المصرية
أهداف القوات العربية
محصلة الجولة الأولى
مشروع لجنة بيل
مسرح عمليات فلسطين
أعمال القتال المصري ـ الإسرائيلي
معركة وادي الأردن
معركة نجبا
معركة نيتسانيم
معركة مشمار هاعيمك
معركة أسدود
معركة اللطرون (الهجوم الأول)
معركة اللطرون (الهجوم الثاني)
معركة العسلوج
معركة القدس
معركة بئروت يتسحاق
معركة جلؤون
معركة جنين
معركة يد مردخاي
معركة جيشر
الأوضاع المصرية والإسرائيلية
الموقف في نهاية الفترة الأولى
المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين
الاتجاهات التعبوية لمسرح العمليات
الاستيلاء على مستعمرات عتصيون
الاستيلاء على صفد وتخومها
الاستيلاء على عكا
التنفيذ الفعلي للعملية يؤاف
التقسيمات العثمانية في سورية
الحدود في مؤتمر الصلح
الخطة الأصلية للعملية يؤاف
العملية هاهار
العملية ميسباريم
العملية أساف
العملية مكابي
العملية بن عامي (تأمين الجليل)
العملية باروش
العملية حوريف (حوريب)
العملية داني
العملية يبوس
العملية حيرام
العملية ديكيل
العملية يفتاح (تأمين الجليل)
العملية شاميتز
العملية عوفدا
القتال في المحور الشرقي
القتال في جيب الفالوجا
اتجاهات الجيوش العربية
اتفاقية سايكس/ بيكو
تقدم القوات المصرية في فلسطين
تقسيم فلسطين
تقسيم فلسطين الأمم المتحدة
دخول الفيلق الأردني القدس
حدود فلسطين تحت الانتداب
سورية في العصر الإسلامي
سورية في العصر البيزنطي
سورية في العصر اليوناني
سورية في عهد الأشوريين
طريق تل أبيب ـ القدس
كنعان قبل قيام إسرائيل
فلسطين في عهد الملوك



أمن البحـــر الأحمــر

المبحث الأول

الخلفية التاريخية

(2500 ق.م – 1882 م)

أولاً: فلسطين في العصور السامية القديمة (حوالي 2500 ـ 538 ق.م)

1. استيطان الشعوب السامية القديمة لفلسطين (2500 ـ 1250 ق.م)

عُدت فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى أحد الأقاليم السورية، ويرجع اسمها إلى اليونانية وكان في الأصل "فلسطيا" نسبة إلى الفلسطينيين القدماء الذين استوطنوا منطقة الساحل جنوب جبل الكرمل وحتى غزة في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وكانت هذه التسمية تُطلق في البداية على المنطقة الساحلية ثم أطلقت بعد ذلك على المنطقة بكاملها حتى البادية[1].

وقد تعرضت سورية في الأزمنة القديمة لعدة هجرات حملت إليها عدة شعوب سامية تعود في أصولها إلى شبة الجزيرة العربية، وقد وفد معظم هذه الشعوب إلى سورية من الشرق عن طريق حوض الفرات والبعض الآخر من اتجاه الجنوب بحذاء البحر الأحمر والجنوبي الغربي عن طريق سيناء.

وجاءت أولى موجات هذه الهجرات في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد تحمل الأموريين والكنعانيين الذين قدموا من بلاد الرافدين.

وقد استوطن الأموريون بالتدريج سورية الوسطى وشرق فلسطين، بينما استوطن الكنعانيون منطقة الساحل (لبنان وفلسطين). وفي الوقت الذي بدأت فيه مصر توسعها الإمبراطوري باستعادة سيطرتها على سورية حوالي عام 1447 ق.م، كان الأموريون قد زحفوا جنوباً في اتجاه شرقي الأردن.

وقد أُطلق اسم كنعان في أول الأمر على الساحل (لبنان) وغرب فلسطين ثم أصبح بعد ذلك الاسم المتعارف عليه لفلسطين وجزءا من سورية، ونتيجة لطبيعة أرض كنعان وموقعها الاستراتيجي بين مراكز الدول الكبرى القديمة التي قامت في مصر وآسيا الصغرى وبلاد الرافدين لم ينجح الكنعانيون قط في تأسيس دولة قوية موحدة واقتُصر تجمعهم على ممالك صغيرة حول المدن الرئيسية حيث كانت كل جماعة تتجمع حول مدينة محصنة بأسوار ذات شرفات وأبراج لأغراض الدفاع، وكان ذلك يسمح لسكان الريف المجاورين باللجوء إليها في وقت الخطر، وقد عُرفت هذه التجمعات تاريخياً باسم ممالك المدن. (اُنظر خريطة كنعان قبل قيام إسرائيل)

وبعد الأموريين والكنعانيين كان الآراميون والعبرانيون هما الشعبان الساميان الآخران اللذان هاجرا من حوض الفرات إلى سورية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد في صورة قبائل رُحَّل، وفي الوقت الذي استقر فيه الآراميون وسط الأموريين في سورية الوسطى، فقد استقر العبرانيون في جنوب سورية (فلسطين)، ولما كان الكنعانيون يشكلون كثافة نسبية في الأراضي المنخفضة بينما يسكن الأموريون المرتفعات الأقل كثافة، فقد أعطى ذلك القادمين الجُدُد مجالا للاستيطان في مناطق المرتفعات.

ويحيط الغموض ببدء وجود العبرانيين في جنوب سورية إلا أن الروايات العبرانية في الكتاب المقدس وقصص القرآن تميط اللثام عن بعض الأحداث الرئيسية في تلك الفترة، حيث تشير الروايات العبرانية إلى أن النبي إبراهيم[2] u ـ الجد الأكبر للعبرانيين ـ قدم من "أور" في بلاد الرافدين بطريق "حران" وأقام بعض الوقت قرب حبرون (الخليل). ويروى لنا القرآن الكريم في سورة (إبراهيم) كيف وُلد للنبي إبراهيم ولدان إسماعيل وإسحاق (عليهما السلام)[3]، وكيف تُرك إسماعيل u في وادي مكة مع أمه هاجر، ليصبح بعد ذلك الجد الأكبر لكثير من العرب المستعربة الذين انتشروا في نجد والحجاز والبتراء وتدمر، بينما اصبح إسحاق الجد الأكبر للإسرائيليين الأوائل من نسل ابنه يعقوب الذي غُير اسمه (كما جاء في العهد القديم) ليصبح إسرائيل[4]، كما غُير اسم "عيسو" أخو يعقوب ليصبح "آدوم"، وعرف أبناؤه فيما بعد باسم الأدوميين، وقد اسقط الإسرائيليون عيسو من تاريخهم كما اسقطوا إسماعيل من قبل.

ويروي لنا القرآن (في سورة يوسف) قصة أولاد يعقوب الإثنى عشر وكيف انتهى الأمر بيوسف (الابن الأكبر لراحيل)، إلى منصب كبير في مصر ودعوته لوالديه وأخوته للإقامة بها، وما انتهى إليه الأمر من إقامة أسرة يعقوب (إسرائيل) في مصر، ويسجل التاريخ أن أحد القبائل العبرانية ـ وهي قبيلة راحيل ـ عاشت وازدهرت في مصر في عهد الهكسوس في أرض "غوش" قرب "أفاريس" عاصمة الهكسوس.

ويوضح لنا كل من الكتاب المقدس (العهد القديم) والقرآن الكريم (في سورتي طه والأعراف) كيف خرج الإسرائيليون من مصر بقيادة النبي موسى u في بداية الهجرة الثانية للعبرانيين إلى جنوب سورية (فلسطين)، كما سجل لنا التاريخ أن هذه الهجرة قد بدأت في أوائل القرن الثالث عشر (ق.م)، وأنه بعد سنين التيه في سيناء اتجه الإسـرائيليون إلى فلسطين، إلا أنهم اصطدموا بقبائل العمالقة العربية الذين كانوا يستوطنون منطقة النقب وشمال الحجاز، فاتجهوا شرقاً نحو بادية الأردن في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد.

وتجنب الإسرائيليون في تحركهم ممالك أدوم ومؤاب وعمون الواقعة شرق وجنوب البحر الميت، إلا أنهم اصطدموا بمملكتي "سيحون" و"باشان" الأموريتين في طريقهم إلى الأراضي الخصبة غربي نهر الأردن. وبعد انتصارهم على المملكتين السابقتين، بدأ تغلغل الإسرائيليين في منطقة الجليل والسيطرة تدريجياً على ممالك المدن الكنعانية عن طريق الفتح والمعاهدات والامتصاص.

2. تغلغل القبائل الإسرائيلية والفلسطينية وسيطرتها على فلسطين (1250ـ 923 ق.م)

وفي الوقت الذي كان فيه الإسرائيليون يتوغلون في منطقة المرتفعات الوسطى في أواخر القرن الثالث عشر (ق.م) كانت منطقة الساحل (الفلسطيني) تتعرض لغزوة استيطانية أخرى. فقد أدى زحف القبائل الهندو ـ أوروبية على بلاد اليونان وجزر بحر إيجه إلى فرار عدد كبير من سكان البلاد الإيجيين إلى أقرب السواحل. ومن بين هؤلاء جاء الفلسطيون (أو الفلسطينيون) من جزيرة كريت واحتلوا مدينتي "أرواد" و"قادش". وعندما أرادوا التقدم إلى مصر هزمتهم القوات المصرية بقيادة رمسيس الثالث في معركة برية وبحرية قاسية حوالي عام 1191 ق .م، إلا أنه سُمح لهم بالبقاء في منطقة ساحل سورية الجنوبية التي بدأت تعرف باسم "فلسطيا" منذ ذلك الحين.

وامتدت المنطقة الساحلية التي استقر فيها الفلسطينيون بصورة دائمة من غزة جنوباً حتى جنوب جبل الكرمل شمالاً، وتوسعوا في الداخل حتى غربي اللد واستولوا على عدد من المدن الكنعانية. ولما كان الفلسطينيون قد أتوا معهم بنسائهم فإنهم لم يختلطوا بالسكان الأصليين من الكنعانيين وظلوا يشكلون طبقة عسكرية أجنبية تقيم في الحاميات. ونظمت مدنهم الخمسة (غزة، عسقلان، أسدود، عقرون، جت) في شكل ممالك مدن، حكمت كل منها إحدى قبائلهم بشكل مستقل، غير أنهم تميزوا بوحدة قوية فيما بينهم أشبه بالاتحاد الكونفدرالي)، كما كانوا يتوحدون عند الخطوب.

وقد سهل انحسار السيطرة المصرية عن الأقاليم السورية خلال القرن الثاني عشر (ق.م)، وضعف ممالك المدن الكنعانية والأرامية وتفككها على تهيئة الظروف الملائمة لسيطرة الغزاة الإسرائيليين والفلسطينيين على جنوب سورية، في الوقت الذي كان يسيطر فيه الحثيون على شمالها. وهكذا أصبحت الأقاليم السورية التي كانت تُحكم كمقاطعة مصرية منذ أوائل القرن السادس عشر (ق.م) خارج الإمبراطورية.

وبدأ الصراع بين العبرانيين والفلسطينيين الذي انتهى في البداية لصالح الآخرين الذين بلغوا أوج قوتهم في النصف الثاني من القرن الحادي عشر (ق.م)، واستمرت سيطرة الفلسطينيين حتى عهد داوود مؤسس الدولة الإسرائيلية، الذي بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين نحو عام 1004 (ق.م)، ولكنه نجح في النهاية ليس فقط في تحقيق الاستقلال عن الفلسطينيين ولكن أيضاً في توسيع مملكته بسلسلة من العمليات الحربية أدت إلى التخلص من نير الفلسطينيين والسيطرة على ممالك آدوم ومؤاب وعمون وتحقيق الوحدة المؤقتة للإسرائيليين الذين كانوا قد بلغوا في عهده نحو ستمائة ألف نسمة، وانتقى داوود حصن أورشليم اليوبسي ليكون مقراً لدولته الموحدة وأنشأ فيه معبداً للديانة اليهودية التي أصبحت الديانة الرسمية في الدولة الجديدة.

وورث داود ابنه سليمان حوالي عام 963 (ق.م) ووصلت المملكة في عهده درجة فائقة من المجد والأبهة إلا أنه عندما توفى حوالي عام 923 (ق.م) كانت المملكة التي ورثها أكبر كثيراً من تلك التي تركها لخلفائه.

3. انقسام وتدمير المملكة الإسرائيلية وسيطرة الآشوريين والبابليين على فلسطين (923 ـ 539ق.م)

انقسمت المملكة بعد سليمان إلى مملكتين: "إسرائيل" في الشمال وعاصمتها "شكيم" ثم "السامرا" و"يهوذا" في الجنوب وعاصمتها "أورشليم". وظلت المملكتان متنافستين أحياناً وعدوتين أحياناً أخرى، حتى اجتاح الآشوريون الأولى عام (728 ق.م) في عهد "سرجون الثانوني" الذي سبى أكثر من 27 ألف فرد من سكان مملكة إسرائيل التي تلاشت إلى الأبد. (اُنظر خريطة فلسطين في عهد الملوك).

وعندما قضى البابليون الجدد (الكلدانيون) على الدولة الآشورية عام 612 (ق.م)، حاول "نيخاو الثاني" ملك مصر في ذلك الوقت الاستفادة من الفراغ الذي خلفه الآشوريون في سورية وفلسطين، فتقدم بجيشه نحو الأخيرة عام 608 (ق.م)، وحاول "يوشيا" ملك يهوذا ـ الذي أصبح تابعاً للدولة البابلية الجديدة ـ اعتراض الجيش المصري بقواته عند بلدة مجدو، إلا أن القوات المصرية ألحقت به هزيمة ثقيلة وانتهت المعركة بموته وخضوع فلسطين لمصر مرة أخرى، وبدأت يهوذا ـ التي وضع المصريون على عرشها يهوا قيم (حفيد يوشيا) ـ تدفع الجزية للمملكة المصرية.

ومع تقدم القوات البابلية تحت قيادة "نبوخذ نصر" لبسط سيطرتها على سورية ـ التي كانت لا تزال ترابط في شمالها قوات "نخاو الثاني" ـ عام 605 (ق.م)، تردد "يهواقيم" ملك يهوذا بين التحالف مع المصريين الذين وضعوه على العرش والخضوع للغزاة الجدد، إلا أنه في النهاية قبل بالخيار الأول الذي جاء كارثة على مملكته. حيث نجح البابليون في إيقاع هزيمة ثقيلة بالمصريين في كركميش أعالي الفرات (شمال شرق حلب). وبدأوا في انتزاع الممالك التابعة لمصر شرق البحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى.

ولم يكن "يهو أقيم" ممن يمكنهم مقاومة "بنوخذ نصر" الذي دخل جيشه إلى أورشليم عام 597 (ق.م). وبعد حصار قصير استسلمت المدينة وسبي الغزاة الملك وأسرته وموظفيه وسبعة آلاف من جنوده ونحو ألف من الصناع المهرة إلى بابل. وعين "نبوخذ نصر" "صدقيا" أحد أبناء "يوشيا" ملكاً جديداً على يهوذا.

وتظاهر "صدقيا" بالولاء لبابل في البداية، إلا أنه حاول بعد ذلك الاستقلال. فأرسل "نبوخذ نصر" جيشه للقضاء على يهوذا كلية عام 586 (ق.م)، فدمر أورشليم وكل مدينة هامة في المملكة، واُقتيد الملك ـ الذي قُتل أبناؤه أمامه ـ ونحو خمسين ألف من رعاياه سبايا إلى بابل.

وهكذا تمت تصفية الدولة الإسرائيلية في فلسطين التي استمرت بين الوحدة والانقسام بدرجات متفاوتة من القوة والضعف نحو أربعة قرون، ومن تبقى من الإسرائيليين الذين فرقهم السبي اندمج في باقي سكان البلاد الذين كانوا خليطاً من الشعوب السامية (الكنعانية والأرامية والعربية). (اُنظر خريطة سورية في عهد الأشوريين).

أما الفلسطينيون الذين خضعوا لحكم الإسرائيليين في عهد داود وسليمان، فإنهم حاربوا الآخرين بعد انقسام كل منهما من وقت إلى آخر حتى خضعوا نهائياً في القرن الثامن (ق.م). ومع قتال المصريين والآشوريين على أرضهم اُضطر الفلسطينيون إلى قتال كل منهما حتى انقرضت مملكة الفلسطينيين قبل السبي البابلي، ولم تعد لهم في القرن الرابع (ق.م) أية قوة تذكر، وانتهت سيرتهم في تاريخ فلسطين بالاندماج التام في سكان البلاد، ولم يبق منهم سوى الاسم الذي أصبح يُطلق على القسم الجنوبي من سورية.

ومنذ القضاء على مملكة يهوذا خضعت فلسطين للسيطرة البابلية حتى عام 539 (ق.م) عندما قضى الفرس ـ الغزاة الجدد ـ على المملكة البابلية الحديثة واعترفت أقاليم الإمبراطورية البابلية، بما فيها سورية وفلسطين، بالحكم الفارسي الجديد، وبانتهاء سيطرة البابليين على فلسطين انتهت سيادة الشعوب السامية القديمة على البلاد ولم تعد إلا بعد أكثر من ألف عام على يد عرب شبه الجزيرة العربية، أما الفرس ـ السادة الجُدُد ـ فكانوا ينتمون إلى الشعوب الهندو ـ أوروبية وقد خلفهم في سيادتهم على فلسطين المقدونيون فالرومان فالبيزنطيون وكلهم من الهنود الأوروبيين.  

ثانياً: فلسطين في عصور السيطرة الهندو ـ أوروبية (539ق.م ـ 638م)

1. فلسطين في عهد السيطرة الفارسية (539 ـ 332 ق.م)

أصبحت دويلات سورية وفلسطين جزءاً من الإمبراطورية الفارسية بعد سقوط بابل، وأصبحت منطقة شرق المتوسط وقبرص تمثل الولاية الخامسة في تلك الإمبراطورية ـ التي أعطت ولاياتها قدراً لا بأس به من الحكم الذاتي وأصبحت دمشق وأحياناً صيدا مركزاً لهذه الولاية.

وقد وجد كورش (مؤسس الإمبراطورية الفارسية) عندما دخل "بابل" جالية يهودية يعود أصلها إلى عهد "نبوخذ نصر". ويبدو أن تلك الجالية ساعدت كورش على احتلال المدينة، فقد سارع الفاتح الفارسي إلى إصدار مرسوم يعطي الذين يودون منهم العودة حق الرجوع إلى فلسطين وإعادة بناء معبدهم. وقد فسر بعض المؤرخين هذا الموقف على أنه محاولة من كورش لموازنة النفوذ المصري في تلك البلاد، فإن "وجود طائفة يهودية في فلسطين تدين بوجودها لإحسانه سيشكل توازناً فعالاً تجاه الحزب الموالي للمصريين الذي طالما برز في شؤون فلسطين".

وخلال الحكم الفارسي الذي امتد قرابة مائتي عام، ساد فلسطين هدوء نسبي لما اتسم به ذلك الحكم بالعدل والاستقرار بوجه عام لا بالبطش والإبادة كما كان هو الحال في عهد الآشوريين والبابليين.

2. فلسطين في عهد السيطرة اليونانية (332 ـ 63 ق.م)

بدأت السيطرة اليونانية على فلسطين بعد هزيمة الفرس أمام قوات الإسكندر المقدوني في أسيا الصغرى وتقدم الأخير جنوباً للسيطرة على ولايات شرق البحر المتوسط ليؤمن خطوط مواصلاته. فاستسلمت بلدان سورية وفلسطين للغازي الجديد دون مقاومة ولم يتجرأ على إغلاق الأبواب في وجهه سوى صور وغزة فحاصر الأولى سبعة أشهر والثانية شهرين قبل إخضاعهما عام 332 (ق.م). أما القدس فقد فتحت أبوابها للإسكندر بمساعدة اليهود من سكانها ما بين سقوط صور وغزة. وبسقوط الأخيرة أصبحت كل من سورية وفلسطين خاضعتين للسيطرة اليونانية.

ولم يحكم الاسكندر طويلاً بعد سيطرته على مصر ومد حدود إمبراطوريته شرقاً حتى الهند. واقتسم قادته إمبراطوريته الشاسعة بعد وفاته عام 323(ق.م). ولما كانت فلسطين واقعة في منطقة النزاع بين دولة البطالمة التي أسسها "بطليموس" في مصر ـ أحد قادة الاسكندر ـ ودولة السلوقيين التي أسسها زميله "سلوقس" في بابل وفارس فقد تبادل السيطرة عليها البطالمة في البداية، ثم السلوقيون اعتباراً من أوائل القرن الثاني (ق.م). وفي عهد الآخيرين قسمت فلسطين إلى ثلاثة ألوية: لواء الجليل، ولواء السامرة، ولواء القدس. أما عكا فتمتعت بقدر من الاستقلال والحق في سك النقود.

وحاول السلوقيون فرض الثقافة والتقاليد والديانة الهيلينية الوثنية على سكان البلاد ولما كان عدد كبير من سكان فلسطين آنذاك ـ باستثناء اليهود ـ يعتنقون ديانات أقرب إلى الوثنية، فلم يجد الحكام الجدد مقاومة في هذا الشأن إلا من بعض اليهود المكابيين الذين اندلعت ثورتهم عام 167 ق.م في شكل ثورة دينية، ثم تطورت إلى المطالبة بالاستقلال السياسي. وانتهى الأمر باعتراف السلوقيين ـ الذين أصابهم الضعف في منتصف القرن الثاني (ق.م) ـ باستقلال المكابيين عام 141 من ذلك القرن، الذين نجحوا في بسط سيطرتهم على كل الجليل في أواخر عهد السلوقيين، وأجبروا السكان من غير اليهود والأدوميين جنوب البحر الميت على اعتناق الديانة اليهودية. ومع بداية السيطرة الرومانية تم تصفية حكم المكابيين ودخلت فلسطين كلها تحت الحكم الروماني عام 63ق.م.

وطوال العهد اليوناني الذي امتد نحو ثلاثة قرون، كان سكان فلسطين ـ باستثناء الحكام اليونانيين ـ خليطاً من الكنعانيين والقبائل العربية والسامريين والأراميين والإسرائيليين والفلسطينيين، بالإضافة إلى بقايا الفاتحين السابقين كالآشوريين والمصريين والبابليين والفرس الذين بقوا في البلاد، وبالرغم من أن اللغة اليونانية كانت اللغة الرسمية طوال ذلك العهد، فإن اللغة الآرامية (الدارجة) بقيت لغة الحديث المتداولة، وهي اللغة التي تطورت منها السريانية.

3. فلسطين في عهد السيطرة الرومانية (63ق.م ـ 636م)

عند فتح بومبي سورية عام 64ق.م كانت سورية في حالة من الفوضى التي خلفها الحكم السلوقي الضعيف، كما كانت السيادة على جنوبها (فلسطين) مقسمة بين الأنباط (العرب) والمكابيين (اليهود) واليونانيين (المدن اليونانية)[5]، وعلى ذلك تقدمت القوات الرومانية واحتلت فلسطين دون عناء عام 63 ق.م. وأصدر بومبي قراراً بتوحيد سورية كلها (بما في ذلك فلسطين) في ولاية واحدة تحكم مباشرة بواسطة نائب قنصل روماني. (اُنظر خريطة سورية في العصر اليوناني).

وفي آخر القرن الرابع الميلادي انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطوريتين شرقية وغربية، وكانت فلسطين وسورية من أراضي الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) التي امتد حكمها ما يقرب من قرنين ونصف (395 ـ 636)، لم يقطعها سوى احتلال الفرس لها لمدة سنتين خلال الاضطرابات والفوضى التي أعقبت اغتيال يوليهس قيصر (40 ـ 38 ق.م).

وقد كرس الرومان اسم فلسطين تاريخياً، حيث قسمت البلاد في عهدهم إلى ثلاث مناطق هي (اُنظر خريطة سورية في العصر البيزنطي):

أ. فلسطين الأولى: وتشمل نابلس والقدس والخليل والسهل الساحلي حتى رفح وعاصمتها قيسارية.

ب. فلسطين الثانية: وتشمل الجليل وأم قيس وقلعة الحصن وطبرية، وعاصمتها بيسان.

ج. فلسطين الثالثة: وهي بلاد الأنباط وتشمل منطقة جنوب فلسطين وبئر السبع، وكانت البتراء (في الأردن) عاصمتها.

وخلال العهد الروماني أصبحت اللغة اللاتينية اللغة الرسمية فقط، بينما بقيت في عهدهم اللغة اليونانية لغة للتعليم والأدب والآرامية الدارجة للحديث، كما بقيت اللغات الأصلية الخاصة بالسكان كالعربية لغة الأنباط والعبرية لغة الإسرائيليين.

وقد تميز العهد الروماني في فلسطين بحدثين هامين كان لهما أكبر الأثر في تاريخ فلسطين: أولهما ظهور المسيحية على أرض فلسطين، وثانيهما نهاية اليهودية في فلسطين في ذك العصر.

ففي فلسطين وُلد السيد المسيح u وبدأ نشر دعوته وتعاليمه التي كانت بداية لعهد جديد، ومنها خرج تلاميذه للتبشير بالديانة المسيحية. وبالرغم من الاضطهاد الروماني للمسيحيين فقد أخذت المسيحية تنتشر تدريجياً حتى انتشرت في فلسطين كلها بعد مولد المسيح بثلاثة قرون.

ولم يسلِّم اليهود بانتشار المسيحية، وقاموا بدورهم التاريخي المعروف في التنكر للسيد المسيح. أما بالنسبة للرومان فكانت الجماعات اليهودية أقل الجماعات الفلسطينية المتعددة استجابة لتأثيرات الحضارة الرومانية. وقد أدت ممارستهم لسياسة الانطواء والعزلة إلى تغذية شعورهم القومي ووقوع مصادمات اتسعت لتصبح ثورات قومية بين عامي 66 و70م في عهد "نيرون" وبين عامي 132 ـ 134م تحت حكم "هادريان". وقد انتهت هاتان الثورتان بكارثة قومية لليهود، فقد تم تصفية الوجود اليهودي في فلسطين وتدمير أورشليم وحرق معبدها، ومنذ عام 135 م تشتت من بقي من اليهود بعد الكارثة على شواطئ البحر المتوسط ولم يعد لهم في فلسطين وجود أو شأن يذكر.

أما المسيحية فقد أخذ شأنها يعلو في فلسطين ابتداءً من عهد الإمبراطور قسطنطين (306 ـ 337م) أول من تنصر من أباطرة الرومان واُقيمت الكنائس في عهده. كما أمرت الملكة هيلانة ببناء كنيسة القيامة في القدس التي أعيد بناؤها.

وفي العقد الثاني من القرن السابع الميلادي تعرضت فلسطين لغزوة فارسية جديدة، وقامت قوات كسرى باحتلال القدس وإحراق كنيسة القيامة وقتلوا عشرات الآلاف من المسيحيين. إلا أن البلاد عادت للحكم البيزنطي من جديد بعد أن هزم هرقل الفرس في نينوي عام 627 م، ورفع الصليب في القدس في العام التالي كما أعيد بناء كنيسة القيامة. وعندما انتهى العهد الروماني البيزنطي في القرن السابع وأصبحت فلسطين دولة إسلامية استمرت الكنائس تعمل بحرية تامة، فقد جاء الإسلام متمماً للديانات السماوية، وليس متناقضاً معها.

ثالثاً: فلسطين في العصور الإسلامية (636 ـ 1917م)

1. الملامح الرئيسية لفلسطين خلال العصور الإسلامية

بدأت العصور الإسلامية في فلسطين بإنهاء سيطرة الدولة الرومانية (البيزنطية) عليها في العقد الرابع من القرن السابع الميلادي (636م). وكانت فلسطين طوال العهود العربية والإسلامية جزءاً لا يتجزأ من الدولة الإسلامية الكبرى خلال عهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، وفي مرحلة اضمحلال الدولة العباسية تبعت فلسطين الطولونيين، فالإخشيديين، فالفاطميين، ثم السلاجقة والأيوبيين فالمماليك. وكان العهد العثماني هو آخر عهود الحكم الإسلامي في فلسطين حتى ما بعد منتصف العقد الثاني من القرن العشرين (1917م).

وقد واكبت عملية الفتح الإسلامي لفلسطين عملية نزوح للقبائل العربية إليها. ولم تتوقف عملية الانتقال من الجزيرة إلى فلسطين والبلاد الأخرى التي تم فتحها بعد ذلك، بل إنها اشتدت في بعض العهود كما حدث في عهد هشام بن عبدالملك (في الدولة الأموية). ومنذ بداية العصر الإسلامي في فلسطين حتى عهد عبدالملك بن مروان أصبحت اللغة العربية هي لغة السكان جميعهم عدا البيزنطيين الذين أجبرهم عبدالملك على التحدث بها، وفي عهد الأخير تم بناء المسجد الأقصى تأكيداً للوجه العربي والإسلامي في مقابل الوجه البيزنطي السابق للمدينة.

وبغض النظر عن شكل الحكم في العصور الإسلامية السابقة، خلافة كانت أم إمارة، وبالرغم من الانقسامات والخلافات التي سادت في بعض تلك العصور، فقد استمرت عملية بناء المجتمع في فلسطين عربي الانتماء والحضارة، وكانت فلسطين أسرع الأمصار في الانتقال من العهد البيزنطي إلى العهد العربي (تقبل الإسلام والتعريب) لكثرة القبائل العربية التي كانت قد هاجرت إليها في عصور ما قبل الإسلام واستمرار تلك الهجرة بعده حتى أصبح العرب يمثلون الأغلبية الساحقة للسكان.

وعلى الصعيد الإداري كانت فلسطين في جميع العصور الإسلامية السابقة حتى العصر العثماني تذكر بالاسم، كما ذكرت في عهد الفتوحات بأرض فلسطين أو فلسطين. ولما اتسعت الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، قسمت البلاد أقساماً إدارية كبيرة ليسهل حكمها وبقت فلسطين قسماً قائماً بذاته يحكم بأحد عمال أو ولاة الخليفة الذي يجمع به السلطتين التنفيذية والقضائية المستمرة من الخليفة نفسه. (اُنظر خريطة سورية في العصر الإسلامي)

وفي العهد المملوكي قُسمت البلاد داخلياً إلى مناطق سُميت بالممالك، فكانت منها المملكة الغزية من حيفا حتى رفح، ومملكة صيفد إلى الشمال من حيفا.

أما في العهد العثماني فقد عادت فلسطين لتعرف باسم سورية الجنوبية وقسمت داخلياً إلى ثلاث متصرفيات: متصرفية القدس المستقلة التي أصبحت تتبع الباب العالي مباشرة في الأستانة منذ عام 1874 لمكانتها الدينية، ومتصرفية عكا، ومتصرفة نابلس، وقد ألحقت الأخيرتان بولاية الشام حتى عام 1883م.

ولم يكن للتقسيمات الإدارية الأخيرة أي أثر سواء في طبيعة المجتمع وتركيب السكان أو في تاريخ فلسطين كجزء من المنطقة.

2. الغزوات الصليبية لفلسطين

تعرضت فلسطين خلال عهود الفاطميين والسلاجقة والأيوبيين لعدة حملات صليبية امتدت عبر مائتي عام تقريباً، وقد تعددت دوافع هذه الحملات المتعاقبة: فمنها الدافع الديني، والرغبة في التوسع، وتوجيه القوى نحو حروب خارجية للحد من الحروب الداخلية والكسب المادي. وهكذا تفاعلت هذه العوامل لتأليف الحملة تلو الأخرى من النبلاء والفلاحين والمعدمين.

وانقسمت الحملات الصليبية من الناحية الزمنية إلى ثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى التي استولى فيها الصليبيون على القدس وأسسوا المملكة اللاتينية في فلسطين وبعض أجزاء من ساحل سورية (الجزء الجنوبي من ساحل لبنان)، واستمرت هذه المرحلة من عام 1099 حتى عام 1144م. والمرحلة الثانية التي ابتدأت برد الفعل الإسلامي بقيادة عماد الدين زنكي وانتهت بانتصارات صلاح الدين الأيوبي، والمرحلة الثالثة هي مرحلة المناوشات والحروب الصغيرة في القرن الثالث عشر، وقد انتهت بخروج الصليبيين نهائياً من البلاد.

وطوال مدة حكمهم كانت علاقات الصليبيين بالسكان تختلف من وقت لآخر وفقاً لعوامل متعددة. ففي الوقت الذي أحرقوا فيه من وجدوه من اليهود في معبدهم عند فتح القدس عام 1099م فقد أقام الصليبيون علاقات ودية مع المسيحيين الموارنة خلال الحملة الأولى، كما كانت بعض المدن الداخلية المسلمة ـ تطلب مساعدة المملكة اللاتينية ضد مسلمين آخرين وفي فترات السلم كان الفريقان ينصرفان إلى الزراعة وتبادل التجارة، ويفسر شكل العلاقات السابقة أسباب نجاح الصليبيين خلال المرحلة الأولى، حيث يعود بدرجة كبيرة إلى ما كان عليه سكان البلاد من تفكك وضعف بأكثر مما يعود إلى قوة الصليبيين.

وعندما انقسمت المملكة اللاتينية بعد وفاة بولدوين في الوقت الذي توحد فيه المسلمون بدأ العد التنازلي لنهاية الصليبيين في فلسطين، حيث بدأ صلاح الدين حروبه لتحرير البلاد أواخر عام 1177م. وفي 2 أكتوبر 1187 أتم تحرير القدس وسمح لليهود بالعودة إليها بعد ثمان وثمانين سنة من الاحتلال الصليبي، ثم تلاحقت انتصاراته بعد ذلك من "الشوبك" (في الأردن) جنوباً حتى قلعة السقيف (في لبنان) شمالاً.

وقد أدى استرداد صلاح الدين للقدس إلى الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا. وقد فشلت تلك الحملة في الاستيلاء على القدس، وانتهت بتوقيع صلح عام 1192م، اعترف فيه صلاح الدين بسيادة الإفرنج على قسم من الساحل، وحرية الحج إلى بيت المقدس.

وقد استمر وجود الإفرنج قرناً من الزمان بعد صلاح الدين، وهي المرحلة التي اتسمت بالحروب الصغيرة المتواصلة، وتقلص فيها وجود الإفرنج في شريط ساحلي ضيق، وانتهت بخروجهم نهائياً في عهد المماليك عام 1291م. وطوال وجودهم في فلسطين كان الصليبيون نبتاً غريباً في تربة البلاد. وبالرغم من أنهم تركوا بصماتهم على فن العمارة في فلسطين وخلفوا بعض آثارهم فيها، إلا أنهم فشلوا في تغيير الوجه العربي للبلاد الذي استمر حتى القرن العشرين عندما تعرضت فلسطين مرة أخرى لغزوة صهيونية شرسة.

3. أوضاع اليهود في فلسطين خلال عهد العصور الإسلامية

عاش اليهود خلال الدولة الإسلامية موزعين بين بلاد الرافدين وشمال أفريقيا والأندلس، وكان تجمعهم الرئيسي في الأخيرة حتى أواخر القرن الخامس عشر، حيث نعموا بحياة آمنة خلاقة وتولوا العديد من المناصب الرفيعة في الدولة وعملوا في مختلف الميادين، وكثيراً ما كان اليهود ينتقلون من المقاطعات المسيحية في أسبانيا إلى الأندلس الإسلامية ينشدون حرية الفكر والكتابة. ولم تكن مساهمتهم الحضارية كمجتمع يهودي منفصل فكرياً وفلسفياً، وإنما كانوا ينهلون ويصبون في نبع الحضارة الإسلامية، وكتبوا باللغة العربية كما كتبوا بلغتهم وشاركوا بقسط كبير في نقل الفكر اليوناني من اليونانية إلى العربية، كما نقلوا من العربية إلى العبرية. وترك اليهود بصماتهم واضحة في تراث الأندلس العلمي والثقافي وخاصة مجالات الطب والفلسفة.

وبتزايد موجات الاضطهاد، في أوروبا وأسبانيا وسقوط الدولة العربية في الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر، هاجر عدد كبير من يهود أسبانيا إلى الولايات العربية في شمال أفريقيا كما هاجر بعضهم إلى فلسطين وتركيا.

وقد نشأت التجمعات اليهودية في فلسطين قبل عام 1882 نتيجة هجرات منعزلة لأغراض دينية أو هرباً من الاضطهاد في أوروبا، مثلما حدث في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وفي عهد الإدارة المصرية لسورية (1831 ـ 1840) تحسنت أحوال اليهود الاجتماعية والاقتصادية، فقد أعفاهم الحكم المصري من المغارم التي كان العثمانيون يفرضونها عليهم. وفي أواخر الحكم المصري كان عدد اليهود في فلسطين قد بلغ تسعة آلاف نسمة (منهم 5500 في القدس، و750 في الخليل و150 في نابلس).

4. فلسطين في أواخر الحكم العثماني (1841 ـ 1882)

أ. الأوضاع العامة

بعد حكم محمد على لسورية (بما فيها فلسطين) الذي استمر ثماني سنوات (1832 ـ 1940) حاول فيها والي مصر تكوين دولة عربية موحدة من البلدين بعيداً عن سيطرة الدولة العثمانية، نجحت الأخيرة في استرداد سيطرتها على سورية بمعاونة الدول العظمى في ذلك الوقت (بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا، فرنسا)، التي رأت في طموحات محمد علي ما يخل بتوازن القوى في المنطقة ويهدد مشاريعها في وراثة "الرجل المريض".

وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تزايد اهتمام الدولة العثمانية بتشديد قبضتها على ولاياتها وتوثيق أواصر تبعيتها للحكومة المركزية في الأستانة (إستانبول) والأخذ بسياسة الإصلاح والتجديد. وتماشياً مع هذه السياسة أولت الدولة العثمانية لواء القدس اهتماماً خاصاً عن سائر ألوية الشام لأهميته الدينية وتنافست الدول الأوروبية على تأسيس قنصليات فيه، والحصول على الامتيازات فيما يتعلق بالأماكن المقدسة، وحرصاً من السلاطين العثمانيين على حسن سير الأمور في لواء القدس والحد من التدخلات الأجنبية، حُوِّل هذا اللواء إلى متصرفية مستقلة (سنجق) تبعت الأستانة مباشرة اعتباراً من عام 1874، وبذلك استقل متصرفوا القدس عن ولاية سورية[6].

وتكونت متصرفية القدس من أقضية القدس ويافا والخليل وغزة ثم ضُم عليها قضاء الناصرة اعتباراً من عام 1906، بعد فصله عن لواء عكا الذي كان تابعاً لولاية بيروت. وفي عام 1899 ضُم على متصرفية القدس قضاء جديد هو قضاء بئر السبع بينما بقي شمال فلسطين كجزء من ولاية بيروت.

وقد وجدت الدولة العثمانية بعد عودتها إلى سورية من جديد أن نظام الحكم المصري الذي كان قائماً فيها مثالاً يُحتذى وتجربة ناجحة في الحكم المركزي، وفي إطار سياسته الإصلاحية أمر السلطان عبدالمجيد بإجراء القرعة العسكرية وجباية الأموال بمقتضى الشريعة الإسلامية وإلغاء نظام الالتزام لجباية الأموال، وحاول إصلاح أجهزة الحكم التي ساد فيها الفساد والرشوة لقلة الرواتب. كما شمل الإصلاح تطبيق مبدأ المساواة القانونية والمدنية لكافة رعايا الدولة.

وبالنسبة لغير المسلمين شملت التوجهات الإصلاحية للسلطان عبدالمجيد عام 1856على ما يلي: (اُنظر خريطة التقسيمات العثمانية في سورية):

(1) إقرار امتيازات الطوائف غير الإسلامية بعد أن تُقدم كل طائفة مقترحاتها للإصلاح إلى الباب العالي.

(2) السماح للطوائف غير الإسلامية بالحرية في ممارسة شعائرها الدينية وبناء معابدها بشروط يتوفر فيها التسامح.

(3) المساواة التامة بين جميع رعايا الدولة في الحقوق والواجبات والسماح للأجانب بالتملك في أراضي الدولة العثمانية.

(4) إنشاء محاكم مختلطة للفصل في القضايا المدنية والجنائية. أما الدعاوى الخاصة بالأحوال الشخصية والإرث فتحال إلى المحاكم الطائفية لغير المسلمين.

(5) إشراك الجماعات والطوائف غير المسلمة في مناقشات المجلس العالي المتعلقة بشؤونهم.

ب. الهجرة اليهودية إلى فلسطين وموقف الدولة العثمانية منها

بدأ الاستيطان الصهيوني في فلسطين مع أوائل النصف الثاني من القرن التاسع على استحياء ثم بدأ يتزايد في شكل موجات كبيرة ابتداء من العقد التاسع للقرن التاسع عشر. ومن وجهة النظر الاستعمارية البريطانية استهدف ذلك الاستيطان في البداية تحويل فلسطين إلى دولة يهودية تكون حاجزاً بين مصر وسورية يمنع توحد البلدين في دولة عربية قوية تهدد الدولة العثمانية ومخططات الدول الأوروبية لوراثتها. أما من وجهة النظر الصهيونية فكان لتجميع اليهود المشتتين في أنحاء العالم في وطن خاص بهم لإحياء القومية اليهودية وأمجادها القديمة، في عهد داود وسليمان، حيث كانت فلسطين تمثل في نظرهم نقطة الارتكاز الحقيقية لكل قوى العالم.

وقد بدأ الطريق إلى تحقيق كل من الأهداف البريطانية واليهودية بالخطوات التالية على الترتيب:

(1) قيام الحكومة البريطانية وكبار اليهود بالتمهيد لدى السلطات العثمانية للسماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين متذرعين بدوافع إنسانية.

(2) قيام أغنياء اليهود بتمويل الهجرة اليهودية إلى فلسطين وشراء الأراضي لاستيعاب المهاجرين.

(3) تنظيم الهجرة إلى فلسطين بواسطة جمعيات ومنظمات خاصة بهذا الشأن.

وقد تمكن اليهود حتى أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر من إنشاء ثماني مستعمرات زراعية في فلسطين، خمس منها في متصرفية القدس وثلاث في لواء عكا (التابع لولاية بيروت). وقد لاقت هذه المستوطنات عدة صعوبات محلية بالإضافة إلى معارضة السلطات العثمانية، وكانت دائماً في حاجة إلى دعم مالي باستثناء مستعمرتين تمكنتا من تحقيق الكفاية الذاتية. وزاد من مشاكل هذه المستوطنات تجنب المستوطنين الاندماج مع السكان العرب وعاملوهم بتعال وغلظة، ولعل ما كتبه "أشر زفي جينزبيرج" أحد رواد الفكر الصهيوني آنذاك خير شاهد على أحوال المستوطنين وعرب فلسطين في ذلك الوقت، حيث كتب ينتقد موقف المستوطنين الجدد من عرب فلسطين قائلاً:

"لقد اعتدنا على التفكير والتصرف وكأن جميع العرب قوماً بدائيين يعيشون في الصحراء ولا يرون ولا يفهمون حقيقة ما يجرى حولهم. وهذا خطأ فادح لأن العرب، وخاصة سكان المدن منهم، يرون ويفهمون ما نفعله في فلسطين، وإذا كانوا لا يقابلون عملنا بفعل مضاد ويتظاهرون بأنهم لا يلاحظون شيئاً، فذلك لأنهم في الوقت الحاضر لا يرون فيما نفعله الآن تهديداً لمستقبلهم، ولكن إذا ما تطورت الأمور وبدأ زحفنا الكبير إلى فلسطين، فإن العرب لن يتخلوا عن مواقعهم بسهولة. إن المستوطنين اليهود الجدد في فلسطين كانوا عبيداً في التيه، وفجأة وجدوا أنفسهم وسط حرية بلا حدود، بل وسط حرية بلا رادع لها، وقد أحدث هذا التحول المفاجئ في نفوسهم ميلاً إلى الاستبداد كما هو الحال عندما يصبح العبد سيداً. وهم يعاملون العرب بكثير من العداء والشراسة ويمتهنون حقوقهم بصورة فجة وغير مقبولة، ثم يوجهون إليهم الإهانات دون مبرر كاف، ويفاخرون بما يفعلون ويتصرفون وكأن العرب كلهم همج متوحشون يعيشون كالحيوانات دون فهم لحقيقة ما يجرى حولهم".   

وإذا كان السكان العرب المسالمون قد غضوا الطرف عن تواجد المستوطنين اليهود وغلظتهم في البداية فإنه لم يكن يشكل خطورة على وجودهم في ذلك الوقت كما قال جينزبرج إلا أنه مع اتخاذ الهجرة اليهودية شكلاً جماعياً فيما بعد بدأ العرب يتحركون، وانحصر تحركهم في البداية في الشكوى إلى السلطات العثمانية من خطورة الهجرة اليهودية على وجودهم ومصالحهم.

فقد تزايد عدد اليهود في فلسطين من حوالي تسع آلاف نسمة عام 1840 إلى 12 ألف نسمة عام 1845، ثم إلى 24 ألف نسمة عام 1882. مما دفع الدولة العثمانية أن تأخذ موقفاً معارضاً للهجرة الجماعية، خاصة بعد أن وجه القنصل العثماني في "أوديسا" نظر الباب العالي تجاه الأعداد الكبيرة من المهاجرين الروس التي تعمل "جمعية محبي صهيون" على تهجيرهم إلى فلسطين في أبريل 1882، وعلى ذلك أصدرت الحكومة العثمانية تعليماتها بعدم السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين، وإن كان بإمكانهم الاستيطان في الولايات العثمانية الأخرى على أن يكونوا رعايا عثمانيين (خاضعين للقوانين العثمانية)، ورفضت الوساطة البريطانية والأمريكية في شأن الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وفي 29 يونيه من نفس العام أصدرت الأستانة تعليماتها إلى متصرف القدس بعدم السماح لليهود الذين يحملون جنسيات كل من روسيا ورومانيا وبلغاريا بالدخول إلى منطقته، ثم أبلغت البعثات الدبلوماسية لدى الباب العالي بقرار مجلس النظار العثماني الذي يقضي بمنع اليهود الروس من استطيان فلسطين. وبررت الحكومة العثمانية قرارها بعدة مبررات كان أبرزها خشيتها من ظهور مشكلة قومية جديدة في أراضيها تزيد من مشكلاتها القومية وتدفعها إلى حرب جديدة كما حدث مع القوميات الأخرى في البلقان.

ومع تزايد تسرب اليهود إلى فلسطين بأعداد كبيرة، بطريقة غير شرعية، حدد مجلس النظار عام 1884 زيارة اليهود لفلسطين بثلاثين يوماً، وعندما احتجت معظم الدول الأوروبية عام 1887 على هذه القيود التي تتعارض مع الامتيازات الأجنبية، اتخذ الباب العالي قراراً رسمياً حدد إقامة اليهود في فلسطين بثلاثة أشهر على أن يطبق ذلك على جميع اليهود المهاجرين. وعلى ذلك أصدر الباب العالي تعليماته إلى السلطات المحلية في القدس في فبراير 1887 بمنع جميع اليهود الأجانب من الإقامة في فلسطين عامة والقدس خاصة، على أن يسمح لهم بدخول البلاد بقصد الحج لفترة محدودة يغادرون البلاد بعدها.

وإزاء ذلك الموقف احتجت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على القيود المفروضة على الهجرة بالنسبة لرعاياها من اليهود أما روسيا وألمانيا فقد أيدتا تلك القيود. إلا أنه تحت ضغط الحكومة البريطانية، اضطرت السلطات العثمانية إلى التصريح بأن إجراءات المنع بالنسبة لليهود البريطانيين لن تطبق إلا بالنسبة للذين يأتون بأعداد كبيرة. وظل ذلك موقف الدولة العثمانية حتى قيام الحركة الصهيونية السياسية بزعامة "تيودور هرتزل Theodor Herzel".



[1] الشعوب السامية القديمة تنسب، دينياً، إلى سلالة سام بن نوح، إلا أنه، من الناحية العلمية، فإن تلك التسمية تطلق على الشعوب التي تكلمت أو لا تزال تتكلم لغة سامية من اللغات التالية: الآشورية البابلية (الأكادية) والكنعانية (الفينيقية) والآرامية والعربية. وتشير بعض المصادر إلى أن الشعوب السامية ترجع إلى أصول عربية، بينما يرى البعض الآخر أن العرب هم أحد الشعوب السامية وليس أصلها.

[2] بالعبرية إبرام بمعنى الأب رفيع أو عال.

[3] بالعبرية يزاك بمعنى ليبتسم (إيل) ويشمع إيل بمعنى ليسمع (إيل).

[4] بالعبرية يكوف بمعنى ليحفظ (إيل) ويسرائيل بمعنى ليحكم إيل.

[5] المقصود بالمدن اليونانية هي مجموعة المدن التي انتشر فيها السكان اليونانيين، ولما قُضى على دولتهم فضلوا البقاء في تلك المدن التي عرفت باسم الاتحاد اليوناني وكان من أبرزها في فلسطين مدينة `بيسان`.

[6] كانت القوى الكبرى في أوروبا تطلق على الدول العثمانية `آنذاك `رجل أوروبا المريض` الذي تُعِدّ نفسها لوراثته.